الإجماع المنقول على ضوء كفاية الأصول

الإجماع المنقول على ضوء كفاية الأصول

الملخَّص:

في مسألة الإجماع المنقول تعرض الكاتب إلى ثلاثة مباحث، الأول تمهيد في معنى الدليل الشرعي وطرق تحصيله، وتعريف الإجماع وأقسامه، وفي المبحث الثاني تعرض على ما يرتبط بالإجماع المنقول تفصيلا والأدلة على كونه حجة أو لا، مع طرق تحصيله، وفي المبحث الأخير ختم بتنبيهين. 

 

المقدِّمة:

في هذا البحث سوف نتعرَّض إلى بيان معنى الإجماع وأنواعه، ومن ثمَّ نذكر أقسام الإجماع وبعد ذلك نخصِّص البحث حول الإجماع المنقول، ونتعرَّف على ألفاظه وطرق تحصله، كلُّ هذا بالاستفادة من كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني، ومن تقرير بعض النقاط المهمَّة التي طرحها سماحة الأستاذ الشيخ محمَّد باقر الشيخ أثناء شرحه إلى هذا المطلب، وبعض ما جاء في كتاب كفاية الأصول في أسلوبها الثَّاني إلى الشَّيخ محمَّد باقر الإيروانيB.

الإجماع المنقول بخبر الواحد حجَّة عند كثيرٍ ممَّن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنَّ الإجماع المنقول هو من أفراد الخبر الواحد، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلا بدَّ في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها.([1])

والكلام في ثلاثة مباحث:

المبحث الأوَّل: [بحوث تمهيديّة]

الفرع الأوَّل: تمهيد 

الحكم الشَّرعي هو التشريع الصادر من اللّه تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه.

وحينما يريد أن يستنبط الفقيه الحكم الشرعيّ، ويستدلّ عليه، تارة يحصل على دليل يكشف عن ثبوت الحكم الشرعيّ فيعوَّل على كشفه، وأخرى يحصل على دليل يحدِّد الموقف العمليّ والوظيفة العمليّة تجاه الواقعة المجهول حكمها، وهذا ما يكون في الأصول العمليّة التي هي أدلّة على الوظيفة العمليّة وليست أدلّة على الواقع.

وعلى هذا الأساس صنِّفت بحوث علم الأصول إلى نوعين:

أحدهما: البحث في الأدلّة من القسم الأوّل؛ أي العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط التي تتّخذ أدلّة باعتبار كشفها عن الحكم الشرعيّ، ونسميها بالأدلّة المحرِزة.

والآخر البحث في الأصول العمليّة، وهي الأدلّة من القسم الثَّاني؛ أي العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط التي تتّخذ أدلّة على تحديد الوظيفة العمليّة تجاه الحكم الشرعيّ المجهول، ونسمّيها بالأدلّة العمليّة أو الأصول العمليّة.([2])

الدليل الشَّرعي:

لكي نعمل بكلام بوصفه دليلاً شرعياً لا بدَّ من إثبات صدورِه من المعصومg وذلك بأحد الطرق التالية:

(الأوّل): التواتر 

وذلك بأن ينقله عددٌ كبير من الرواة، وكلُّ خبر من هذا العدد الكبير يشكِّل احتمالاً للقضية وقرينة لإثباتها، وبتراكم الاحتمالات والقرائن يحصل اليقين بصدور الكلام، وحجيَّة التواتر قائمة على أساس إفادته للعلم، ولا تحتاج حجيَّته إلى جعل وتعبُّد شرعي.

(الثاني): الإجماع والشُّهرة 

وتوضيح ذلك أنَّا إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن مثلا، نجد أنَّها تشكِّل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليل لفظي مسبق يدلُّ على هذا الوجوب؛ لأنَّ فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها:

أحدهما: أن يكون قد استند في فتواه إلى دليل لفظي مثلاً بصورة صحيحة، والآخر أن يكون مخطئاً في فتواه.

وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معاً فهي قرينة إثبات ناقص، فإذا أضفنا إليها فتوى فقيه آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضا، كبر احتمال وجود دليل لفظي يدلُّ على الحكم نتيجة لاجتماع قرينتين ناقصتين، وحين ينضمُّ إلى الفقيهين فقيهٌ ثالثٌ نزداد ميلاً إلى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي، وهكذا نزداد ميلا إلى الاعتقاد بذلك كلَّما ازداد عددُ الفقهاء بوجوب الخمس في المعادن، فإذا كان الفقهاء قد اتفقوا جميعاً على هذه الفتوى سمي ذلك (إجماعاً)، وإذا كانوا يشكلِّون الأكثريَّة فقط سُمِّيَ ذلك (شهرة).

فالإجماع والشهرة طريقان لاكتشاف وجود الدليل اللفظي في جملة من الأحيان.

وحكم الإجماع والشهرة من ناحية أصولية أنَّه متى حصل العلم بالدليل الشرعي بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ بذلك في عمليَّة الاستنباط، وأصبح الإجماع والشهرة حجَّة، وإذا لم يحصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة، فلا اعتبار بهما، إذ لا يفيدان حينئذ إلّا الظنَّ ولا دليل على حجيَّة هذا الظنِّ شرعاً فالأصل عدم حجيَّته؛ لأنَّ هذا هو الأصل في كلِّ ظن.

(الثَّالث): سيرة المتشرِّعة

وهي السُّلوك العام للمتديِّنين في عصر المعصومينi من قبيل اتفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلاً عن صلاة الجمعة، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.

(الرَّابع): خبر الواحد الثِّقة 

ونعبِّر بخبر الواحد عن كلِّ خبر لا يفيد العلم، وحكمه أنَّه إذا كان المخبر ثقة أخذ به وكان حجَّة وإلّا فلا، وهذه الحجيَّة ثابتة شرعاً لا عقلاً لأنَّها لا تقوم على أساس حصول القطع، بل على أساس أمر الشارع باتباع خبر الثِّقة، فقد دلَّت أدلة شرعية عديدة على ذلك.([3])

الفرع الثَّاني: تعاريف الإجماع

الإجماع لغة: 

١. الإِجْماعُ هو العزيمةُ على الأمر. ([4])

٢. الإِجْماع أحد الأصول الأربعة التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية، ويعرّف بأنَّه اتفاق المجتهدين من الأُمَّة في كلِّ عصر، وكلّ أمر دين.([5]) وهذا في حقيقته تعريف اصطلاحي وإن ذكره عالم لغوي.

الإجماع اصطلاحا:

عند العامّة:

عن الغزاليّ: "أنَّه اتّفاق أمَّة محمَّدe على الحكم".([6])

وعن الحاجبيّ: "أنَّه اتّفاق الفقهاء من المسلمين على أمر"([7]).

وعن الرازيّ: "أنَّه اتّفاق أهلُ الحلّ والعقد من المسلمين على أمر".([8])

عند الإمامية:

فالإجماع وإن كان أحدُ الأدلَّة على الحكم الشرعيّ، إلّا أنّهم لا يعتبرونه دليلاً مستقلّاً في مقابل الكتاب والسنّة، بل يعتقدون أنَّ الإجماع عبارةٌ عن قول جماعة يستكشف منه قول المعصومg أو رضاه، فالحجَّة عندهم قول المعصومg الّذي يكشف عنه الإجماع.

فالإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيتi هو: اتفاق أمَّة محمَّدK على وجهٍ يشتملُ على قول المعصومg.([9])

وقال في المعالم: الإجماع في الاصطلاح: اتفاق خاص، وهو اتفاق من يعتبر قوله من الأمَّة.([10])

الفرع الثَّالث: أقسام الإجماع

ثمَّ إنَّ الإجماع في الاصطلاح ينقسم إلى قسمين:

الإجماع المحصَّل:

والمراد به الإجماع الّذي يحصِّله الفقيه بنفسه بعد التتبّع والتفحّص عن أقوال أهل الفتوى.

الإجماع المنقول:

والمراد به الإجماع الذي لم يحصِّله الفقيهُ بنفسه، بل إنَّما ينقله له من حصَّله من الفقهاء.

وإنّما خصّصوا النزاع في الإجماع المنقول بخبر الواحد لاتّفاقهم على أنَّ المنقول بخبر المتواتر كالإجماع المحصَّل في الاعتبار، فلا نزاع في حجّيّته.

المبحث الثَّاني: [موضوع البحث]

الفرع الأوَّل: تخصيص البحث حول الإجماع المنقول

الإجماع المنقول وهو ما إذا نقل للفقيه ناقل بأنَّ الإجماع قد تحقَّق على كذا. وقد يقال: إنَّ الإجماع المنقول حجَّة بلا حاجة إلى ورود دليل خاص يدلُّ على حجيَّته بعنوانه، فإنَّ نفس دليل حجية خبر الثقة يكفي لإثبات حجيَّته، وذلك ببيان أنَّ ناقل الإجماع ينقل رأي الإمامg ضمن نقله لآراء العلماء، فهو حينما يقول: أجمع الكلُّ على كذا فحيث إنَّ من أحد المجمعين هو الإمامg فيكون النَّقل المذكور كنقل زرارة تماماً، فكما أنَّ زرارة حينما ينقل عن الإمامg يكون نقله حجَّة من باب حجيَّة خبر الثقة كذلك ناقل الإجماع هو ينقل عن الإمامg ضمن نقلِه لآراء المجمعين فيكون نقله حجَّة من باب دليل حجيَّة خبر الثِّقة بلا حاجة إلى ورود دليلٍ خاصٍّ على ذلك.

إذن، إطلاق دليل حجيَّة خبر الثِّقة كما يشمل خبر زرارة عن الإمامg كذلك يشمل خبر ناقل الإجماع، فإنَّه نقل عن الإمامg أيضاً، وعليه فدليل حجيَّة الإجماع المنقول هو إطلاق دليل حجية خبر الثقة وليس شيئاً آخر، والذي نريد أن نعرفه أنَّ هذه المحاولة هل هي صحيحة أو لا؟ وهذا ما سوف يتضح في طرق تحصيل الإجماع المنقول ومناقشتها فيما سيأتي.

الفرع الثَّاني: ألفاظ الإجماع المنقول 

إنَّ الناقل للإجماع:

١. تارة ينقل خصوص السَّبب.

٢. وتارة ينقل خصوص المسبَّب.

٣. وتارة ثالثة ينقلهما معاً، السَّبب والمسبَّب.

فإنَّ كلمات الأعلام في المسألة هذا السبب، إذا كان نقلُهم ينتج بعد ذلك المسبَّب؛ فإنَّ المسبَّب أنَّ الإمام يرضى بهذا القول ويقرُّ به، فالأعلام عندما ينقلون الإجماع تارة ينقلون أقوال العلماء فقط، فيقول مثلاً العلامة الحلِّيS: وعليه علماؤنا، فهذا نقل للسبَّب فقط، وأخرى يقول مثلاً: "وعليه الطَّائفة الإمامية"، هذا يختلف عن تعبير: "وعليه علماؤنا"، فـ"علماؤنا" لا يدخل الإمامg معهم، بل يقصد بهم هؤلاء الأعلام من الفقهاء، بينما لو قال: "الطَّائفة الإمامية"، فإنَّ الإمام يدخل ضمن رأي الطَّائفة الإمامية، فهذا التعبير يكشف عن المسبَّب، وأخرى يقول مثلاً: "عليه الإجماع"، يعني رأساً المسبَّب فقط.

فيكون ثلاثة أنحاء:

النَّحو الأوَّل: أن ينقل السبب: "عليه علماؤنا".

النَّحو الثَّاني: أن ينقل المسبَّب: "عليه الإجماع"، رأساً ينظر إلى النتيجة والمسبَّب.

النَّحو الثَّالث: أن ينقل السبب والمسبَّب: "عليه الطائفة الإمامية".

الفرع الثَّالث: طرق الإجماع المنقول

الأوَّل: الإجماع الدخولي

ما يعبَّر عنه بالإجماع الدخولي، والمقصود منه أن يعتقد مدعي الإجماع بأنَّ أحدَ المجمعين هو الإمامg، أي أنَّ الإمامg دخل مع المجمعين، والشاهد على أنَّ الإجماع الدخولي إحدى المستندات التي يستند اليها في نقل الإجماع أو تحقَّق الإجماع عند مدعيه أنَّهم يفرِّقون بين المخالف، فيقولون هذا المخالف معلوم النسب فلا تضرُّ مخالفته، وإمَّا إذا كان المخالف غير معلوم النسب فتضرُّ مخالفته، قد ينسب إلى السيد المرتضىS هذا الإجماع.

بيان ذلك: الإجماع ليس دليلاً مقابلاً للكتاب والسُّنة، وإنَّما هو دليل كاشف عن السنة، فالإجماع ليس دليلاً مستقلاً عند الإمامية، وإنَّما هو دليل يكشف عن السنة بأنَّ نجزم بأنَّ الإمامg كان في ضمن المجمعين، والذي يكشف لنا ذلك:

الكاشف الأوَّل: تارة يكون هو عدم الخلاف، فنرى بأنَّه لا يوجد مخالفة، إذا لم يوجد مخالف في المسألة فالإمامg قد دخل في ضمن المجمعين.

الكاشف الثَّاني: أن ينقل الخلاف ويعيّن المخالف، فيقال مثلاً خالف الشيخ الصدوقُS العلماءَ في هذه المسألة، خالف الشيخُ ابن ادريسS العلماءَ في هذه المسألة، معلوم النسب فهذا لا يضر؛ لأنَّنا سنبقى نقول بأنَّه في ضمن الآراء الأخرى سيدخل الإمامg؛ لأنَّ الذي خرج عن هذه الآراء معلومة ومشخَّص عندنا، أمَّا إذا كان العلماء نقلوا بأنَّ المسألة فيها خلاف، ولم ينقلوا من هو المخالف، فهذا النحو يضرُّ حينئذ بالإجماع، هذا الذي يعبِّرون عنه بأنَّ المخالف غير معلوم النسب، أي لا نعرف من هو المخالف، لا نعرف لمن تنسب هذه المخالفة، فيكفينا في الحكمِ بعدمِ الحجيَّة أن نحتملَ أنَّ المخالفَ هو الإمامg فنعود إلى الأصل وهو عدم الحجيَّة، لأنَّ المورد سيكون من موارد الشكّ ما لم نجزم بدخول الإمامg مع المجمعين، فلا يمكن التمسك بهذا الدليل حينئذ.

الثَّاني: الإجماع اللطفي

الإجماع اللطفي، وهذا الإجماع من مبتكرات شيخ الطائفة الشيخ الطوسيS،([11]) حيث قسَّم اللطف كما هو مذكور في علم الكلام:

١. بلطفٍ محصّل.

٢. ولطف مقرِّب.

حيث ذكروا بأنَّ اللطف المقرِّب هو إيجاد ما يقرِّب العباد إلى الطاعة، وإيجاد ما يُبعِّد العباد عن المعصية، حيث قالوا بأنَّ اللطف المقرِّب واجب في حكمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّه يقرِّب العباد نحو الطَّاعة ويبعِّدهم عن المعصية، فقالوا بأنَّ الله سبحانه وتعالى يجب في حكمته أنْ يعمل بما هو مقتضى اللطف، هذه المقدِّمة مقدِّمة كبراوية.

والشيخ الطوسيS طبَّق هذه المقدِّمة على محلِّ الكلام في الإجماع المنقول, فقال: إذا اجتمعت الأمَّة على حكمٍ ما, وكان هذا الحكم الذي اجتمعت عليه الأمَّة مخالفاً لما هو حكم الله سبحانه وتعالى الواقعي؛ فسيلزم من ذلك إمَّا إبعاد الأمَّة عن الطاعة أو إيقاعه في المعصية، مثلاً: كان الحكم الواقعي هو الوجوب، واجتمعت الأمَّة على أنَّ الحكم هو الاستحباب أو الإباحة، فهنا سيلازم في عدم إبراز هذا الحكم إبعاد الأمَّة عن الطاعة؛ مع أنَّ الواجب في حكمة الله ايجاد ما يقرِّبه من الطاعة، وإذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة، وأجمعت الأمة أنَّه مباح، سيكون من الأمَّة العمل بهذا الحكم، وسيلزم من عدم تنبيهم على هذا الأمر إيقاعه في المحرَّم والمعصية، ولكي لا يلزم وقوع هذا الأمر -إبعاد النَّاس عن الطاعة وإيقاعه في المعصية- نقول: إذا أجمعت الأمَّة ولم يوجد خلاف استشكفنا إنَّاً أنَّ الإمام يرضى بهذا الأمر؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يرضى بهذا الأمر، وإلا لو كان غير راضٍ بهذا الأمر لأوقع الخلاف بينهم من باب وجوب اللطف عليه.

هذا هو الإجماع اللطفي والذي يكون مستنده قاعدة اللطف.

الثَّالث: الإجماع الحدسي العادي

الرَّابع: الإجماع الحدسي الاتفاقي

 ما يسمى بالإجماع الحدسي، والمقصود بالحدس هنا ليس هو الحدس بالمصطلح عند المناطقة، حيث يقولون بأنَّ الحدس هو الانتقال من المشكل إلى النتيجة رأساً من دون المرور بالمقدّمات، بينما هنا المقصود من الحدس ما ليس بحسي، يعني ما لم نُعمِل في إدراكه الحواس، وإنَّما أعملْنا أمراً آخر، إذا عملتَ أمراً آخر يسمَّى حدساً، نظير ما تكرَّر في علم الرجال من أن يكون النقل والتوثيق حسيّ يعني أنَّه رأه وعايشه، أو أنَّه نقل حدسي يعني أنَّه لم يدركه؛ وإنَّما تأمل ومع ملازمات توصل إلى هذه النتيجة.

[مناشئ الإجماع الحدسيّ الاتفاقيّ]

هذا الإجماع الحدسي له منشآن:

المنشأ الأوَّل: منشأ العادة، بأنَّ نقول مقتضى العادة أنَّ المرؤوسين إذا قاموا بعملٍ ما نحدس أنَّ رئيسهم لا يمنع من هذا العمل، وهذا الإجماع هو النَّوع الثالث من الإجماع الحدسي العادي.

المنشأ الثاني: منشأ الاتفاق، فإنَّ معنى الاتفاقية -الذي عبَّر عنها السيد الشهيد+ في الحلقة الثالثة في بحث ثبوت المفهوم أنَّ التوقُّف يكفي ولو صدفة اتفاقاً فيثبت به المفهوم- المقصود بها أنَّه لا توجد ملازمة عقلية، فليس الاتفاق يعني أنَّه لا بدَّ أنْ يكون صدفة، بل إنَّه ما يشمل الصدفة وغيره، أمَّا كيف نشأت فإنَّ مناشئها ستكون متعدِّدة حينئذ، والمهم أن لا تكون هناك ملازمة عقلية ولا ملازمة عادية، يعني شبه دائمية أو أكثرية. وهذا الإجماع هو النَّوع الرَّابع من الإجماع الحدسي الاتفاقي.

الخامس: الإجماع التشرُّفي

وهذا النحو من الإجماع لعلَّ أوَّل من اصطلح عليه هو السيد بحر العلومS، حيث ذكر في رسالته حول الإجماع أنَّ بعض عبارات الإجماع كيف يمكن أنْ تُفسَّر مع أنَّ الأكثر يقولون بالخلاف أحياناً؟! فأصل المشكلة التي طرحها السيد بحر العلومS أنَّنا نرى بعض الإجماعات تحكى مع أنَّ الذين يقول بخلاف هذا الرأي هم الأكثر.

فيقول السيدS: إنَّه يمكن تبرير ذلك بأنَّ هذا الشخص الذي نقل الإجماع وصله الرأي من الإمامg مباشرة، حيث قال بعضهم بأنَّ السيد بحر العلوم يتحدَّث عن نفسه؛ لأنَّ السيد بحر العلوم تنقل عنه كثير من قصص التشرف بمشاهدة واللقاء بالامامg، لكن ماذا يفعل مع أنَّ وظيفته الشرعية عدمُ إظهار ذلك، أو لا أقلّ وظيفة الآخرين من الشيعة أن يكذِّبوا من يدَّعي المشاهدة قبل الصيحة والسفياني، "ألا فمن أدعى المشاهدة قبل الصيحة والسفياني فأنَّه كذاب مفتر"([12])، فهو الآن يواجه أمرين:

 الأمر الأول: أنَّ الإمامg قال له بأنَّ الحكم في هذه المسألة هو كذا، فحصل عنده علمٌ كونها مباشرة من عند الامامg.

الأمر الثاني: المشكلة التي يواجهها أنَّه لو عرض هذا الرأي على الناس وسألوه: "ما هو دليلك؟"، إذا أخبرهم بأنَّ دليل هو أخذ هذا الحكم من الإمام مباشرة سيقولون له: أنت صاحب بدعة، تدعي السفارة لنفسك مثلاً، وتدعي الملاقاة بالإمام، ونحن مأمورون بتكذيب من يدعي هذا هذا الرأي، فلا نعبأ به ولن نعبأ ببقية آرائك أيضاً.

فيحتار بين هذين الأمرين، والحلُّ الذي يقوم به أن يقول: قام الإجماعُ على هذا الرأي، فهو في الحقيقة يعلم بأنَّه لا يوجد إجماع، ولكن يقول المفترض أنَّ من يعلم بأنَّ الإمام أخبره بهذا الأمر أن تجمع الأمَّة على هذا الرأي، فيكون إجماعاً تقديريا ونحو من أنحاء التورية.

الفرع الرَّابع: بطلان الطرق المتقدِّمة

إنّنا عرفنا من خلال ما سبق أنَّ القطع برأي الإمامg يحصل من طرق خمس، والآن نريد التحدّث عن هذه الطرق، وفي هذا المجال ذكر S:

١. إنَّ قاعدة اللطف لا يمكن تطبيقها لتحصيل القطع بموافقة الإمامg؛ إذ كما أنَّ ظهورهg والتقاءه بنا لطف-أيْ يقرِّبنا نحو الطَّاعة ويبعّدنا عن المعصية- ولكن حتماً يوجد مانع يمنع من ظهورهg، فكذلك يحتمل أنَّ نفس المانع المذكور يمنع من إعمال الإمامg اللطف بإلقاء الخلاف.

٢. وأمَّا الملازمة الاتفاقية من باب الحدس فيمكن أن يقال: إنَّه من مجرَّد اتفاق جماعة لا يحصل عادة قطع برأي الإمامg.

٣. وأمَّا طريقة السيد المرتضى فهي عادة غير متحقِّقة في الإجماعات المتداولة.

٤. وأمَّا الملازمة العادية فهي تحتاج إلى اتفاق جميع الأعلام في جميع الأعصار، وتحقّق مثل هذا نادر وبعيد.

٥. وأمَّا التشرّف بلقاء الإمامg فهو احتمال ضعيف.

وبهذا يتّضح أنَّ الإجماع ليس حجَّة من ناحية استكشاف رأي الإمامg لأنَّه يحتاج إلى طرق خمس، كلّها باطلة.

ولكن هذا لا يعني عدم حجيَّة الإجماع من ناحية السبب، بل هو حجَّة فيما إذا اجتمعت خصوصيات توجب القطع برأي الإمامg.

المبحث الثَّالث: تنبيهات

التنبيه الأوَّل: التَّعارض في نقل الإجماع

وهذا التنبيه ناظر إلى حالة التعارض بين نقل الإجماعين؛ أي ما هو الموقف إزائهما؟ كما لو فرض أنَّ أحد الناقلين قال: أجمع الفقهاء على وجوب صلاة الجمعة، وقال الآخر: أجمع الفقهاء على استحباب صلاة الجمعة مثلاً، فهنا هل يتساقطان أو نأخذ بأحدهما؟

وفي هذا المجال ذكر الشيخ الآخوندN أنَّه تارة نتحدَّث من حيث المسبَّب، أي من حيث رأي الإمامg، وأخرى نتحدَّث من حيث السبب؛ أي من حيث نفس الاتفاق.

أمَّا من حيث المسبَّب فهما متعارضان ويلزم تساقطهما، لأنَّ الإمامg لا يمكن أن يكون مع كليها معاً، كما أنَّه لا يمكن الجزم بكونه مع أحدهما بالخصوص لأنَّه بلا مرجِّح.

وأمَّا من حيث السبب فلا تعارض بينهما لاحتمال صدق كلا الاتفاقين، وذلك باختلاف العصرين، بأن يكون أحدُ العصرين قد اتّفق‌ الفقهاء فيه على الوجوب، والعصر الثاني قد اتّفق فقهاؤه على الاستحباب، ولكن هذا لا يعني أنّنا سوف نستفيد من هذين الاتفاقين؛ لأنَّ الاتفاق إنَّما ينفع لو فرض أنَّه اتفاق الكل لأنَّه الذي ينفع في استكشاف رأي الإمامg، وأمَّا اتفاق النصف مع مخالفة النصف الثاني فهو لا يكشف عن رأي الإمامg، اللهمَّ إلّا إذا فرض أنَّ مع أحد الجمعين أشخاصاً توجد لآرائهم قيمة كبيرة، كما إذا فرض أنَّ مع أحدهما الشيخ الكليني أو الصدوق، فإنَّه من انضمام مثلهما يمكن أن يستكشف رأي الإمامg، ولكن هذا يتمّ لو فرض التصريح بأسماء كلا الجمعين، أمَّا بعد عدم التصريح بالأسماء فلا يمكن استكشاف أنَّ مع هذا الجمع هؤلاء أو لا.

التَّنبيه الثَّاني: نقل التواتر

كلّ ما تقدَّم كان ناظرا إلى نقل الإجماع، والآن نريد التحدّث عن نقل التواتر، كما لو فرض أنَّ شخصاً قال: أخبرني بنحو التَّواتر أشخاص عن قصَّة الغدير، إنَّ هذا هل ينفع في إثبات التواتر أو لا؟

وتحقيق المطلب هنا هو نفس التحقيق المتقدِّم في نقل الإجماع، وعلى هذا الأساس نقول: إنَّه نتكلَّم تارة من حيث المسبَّب، وأخرى من حيث السبب.

أمَّا من حيث المسبّب -أي من حيث ثبوت نفس قصة الغدير- فلا يثبت المضمون، أعني قضية الغدير إلّا إذا فرض أنَّ العدد الذي يستند إليهم الناقل هو بمقدار يوجب القطع بتحقّق قضية الغدير لو اطلعنا عليه، فإخبار مقدار مائة مثلا يوجب القطع لنا فإذا كان الشخص يخبر عن مائة فسوف تثبت بذلك قضية الغدير. هذا من حيث المسبّب.

وأمَّا من حيث السبب -أي من حيث تحقّق عنوان التواتر- فالمناسب أن يقال: يثبت بالنقل المقدار الذي يدلُّ عليه اللفظ بعد ملاحظة خصوصيات لفظ النقل وحال الناقل والقضية المنقول فيها، فإن فرض أنَّه يدلُّ على مقدارٍ يتحقَّق به التواتر فهو وإلّا فنضمّ إليه الإخبار الأخرى التي نحصل عليها نحن بجهودنا وبحثنا فإذا صار المجموع بمقدار التواتر فهو وإلّا فلا يثبت عنوان التواتر ولا تترتّب الآثار الثابتة لعنوانه.

أجل إذا فرض أنَّ بعض آثار التواتر كانت ثابتة للخبر المتواتر الذي ثبت تواتره ولو عند نفس الناقل فقط فتثبت مثل تلك الآثار بلا حاجة إلى ضمِّ بقية الأخبار، كما لو فرض أنَّ شخصاً نذر أن يسجِّل في دفتره كلَّ خبرٍ ثبت تواتره ولو عند نفس الناقل من دون أن يثبت عند المنقول إليه، فيلزم تسجيل مثل الخبر المذكور.([13])

الخاتمة

إنَّ نقل الإجماع اذا لم يكن حجَّة من ناحية المسبّب فيمكن أن يكون حجَّة من ناحية السبب بعد تجميع الخصوصيات بالمقدار الذي يوجب القطع برأي الإمامg.

وعليه، فإنَّ نقل الإجماع حجَّة من ناحية نقل المسبّب إذا كان المنقول‌ إليه يرى الملازمة وإلّا فيكون حجَّة من ناحية نقل السبب إذا حصل القطع برأي الإمامg من مجموع الخصوصيات.

ونقل الإجماع ليس حجَّة من ناحية نقل المسبّب لبطلان الطرق الخمس، وأمَّا من ناحية السبب فهو حجَّة إذا حصل القطع بعد تجميع القرائن.

وعليه فلا اعتبار بالإجماعات المنقولة إلّا إذا استظهر منها مقداراً يكفي لتمام السبب -ولو بملاحظة حال الناقل وموضع النقل- وإلّا فلا بدَّ من ضمِّ ما يتحقَّق به تمام السبب من سائر الأقوال -التي حصَّلها أو نقلت له- والأمارات فافهم.

وتلخّص أنَّ الإجماع المنقول حجَّة من ناحية حكايته عن رأي الإمامg إذا كان المنقول إليه يرى الملازمة، ويعمُّه دليل حجية الخبر وينقسم بأقسامه ويشاركه بأحكامه، وأمَّا من ناحية نقل السبب فهو حجَّة بالبيان المتقدِّم.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطيبين الطَّاهرين..


([1]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني: ج2، ص58.

([2]) دروس في علم الأصول، السيد محمَّد باقر الصدر، ج١، ص١٤٦.

([3]) دروس في علم الأصول، السيد محمَّد باقر الصدر، ج١، ص219.

([4]) ‌لسان اللسان، ابن منظور، ج1، ص204.

([5]) المنجد فی اللغة، ص101.

([6]) شرح العضديّ، ج1، ص122.

([7]) المحصول، ج2، ص3.

([8]) نهاية السؤول، ج3، ص237.

([9]) غاية البادئ في شرح المبادئ، ص73.

([10]) المعالم، ص172.

([11]) عدّة الاصول، الطوسي، ج2، ص630.

([12]) كمال الدين، الصدوق، ص516.

([13]) كفاية الأصول في أسلوبها الثاني، الإيرواني، ج4، ص158.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا