إمكانيَّة الاستفادة من الكتاب والسُّنَّة في الاعتقادات (عرضٌ ونقد)

إمكانيَّة الاستفادة من الكتاب والسُّنَّة في الاعتقادات (عرضٌ ونقد)

الملَّخص

تعرَّض الكاتب في مقالته إلى مسألة حجيَّة الدَّليل النقلي في المسائل الاعتقادية، فبعد بيان جملة من المصطلحات التي يتوقَّف عليها البحث، ذكر عرضاً تاريخياً مهمَّا للمسألة وأنَّ الحالة القائمة في زمن النصّ هو الاعتماد على الدليل النقلي في الاعتقادات، ثمَّ ذكر أدلَّة إمكان ذلك، ثمَّ ذكر إشكالين للمانعين من صحَّة الاستدلال بالدليل النقلي في الاعتقادات وردَّهماً، ثمَّ ختم ببعض الفوائد المترتِّبة على الاستفادة من نصوص الكتاب والسنَّة حتى على القول بعدم صحَّة الاستدلال بهما في الاعتقادت. 

 

 

المقدِّمة

بسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، والحمد لله رب العالمين الدالّ على ذاته بذاته، المُستدَلِّ عليه بعظيم صنعه وآثاره، وأفضل الصلاة والسلام على المبعوث هداية للعالمين بكتابٍ عزيزٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد عبده ورسوله المصطفى محمدe المخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان بالعقل، ثمَّ الصلاة والتسليم على العترة الطاهرةi خلفاء الله وخلفاء رسوله القيّمين على القرآن المجيد الداعين إلى التوحيد بالبرهان والدليل، فما اهتدى للحقّ من اهتدى إلا بهم وما ضلّ إلا من انحرف عنهم. 

أمَّا بعدُ، فلمَّا كان كلُّ ما هو مرتبط بالدين من أمور فقهية وأخلاقية واجتماعية وغيرها من المسائل رهن الاعتقاد، وكان قبول أعمال الجوارح والجوانح في شتّى نواحي الحياة موقوفاً على صحّة ذلك المعتقَد؛ كانت مسائل أبحاث الاعتقاد والإيمان أُسّ المطالب وأشرفها لشرف مطلوبها، وما نال غيرها من العلوم فضيلة إلا بالارتباط بها، ثمَّ إنَّ الحديث في تلك المسائل الجليلة معلّق على تحقيق ما يوصِل لها وما يُضلّ من الطرق عنها، فلا يصحّ الاعتماد على ما أوصل لبعض مسائل الحقّ لجواز أن يُضَلّ عن البعض الآخر كما هو واقع في بعض تلك الطرق، فمن هنا كان من اللازم البحث عن مدى صلاحية كلّ طريق ودليل في نفسه وسعة دائرة دلالته، ومن ثَمّ القبول بنتائجه وما يوصل إليه، إذ بعد سلامة الطريق تسلم النتائج. 

والطرق المطروحة للاستدلالات العقدية متعدّدة، غير أنَّ هذا البحث ينصبّ على أحد أهمّ تلك الطرق، وهو الطريق الذي علمنا بعد إيماننا من خلاله أنَّه المجعول من قِبَل البارئ عزّ وجلّ لهداية الخلق لصحيح ما تُعقَد عليه القلوب، وأنَّه الطريق المعصوم عمَّا زلّت فيه العقول في الوصول إلى الله عزّ وجلّ، ألا وهو طريق القرآن ورسول اللهe وأهل بيته المعصومينi، لكن التشكيك والبحث عن كون هذا المسلك معتبراً وذاك ليس بمعتبر لم يستثنِ طريقاً من الطرق التي طُرِحت للإيمان والاعتقاد، فلم يشذّ عن ذلك طريق كتاب الله وطريق أوليائه. 

وعليه كان هذا البحث مطروحاً للبحث عن تلك الإشكالات الواردة على الاستفادة من نصوص الكتاب والسنة -بما هي أعمّ من كونها أخبار آحاد أو لا- في الأبحاث العقدية بعد كونها الكاشف عن المنهج الإلهي في الهداية، فإن كانت صالحة للاعتماد لم يجُزْ التشنيع على الآخذين بها لصحّة ما بنو عليه معتقدهم، وإلا فيكون لزاماً على طالب الحقّ أن يبحث عن طريق آخر يكون أفضل من هذا ليعقد به قلبه على الحقائق. 

ولأجل ذلك سيتصدّى هذا البحث لتسليط شيء من الضوء على فكرةٍ قد يُغفَل عنها في الغالب، وقد يُسمَع الاعتراض عليها من البعض هنا أو هناك، رغم كونها من الأفكار المهمَّة والمفصلية، ولذا سيحاول هذا البحث فتح مثل هذه النافذة لتحقيقٍ أكبر وتدقيقٍ أكثر في هذه المسألة، ومن ثَمّ تحقيق الحقّ فيها وإبطال الباطل، وما ذلك إلا لارتباطها بمسائل العقيدة بشكل مباشر، وقد علمنا حساسية تلك المسائل وكلّ ما يرتبط بها. 

ولا يخفى ما لهذا البحث من سوابق عند الأساتذة والعلماء وأخصّ من بينها بالذكر بحث الشيخ حسن فوزي فوّاز في كتابه غاية المراد في شرح تجريد الاعتقاد([1])؛ إذ له الأثر الأكبر عليّ في هذا البحث لما أرشدني له من المصادر، وفتح آفاق البحث في هذا المضمار، إذ كان لهذه المسألة نحو من الوضوح، إلا أنَّ الاستدلال عليها وبيان أوجه النقض والإبرام فيها كانت غامضة، فقد ساعدني كتابه في رفع كثير من الغموض، وإضافةً لذلك يوجد مقالان لهما ارتباط ببعض جزئيات البحث وهما حجية الظن في أصول الدين للشيخ مهدي الكاظمي([2])، ومكانة الدَّليل النقلي في المعرفة الدينية للشيخ عبدالله محمدي([3])، وكذلك كتاب علم الكلام الإسلامي دراسة في القواعد المنهجية للشيخ رضا برنجكار([4])، وأيضاً بحث جواز التقليد من كتاب صراط الحق للشيخ محمد آصف محسني([5])، وغيرها من الكتابات المهمَّة في هذا المضمار.

فسعيت لجمع شتات البحث المفرّق بين الكتب، وعرضه بصورة مرتبة تسهّل تلقّي معلوماته، مورداً فيه بعض ما استفدته من أساتذتي ممَّا لم أجده في الكتب من توضيح وتصوير جديد لبعض المسائل والنقاط.

فأبدأ في البحث بعد ذكر مقدِّمات تمهيدية له بعرض قول القائلين بإمكانية الاستدلال بالنصوص الشرعية على المسائل العقدية، ومن ثَمَّ ما يمكن إيراده من النقوض والإشكالات، ثمَّ أردفها بما أُجيبَ أو يمكن أن يُجاب به عن تلكم الإشكالات؛ لتحقيق ما يمكن أن يبقى من الدعوى وما لا يبقى منها، وبعد ذلك أتعرّض لجملة من الفوائد المترتبة على البحث قبل خاتمته. 

هذا، وأرجو من الله التوفيق للمقصود بحقّ محمد وآل محمد صلوات الله عليهم. 

المبحث الأول: مسائل تمهيدية:

المسألة الأولى: بيان لبعض المصطلحات المهمَّة

سيتمّ هنا إيضاح بعض المصطلحات التي يتوقّف عليها البحث بشكل عام، ويتوقّف عليها فهم المقصود في بعض الجزئيات المبحوثة، وأهمية هذا الأمر غير خافية.

المصطلح الأوَّل: العقائد

العقائد جمع عقيدة، وهي مشتقة من (عقد)، ويقول فيها ابن فارس: "الْعَيْنُ وَالْقَافُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى شَدٍّ وَشِدَّةِ وُثُوقٍ"([6])، ويقول فيها ابن عباد: "واعْتَقَدَت المودةُ بينهما: ثَبَتَتْ، واعْتَقَدَ الشيءُ: صَلُبَ، وعَقَد َقَلْبَه على شيء: لا يَنْزِع عنه"([7]). والاعتقاد: "هو عقد القلب على ثبوت أمر أو نفيه"([8]). 

والمراد بها في هذا البحث هي مجموعة المسائل التي يتمُّ عقد القلب عليها، بمعنى الإيمان بها، فهي بهذا تكون أحد أفعال القلب، وعليه يكون هنالك فرق واضح بين العلم والاعتقاد، وإن حصل تلازم بينهما في بعض الأحيان، فلا يكون كلّ عالم معتقداً، نظير قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(النمل:14)، ولا يكون كلّ معتقد عالماً، لوجود ما يعتقد به البعض رغم عدم وجود علم لهم به، كما في قوله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا}(الكهف: 4-5)، وقوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الحجرات: 14). 

وللعقائد عدّة أقسام بتعدّد اللحاظات والجهات المبحوثة فيها، والمهمّ منها في هذا البحث تقسيمها إلى أصول وفروع([12]). 

أمَّا الأصول العقائدية فقبل بيان المراد منها وفق هذا التقسيم لا بدَّ من الإشارة إلى وجود استعمالين لها: أوَّلهما إطلاق الأصول على كلِّ مسألة عقدية، ويقابلها الفروع بمعنى الأحكام العملية الفقهية، وثاني الإطلاقين يُراد بالأصول فيه المسائل الأساسية التي يتوقَّف عليها الحكم بالإسلام أو الإيمان، كالاعتقاد بوجود الله سبحانه وبعض صفاته بنحوٍ مجمل، وبرسولهe وبعض خصوصياته بنحو مجملٍ أيضاً، وكذلك الأمر في الأئمةi، وهذه تقابلها مسائل عقدية لا يتوقَّف عليها الحكم بالإسلام أو الإيمان، بل هي فروع وتفاصيل لسابقتها. 

والمعنى المراد من الأصول في هذا البحث هو المعنى الثاني الذي تقابله الفروع العقائدية ([13]).

المصطلح الثَّاني: الحجيَّة

هي مصدر صناعي من الحجّة، وأصلها (حجج)، يقول فيها ابن فارس: "وَمِنَ الْبَابِ الْمَحَجَّةُ، وَهِيَ جَادَّةُ الطَّرِيقِ. قَالَ:

أَلا بَلِّغَا عَنِّي حُرَيْثًا رِسَالَةً                   فَإِنَّكَ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ أَنْكَبُ

وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ الْحُجَّةُ مُشْتَقَّةً مِنْ هَذَا; لأنَّهَا تُقْصَدُ، أَوْ بِهَا يُقْصَدُ الْحَقُّ الْمَطْلُوبُ، يُقَالُ: حَاجَجْتُ فُلانًا فَحَجَجْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ، وَذَلِكَ الظَّفَرُ يَكُونُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، وَالْجَمْعُ حُجَجٌ، وَالْمَصْدَرُ الْحِجَاجُ."([14])، وقريب منه ما في المحيط([15]) والعين([16])، ولذلك يقول الشيخ المظفرN في أصوله: "الحجَّة لغة: كلُّ شيء يصلح أن يُحتَجّ به على الغير؛ وذلك بأنْ يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه، والظفر على الغير على نحوين: إمَّا بإسكاته وقطع عذره وإبطاله، وإمَّا بأن يُلجئه على عذر صاحب الحجَّة فتكون الحجَّة معذّرة له لدى الغير"([17]). 

وأمَّا في الاصطلاح المنطقي فهي تُطلَق على أحد معنيَيْن: الأوَّل منهما هو مجموعة القضايا والمقدِّمات التي بينها نحو من الترابط، وتوصل نحو الكشف عن المجهول أو إثبات المدّعى، والثاني هو إطلاقها على خصوص الحدّ الأوسط في القياس، لكون الحدّ الأوسط هو الحجَّة في إثبات الحدّ الأصغر للحدّ الأكبر([18]).

وأمَّا في كلمات علماء الأصول فالمهم هنا استعمالان من استعمالاتهم: الأوَّل كلّ ما صلح للاحتجاج به ولم يصل لحدّ القطع، والثاني استعمالها بمعناها اللغوي سواء وصل لحد القطع أو لم يصل([19]).

وينبغي التنبيه هنا لوجود عدّة آراء في تفسير الحُجيَّة في الاستعمال الأصولي الأوَّل، والمهمُّ منها هنا رأيان:

الأوَّل -وهو المعروف عن صاحب الكفايةS- وهو كون الحُجيَّة في الأدلَّة التي لا توصل إلى القطع بمعنى المنجّزية والمعذّرية، فيأتي الشارع ويجعل ويعتبر الحُجيَّة لذلك الدَّليل بجعل ما يثبته الدَّليل منجّزاً على المكلَّف ومطلوباً منه، وما ينفيه الدَّليل يكون معذّراً للمكلَّف ومؤمّناً له من العقاب، بغضّ النظر عن كون هذا الإثبات والنفي مخالفَيْن للواقع أو مطابقَيْن له.

والثَّاني: هو المعروف عن المحقِّق النائينيS، ومفاده أنَّ الشارع حين يجعل الدَّليل غير القطعي حجَّة يعني أنَّه يجعله ويعتبره طريقاً لإحراز الواقع، وهذا ما يُسمَّى بجعل الطريقية، فيكون الدَّليل منزَّلاً منزلة القطع بجعل الشارع، وهذا القول يلزم منه وجود المنجّزية والمعذّرية أيضاً لذلك الدَّليل الذي جُعِلت له الحجية، ولا عكس؛ إذ من قال بجعل المنجّزية والمعذّرية فقط لا يقول بجعل العلمية([20]).

وقد تمَّ ذكر هذين الرأيين لارتباطهما ببعض جزئيات البحث، وإن كان المعنى الغالب والمنصرف إليه عند إطلاق الحُجيَّة في هذا البحث سيكون المعنى اللغوي، وإن أُريد غيرُه فستتمّ الإشارة إليه. 

المصطلح الثَّالث: الكتاب والسُّنة

الكتاب: هو القرآن الكريم، والسُّنة هي قول المعصومg وفعله وتقريره -أي سكوته الكاشف عن قبوله-، والمراد بالمعصوم ما يشمل النبيe والأئمة من بعدهi.

والسُّنَّة: هي نفس القول والفعل والتقرير، والأخبار والآثار التي بين أيدينا تحكي وتخبر عن تلك السنة.

وكيفما كان، فإنَّ كلّاً من الكتاب والسنة يمكن جمعهما تحت عنوان الأدلَّة السمعية أو النقلية أو غيرهما من التعبيرات، ولها عدّة تقسيمات، المهمُّ منها لهذا البحث ثلاثة تقسيمات، اثنان منهما من ناحية الصدور، والأخير من ناحية الدلالة. 

التقسيم الأوَّل: تقسيمها بلحاظ ما أفاد بنفسه العلم بصدوره

وما ليس كذلك، فإمَّا أن يكون الدَّليل السمعي متواتراً فيفيد بنفسه العلم بصدوره، وإمَّا أن يكون خبر آحاد.

فالمتواتر هو دليل سمعي يفيد العلم والقطع بسبب كثرة المخبرين التي بلغت حدّاً يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، وأن يكون اللبس والشبهة زائلين عمَّا أخبروا عنه([21])، ولا تخفى ما لنوعية المخبرين أيضاً من مدخلية في تقوية عدم التواطؤ على الكذب. 

والتَّواتر على ثلاثة أقسام([22]):

التواتر اللفظي: وهو الذي يكون عند اتفاق المخبرين على لفظ واحد، نظير ما ورد في حديث الغدير من قولهe: >مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ<([23]). 

التواتر المعنوي: وهو ألَّا يتَّفق المخبرون على لفظ واحد، ولكنَّهم متَّفقون في المعنى والمضمون الذي ينقلونه، كالإخبار عن شجاعة أمير المؤمنينg بأخبار متفرّقة حول أفعاله ومواقفه في الحروب، فتُستفاد شجاعتهg لتواتر المعنى المفيد لها.

التواتر الإجمالي: وهو في حال عدم اتفاق اللفظ أو المضمون، لكن يوجد مدلول التزامي متَّفق عليه بين جميع تلك الأخبار، مثل ما يُدرَك بنحو إجمالي من صدور بعض الأخبار الواردة في كتاب الكافي مثلاً. 

هذا في التواتر، ويقابله خبر الواحد، وهو الذي لم يصل لحدّ التواتر، بلا فرقٍ بين تعدُّد المخبرين وعدم تعدّدهم، فلا يُراد بالواحد هنا كون المخبر واحداً فقط. 

وينقسم خبر الواحد إلى قسمين([24]): ما كان محفوفاً بقرائن توجب القطع بصدوره غير تعدّد المخبرين، فيكون بحكم المتواتر، والآخر ما لم تحتفّ به تلك القرائن، فلا يُعلَم بصدوره.

وهنالك اصطلاح ثالث في البين وهو الخبر المستفيض([25])، وهو الذي يكون فيه تعدّد في طرق روايته، إلا أنَّه لم يصل إلى حدِّ التَّواتر، وهذه الاستفاضة وإن أوجبت شيئاً فإنَّها لا تخرج الخبر من كونه خبر آحاد؛ لأنَّه لم يصل لحدِّ التواتر، فيُنظَر فيما يحتفّ به من قرائن، فإن أوجبت العلم فبها، وإلا فلا.

وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ خبرَ الآحاد لا يفيدُ علماً بنفسه، ولذلك يُقال عادة أنَّه يفيد الظنَّ، وهذا في غير صورة احتفافه بالقرائن.

وتجدر الإشارة هنا إلى ما قد يُتوَهّم من كلمات بعض العلماء كالشيخ الطوسيN، والسيد المرتضىN، والمحقّق الحليN من أنَّ خبر الواحد لا يفيد علماً بشكلٍ مطلق([26])، إلا أنَّ النظر في كلمات السيد والشيخ يعطي احتمالاً يتقوّى بما صرّح به المحقّق الحليN بعد قوله ببطلان مقالة النَّظّام: "لأنَّه قد ينكشف بطلان الخبر في كثير من ذلك، نعم، [قد] يفيد الظنَّ القوي، ولا أحيل في بعض الأخبار انضمام قرائن قويَّة كثيرة تبلغ إلى حدٍّ يفيد معها العلم"([27])؛ إذ إنَّهم كانوا في مقام مناقشة النظّام فيما إذا احتفّ بالخبر قرائن أفادت العلم به، والذي يصرّح به المحقّق الحليN أنَّ النقاش مع النظّام في الصُّغرى لا يمنع ثبوتاً وجود خبرٍ تتراكم فيه القرائن بنحو يُعلَم بصدوره بسببها، وقد يؤول هذا الخلاف لما قاله الشيخ البهائيN من أنَّ العلم ناتج من القرائن لا من الخبر نفسه، حيث قال: "وما لم يتواتر آحاد ولا يفيد بنفسه إلا ظنّا، ومدّعي القطع مكابر، وقد يفيده إن حفّ بالقرائن‌، والمنازع مباهت‌."([28])، وأردف ذلك تعليقاً في حاشية الكتاب قال فيها: "أي المنازع في أنّ الخبر الواحد المحفوف بالقرائن مفيد للعلم، وهذا النزاع على نوعين:

الأوّل: أنّ المفيد للعلم هو تلك القرائن مع الخبر، لا الخبر، والثاني: أنّه لا يحصل من مجموع الخبر و القرائن أصلاً، والمباهت إنّما هو المنازع بهذا المعنى، وأمّا المنازع بالمعنى الأوّل فنزاعه غير بعيد"([29])، فلا يتمّ ما قد يُتوَهّم. 

التقسيم الثاني: التقسيم الرباعي للأخبار

وقد اشتهر من بعد العلامة الحليN، وهذا التقسيم ناظر لنوعية المخبرين، فهو أيضاً يبحث من ناحية السند والصدور، وحاصله([30]):

ما كان سنده متَّصلاً، فإن كان جميع رواته إمامية وثقات فهو صحيح، وإن كان في ضمن رواته إمامي ممدوح وليس موثّقا فهو حسن، وإن كان في ضمن رواته ثقة ولكنَّه ليس بإماميّ فهو موثّق، والرابع هو الخبر الضعيف، وهو كلّ خبرٍ لم يندرج تحت أحد الأقسام السابقة، كما لو كان أحد رجال السند من المضعَّفين، أو مجهولي الحال، أو لم يكن السند متصلاً بالمعصوم، وبين العلماء خلاف فيما يصلح من هذه الأقسام للاحتجاج، وفي بعض الاشتراطات المأخوذة في بعض الأقسام. 

هذا، ولا بدَّ من التنبيه هنا على مسألةٍ تفرّعت على حصول هذا التقسيم، وهي ما يُعبَّر عنه بمبنى الوثوق والوثاقة([31])، ومنشأ الاختلاف فيهما راجع لما يُتحصَّل ويُستفاد من الأدلَّة التي تُطرَح في مقام صحّة الاحتجاج بأخبار الآحاد، والمهمّ هنا بيان مفاد المبنيَيْن بنحو مجمل، فأمَّا البناء على الوثاقة فالمشهور اشترط كون رجال السند كلّهم من الثّقات، إذ يأتي وفق هذا المبنى ما تقدّمت الإشارة له من وجود خلاف بين العلماء في ما يُعتمَد من شروطٍ لأجل تصحيح الاعتماد على الخبر، فالبعض جعل الحسن كالموثّق والصحيح، وآخرون يرفضون الموثّق فضلاً عن الحسن، وتفصيل الكلام مذكور في المطوّلات، وأمَّا البناء على الوثوق فهو يعتمد على القرائن المحيطة بالخبر التي توجب الوثوق بصدوره، كوجوده في الكتب المعتبرة، ووجود سند متصل للإمام مع وثاقة رجاله، ووجوده في أكثر من كتاب معتبر، وتكرّر المضامين، وغيرها، فعلى هذا المبنى فإنَّ وثاقة الراوي ليست إلا قرينة من القرائن لو فُقِدت فإن ذلك لا يُسقط الخبر عن الاعتبار فيما لو كانت هنالك قرائن أُخَر تجبر هذا النقص، فلا يسقط الخبر عن الاعتبار إلا في صورة عدم وجود ما يوجب الوثوق بصدوره بناءً على هذا المبنى.

وهذا البحث سيعتمد بشكلٍ كبير على مبنى الوثوق، في الاعتماد على النصوص لأجل الاستفادة منها في المسائل العقدية.

التقسيم الثالث: ما كان بلحاظ دلالة الدَّليل السمعي

وفيه ثلاثة أقسام([32]): 

النصّ: وهو فيما لو كان المدلول والمعنى واضحاً ومتعيّناً بدرجة لا يشوبها شكٌّ، فيُجزَم بمراد المتكلِّم من كلامه، لعدم وجود احتمال آخر يمكن حمل الكلام عليه.

المجمل: وهو الذي تعدّدت فيه المعاني المحتملة من الكلام بصورة لا يكون هنالك معيِّن لترجيح أحد تلك المعاني على غيرها.

الظاهر: وهو الذي يُحتمَل له أكثر من معنى، إلا أنَّ إحدى تلك المعاني تكون هي الراجحة بدرجة لا تنتفي معها باقي المحتملات، غير أنَّ العرف والعقلاء وضوابط اللغة لا تساعد على جعل اعتبار لتلك المحتملات المرجوحة.

المسألة الثَّانية: عرضٌ تأريخي مختصر للمسألة

إنَّ من الأمور المهمَّة في مثل هذه الأبحاث النظرَ في تأريخها؛ لما فيه من الفوائد في تصوّر المسألة، ومعرفة مناشئ الإشكال عليها كمقدِّمة لمعرفة الأقوال وما يكتنفها من ظروف، لتكون خطوة أولى في معرفة القول الصائب في المسألة، نظير ما قام به الشهيد الصدرN حين تعرَّض لمفردة الاجتهاد وجواز عملية الاستنباط([33])وما يدور حولهما من نزاع، والكلام هو هو في المقام.

والذي يثبته التاريخ لنا من خلال النَّظر فيه أنَّ هنالك حالةً كانت قائمة منذ صدر الإسلام إلى بدايات الغيبة الكبرى لصاحب العصر والزمان#، وهي حالة الاعتماد على النصوص في الاعتقاد مع غضّ النظر عن الجهة التي كان يُعتمَد عليها للقبول بالنصوص والاعتماد عليها في دائرة المعتقد.

ولكي يتضح ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الناس في تلك المرحلة كانت تدخل في الإسلام وتؤمن عن طريق أحد سببين أساسيين:

السَّبب الأوَّل: الإعجاز، وهو القرآن الكريم وغيره، فأمَّا غير القرآن فيؤمِن به من شهد الواقعة، ومن ثبتت له الواقعة بنقلٍ أوجب العلم له كما في التواتر، وأمَّا القرآن الكريم -وهو المعجزة الخالدة التي بين أيدينا اليوم- فالذي يؤمن به هو من له خبرة في جوانب إعجازه بلا تردّد، ومن لا خبرة له فإنَّه يرجع لأهل الاختصاص بحكم العقل، وللبحث في إعجازه وكيفية الإيمان بسببه مقام آخر خارج عن مقصود البحث. 

السَّبب الثَّاني: هو نصوص الكتاب العزيز وبيانات الرسولe وأهل بيت العصمةi، وهو السبب الشائع للإيمان، خصوصاً لمن لم يعاين معاجز النبيe وأوصيائهi، وكذلك لمن لا خبرة له في جهة إعجاز الكتاب العزيز، إضافة لكون النصوص تثبت أصول الاعتقادات وفروعها ممَّا يحتاج إليه الناس لأجل الإيمان، بخلاف المعجز الذي لا يثبت إلا بعض الأصول، كوجود الله! وصحَّة كلام مدّعي الرسالة.

فيتحصَّل أنَّ أصل الإيمان بالله وبالرسول وأمَّهات المسائل، وكذلك تفاصيلها وفروعها، كان يحصل في الجملة بالنصوص، وفي ذلك شواهد عديدة تجعل المسألة آبية عن التشكيك في وجودها تاريخياً، وأذكر هنا طرفاً من تلك الشواهد:

منها: إيمان المشركين والملاحدة والزنادقة والدهريين وشتّى طوائف الكفار بما كان يطرحه القرآن الكريم والمعصومونi من أدلَّة وتنبيهات، ولا يخفى أنَّ هذه واحدة من وظائف النبيe وأوصيائهi.

ثمَّ إنَّهمi كانوا يدعون أصحابهم لتبليغ هذه المعتقدات بما أخذوه منهم من النصوص، نظير ما روي عن الإمام الصادقg أنَّه قال ليونس: >إِنَّمَا قُلْتُ: فَوَيْلٌ لَهُمْ [أي أصحاب الكلام] إِنْ تَرَكُوا مَا أَقُولُ، وَذَهَبُوا إِلى مَا يُرِيدُونَ<([34])، وما روي في معتبرة هشام بن الحكم عن الإمام الصادقg حين قال له: >أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ فَهْماً تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا الْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَهُ؟<([35])، وقولهg كما يرويه الشيخ المفيدN: >حاجّوا الناس بكلامي، فإن حجّوكم فأنا المحجوج<([36])، وكذلك المرويّ عن قول الإمام الكاظمg لمحمَّد بن حكيم: >كلِّم الناس وبيّن لهم الحقّ الذي أنت عليه، وبيّن لهم الضلالة التي هم عليها<([37])، ومعتبرة عبد السلام([38]) عن الإمام الرضاg في بيان كيفية إحياء أمرهمi حيث قال: >يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونَا<([39])، وشبيه بهذا ما أورده الكافي بسند معتبر عن أبي بصير عن الإمام الصادقg: >رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس ولم يبغّضنا إليهم، أمَّا والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ، وما استطاع أحدٌ أن يتعلَّق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة، فيحطّ إليها عشراً<([40]). 

بل ومُدِح من يسير بهذه السيرة في الاستدلال على الاعتقادات، كما قال الإمام الصادقg في نفس خبر يونس المتقدّم، حين قالg لحمران بن أعين: >تُجْرِي الْكَلامَ عَلَى الْأَثَرِ فَتُصِيبُ<([41]). 

وتصريح نفس الأصحاب بأنَّهم آخذون لدينهم -ومن جملته الاعتقادات- من الأئمةi، وجعلهم هذا الأخذ منشأً لغلبتهم على خصومهم وأحقّيّة معتقدهم، ففي ذلك يقول هشام بن الحكم بعد أخذه لبعض مسائل التوحيد من الإمام الصادقg: «فَوَ اللهِ، مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتّى قُمْتُ مَقَامِي هذَا»([42])، وقول هشام بن سالم بعد سؤاله الإمام الصادقg عن بعض صفات الباري عزّ وجلّ: «فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد»([43])، ومقالة هشام بن الحكم([44]) بعد حكايته لما جرى له مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة حين سأله الإمام الصادقg عمن علّمه هذا، فقال: «شَيْءٌ أَخَذْتُهُ مِنْكَ وَأَلَّفْتُهُ»، فأجابه الإمامg: >هذَا وَاللَّهِ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسى<، وغيرها من الأخبار التي يطلب فيها أصحاب الأئمةi من خصومهم الانتظار والمهلة حتى يسألوا الأئمةi عن تلك المسائل التي عجزوا عنها، كمثل ما رواه الصدوقN من أنَّ أبا هذيل العلَّاف قال لهشام بن الحكم: أناظرك على أنَّك إن غلبتني رجعت إلى مذهبك، وإن غلبتك رجعت إلى مذهبي، فقال هشام: "ما أنصفتني! بل أناظرك على أنِّي إن غلبتك رجعتَ إلى مذهبي، وإن غلبتني رجعتَ إلى إمامي"([45]). 

إضافة لذلك دعوة الأئمةi لرجوع الناس لأولئك الأصحاب في أخذ معالم الدين عنهم، إذ إنَّ المسائل العقدية من أوضح معالم الدين، فقد ورد في معتبرة علي بن المسيّب حين سأل الإمام الرضاg عمَّن يأخذ دينه، فقالg: >مِنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ الْقُمِّيِّ الْمَأْمُونِ عَلَى الدِّينِ والدُّنْيَا<([46])، وكذا ما جاء في حقّ يونس بن عبدالرحمن([47])، وما روي عن الإمام الصادقg حين سأله يعقوب بن شعيب: إِذَا حَدَثَ عَلَى اَلإمَامِ حَدَثٌ كَيْفَ يَصْنَعُ اَلنَّاسُ؟ قَالَ: >أَيْنَ قَوْلُ اَللَّهِ a: {...فَلَوْلاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَقَالَ: هُمْ فِي عُذْرٍ مَا دَامُوا فِي اَلطَّلَبِ، وَهَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُمْ فِي عُذْرٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُهُمْ<([48])، فتعيين الإمام مسألة عقدية، وقد بيَّن الإمام أنَّها تثبت بالنصوص. 

ومن جملة الشواهد على تلك السيرة والحالة القائمة في هذه الحقبة من الزمن ما ورد من روايات عرض العقيدة على الأئمةi من قِبَل الأصحاب طالبين منهم تصحيحها لهم، فإن كان حقّاً ثبتوا عليه، كراوية عبد العظيم الحسني([49])، ومنصور بن حازم([50]) وغيرها من الأخبار الكثيرة. 

وإلى هذه السيرة يشير الشيخ المفيدN بقوله: "واتفقت الإمامية على أنَّ العقل محتاج في علمه ونتائجه إلى السمع، وأنَّه غير منفكّ عن سمعٍ ينبّه العاقل على كيفية الاستدلال، وأنَّه لا بدَّ في أوَّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث.

وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أنَّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع والتوقيف، إلا أنَّ البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرسالة في أوَّل التكليف، ويخالفون الإمامية في علّتهم لذلك، ويثبتون عللا يصحّحها الإمامية ويضيفونها إلى علّتهم فيما وصفناه"([51]).

وعبارة الشيخ الكلينيS مفيدة لهذا الارتكاز حين قال في مقدِّمة الكافي: "فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَوْفِيقَهُ وَأَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً، سَبَّبَ لَهُ الأسْبَابَ الَّتِي تُؤَدِّيهِ إِلى أَنْ يَأَخُذَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَآلِهِ- بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ، فَذَاكَ أَثْبَتُ فِي دِينِهِ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ خِذْلانَهُ وَأَنْ يَكُونَ دِينُهُ مُعَاراً مُسْتَوْدَعاً -نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ- سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الاسْتِحْسَانِ وَالتَّقْلِيدِ وَالتَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَة"([52]). 

كما ويقول الشيخ النعمانيN في مقدّمة كتاب الغيبة: "كَمَا رُوِّينَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍg أَنَّهُ قَالَ: >مَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الدِّينِ بِالرِّجَالِ أَخْرَجَهُ مِنْهُ الرِّجَالُ كَمَا أَدْخَلُوهُ فِيهِ، ومَنْ دَخَلَ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ<.

ولعمري ما أُتي من تاه وتحيّر وافتتن وانتقل عن الحقّ وتعلّق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلّة الرواية والعلم، وعدم الدراية والفهم، فإنَّهم الأشقياء لم يهتموا لطلب العلم، ولم يتعبوا أنفسهم في اقتنائه وروايته من معادنه الصافية، على أنَّهم لو رووا ثمَّ لم يدروا لكانوا بمنزلة من لم يرو- وَقَدْ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُg‌: >اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا عِنْدَنَا عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا وَفَهْمِهِمْ مِنَّا؛ فإنَّ الرواية تحتاج إلى الدراية، وخبرٌ تدريه خيرٌ من ألف خبر ترويه<"([53]). 

وما أورده الشيخ الصدوقN في الاعتقادات حين قال: "فأمّا الاحتجاج على المخالفين بقول الأئمّة أو بمعاني كلامهم لمن يحسن الكلام فمطلق، وعلى من لا يحسن فمحظور محرم"([54]). 

فعبائر العلماء واضحة في أنَّ المنهج القائم في ذلك الوقت كان يعتمد على النصوص في أصول العقيدة وفروعها، والشواهد كثيرة يقصر عنها المقصود في هذا المقام المختصر.

فالحاصل من هذه الفترة الزمنية الطويلة هو الاعتماد على النصوص في الاستدلال والنقاش والدعوة والتبليغ للحقّ من المعتقدات. 

ثمَّ نشأ في القرن الرابع ما يمكن عدُّه من بذور الإشكال على هذه السيرة في وقت لاحق، وهو الإشكال على خصوص نصوص السنة الشريفة من جهة العلم بصدورها، وهو الإشكال على أخبار الآحاد، وللشيخ المفيدN وغيره عبائر تفيد ذلك.

كقول الشيخ المفيدN في تصحيح الاعتقادات عند إحدى مناقشاته للشيخ الصدوقN: "والأحاديث التي رُوِيت في صفة الملائكة الحاملين للعرش أحاديث آحاد وروايات أفراد، لا يجوز القطع بها ولا العمل عليها"([55]).

ومنها قولهN في التذكرة: "فأمَّا خبر الواحد القاطع للعذر، فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحّة مخبره، وربما كان الدَّليل حجَّة من عقل، وربما كان شاهداً من عرف، وربما كان إجماعاً بغير خُلْف، فمتى خلا خبر الواحد من دلالة يُقطَع بها على صحّة مخبره، فإنَّه كما قدّمناه ليس بحجّة، ولا موجبٌ علماً ولا عملاً على كلّ وجه"([56]).

وتبعه على ذلك السيد المرتضىS([57])، والشيخ الطوسيN([58])، وجملة من الأعلام على خلافٍ بينهم في بعض التفاصيل. 

والذي يفيد أنَّ الإشكالات مقتصرة على تحصيل العلم بصدور النصوص، ما هو معلوم من أنَّ البعد الزماني عن المتكلم كلّما طال وبعد، احتاج التحقّق من صدور هذا الخبر أو ذاك جهداً أكبر وتدقيقاً أكثر، فإنْ صحّ مثل هذا الحدس فلن تكون هذه الفترة الزمنية مغايرة لسابقتها في المضمون، وذلك للعلم بأنَّ المتقدِّمين -كما اللاحقين- مدقّقون في النصوص من ناحية صدورها، فلا يعتمدون على أيّ خبرٍ ومن أيّ شخص.

إلا أنَّه بعد هذه الحقبة الزمنية -وتحديداً في القرن السابع- اتسعت رقعة الإشكال حتى وصلت للاعتراض على إمكانية الاعتماد على ما تثبته النصوص من مضامين، وليعمّ الإشكال حتى نصوص الكتاب العزيز. 

كما في قول الفخر الرازي: "الدليل اللفظي لا يفيدُ اليقين إلا عند تيقُّنِ أمورٍ عشرة: عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ، وصحّة إعرابها وتصريفها، وعدم الاشتراك والمجاز، والتخصيص بالأشخاص، والأزمنة، وعدم الإضمار، والتقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي الّذي لو كان لرجح؛ إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل، لافتقاره إليه، وإذا كان المنتج ظنياً فما ظنّك بالنتيجة؟"([59]).

وتسبّب ذلك بالابتعاد عن النصوص الشريفة في كثيرٍ من المساحات لما تقتضيه النقاشات العقدية، وما يستلزمه مقام النقض والإبرام من الإلزام والالتزام ببعض ما يقوله المخالفون من المسلمين وغيرهم، وهو واضح في المدرسة الحِلِّيَّة ومؤلفاتها الكلامية، فكان لكلام الرازي وغيرها من المخالفين انعكاسات واضحة على بيان عقائدنا الحقّة، ومن أمثلة هذا الانعكاس ما ظهر من فكرة أنَّ الاستدلالات العقائدية لا يمكن أن تبتني على مقدِّمات نقليَّة فقط، بل لا بدَّ من ضمِّ مقدّمات عقلية لها، أو تكون مبتنية على مقدّمات عقلية فقط؛ لكون النقل وحده لا يفيد العلم، وهذا نتيجة لاعتراضات الرازي وغيره.

ولأجل ذلك يقول المحقّق الطوسيN في التجريد: "وبسائطه عقلية ومركبة لاستحالة الدور"([60])، ويعقّب عليه العلامة الحليN شارحاً بقوله: "بسائط الدَّليل يعني به مقدماته، فإنَّ الدَّليل لمّا كان مركّبا من مقدّمتين كانت كلُّ واحدة من تينك المقدّمتين جزءاً بسيطاً بالنسبة إلى الدليل، وإن كانت مركّبة في نفس الأمر، إذا عرفت هذا فالمقدّمات قد تكون عقلية محضة، وقد تكون مركّبة من عقلي وسمعي، ولا يمكن تركّبها من سمعيات محضة، وإلا لزم الدور؛ لأنَّ السمعي المحض ليس بحجّة إلا بعد معرفة صدق الرسول، وهذه المقدِّمة لو استُفيدت بالسمع دار، بل هي عقلية محضة، فإذن إحدى مقدِّمات النقليات كلُّها عقلية، والضابط في ذلك أنَّ كلَّ ما يتوقّف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنقل، وكلّ ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز إثباته بالعقل، وما عدا هذين يجوز إثباته بهما"([61]). 

ومن ثَمّ سرى النقاش لمَّا انحصرت المعرفة به عن طريق النصوص الشرعية، بدعوى المخالفة للأدلَّة العقلية، وصار الأمر الواضح المفهوم من النصوص محلاً للتشكيك، وكمثالٍ لذلك ما ورد في مقالة لصدر المتألهينN حين كان يدافع عن قول ابن عربي وأصحابه في نفي الخلود في النَّار حيث يقول: "والقول بانتهاء مدّة التعذيب للكفار وإن كان باطلا عند جمهور الفقهاء والمتكلّمين وبدعة وضلالة- لادّعائهم تحقّق النصوص الجليّة في خلود العذاب ووقوع الإجماع من الأمّة في هذا الباب- إلا أنَّ كلّاً منها غير قطعيّ الدلالة بحيث تعارض الكشف الصريح أو البرهان النيّر الصحيح.

أمَّا النصّ: فما من لفظٍ إلا ويمكن حملُه على معنى آخر غير ما هو الموضوع له بأحد الدلالات، وإن كان الأصلُ والمعتبر هو المعنى المطابقي، لكنّ الكلام هنا ليس في الأصل والترجيح، كما في الفروعات الظنيّة التي يكفي للعمل بها مجرَّد الأصل والرجحان، بل في اليقينيات التي لا ينجح فيها إلا العلم بالبرهان، والشهود بالعيان"([62]). 

وتستمرّ هذه الطريقة إلى يومنا الحاضر، فلا حضور للنصوص إلا في مساحة خاصة من بعض مسائل النبوَّة والإمامة والمعاد، وهذا الإعراض راجع لأحد سببين رئيسيين وهما: أنَّ هذا الخبر خبر آحاد فلا يُعوّل عليه؛ لعدم العلم بصدوره، فضلاً عن المناقشة في مدلوله، فلا يفيد علماً، وقسم آخر لا يمكن الاعتماد عليه؛ لاستلزامه الدور في حال سلامته من كونه خبر واحد، وأمَّا التشكيك في كون ما يظهر من النصوص من معانٍ ليست مرادة للمتكلِّم بها، فهي وإن لم تكن هي الحالة العامَّة في هذا الزمن إلا أنَّها آخذةٌ في الانتشار شيئاً فشيئاً.

وعليه فالكلام دائر عن النُّصوص المعصومة بما هي كذلك، وما الإشكال في كونها خبر آحاد إلا جزءاً من البحث، وإن كان المنصرف عند عقد مثل هذه البحوث هو خصوص خبر الواحد، إلا أنَّ الكلام لا بدَّ أن يكون أعمَّ من ذلك.

وبهذا يتمُّ الكلام في هذا العرض التاريخي المختصر بما يتوافق والمراد من البحث. 

المبحث الثَّاني: أدلة إمكانية الاعتماد على النُّصوص في العقائد

وقبل الشروع في بيان الأدلَّة لا بدَّ من تقديم مقدّمتين: 

المقدّمة الأولى: حول العقل، إذ لا خلاف بينهم في فضيلة العقل وكونه هبةً إلهية عظيمة لها القدرة على الإدراك والتمييز لبعض الأشياء، وهو أمر متّفق عليه -لا أقلّ- بين الإمامية، وقد شدَّد القرآن الكريم على أهميَّته، وكذلك أخبار المعصومينi لم تحِدْ عمَّا قرَّره القرآن الكريم من كون العقل معياراً وميزاناً يميّز به الصحيح من السقيم، فما يُنسَب لبعض الأعلام من أنَّهم لا يقبلون بأحكام العقول ولا يسيرون وفق ضوئها ليس بصحيح، كيف والجميع ينطلق في شتّى المسائل من مدركات العقل البديهية، ولا يشذُّ عن ذلك هذا المقام؟!

غير أنَّ العقل لا يدرك كلّ شيء، لما يدركه الوجدان من عدم إحاطة العقل بكلِّ شيء، وهذا أمرٌ يصرّح به ابن سينا حين يقول: "الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر.."([63])، وكذلك صدر المتألهينN حين يقول: "اعلم أنَّ أفاضل البشر قاصرون عن إدراك حقائق الأمور السَّماوية والأرضية على وجهها وعن الإحاطة بدقائق الصنعة وعجائب الفطرة.."([64])، ولا شأن لنا فعلاً بذكر الأقوال التي قد تناقض هذا المتقدِّم وحلّ التناقض بعد بداهة هذا الأمر، ثمَّ إنَّ المعروف هو أنَّ العقل مدرك للكليَّات دون الجزئيات([65])، وبما تقدّم يُعلَم أنَّه مدرك لبعض الكليات، أمَّا الجزئيات فهو يدركها بتوسُّط آلاتها، فإن كانت مثل هذه الآلات كالسمع والبصر قاصرة عن إدراك الشيء الخارجي، فالعقل أولى بعدم إدراكه له بعد انحصار الطريق. 

ورغم ذلك فإنَّ للعقلِ قضايا بديهية لا يناقش فيها أحد، وهي الأساس للبناء الفكري للإنسان، كقضية أنَّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وافتقار الأثر إلى مؤثِّر.

المقدِّمة الثَّانية: في تنويع الأدلَّة النقلية في خصوص المسائل العقدية إلى نوعين، وهما المنقول الإرشادي، والمنقول التعبُّدي، والأوَّل فيهما هو ما يرشد إلى مدركات العقل وأحكامه، فتأتي النصوص ببيان الأدلَّة التي يقبلها العقل لاعتمادها على الضروريات التي يبني عليها بنيانه الفكري، وثاني النوعين ما ينصّ عليه الشارع، وعلى الإنسان قبوله تعبّداً كالأمور الغيبية التي لا مجال للعقل في الوصول إليها، فقبول العقل لمثل هذه النُّصوص لكونها من جهة الشارع. 

وإذا تقرَّرت هاتان المقدّمتان، يكون الكلام في دليل الاستفادة من النصوص في المسائل العقدية.

فيُقال إنَّ الخالق لهذا الكون وخالق الإنسان وبارئه من العدم، قد أودع فيه موهبة العقل؛ ليصل إليه الخلق بها عبر بيانات عقلية قريبة من المقدِّمات البديهية الكاشفة عمَّا هو متقرِّر في لوح الواقع بأدلَّة نقلية تفيد هذه الفائدة، كما قال الشيخ المفيدN: "واتفقت الإمامية على أنَّ العقل محتاج في علمه ونتائجه إلى السمع، وأنَّه غير منفكّ عن سمعٍ ينبّه العاقل على كيفية الاستدلال، وأنَّه لا بدَّ في أوَّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث."([66])، وكذلك ما ذكره أبو الفتحN: "وأنَّ الحقّ الذي تجب معرفته يدرك بشيئين: وهما العقل والسمع، وأنَّ التكليف العقلي لا ينفكّ من التكليف السمعي، وأنَّ الله تعالى قد أوجد للناس في كلِّ زمان مُسْمِعاً من أنبيائه وحججه بينه وبين الخلق ينبّههم على طريق الاستدلال في العقليات، ويفقّههم على ما لا يعلمون إلا به من السمعيات، وأنَّ جميعَ حجج الله تعالى محيطون علماً بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد، وأنَّهم معصومون من الخطأ والزَّلل عصمة اختيار، وأنَّ اللهَ فضَّلهم على خلقِه وجعلهم خلفاء القائمين بحقِّه، وأنَّه أظهر على أيديهم المعجزات تصديقاً لهم فيما ادّعوه من الأنباء والأخبار"([67])، ولهذا المعنى يشير أميرُ المؤمنينg: >فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ؛ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ اَلْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذَلِكَ، نَسَلَتِ اَلْقُرُونُ، وَمَضَتِ اَلدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ اَلْآبَاءُ، وَخَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ<([68]). 

فتوجد هاهنا نصوصٌ حاوية للبيانات العقلية، لا يأباها العقل ولا ينظر إلى القائل لها، بل يرى ما فيها من إرشاداتٍ ترشده لأدلَّة معتمدة على ضرورياته، وتوصله للكشف عن الواقع كشفاً لا يقبل التذبذب والشكّ، فالنصوص المرادة في هذا المقام هي المندرجة تحت القسم الأوَّل المتقدِّم في المقدّمة الثانية.

وليس في هذا المقام مصادرة، فنظرةٌ خاطفة نحو الواقع المُعاش وما يرويه التأريخ من الوقائع والأحداث كفيلةٌ بإثبات هذه الدعوى، فهذه النصوص قد آمن بسببها من كان ضالّاً من السابقين واللاحقين، ولا زالوا يؤمنون بسببها لموافقتها لما وهبهم الله إيَّاه من العقول، بخلاف ما قرَّره غيرها من أدلَّة معقّدة وبعيدة عن بديهيات العقول، حيث لم تُفِدْ أكثر ممَّا أفادته الأدلَّة الواردة في الكتاب العزيز، وما جاء على لسان نبيهe وأوصيائهi وسائر كتبه ورسله السابقينi، وبقيت عاجزة رغم تطويلها عن إقناع الجاحدين، وهو أمرٌ نبَّه عليه الباري عزّ وجلّ في كتابه العزيز وعلى لسان أوليائهi، وذلك لوضوح أنَّ الأدلَّة المفيدة للحقِّ من المسائل التي إذا تقرَّرت فسينكر قومٌ يستعلون على الحقّ سواء جئتهم بأدلَّة تامَّة -وإن سُمِّيت بأدلَّة العوام أو البسطاء- أم جئتهم بأدلَّة غيرها يفتقر الإيمان من خلالها لصرف العمر في الكثير من المسائل حتى تفهم تعقيدها، ووجه اتصالها ببديهيات العقل، ومن ثمَّ لا يؤمن الجاحد! أم لم تأتِ بدليلٍ لهم فإنَّهم لا يؤمنون لمكان جحودهم، رغم أنَّ الواقع خير برهان على إيمان أكابر العقلاء وأصحاب الأفهام بهذه الأدلَّة المحكمة المذكورة في النصوص الشريفة.

وخلاصة الكلام هي أنَّ هذه النصوص تقرِّر أدلَّة عقلية لا يأباها العقل بعد كونها على وفق قوانين العقل القطعي، فما الموجب للانصراف عنها لغيرها مع ما في الغير من عيوب؟ وترك الأفضل بحسب التجربة ونظر العقل، خصوصاً بعد الإيمان بالله ورسولهe والأئمةi من بعده، فلا يبقى مجالٌ للشكِّ في أدلَّتهم التي ذكروها، فهي أفضل الأدلَّة وأتمّها في إثبات العقائد الحقَّة للنَّاس. 

ثمَّ إنَّ للاعتماد على هذه النصوص وجهاً آخر يمكن ذكره في البين، ويكون ذلك بعد الإقرار بوجود الله سبحانه وتعالى وبعض صفاته بنحو إجمالي بحسب ما تقرّر للعقل من إدراكه للكليات، وعجزه عن غيرها لمحدودية آلاته.     

وحاصل الوجه الثَّاني: أنَّ الإنسان بعد إيمانه بهذا المستوى يواجه مدارس شتّى كلٌّ منها يدّعي أنَّه الحقّ وأنَّه الموصل إلى الله، إلا أنَّ شيئاً منها لا يدَّعي كونه من عند ذلك الموجود الذي آمن به على الإجمال إلا إحدى تلك المدارس، ثمَّ إنَّ في هذه المدرسة من يدّعي كونه آخر الطرق التي من قِبَل الله عزّ وجلّ، وفي قِبال هذه الدّعاوى فإنَّ الإنسان عاجز عن الوقوف على الصحيح منها من السقيم لكثرتها، فالعقل هنا يختار البدء في النظر في كلام آخر المدارس، وفي خصوص التي تدّعي أنَّها من عند الإله الذي آمن به، فيدقّق في أدلَّتها ويحقِّق في معجزتها، فإن توافقت وبديهيات عقله اتبعها، وإلا انتقل لتحقيق الأمر في غيرها([69])، وبهذا يتمّ الكلام في الإرشادي من النصوص.

وتجدر الإشارة ههنا إلى أنَّ ما تقدَّم لا علاقة له بكون النصّ خبر آحاد أو متواتراً أو غيرهما، بل هو أعمّ من ذلك، نعم، لتحقيق صدور الخبر فوائد أُخَر في هذا المجال، وستتمّ الإشارة لبعضها في المبحث الخامس إن شاء الله تعالى.

وأمَّا الكلام في النُّصوص التعبّدية المبيّنة لما يعجز العقل عن إدراكه، فهو متفرّع على الإيمان بالله عزّ وجلّ وجملة من صفاته وبرسوله محمَّدe وأوصيائهi بما دلّت عليه النصوص من الأدلَّة الحقّة على هذه العقائد.

فلا يكون مجالٌ هنا لإنكار شيء ممَّا يجيء به الرسولe والأئمة من بعدهi، لكونهم مرتبطين بالله العزيز معصومين عن الخطأ والزَّلل، فما يقولونه من نصوص لبيان اعتقادات تفصيلية خارجة عن دائرة إدراك العقل، ككيفية بعض جهات العلم والقدرة وغيرها من أوصاف البارئ a، وتفاصيل الجنة والنار، والحساب والبعث والمعاد وسائر الأمور الغيبية التي لا يمكن للإنسان أن يعلم بها بما له من عقل، ولا يمكن له أن يستمع فيها لغير قول من نصبهم الله a لهدايته؛ لعدم كون ذلك الغير مرتبطاً بالمصدر الأصلي والمنبع الأساس لكلِّ شيء، فينحصر الإذعان والإيمان بما جاء به المعصومونi. 

لكنَّ الكلام قد وقع في أنَّ ما عندنا لم نأخذه من المعصوم بشكلٍ مباشر؛ إذ إنَّ ما في أيدينا ليس إلا أخباراً ورواياتٍ تنبئ عن أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهمi، فكيف السبيل للعلم بأنَّ هذه القضية من قول المعصومg سواء في ذلك القرآن أو السنة؟

وقبل بيان الدَّليل يجدر تحرير محلَّ النزاع في هذا المقام وذلك بما يلي:

 إنَّ الاستدلال بالنصوص قائم على قياس منطقيٍّ صغراه أنَّ هذه القضية قد قالها المعصوم -بما يشمل أقوالَ القرآن والسنة- وكبراه أنَّ كلَّ ما يقوله المعصوم فهو حقّ.

أمَّا الكبرى فقد ثبتت بالبيان السابق، فيبقى الكلام في الصغرى، فقِسْمٌ ممَّا قد قاله المعصومg لا يمكن النقاش فيه، وهو ما ثبت صدوره كالقرآن الكريم، وبعض السنّة الثابت صدورها بالتواتر، وبعض آخر من السنة ثابت صدوره لاحتفافه بقرائن تفيد العلم بصدوره، وكذلك ما ثبتت دلالته التي يُعبّر عنه -كما أُشير لذلك في المبحث الأوَّل- بالنص، وذلك في مثل محكمات الكتاب العزيز، وما لا يحتمل معنى آخر ولو بنسبة الوهم من مفاد بعض الروايات.

وعليه يكون الكلام في تحقيق صغرى القياس السابق واقعاً في جزئيتين: وهما ما لم يثبت صدوره كبعض الروايات، وما لم تثبت دلالته على المعنى بنحو النصّ كبعض نصوص القرآن الكريم وبعض الروايات، وهو ما يُصطلح عليه بأنَّه من الظنون، أي مظنون الصدور وهو أخبار الآحاد، ومظنون الدلالة وهو ما يظهر من الكلام، وكذلك المجمل، وأيضاً لا بدَّ من إخراج ما أورث وثوقاً واطمئناناً من ناحية الصدور بتكثر الأسانيد، وإن لم تصل لحدّ التواتر ولم تحتفّ بقرائن أُخَر توجب العلم بالصدور كالأخبار المستفيضة، وكذلك من ناحية الدلالة والمضمون إذا اعتضد بمضامين أُخَر فيوثق بكون هذا المضمون هو المعنى المراد من الكلام([70])، ومن أمثلة ذلك مسألة قِدَم الله a، وأنَّه لا قديم غيره، وكلّ ما سواه حادث مسبوق بالعدم([71])، وأنَّ كلّ ما سوى الباري عزّ وجلّ متغيّر ومتبدّل لا استقرار له على حال([72])، وأنَّ إرادته a من صفات فعله لا ذاته، فإن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل بلا ضرورة في فعله وعدم فعله([73])، وأنَّ الله a خِلْو من خلقه، وخلقه خِلْو منه([74])، وأنَّ جميع المعلومات متساوية النسبة إليه قبل الخلق وبعده، وكذلك المقدورات مستوية النسبة إلى قدرته([75])، وأغلب النصوص العقدية في مثل هذا ممَّا يُعلَم بصدوره ويُعلَم بمدلوله. 

وأمَّا القسم الآخر من النصوص وهو غير الغالب الذي يكون مظنون الصدور والدلالة، فيمكن الاعتماد عليه في خصوص ما لا يستقلّ العقل بإدراكه من المسائل العقدية، بإجراء بعض الأدلَّة المذكورة في أصول الفقه عليه ليصحّ التعبّد بالاعتقاد به، وأهمّها هنا سيرة العقلاء القائمة على الاعتماد على مثل هذه الظنون وترتيب الآثار عليها، وهذه السيرة القائمة بين العقلاء قائمة بنحو مطلق، فلا يفرّق العقلاء([76]) بين كون الخبر الآخذين به خبراً في حكم شرعي، أو في بيان واقعة تاريخية من وقائع الأنبياءi السابقين والأمم الغابرة، أو كان في بيان حال راوٍ وغيرها ممَّا يدخل في هذا المضمار، ثمَّ إنَّ هذه السيرة قد أمضاها أصحاب أولئك الأخبار وهم الأئمةi ولم يردعوا عنها، بل ساروا وفقها في بيان المعارف الدينية بلا استثناء بينها، فلم يُعهَد عن الشارع انتهاجه غير نهج العقلاء في إثبات صدور الأخبار، والعمل بما يظهر منها من مضامين، وإن احتملت وجوهاً أُخَر لا يلتفت إليها العرف والعقلاء، والقبول بما يلزم من مثل هذا الجري وإثباته.

ويشهد لهذه السيرة ما تقدّمت الإشارة إليه في العرض التاريخي للمسألة، فلا حاجة لإعادة الأمر هاهنا، ولكن يمكن زيادة أمر آخر هنا وهو أنَّ الوجدان والحياة القائمة شاهدة على هذه السيرة من الاعتماد على النقولات ومضامينها وإن كانت ظنية، إلا أنَّها واردة في الأمور الحسَّاسة والخطيرة، وترى النَّاس ترتّب الآثار وتلتزم بلوازم هذا الأمر، حتى أنَّ من يخالف هذه الطريقة يستوجب ذمَّ العقلاء له، إضافة لتشديد نفس المعصومينi في كون الأخذ فيما هو مرتبط بالدين ينحصر في الأخذ عنهم، والنهي عن الأخذ من غيرهم، ولا يعقل تخصيص كلماتهم هذه بالفروع الفقهية دون الأصول العقدية، وهذا هو ما يقتضيه الدَّليل العقلي الذي أثبت عصمتهم ولزوم متابعتهمi، فمن تلك الروايات:

ما عن أمير المؤمنينg في وصيّته لكميل ابن زياد قال: >يا كميل، لا تأخذ إلاّ عنّا تكن منّا، [...] يا كميل لا غزو إلاّ مع إمام عادل، ولا نفل إلاّ من إمام فاضل، [...] يا كميل، هي نبوّة ورسالة وإمامة، وليس بعد ذلك إلاّ موالين مُتّبعين أو مُبتدعين، إنَّما يتقبّل الله من المتّقين< ([77]

وما ورد في معتبرة الفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرg يَقُولُ:‌ >كُلَّمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ<([78]). 

وما في الكافي مسنداً عَنْ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمَالِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اَللَّهِg: >إِيَّاكَ واَلرِّئَاسَةَ وَإِيَّاكَ أَنْ تَطَأَ أَعْقَابَ اَلرِّجَالِ<، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَمَّا اَلرِّئَاسَةُ فَقَدْ عَرَفْتُهَا، وأَمَّا أَنْ أَطَأَ أَعْقَابَ اَلرِّجَالِ فَمَا ثُلُثَا مَا فِي يَدِي إِلاَّ مِمَّا وَطِئْتُ أَعْقَابَ اَلرِّجَالِ، فَقَالَ لِي: >لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِيَّاكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلاً دُونَ اَلْحُجَّةِ، فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ<([79]). 

وما في الكافي عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، قَالَ: قُلْتُ لأبِي الْحَسَنِ الأوَّلِg: بِمَا أُوَحِّدُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: >يَا يُونُسُ، لا تَكُونَنَّ مُبْتَدِعاً، مَنْ نَظَرَ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ تَرَكَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ضَلَّ، وَمَنْ تَرَكَ كِتَابَ اللهِ وَقَوْلَ نَبِيِّهِ كَفَرَ<([80]). 

وما في معتبرة اَلْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍg أَنَّهُ قَالَ: >لَوْ أَنَّا حَدَّثْنَا بِرَأْيِنَا ضَلَلْنَا كَمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، ولَكِنَّا حَدَّثْنَا بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّنَا بَيَّنَهَا لِنَبِيِّهِ فَبَيَّنَهَا لَنَا<([81]).

وما ورد في موثقة أبي مريم حيث قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍg لِسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَاَلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: >شَرِّقَا وَغَرِّبَا، فَلاَ تَجِدَانِ عِلْماً صَحِيحاً إِلاَّ شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ<([82]). 

ويبقى إشكال قد يورد على الاستدلال بالسيرة بأنَّها من التمسّك بالإطلاق في الأدلَّة اللبّية، ومن المعلوم أنَّ مثل هذه الأدلَّة التي لا لسان لها لا يمكن التمسّك بالإطلاق فيها، بل يُتمسّك فيها بالقدر المتيقن.

لكن يمكن أن يُجاب بأنَّ ما ذُكِر صحيح، إلا أنَّ الإطلاق الموجود هنا هو معقد السيرة، لا أنَّه مستفاد من السيرة، ففرقٌ بين كون السيرة قد انعقدت على شيء بنحو مطلق لا تفرّق بين أفراده، وبين تعميم السيرة واستفادة إطلاقها بعد ثبوت انعقادها على فرد معيّن من أفراد الشيء، فلا يكون الإشكال متوجّهاً لها من هذه الجهة.

وإلى هنا يتمّ الكلام في بيان هذه الدّعوى، وبذلك يثبت المقتضي لصحّة الأخذ بنصوص الكتاب والسنة في المباحث العقدية، إلا أنَّ المقتضي لا يؤثّر أثره إلا إذا ارتفعت الموانع، وهي ما سيتمّ البحث عنها في المبحث الثالث الآتي.

المبحث الثَّالث: عرض الإشكالات على الاستدلال بالنُّصوص

في هذا البحث سيتمّ التعرّض لإشكالين مهمَّين في المقام، يمكن أن يُشكّلا مانعاً عن تمامية البيان السابق، ولذا لا بدَّ من البحث فيهما، والنتيجة الحاصلة منهما تبيّن ما هو تامّ من الاستدلال السابق وما هو ناقص، بل ربما لا يكون شيء ممَّا سبق صحيحاً على فرض تمامية كلا الإشكالين، وهنا تجدر الإشارة لوجود إشكالات أُخَر قد تُطرَح على هذه المسألة، لكنَّها لما كانت مجرَّد شبهات لا أكثر لن يتمّ التعرّض إليها، ككون البيانات المعصومة للبسطاء، وأنَّ أصحاب العقول الراقية لا يشبع شغف البحث عندهم ما هو موجود فيها، وأنَّ الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها، وتوقُّف الأخذ بهذه النصوص على علوم حادثة أو مباحث عقلية بدونها لا يُفهَم شيء من النصوص وغيرها، ممَّا يستحقّ أن يُفرَد له بحث مستقل للإجابة عليها بما يتناسب ومستوى إشكاليتها. 

الإشكال الأوَّل: الدَّور

توجد هاهنا ضابطة في المسائل العقدية، مفادها "أنَّ كلّ ما يتوقّف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنَّقل"([83])، وهذا يعني عدم صحّة الاعتماد على كلام الرسولe وغيره – إذ ليس الرسول إلا مثال – في المسائل التي يتوقّف عليها إثبات صدق الرسول، وهذا راجع لاستلزم الدور، ومن الواضح بطلان الدور، وبطلان ما يبتني عليه. 

وحتى يتضح الدور لا بدَّ من إعادة بيان صورة الاستدلال بالنصوص على المسائل، وهي أنَّ كلَّ ما يقوله الرسول حقّ، وهذا الأمر قاله الرسول، فينتج كون الأمر المُستدَلّ عليه حقاً. 

والكلام كلّ الكلام في كبرى القياس، إذ إن (كلّ ما يقوله الرسول حقّ) يتوقّف على إثبات وجود إله، وإثبات أنه بعث معصومين، وهؤلاء المعصومون لا يقولون إلا الحقّ، فكيف والحال هذه نستدلّ على ما يُتوقّف عليه من إثبات وجود الصانع وأنَّه عاصم لمجموعة من عباده بنفس كلام تلك الجماعة، فيلزم الدور. 

والدور هو أن يتوقّف الشيء على نفسه، فيكون (كلّ ما يقوله المعصومg حقّ) دليلاً ومدلولاً لنفسه، فيصير شيء واحد من جهة واحدة متقدّماً ولا متقدّماً، فيلزم التناقض، وهو واضح البطلان. 

فالحاصل من هذا الإشكال هو عدم صحّة الاعتماد على نصوص الكتاب والسنة فيما يتوقّفان عليه([84]).

الإشكال الثَّاني: عدم إمكان استفادة اليقين بأحد معنيَيْه من النُّصوص

هذا الإشكال يستبطن دعويَيْن، تحتاج كلٌّ منهما للإثبات حتى يتمَّ الإشكال: 

الدَّعوى الأولى: هي اشتراط اليقين بالمعنى الأخصّ أو بالمعنى الأعمِّ لتحصيل العقائد، بإقامة البرهان على كلّ عقيدة وإلا كان الاعتقاد بها غير صحيحاً.

والدّعوى الثَّانية: فحاصلها أنَّ نصوص الكتاب والسنة لا تورث اليقين بأحد المعنيين السابقين، فينتج عدم صحّة الاعتماد على هذه النصوص.

ومن الواضح أنَّ مجال الكلام في هذا الإشكال والاستدلال لا بدَّ أن يكون في المساحة التي لا يتوقّف عليها صدق الرسولK؛ إذ إنَّ الإشكال الأوَّل قد أثبت ذلك، ولذا لا بدَّ من فرض هذا الإشكال في غير تلك الدائرة الخارجة عن الاستدلال بالنصوص من الأساس، لكنّ خصوص الدّعوى الأولى ببعض أدلَّتها يمكن إثباتها لما يتوقَّف عليه صدق الرسولK أيضاً كما سيتضح.

ومن ثَمّ يلزم إثبات كلتا الدعويين السابقتين حتى يتمّ الإشكال، ولذلك سيتمّ عرض ما استُدلّ به على هاتين الدعويين تباعاً. 

اشتراط اليقين بالمعنى الأعمّ أو الأخصّ في تحصيل العقائد:

قبل البدء في ذكر الأدلَّة على هذا الشرط لا بدَّ من التنبيه على أنَّ بعض هذه الأدلَّة قد يكون صالحاً لشرط اليقين بأحد معنييه فقط دون الآخر، والبعض الآخر قد يكون صالحاً للنوعين، وستتمّ الإشارة إلى هذه المسألة في كلّ دليل على حِدة، كما لا بدَّ من التنبيه على عدم وجود حصر بهذه الأدلَّة، إلا أنَّ الاستقراء الناقص لم يُظهر غيرها، كما أنَّ هذا الشرط بنحو مطلق -اشتراط اليقين في الاعتقاد- هو المعروف عن الأكثر([85])، أمَّا الأدلَّة المطروحة في المقام فهي أربعة:

الدليل الأوَّل: بعض نصوص القرآن الكريم([86]):

ويمكن تنويعها لنوعين:

١. الآيات الآمرة بتحصيل العلم:

منها قوله عزّ من قائل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}(محمد:19)، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(البقرة:231)، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(البقرة:203)، وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}(الحديد:17).

فهذه الآيات الشريفة واضحة في الأمر بالعلم، ومتعلّقاتها أمور اعتقادية، والمراد بالعلم هاهنا اليقين، إلا أنَّه لا يتعيَّن في أحد اصطلاحَيْ اليقين، فقد يُراد به اليقين بالمعنى الأعمّ، وقد يُراد به المعنى الأخصّ.

٢. الآيات الناهية عن اتباع الظنّ:

منها قوله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}(النجم:27-28)، وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(يونس:66)، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(يونس:34-36)، وقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}(النجم:21-23). 

وهذه الآيات الكريمة كلّها في سياق بيان المسائل العقدية، وقد نهت عن الاعتقاد بالظنون، فمدلولها الالتزامي هو لزوم العمل بما يقابل الظنَّ وهو العلم واليقين، إلا أنَّها -وكما الآيات الآمرة بالعلم- مطلقة من جهة كون اليقين المطلوب فيها بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ.

والحاصل من هذا الدَّليل مع وجود العموم فيه في تعيين أيّ نوعٍ من نوعَيْ اليقين هو المشترط في تحصيل العقيدة، إلا أنَّه ترديد بين الأقلّ والأكثر، فيُتمسّك فيه بالقدر المتيقّن، وعليه تكون الآيات تشترط اليقين بالمعنى الأعمّ في تحصيل العقائد بمقتضى المدلول المطابقي لآيات الأمر، والمدلول الالتزامي لآيات النهي عن الأخذ بالظنون، فلا بدَّ من حصول الاعتقاد الجازم الذي لا يحتمل الخلاف ولو عن تقليد.

الدَّليل الثَّاني: الإجماع([95])

ومفاده إجماع كافّة العلماء على وجوب معرفة الله عزّ وجلّ ومجموعة من العقائد، مع كون هذه المعرفة بالدليل لا عن تقليد.

ووجه الاستدلال بهذه الدّعوى هو كون ما سوى العلم واليقين لا يكون معرفة إلا تنزيلاً، بقرينة تعقيبها بكونها عن دليل لا عن تقليد، فيدلّ الإجماع على لزوم تحصيل العلم، ولا يُكتفَى بالظنّ، وبنفس هذه القرينة يمكن تقريب اشتراط البعض اليقين بالمعنى الأخصّ على بعض الاصطلاحات، وهي التي تقسّم اليقين لقسمين أخصّ وأعمّ، والأخصّ هو ما كان تصديقاً جازماً عن دليل لا عن تقليد ولا يحتمل الخلاف مع مطابقته للواقع([96])، لكن بسبب عدم وجود مثل هذا التفريق في زمن العلامة الحليN يضعف حمل مثل هذا المعنى على كلامه. 

فيكون هذا الدَّليل دالاً على لزوم العلم فقط، أي الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. 

الدَّليل الثَّالث: هو أنَّ عملية الاعتقاد لا تتحقّق إلا باليقين

إذ إنَّ الاعتقاد يُطلَب فيه الاستقرار، فإذا لم يكن المُعتقَد حاصلاً باليقين فلن يحصل الاعتقاد المطلوب([97])، أمَّا إنَّ المحقِّق لعقد القلب هل هو اليقين بالمعنى الأخصّ أم الأعمّ فهو غير واضح، ولذا لا بدَّ من الالتزام بالقدر المتيقّن كسابقه، إلا إذا ضُمَّت له مقدّمات أُخَر تعيّن المراد منه، وهذا الدَّليل صالح للاستدلال على اشتراط اليقين أيضاً فيما يتوقّف عليه صدق الرسولe.

الدَّليل الرَّابع: هو دليلا وجوبِ النظر

وهما دليلان يذكرهما العلماء كمقدّمة للزوم تحصيل العقيدة، وهما لزوم دفع الضرر، ووجوب شكر المنعم، ولهما تقريرات مختلفة ومتنوّعة، أكتفي هنا بذكر أحدها في خصوص وجوب دفع الضرر، لما في وجوب شكر المنعم من مناقشات في أصل وجوب النَّظر من خلاله([98]).

ومفاد هذا الدَّليل ما يلي: إنَّ هناك خوفاً من الضرر يحصل للإنسان نتيجةً للاختلاف الواقع بين الناس، ولا بدّ من دفع هذا الخوف لأجل دفع الضرر، وذلك يكون بالنظر والاستدلال، وعليه يجب النظر كمقدّمة لدفع الضرر المحتمل([99]).

وحتى يتبيّن الاستدلال لا بدَّ من ضمّ مقدّمة أخرى حاصلها أنَّ المتحصّل من النظر لا بدَّ أن يكون يقينياً، وإلا انتفى دفع الضرر، أمّا كون أيّ نوعَيْ اليقين هو المحقّق لدفع الضرر فإنَّ ذلك يحتاج لمقدّمات إضافية للدلالة عليه، فالقدر المتيقّن ممَّا يندفع الضرر به يكون اليقين بالمعنى الأعمّ أي الاعتقاد الجازم الذي لا يحتمل فيه الخلاف، وهذا الدَّليل صالح للاستدلال على اشتراط اليقين أيضاً فيما يتوقّف عليه صدق الرسول.

فينتج من هذه الأدلَّة الأربعة إثبات دعوى لزوم اليقين في تحصيل الاعتقادات، وتجدر الإشارة إلى أنَّه يوجد هنا بحث آخر يُطرَح في حال الاعتقاد بالحقّ لا عن يقين، فماذا يكون حكم مثل هذا الاعتقاد، إلا أنَّ هذا البحث لا يتعرَّض له هذا البحث([100])، ويبقى الكلام في دعوى أنَّ النصوص الشرعية لا تفيد اليقين.

دعوى أنَّ الكتاب والسنة لا يفيدان اليقين بأحد معنييه:

وهذه الدّعوى تتضح ببيان جهتين من جهات الإشكال، الأولى في جهتَيْ الصدور والدّلالة، والأخرى لنفس كونها نصوصاً.

أمَّا الأولى فكما مرَّ من أنَّ العلم بصدور الخبر قد يحصل كما في التواتر أو الاحتفاف بقرائن تفيد القطع والعلم بالصدور، وفي قبال ذلك ما هو مظنون الصدور وهو محلُّ الكلام هنا.

ومن ناحية الدلالة، فهناك أيضاً قسمان: ما هو مقطوع الدلالة وهو كون الكلام نصّاً في المطلوب بحيث لا يحتمل الخلاف، وفي قباله ما هو ظني الدّلالة وهو الذي يعتمد على ما يظهر من الكلام مع بقاء الكلام مُحتمِلاً للخلاف، إلا أنَّ هذا المحتمل ليس ظاهراً في الكلام. 

ولا إشكال ولا ريب في أنَّ ما كان قطعيّ الدّلالة والصدور حجَّة كما تقدَّم أيضاً، فيصحّ الاعتماد عليه في المسائل العقدية التعبّدية، وكذلك الإرشادية في بعض جهاتها، وإلا فإنَّ جهة الاعتماد عليها والاستفادة منها متّكئة على توافقها مع أحكام العقل بشكل أساسي، وأمَّا ما لم يكن معلوم الدلالة والصدور، فإمَّا أن يقوم الدَّليل القطعي على حجيته فيكون حجة، وإمَّا ألا يقوم فيكون ساقطاً عن الاعتبار، ويترتّب على القول بالحجية في مثل النصوص الإرشادية جواز إسنادها للشارع، والتعبّدية جواز الاعتقاد وفقها وكذلك الإسناد، هذا في صورة قيام الدَّليل القطعي على صحّة الاحتجاج بهذا الظنّي.

والكلام قد وقع في صغريات المسألة، إذ نشأت دعوى عدم إمكان القطع بالنصوص الشرعية([101])؛ وذلك لوجود عدد معتدٍّ به من النصوص مظنون الصدور فهو من أخبار الآحاد، وإن لم تكن ظنية الصدور فهي ظنية الدلالة، فلا يمكن القطع بشيء ممَّا يظهر منها، فما من نصٍّ إلا ويحتمل معنىً آخر غير ما ظهر منه؛ بسبب وجود أحكام عقل قطعية مخالفة لظواهر نصوص الكتاب والسنة، فلا بدّ من ردّها أو تأوّلها([102])، أو لمثل وجود محتمل آخر يمكن حمل الكلام عليه، فغاية ما يُستفاد من هذه النصوص هو الظنّ.

فإن قيل: إنَّ هذه الظنون معتبرة شرعاً؛ لقيام الدَّليل القطعي على حجيَّة أخبار الآحاد والظهورات كما هو معلوم من سيرة العقلاء، أُجيب عنه بأنَّ الحُجيَّة ليست إلا بمعنى المنجّزية والمعذّرية، ولا يصحّ جريانهما إلا في الأحكام الشرعية العملية التي يترتَّب على القول بحجيتها أثر عملي، مع أنَّ ما نريده نحن هنا هو تحصيل العلم واليقين لأجل الاعتقاد، وليست الحُجيَّة التي بمعنى جعل ما هو مظنون علماً، فلا يتمُّ ما استشكل به([103]).

ومن الواضح أنَّ هذا الإشكال متَّجه على خصوص النصوص العقدية التعبّدية؛ إذ الإرشادية لا يتعلَّق بها الكلام من هذه الجهة، نعم، قد يتعلَّق بها الكلام في لزوم تحقيق الصدور والمدلول لترتيب أثر جواز الإسناد للمولى مثلاً. 

فالحاصل من المتقدِّم هو عدم توريث النصوص الشرعية لليقين، فلا مجال للاستدلال بها في المسائل العقدية التي لا يتوقَّف عليها صدق الرسول، إلا إذا كانت قطعية الصدور والدلالة.

وأمَّا الجهة الأخرى من الإشكال فهي تعترض على الاعتماد على النصوص لنفس كونها نصوصاً، وذلك بدعوى أنَّ النصوص من القضايا المقبولة، وهي لا تفيد يقيناً، فلا يصحُّ الاعتماد عليها إذا ما أُريد تحصيل اليقين، فما هي إلا خطابيات. 

وذلك ظاهر كلام ابن سينا: "المقبولات، وهي آراء وقع‌ التصديق بها، من قول‌ من يوثق بصدقه فيما يقول، إمَّا لأمرٍ سماويّ يختصّ به، أو لرأي وفكر قوي تميّز به، مثل اعتقادنا أموراً قبلناها عن أئمة الشرائع"([104]). 

وكذلك المحقِّق الطوسيN في شرح الإشارات: "والأوَّل مقبولات إمَّا عن جماعةٍ كما عن المشائين أنَّ للفلك طبيعة خامسة، أو عن نفرٍ كأصول الأرصاد عن أصحابها، أو عن نبيٍّ وإمامٍ كالشرائع والسنن"([105]).

إضافة لقول صاحب المنظومةN: "من تلك‌ القضايا مقبولات‌ وهي‌ مأخوذات من‌ أيٍّ ممَّن‌ كان نبياً أو حكيماً ائتمن من الأولى‌ بمعنى الذين‌ كانوا أفاضل السلف أو الذين هم أماثل الخلف"([106]). 

فعلى هذا الكلام لا يمكن الاعتماد على النُّصوص مطلقاً بعد ثبوت لزوم تحصيل اليقين في الاعتقادات، وكون النصوص من القضايا المقبولة التي لا تفيد يقيناً، ومن الواضح أنَّ هذه الجهة من الإشكال لا تشكِّك في صغرى القياس -هذا الأمر قاله المعصومg- الذي يراد به الاستدلال بالنصوص، بل إنَّها تنفيه من الأساس؛ إذ لا قيمة له في مجال الاستدلال العقديّ المبنيّ على البرهان واليقين. 

المبحث الرَّابع: الإجابة على الإشكالات

جواب الإشكال الأوَّل:

والذي كان مفاده أنَّ ما يتوقّف عليه صدق الرسول لا يُكتسَب من جهته؛ لاستلزامه الدور.

وهو إشكال صحيح وتام، إلا أنَّ في هذه المسألة جهتين يُغفَل عادة عنهما: إحداهما تعيين المسائل التي يتوقَّف عليها صدق الرسول، والأخرى في بيان جهة الاستفادة من النصوص الداخلة في دائرة النزاع.

أمَّا ما يتوقّف عليه صدق الرسول فيمكن حصره بالاستقراء في عدّة مسائل أذكر بعضها، كأصل وجود الله سبحانه وتعالى، فهي أصل الأصول وأوَّل المسائل، وتوقّف الصدق عليها ممَّا لا شبهة فيه، وأنَّه a لا يفعل القبيح، وإلا جاز أن يبعث الكاذب ويعضده بالبينات، فيغرّر بعبيده، وكلّ ذلك قبيح، وهو a لا يفعل القبيح، إضافة لما يتوقّف عليه نفي القبح عن الباري a من صفاتٍ كالقدرة والعلم والغنى، فهي أيضاً لا بدَّ أن لا تُكتسَب من جهة الرسول، بخلاف ما لا يتوقّف عليه صدق الرسول، فمن الممكن أن يُستدَلّ عليه بالنصوص فيما لو لم يتمّ الإشكال الثاني أو خصوص بعض جزئياته، وإلا فلا([107]).

وأما الجهة الثانية وهي ما ورد في القرآن والسنة من كلماتٍ في إثبات القضايا التي يتوقّف عليها صدق الرسول، فإن الإعراض عنها مجانب للإنصاف؛ إذ إن النظر فيها بعين العقل وما عنده من بديهيات فما وافق فيها أحكام العقل أُخِذ به أخذاً بحكم العقل، كما يُصنَع مع غير الكلمات المعصومة عن الزلل والخطأ، فالنصوص في هذا الجانب نصوص إرشادية لما في العقل من أحكامٍ كما مرّ في المبحث الثاني، فلا يكون هذا الإشكال وجيهاً في إقصاء النصوص من دائرة الاستفادة؛ لعدم الأخذ بها من باب التعبّد كما هو واضح. 

ثمَّ إنَّه لا بدَّ من التفريق بين مقامين في الاعتقادات حتى تتَّضح الفائدة جلية من أمثال هذه النصوص، إذ كما تبيّن سابقاً من أنَّ العقل بمدركاته ومساحة أحكامه لا يعدو الكليات، فلا يكون له المجال في إثبات التفاصيل والكيفيات إلا إذا كانت له آلة لإدراكها، والحقّ أن لا نصيب له من ذلك، فتتسع بذلك دائرة الاستفادة من النصوص الشرعية في إثبات التفاصيل العقدية التي كثرت فيها الآراء والأهواء، بعيداً عن المنبع الصافي والطريق المنحصر لدرك ما يمكن أن يُدرَك منها([108])، فهي صالحة للاستدلال بها من هذه الجهة، إلا أنْ يكون الإشكال في نفس القول بأنَّ هذا الدَّليل من القرآن أو من جعفر بن محمَّدg فلا مشاحّة في التسميات، لإمكان حذف مثل هذه العناوين وطرحها مجرّدة عن تسمياتها ومصادرها الشرعية، إذ المدار في هذا المقام على العقل، ولا شيء من تلك الأدلَّة المذكورة في النصوص في هذه الدائرة متنافٍ مع العقل السليم، وسيأتي مزيد ذكرٍ لفوائد النصوص الشرعية في مبحث مستقلّ.

جواب الإشكال الثَّاني:

والذي كان مفاده أنَّ النصوص الشرعية لا تورث يقيناً، ولذا لا يصحّ الاستفادة منها حتى في الاعتقادات التي لا يتوقّف عليها صدق الرسول، إذ إن العقائد لا بدَّ فيها من اليقين، وقد قام هذا الإشكال على دعويَيْن تتضمّن كلٌّ منهما أدلة متعدّدة، وعليه ستتعدّد الأجوبة بتعدّد الأدلَّة، فنبدأ في الدّعوى الأولى وأدلتها.

جواب اشتراط اليقين في الاعتقادات:

وقبل الشروع في الجواب لا بدَّ من تقديم مقدِّمة في العلم، إذ لا نزاع في لزوم تحصيل العلم في العقائد مهما أمكن بمعنى الوصول لما هو مطابق للواقع والاعتقاد وِفْقَه، وأمَّا حصر إطلاق العلم والكشف عن الواقع بشيء دون آخر فهو ممَّا وقع النزاع فيه. 

وأمَّا أجوبة الأدلَّة الأربعة لهذا الشرط فهي كما يلي:

جواب الدَّليل الأوَّل: 

وهو الآيات الآمرة بالعلم والناهية عن الظنِّ، فيمكن أن يُقال فيها:

أولاً: إنَّها من تحميل النصوص على الاصطلاحات الحادثة، فالمتبادر من العلم والظنِّ في هذه العصور لا يمكن التعويل عليه؛ لاحتمالية الاشتباه، وحينئذٍ يلزم الرجوع لما هو ثابت في اللغة وبحسب الاستعمال، إذ يتبيّن أنَّ العلم يُطلَق على الحالة المقابلة لتزلزل النفس ووقوعها في الشكّ، فهو عبارة عن سكون النفس ووثوقها بدرجة لا يؤثّر فيها الطرف المقابل وإن كان محتملاً، وهذا ما يُعبّر عنه بالعلم العرفي وهو نفس الاطمئنان([109])، فلا دلالة في مثل هذه الآيات على كون المراد من العلم اليقين بمعناه المنطقي، ومن موارد النقض على مثل هذا التفسير للعلم لزوم إرجاع المؤمنات للكفّار إن لم يتحقّق اليقين بمعناه المنطقي في إيمانهنّ لما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(الممتحنة:10)، فهذه النصوص الشرعية لم تنزل بألسنة هذه العلوم، بل باللسان العربي، الذي تقرّر فيه أنَّ اليقين هو "هو إزاحة الشكّ، وتحقيق الأمر" كما عن الخليل([111])، وشبيهٌ به ما في المحيط([112]) وكذلك المقاييس([113])، وفي الصّحاح: "اليقين: العلم وزوال الشكّ"([114])، وأنَّ الشك الواقع قباله هو "الَّذِي هُوَ خِلافُ الْيَقِينِ، إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لأنَّ الشَّاكَّ كَأَنَّهُ شُكَّ لَهُ الأمْرَانِ فِي مَشَكٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ لا يَتَيَقَّنُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَمِنْ ذَلِكَ اشْتِقَاقُ الشَّكِّ" كما يفسِّره ابن فارس([115])، وليس بين اليقين والشَّكِّ مرتبة ثالثة في تعابيرهم، وعليه فإنَّ اليقين يتحقّق بأقلّ مقدارٍ منه وهو ما لم يكن في حالة عدم استقرار وتذبذب، وهو صادق على الاطمئنان، فهذا ما ينبغي حمل الآيات القرآنية عليه.

وكذلك الأمر في الظنِّ فهو في اللغة مشترك لفظيّ يُحمَل على معنيَيْن، على (العلم واليقين) وعلى (الشكِّ)، ويشير لذلك الفراهيدي في العين: "والظنّ يكون بمعنى الشكّ وبمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {يظنّون أنَّهم ملاقوا ربّهِمْ} أي يتيقّنون"([116]) ومثله ما في المحيط([117]) والمقاييس([118])، ويوضّح الزّمخشري استعمالات الظنِّ بقوله: "وبئر ظنون لا يوثق بمائها، ورجل ظنون لا يوثق بخيره، ودين ظنون لا يوثق بقضائه"([119])، فلا وجه لحمل الظنِّ في الآيات على الظنِّ الاصطلاحي الذي يقابله الوهم المحتمل، بل الظنُّ فيها هو ظنُّ الشَّكِّ، والشَّكُّ هو عبارة عن الاعتقاد بما لا تسكن إليه النَّفس ولا تثق به، كما تبيّن ذلك بقول أهل اللغة، وأمَّا الظنُّ بمعنى اليقين أي الاطمئنان والوثوق فهو ليس بمنهيّ عنه.

فكلام أهل اللغة مع ملاحظة استعمالات العرب، وكذلك النصوص الشريفة، تشكّل قرينة مانعة من حمل لفظ العلم أو الظنِّ أو غيرهما على المعنى الاصطلاحي الحادث.  

ثانياً: عدم صحّة الاعتماد على ما يظهر من هذه الآيات على القول بأنَّ الظواهر ظنون، ولا يمكن الاعتماد على الظنّ للاستدلال على اشتراط اليقين، ولو قيل بأنَّ الآيات الشريفة نصوص في المطلوب، فإنَّ استلزامها للدور واضح؛ فهاهنا استدلال على مطلوبية العلم اليقيني الاصطلاحي بما لا يوجب مثل هذا العلم، والاستدلال بالنَّهي عن الاعتماد على الظنِّ الاصطلاحي بما هو في نفسه من الظنِّ بذلك الاصطلاح.

جواب الدَّليل الثَّاني: 

وهو الإجماع على هذا اشتراط العلم، فيمكن أن يَرِد عليه عدّة أمور:

أولاً: إنَّه معارض بمخالفة جملة من العلماء القائلين بكفاية الظنِّ في الاعتقادات، على خلافٍ بينهم في اشتراط الاستدلال وعدمه، كما ينقل الشيخ الأنصاريS([120]). 

ثانياً: إنَّ الإجماع يتوقّف الاحتجاج به على كونه كاشفاً عن قول المعصومg، وهذا الإجماع متأخّر فلا كشف فيه، ولو سُلِّم بكونه كاشفاً فإنَّه لا يسلم من إشكال الدور؛ لانعقاد الإجماع على بعض المسائل التي يتوقّف عليها صدق الرسولK. 

ثالثاً: كون هذا الإجماع معارضاً بالأدلَّة التي دلّت على كفاية اليقين بالمعنى الأعمّ، كما في لزوم دفع الضرر بناءً على حمل العلم الواقع عليه الإجماع على خصوص اليقين بالمعنى الأخص.

رابعاً: إنَّ الإجماع انعقد على لزوم العلم في تحصيل المعرفة العقدية، وهذا كما تقدّم لا نزاع فيه. 

جواب الدَّليل الثَّالث: 

وهو القائل بأنَّ انعقاد القلب على المعتقد لا يكون إلا عن طريق اليقين.

ففيه أنَّ الوجدان حاكم بخلاف المدّعى؛ لحصول انعقاد القلب وبدرجةٍ لا تقبل الزوال عن طريق الأوهام رغم علم المعتقد بأنَّه معتقد بوهم، فضلاً عن مثل الظنون والاطمئنان([121])، ويشهد لذلك ما ورد في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(النمل:14)، وكذلك قوله تعالى: {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ}(البقرة:98). 

إضافة لكون المطلوب في الاعتقاد هو العلم والوثوق، وهذا أمر لا ريب في إمكان انعقاد القلب عليه. 

جواب الدَّليل الرَّابع: 

وهو أنَّ الضرر الموجب للخوف لا يندفع إلا باليقين، فيُمكن أن يقال فيه:

أولاً: بعدم انحصار دفع الخوف باليقين الاصطلاحي بكلا قسمَيْه؛ لتحقّق ذلك الدفع بمثل الاطمئنان والعلم العادي العرفي الذي يُحتمَل فيه الخلاف، لكنَّ العرف والعقلاء لا يعتبرون هذا المحتمل المخالف ممَّا يُتوقّف فيه، ودليل ذلك عدم لوم العقل ولا العقلاء من اعتقد شيئاً وصل له باطمئنانه وعلمه العادي، ثمَّ يتبيَّن له خلاف ذلك، ولولا ذلك لعمّ الفساد في الأرض من أمثال حكم القضاة جائريهم ومحقّيهم بالإعدام للقاتل بمثل هذا العلم، وقِسْ على ذلك سائر الأمور القانونية، بل وسائر الأمور الحياتية المهمَّة والتي في بعضها تكون مصيرية، فجميعهم لم يمنعهم الخوف من ترتيب الآثار على علومهم العادية، فلا تسليم بكون الدافع لخوف الضرر لا يكون إلا اليقين بالمعنى الأعمّ فضلاً عن الأخصّ؛ لاندفاع الخوف بمثل الظنِّ في الاصطلاح المنطقي. 

ثانياً: قصور هذا الدَّليل عن المدّعى، إذ إنَّ الخوف يندفع بثبوت خصوص المسائل التي يتوقّف عليها صدق الرسول، وأمَّا المسائل الباقية فيمكن دفع الخوف فيها بنفس أقوال الرسولK بعد عدم تمامية الدَّليل على عدم صحّة الأخذ بقوله. 

ثالثاً: قد تقدّم أنَّه لا خلاف في مطلوبية العلم بشكل عام، ومن الواضح أنَّه دافع للخوف، فيتمُّ المطلوب. 

فيكون المتحصّل من الدّعوى الأولى كفاية العلم العرفي والاطمئنان في تحصيل المسائل العقدية التي لا يتوقَّف التصديق بها على صدق الرسول، بدليل وجوب دفع الضرر المتقدّم، والآيات الكريمة مرشدة لحكم العقل هذا ومؤيّدة له، وكذلك الإجماع، ويبقى الكلام في أنَّ النُّصوص الشرعية هل تفيد مثل هذا النوع من العلم أم لا.

إفادة النُّصوص الشرعية للعلم والوثوق:

يتغيَّر العنوان في هذه الدّعوى بتبع تغيّر نتيجة الدّعوى الأولى، وإن كان الكلام الذي سيُذكَر صالحاً في بعضه لكون نصوص الكتاب والسنة مفيدة لليقين بمعناه الأعمّ، فكما ذُكِر سابقاً فإنَّ الإشكال على النصوص له جهتان، من جهة الصدور والدلالة، ومن جهة كونه نقلاً ونصّاً شرعياً.

أمَّا الجهة الأولى: فالصدور في مثل الكتاب العزيز وبعض الروايات متواتر، وجملة وافرة من الروايات العقدية محفوفة بقرائن تفيد القطع بصدورها، وهذه كتب الحديث بين أيدينا، وهي كفيلة بحسم هذه الدّعوى، فحصول العلم بالصدور هو الأمر الغالب كما تقدَّمت الإشارة إلى بعض أمثلة ذلك، وأمَّا ما لم يحصل العلم بصدوره -وهو ما يُسَمّى بروايات الآحاد- فلا بدَّ من التفصيل بين ما كانت مستفيضاً من ناحية الأسناد وغيرها، مع إضافة المبنى الذي يتمّ به الاستدلال هاهنا وهو مبنى الوثوق، فما لم يثبت القطع بصدوره بالتواتر أو احتفاف القرائن الموجبة للقطع، فلا أقلّ من احتفاف الخبر بالقرائن الموجبة للوثوق بالصدور([124])، وهذه هي سيرة القدماء في الأخذ بالروايات ورفضها([125])، وفي مثل ذلك ينقل صاحب الحدائقN عن السيد المرتضى قوله: "إنَّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومةٌ مقطوعٌ على صحَّتها إمَّا بالتواتر، أو بأمارة وعلامة دلّت على صحتها وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع، وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد"([126])، وأمَّا ما لم يحتفّ بشيء فلا يمكن الاعتماد عليه، وليس هو من أكثر ما هو موجود عندنا.

وأمَّا الدلالة: فقد تقدّم سابقاً أنَّ الأدلَّة النقلية تكون نصّاً في المراد تارة، وأخرى لا تكون كذلك، فأمَّا ما هو نصّ في المراد فلا مجال لتأويله بعد حصول العلم بصدوره، إذ لا يُحتمَل فيه معنى مخالف، وما يُدّعَى من كونه مخالفاً لحكم العقل القطعي مردود ومناقَش في كون ذلك المعارض من أحكام العقل كما يُدّعَى، أمَّا ما كان ظاهراً فإنَّه وإن احتمل الخلاف، إلا أنَّه ليس من الاعتماد على الظنون، بل هو من الاعتماد على العلم، ويشهد لذلك أنَّ ما هو قائم في المحاورات اليومية بين الناس لا يوصف بكونه ظناً، فترتيبهم الآثار على ما يستظهرونه من كلام بعضهم البعض والاحتجاج على بعضهم وغير ذلك، قرينةٌ وشاهد على أنَّ ما يظهر من خلال استعمال المتكلِّم لهذه المفرادت وفق هذه الصياغة علمٌ لا ظنّ([127])، وأمَّا حمله على ذلك المعنى المخالف بحجَّة مخالفته لحكم عقلي فهو مرهون بتحقيق كون ذلك حكماً عقلياً قطعياً أو لا، كمثل قاعدة السنخية التي يُراد منها تأويل بعض النصوص وتخريج بعض الاعتقادت على اشتراكية المخلوق والخالق، ودعوى أنَّها قطعية عقلية، إلا أنَّ المحقّقين ينفون صحَّة ذلك بإثباتهم لكون السنخية شرطاً بين العلل والمعاليل الطبيعية، وأمَّا البارئ a فخارج عن مثل هذه القاعدة العقلية تخصّصاً.

هذا بناءً على كون الظهور علماً، أمَّا لو قيل بأنَّه من الظنون فيمكن أن يُقال فيه: إنَّ الدَّليل المدّعى على حجية الظواهر هو سيرة العقلاء، والعقلاء الذين أمضى الشارع طريقتهم في التفاهم والتفهيم وفق ما تقتضيه الظهورات من معانٍ لا يعتمدون عليها مع كون المعنى المخالف المحتمل معتدّاً به، فهم لا يعتمدون من الظهور إلا ما يطمئنّون ويثقون به([128])، فلا يتمّ القول بأنَّ كلّ لفظ ظاهر في معنىً يحتمل معنى آخر؛ لأنَّ المدار في ردّ الظهور كون المحتمل الآخر معتبراً عند العقلاء بنحو يصحّ عرفاً الاعتراض به على ما استظهروه اعتراضاً موجباً لصحّة نفي معذوريتهم في الاعتماد على مثل هذا الظهور، فنرجع لما تقرّر سابقاً في كون مثل هذا الوثوق والاطمئنان المعبَّر عنه بالعلم العرفي علماً معتبراً، يترتّب عليه صحّة الذمّ والعتاب والحساب.

إضافة لذلك يمكن أن تعتضد النصوص مع بعضها البعض على مضمون واحد، ويوجب ذلك شدّة الوثوق بالمدلول، بل القطع به([129])، كما توجب الاستفاضة شدّة الوثوق بالصدور.

ولا بدّ من التنبيه على أنَّ مثل هذا الاعتراض لو سُلِّم به لم يبقَ حجر على حجر؛ لعدم صحّة الحركة نحو شيء، ولا الوقوف عن شيء، ولا محاسبة أحد، بل وتوقّف الدنيا عن الحركة، خصوصاً في قضاياها المصيرية؛ لكون ذلك كلّه وفق الظنون، ومن القبيح عقلاً التعويل على الظنون بهذا الشكل. 

وأمَّا أنَّ الحُجيَّة بمعناها الأصولي لا يمكن افتراضها في الاعتقادات، فهو مبنيّ على تفسير الحُجيَّة بالمنجّزية والمعذّرية، أمَّا تفسيرها بالعلمية والطريقية يجعلها صالحة للاعتماد عليها في مسائل الاعتقاد، من صحّة النسبة فيما هو إرشاديّ من النصوص، والاعتقاد والنسبة في التعبّدي منها، خصوصاً أنَّ السيرة العقلائية وعدم ردع الشارع عنها هي السبب في حصول الحُجيَّة للأخبار؛ إذ إنَّهم لا يعملون بالأخبار الموثوقة كعملهم بالظنون، بل يتعاملون معها معاملة العلم، وذلك مستكشَف من ترتيبهم الآثار على مثلها([130]).

بل ويمكن القول أيضاً بأنَّه حتى على مبنى المنجّزية والمعذّرية يمكن الأخذ بالنصوص، باعتبار ترتّب أثر عملي عليها وهو عمل عقد القلب، إذ الإيمان والإقرار عمل جوانحي اختياري، فليس كلّ من يحصل له العلم يقرّ ويذعن؛ لوضوح جحد البعض للحقّ مع استيقان أنفسهم، فالكلام ليس عن مجرَّد العلم، بل عقد القلب على تلك العقائد الحقّة والتسليم والطَّاعة، وهذه من الأمور التي تتحقّق فيها المنجّزية والمعذّرية.

فالحاصل من الدّعوى الثانية أنَّ ما ذُكِر سابقاً بنحو الكلية غير تامٍّ؛ لصدق السالبة الجزئية، فمع كون النصّ متواتراً أو محفوفاً بقرائن توجب القطع بصدوره، ومع كونه نصّاً في المعنى، أو معتضداً ظهورُه بظهوراتٍ وقرائنَ متعدّدة توجب القطع به، فيُتحصّل اليقين من النصوص الشرعية([131])، كما هو واقع في بعض المسائل كافتراق الخالق والمخلوق وتبيّنهما، وأنَّه سبحانه خِلْوٌ من خلقه وخلقه خِلْوٌ منه، وابتداعه الأشياء من العدم، وكونه وحده a القديم ولا قديم سواه، فما سواه حادث مخلوق، وأنَّ خلق الخلق ورزقهم بيده سبحانه لا بيد أحد غيره، إن شاء أوجد وخلق، وإن لم يشأ لم يفعل؛ للعلم بأنَّه a كان ولا شيء معه، وأنَّه لو شاء لذهب بالخلق أجمع، فلا موجب له لأنْ يفعل وأن لا يفعل، وكعلمنا بنبوَّة رسول اللهe، وأنَّه عبد الله ورسوله، معصوم من الزلل والخطأ، مختار مصطفى من قِبَل الله a، علماً لا شكَّ فيه ولا ريب، وأنَّ المعصومين من ذريتهi أئمة الهدى، وأعلام التقى، بالدلائل الواضحة، والبراهين القاطعة التي لا تشوبها شائبة شكٍّ أو شبهة عن أدلَّة ونصوص محكمة، وهذا كافٍ لتنتقض الكلية المدّعاة، وبهذا فإنَّ صغرى القياس تكون ثابتة فيما اشتُرط من اليقين بمعناه المنطقي، فضلاً عمَّا ثبتت كفايته في الاعتقاد من تحصيل المعرفة عبر العلم العرفي والاطمئنان.

وأمَّا الجهة الأخرى التي أُشكِل بها على النصوص من جهة كونها نصوصاً معصومة، فهي لا تفرِّق بين ما كان إرشاداً لحكم العقل وما كان تعبُّداً، وما كان ظنيّاً وما كان قطعياً، وبغضّ النَّظر عن اللوازم الفاسدة المترتبة عليها، مثل: (كون أمير المؤمنينg إماماً) قضيةٌ خطابية مقبولة لا تفيد علماً ويقيناً، وغيرها من المعتقدات التي لا طريق لإثباتها إلا النُّصوص التي لا تمثِّل أيَّ شيءٍ في إثبات الحقائق لذوي العقول وطلّاب الأدلَّة، بل إنَّ المعصوم لو خاطب زيداً من الناس مباشرة بعد ثبوت عصمته له، فإنَّه لا يستفيد شيئاً من خطابه إلا قضايا مقبولة لا توجب له علماً ولا يقيناً، فبغضّ النَّظر عن هذه المفاسد على فرض القبول بهذا القول، فإنَّ الوجدان والعقل والعرف والعقلاء حاكمون بأنَّ النقليّ يوجب العلم واليقين، وما يُذكَر في قِباله بنحوٍ مطلق مخالفٌ للواقع، فسواءٌ كان مرادهم ممَّا تقدَّم نقله من الكلمات هو ما يظهر منها، أو كان لهم تخريج في عدم البناء ما يظهر من تلك العبارات المتقدِّم ذكرها في الإشكال؛ بمعنى أنَّ الاستشكال بها مجرَّد وهم، فإنَّ الواقع يدفع ذلك كلّه وهماً كان أو لا.

المبحث الخامس: جملة من فوائد الاعتماد على النصوص

قد تبيّن في المباحث السابقة أنَّ هناك قولاً بعدم صحّة الاستدلال بالنصوص الشرعية لعدّة أسباب، إلا أنَّ المسألة حتى على فرض عدم تمامية الاستدلال بالنصوص لا تخلو من فوائد لا تحصل إلا بالنظر في الكتاب والسنة نظر تحقيق وفحص، فأذكر بعض تلك الفوائد والتي لا تنحصر بالقول بإمكانية الاستدلال إلا في بعضها. 

الفائدة الأولى:

تحقيق استناد العقائد لله a وخلفائهi وللشريعة الإسلامية ومذهب أهل البيتi، إذ إنَّه وبغضّ النَّظر عمَّا يُطرَح من الأدلَّة، وما تنتجه من نتائج في كتب الكلام والفلسفة، والنزاع بينهم في أقوائية أيّ دليل على الآخر، والنقاشات الحاصلة بينهم، وبغضّ النظر عن صحّة ما تُوصِل إليه تلك الأدلَّة أو فساده، فإنَّ انتساب أيّ عقيدة لأهل البيتi والإسلام لا بدَّ لها من دليل يصحّح النسبة، وكذلك نسبة الاستدلالات، فمثلاً عند طرح عقيدتنا في البداء أو الرجعة أو المعاد أو التوحيد، فكلامنا في الأدلَّة الصحيحة الموصلة للعقائد السليمة شيء، وما صدر وثبت في البيانات المعصومة شيء آخر، فالكلام هنا عن صحّة النسبة، وما يترتَّب عليها من جواز الإخبار، وكذلك فيما لو خالفت النسبة الواقع، فإنَّ ذلك مدعاة للطعن في عصمتهم والتشكيك في سلامة مذهبهم. 

وينبغي الالتفات إلى أنَّ هذه الفائدة لا يمكن تحقيقها إلا بالخروج بنتائج توجب الوثوق والاطمئنان بصدور تلك النصوص وظهوراتها، وإلا كان من الرجم بالغيب، والحديث بغير علم، فلا يصحُّ مثل التمسّك بالنصّ الواحد المنفرد في المضمون مع عدم احتفافه بما يوجب الوثوق بالصدور وعدم وضوحه في المضمون؛ لكونه محتملاً لأكثر من وجه في إثبات نسبة عقيدةٍ للدين، خصوصاً في حال وجود ما يُوثَق أو يُقطَع بصدوره ودلالته في قِبال ذلك المحتمل.

الفائدة الثَّانية:

وهي خاصّة بمن أسلم وآمن، فنتيجةً لاعتقاده بالله سبحانه وتعالى وبرسله وأوصيائهi وكونهم معصومين، وأنَّ الله تعالى الأعلم بالمصالح وما فيه الخير والصلاح، وهو الأعلم بالمفاسد وما فيه شرٌّ للعباد، وبعد كلّ ذلك يرى أنَّ الله تعالى ورسله قد انتهجوا نهجاً معيّناً في الاستدلال وإثبات الاعتقادات بحسب ما يتعيّن من المناهج والأساليب عند تحقيق الفائدة الأولى، فلا يكون في شكٍّ أو ريبٍ من كون هذا الطريق أنجع الطرق للتبليغ والدّعوة إلى الحقّ، ولو كان هناك ما هو خير منه وأفضل لما اقتُصر على المفضول وتمّ تقديمه على الفاضل، وبذلك إذا أراد الإنسان أن يسير بسيرة الدين في التبليغ والإنذار والتبشير، فإنَّه لا يعتمد غير الطريق الذي سلكه مبلّغ الدين ومعلّم الحكمة رسول اللهe وعترته الطاهرةi من بعده، إضافةً لما في النصوص من إزالة لريب النفوس، وتثبيت لقواعد الإيمان، وإزالة الشكوك عن الحقِّ من العقائد، والعكس كذلك من التنبيه والترديد لمن عقد قلبه بما هو مخالف للواقع، فيتزلزل نظرُه بما كان يظنُّه ويتوهّمه حقّاً. 

الفائدة الثَّالثة: 

الوصول للتصديق بمسألة أنَّ الله تعالى لم يترك شيئاً يحتاج الناس إليه إلا وتكفّل به وببيانه، وهذا الأمر لا ينحصر في الاعتقادات، بل في سائر الموارد، ولذلك يشير أمير المؤمنينg في نهج البلاغة: >أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَی إِتْمَامِهِ، أَمْ کَانُوا شُرَکَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَی، أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُe عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؟! وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيءٍ}<([132])، فهل يعقل عدم التفريط في أحكام القضاء والديات مع ثبوت التفريط فيما تتوقّف عليه أحكام القضاء من المسائل العقدية؟! وفي ذلك يروي الكافي بسند معتبر([133]) عن هشام بن الحكم قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِg بِمِنى عَنْ خَمْسِمِائَةِ حَرْفٍ مِنَ الْكَلامِ، فَأَقْبَلْتُ أَقُولُ: يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَيَقُولُ: >قُلْ كَذَا وَكَذَا<، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، هذَا الْحَلالُ وَهذَا الْحَرَامُ أَعْلَمُ أَنَّكَ صَاحِبُهُ، وَأَنَّكَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ، وَهذَا هُوَ الْكَلامُ، فَقَالَ لِي: >وَيْلكَ يَا هِشَامُ، لا يَحْتَجُّ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ عَلى خَلْقِهِ بِحُجَّةٍ لا يَكُونُ عِنْدَهُ كُلُّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ<([134]). 

خاتمة:

جملة من النقاط التي نتجت عن البحث:

* تبيّن بالعرض المجمل في هذا البحث ما للقول بإمكانية الاستفادة بنصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة من قوّةٍ في الدليل.

* اتّضح قصور الإشكال بالدّور عن المعارضة بعد تغاير منشأ القول بالإمكان، ومنشأ القول بعدم الإمكان.

* تبيّن أن أدلة الإشكال بعدم توريث النصوص لليقين قاصرةٌ عن المدّعى، فتسقط عن المعارضة، فيبقى المقتضي قائماً بلا مانع.

* اتّضح أنَّ النَّظر في النصوص العقدية لا يخلو من فوائد يمكن حتى للمانعين الاستفادة بتحصيل بعضها.

وينبغي في ختام الأمر التنبّه إلى أنَّ هذا البحث لا يفي بالمسألة في جميع تفاصيلها ومن جميع زواياها؛ إذ في المسألة أقوال أُخَر تحتاج إلى تحقيق الكلام فيها وتتبّع أدلتها، كمسألة ما هو المعتبر في الاعتقادات، وما يتفرّع عليها من إمكان التقليد من عدمه، إضافةً لإخراج هذا الكلام السابق من دائرة التنظير إلى دائرة العمل عبر تتّبع النصوص، وتحقيق مدلولاتها، وما تثبته وما تنفيه، ومدى قوّة حججها، وإمكانية الاكتفاء بها، وكذلك مسألة العقل ومدى سعة مدركاته ودائرة حجيته، وما هو من المسائل الأصيلة في الاعتقاد وما هو من فروعها، ودلالة المعجز وما يكتنفه من بحوث تجعله طريقاً بجانب النصوص في الدّعوة والهداية، ومن أهمّ بحوثه الوصول للعلم بكونه معجزاً عبر صرف العمر في معرفة أحد جوانب إعجازه، وهو جانب الفصاحة والبلاغة، وغير ذلك من مسائل ومباحث مرتبطة بالاستفادة من النصوص في المسائل العقدية.

هذا ما لزم بيانه في ختام البحث، والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه ورسله محمدe وأهل بيتهi، واللعنة على أعدائهم أعداء الدين وأعداء العزيز الجبار أبد الآبدين.

 


([1]) فواز، حسن فوزي، غاية المراد في شرح كشف تجريد الاعتقاد، ج1، ص31. 

([2]) الكاظمي، مهدي حبيب، حجيَّة الظنِّ في أصول الدين، مجلَّة الاجتهاد والتجديد، ربيع 1438هـ، العدد42، ص311. 

([3]) محمَّدي، عبد الله، مكانة الدليل النقلي في المعرفة الدينية، مجلَّة الدَّليل، السنة الثَّالثة 2020م، العدد 4، ص23. 

([4]) برنجكار، رضا، علم الكلام الإسلامي دراسة في القواعد المنهجية.

([5]) محسني، محمَّد آصف، صراط الحقِّ في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية، ج1، ص40. 

([6]) ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، معجم مقاييس اللغة، ج4، ص86. 

([7]) الصَّاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، ج1، ص151.

([8]) قسم الكلام والحكمة الإسلاميين، معجم المصطلحات الكلامية، ج1، ص109.

([9]) سورة النمل: 14.

([10]) سورة الكهف: 4-5. 

([11]) سورة الحجرات: 14. 

([12]) راجع الآشتياني، الميرزا محمَّد حسن، بحر الفوائد في شرح الفرائد، ج3، ص220.

([13]) راجع برنجكار، رضا، علم الكلام الإسلامي دراسة في القواعد المنهجية، ص31-36. 

([14]) ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص30.

([15]) الصاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، ج2، ص292.

([16]) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، ج3، ص10. 

([17]) المظفر، الشيخ محمَّد رضا، أصول الفقه، ج3، ص13. 

([18]) المظفر، الشيخ محمَّد رضا، أصول الفقه، ج3، ص13.

([19]) المظفر، الشيخ محمَّد رضا، أصول الفقه، ج3، ص14. 

([20]) انظر البحراني، محمَّد صنقور علي، المعجم الأصولي، ج٢، ص١٢، والصدر، السيد محمَّد باقر، بحوث في علم الأصول، ج4، ص193.

([21])  الطوسي، محمَّد بن الحسن، تلخيص الشافي، ج2، ص46، واليزدي، عبدالله بن حسين، الحاشية على تهذيب المنطق، ص١١١.

([22]) الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، دراسات في علم الأصول، ج٣، ص١٨٤.

([23]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص27.

([24]) المامقاني، شيخ عبدالله، مقباس الهداية في علم الدراية، ج1، ص109. 

([25]) المامقاني، شيخ عبدالله، مقباس الهداية في علم الدراية، ج1، ص111.

([26]) انظر السيد المرتضى، علي بن الحسين بن موسى، الذريعة إلى أصول الشريعة، ج2، ص517، والطوسي، محمَّد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص100، ص146.

([27]) المحقق الحلي، جعفر بن الحسن، معارج الأصول، ص141.

([28]) الشيخ البهائي، محمَّد بن حسين، زبدة الأصول، ص90.

([29]) الشيخ البهائي، محمَّد بن حسين، زبدة الأصول، ص90.

([30]) المامقاني، شيخ عبدالله، مقباس الهداية في علم الدراية، ج1، ص123. 

([31]) انظر الصدر، السيد محمَّد باقر، دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية)، ص296. 

([32]) البحراني، محمَّد صنقور علي، المعجم الأصولي، ج2، ص284. 

([33]) الصدر، السيد محمَّد باقر، دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية)، ص ٥٦.

([34]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص417. 

([35]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص٢٨٠.

([36]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن النعمان، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص ٧١.

([37]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن النعمان، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص ٧١.

([38]) بناء على توثيق عبد الواحد بن محمَّد بن عبدوس وعلي بن محمَّد بن قتيبة النيسابوري.

([39]) الصدوق، محمَّد بن علي بن الحسين بن بابويه، عيون أخبار الرضا (ع)، ج1، ص٢٧٥.

([40]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج15، ص524. 

([41]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص٢٦٨. 

([42]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص٢٨٠.

([43]) الصدوق، محمَّد بن علي بن بابويه، التوحيد، ص١٤٦.

([44]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص٤١٦.

([45]) الصدوق، محمَّد بن علي بن بابويه، الاعتقادات في دين الإمامية، ص٤3.

([46]) الطوسي، محمَّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ج٢، ص٨٥٨.

([47]) الطوسي، محمَّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ج٢، ص٧٨٤.

([48]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص ٢٦٨.

([49]) الصدوق، محمَّد بن علي بن بابويه، التوحيد، ص٨١.

([50]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص ٤٦٢.

([51]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن النعمان، أوائل المقالات، ص45.

([52]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص١٥.

([53]) النعماني، محمَّد بن إبراهيم، الغيبة، ص22.

([54]) الصدوق، محمَّد بن علي بن بابويه، الاعتقادات في دين الإمامية، ص٤3. 

([55]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن النعمان، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص78.

([56]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن النعمان، التذكرة بأصول الفقه، ص44.

([57]) السيد المرتضى، علي بن الحسين بن موسى، رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص309.

([58]) الطوسي، محمَّد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص130.

([59]) الفخر الرازي، محمَّد بن عمر، المحصل، ص142.

([60]) العلَّامة الحلِّي، حسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص243.

([61]) العلَّامة الحلِّي، حسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص243.

([62]) صدر الدين الشيرازي، محمَّد بن إبراهيم، تفسير القرآن الكريم، ج4، ص316.

([63]) أبو علي ابن سينا، التعليقات، ص34. 

([64]) صدر الدين الشيرازي، محمَّد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج7، ص118. 

([65]) المظفر، محمَّد رضا، المنطق، ص366، انظر التعليق رقم3 في نفس الصفحة. 

([66]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن النعمان، أوائل المقالات، ص44. 

([67]) الكراجكي، أبو الفتح، كنز الفوائد، ص110. 

([68]) الشريف الرضي، محمَّد بن الحسين بن موسى، نهج البلاغة، ص43.

([69]) الكاشاني، حسن، دروس في عقائد الإمامية، ص31. 

([70]) الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص558. 

([71]) الحر العاملي، محمَّد بن الحسن، الفصول المهمَّة في أصول الأئمة، ج1،  ص130، وص141. 

([72]) الحر العاملي، محمَّد بن الحسن، الفصول المهمَّة في أصول الأئمة، ج1، ص197. 

([73]) الحر العاملي، محمَّد بن الحسن، الفصول المهمَّة في أصول الأئمة، ج1، ص193. 

([74]) الحر العاملي، محمَّد بن الحسن، الفصول المهمَّة في أصول الأئمة، ج1، ص142. 

([75])الحر العاملي، محمَّد بن الحسن، الفصول المهمَّة في أصول الأئمة، ج1، ص210. 

([76]) اللنكراني، فاضل محمد، مدخل التفسير، ص١٧٤.

([77]) ابن شعبة الحراني، الحسن بن على بن الحسين، تحف العقول، ص175. 

([78]) الصفار القمِّي، محمَّد بن الحسن، بصائر الدرجات، ص531.

([79]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج3، ص728. 

([80]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص143. 

([81]) الصفار القمِّي، محمَّد بن الحسن، بصائر الدرجات، ص319. 

([82]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص328.

([83]) العلَّامة الحلِّي، حسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص243. 

([84]) العلَّامة الحلِّي، حسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص243. 

([85]) الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص٥٥٣.

([86]) الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص٥٧٠.

([87]) سورة محمَّد: 19.

([88]) سورة البقرة: 231.

([89]) سورة البقرة: 203.

([90]) سورة الحديد: 17.

([91]) سورة النجم:  27-28. 

([92]) سورة يونس: 66.

([93]) سورة يونس: 34-36.

([94]) سورة النجم: 21-23.

([95]) العلَّامة الحلِّي، حسن بن يوسف، الباب الحادي عشر ( مع شرحيه النافع يوم الحشر للسيوري ومفتاح الباب للحسيني)، ص3.

([96]) المنطق، الشيخ محمَّد رضا المظفر، ص ١٧.

([97]) محسني، محمَّد آصف، صراط الحقِّ في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية، ج1، ص44.

([98]) محسني، محمَّد آصف، صراط الحقِّ في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية، ج١، ص٣٣.

([99]) الفاضل المقداد، المقداد بن عبدالله الحلي، الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد، ص٤٨، ومحسني، محمَّد آصف، صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية، ج ١، ص٣٢.

([100]) يمكن الرجوع لشيء من تفصيل هذه المسألة إلى البحراني، حسين آل عصفور، أجوبة المسائل الصمدية ويليه أجوبة مسائل السائلين، ص21. 

([101]) الفاضل المقداد، المقداد بن عبدالله الحلي، إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص١١٧.

([102]) صدر الدين الشيرازي، محمَّد بن إبراهيم، تفسير القرآن الكريم، ج4، ص316.

([103]) الطباطبائي، السيد محمَّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج١٤، ص133، وص 205.

([104]) أبو علي ابن سينا، حسين بن عبدالله، النجاة، ص115. 

([105]) الطوسي، الخواجة نصير الدين، شرح الإشارات والتنبيهات، ج1، ص224. 

([106]) السبزواري، ملا هادي، شرح المنظومة، ج1، ص339. 

([107]) راجع الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص565. 

([108]) الخراساني، جواد بن المحسن بن الحسين، هداية الأمة إلى معارف الأئمة، ص٢٥.

([109]) انظر الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، مطارح الأنظار، ج٣، ص١٢٣، وص137، و الحائري الأصفهاني، محمَّد حسين، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، ص393، والبروجردي، حسين الطباطبائي، تبيان الصلاة، ج1،  ص170. 

([110]) سورة الممتحنة: 10. 

([111]) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، ج٥، ص٢٢٠.

([112]) الصاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، ج٦، ص٣٦.

([113]) ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، معجم مقاييس اللغة، ج٦، ص١٥٧. 

([114]) الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح،  ج٦، ص٢٢١٩.

([115]) ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، معجم مقاييس اللغة، ج3، ص173. 

([116]) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، ج8، ص١٥٢.

([117]) الصاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، ج١٠، ص١٢.

([118]) ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، معجم مقاييس اللغة، ج٣، ص٤٦٢.

([119]) الزمخشري، محمود بن عمر، أساس البلاغة، ج1، ص628.

([120]) الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص٥٥٤.

([121]) انظر محسني، محمَّد آصف، صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية، ج1، ص44.

([122]) سورة النمل: 14. 

([123]) سورة البقرة: 98. 

([124]) انظر الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص351. 

([125]) انظر الشيخ البهائي، محمَّد بن الحسين، مشرق الشمسين وإكسير السعادتين، ص26. 

([126]) البحراني، الشيخ يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج1،  ص14، وص67، وج9 ص356، وراجع الأسترآبادي، محمَّد أمين، الفوائد المدنيّة، ص125، وص174، والحر العاملي، محمَّد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج30، ص251، والعاملي، حسن بن زين الدين، منتقى الجمان في الأحاديث الصّحاح و الحسان، ج1،  ص2، والكركي العاملي، حسين بن شهاب الدين، هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار، ص28. 

([127]) السبحاني، جعفر، الموجز في أصول الفقه، ص158. 

([128]) الغروي الإيراوني، نهاية النهاية في شرح الكفاية، ج٢، ص٥٢.

([129]) الأنصاري، مرتضى بن محمَّد أمين، فرائد الأصول، ج1، ص٥٥٨.

([130]) الميرزا النائيني، محمَّد حسين الغروي، فوائد الأصول، ج٣، ص١٩٥.

([131]) العلَّامة الحلِّي، حسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص٢٤٣.

([132]) الشريف الرضي، محمَّد بن الحسين بن موسى، نهج البلاغة، ص61.

([133]) بناء على توثيق علي بن معبد.

([134]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص653.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا