الملخّص:
يتطرّق الكاتب في هذا المقال إلى فكرة باتت تطرح كثيراً، بل دخلت مرحلة التطبيق وهي فكرة الديانة الإبراهيمية، والتي تهدف إلى جعل العالم تحت ديانة واحدة، وبالتالي إلغاء الديانات الأخرى، وهذه الفكرة -كما لا يخفى- تتصادم مع كثير من ثوابتنا الدينية التي لا تقبل المساس؛ فضلاً عن التغيير. لذلك يتعرّض الكاتب إلى التفريق بين الإبراهيمية الحقّة والإبراهيمية المزيّفة، وقد اعتمد في ذلك على التأصيل القرآني لهذه الفكرة، مستعرضاً الآيات التي تحدّثت عن نبي الله إبراهيمg، ثم يختم البحث ببيان أنّ الإمام الحسينg والتمسّك بفكره ومنهجه هو الضمانة الكبرى لفهم الإبراهيمية الحقّة.
مقدمة:
تُطرح عالمياً فكرة السلام العالمي بمستند فكري يتمثّل في الدين الرحماني، والديانات الإبراهيمية، والديانة الإبراهيمية العالمية الموحدة، وهذه فكرة لها خلفياتها، وآلياتها، ومشاريعها، وتطبيقاتها المفاهيمية والسلوكية المتغلغلة بخفاء حتى في مجتمعاتنا، وهي -في كثير من جوانبها، سواء من جهة المنطلقات، أو الآليات، أو المشاريع، أو النتائج- تتضارب بوضوح مع جملة كبيرة من الثوابت الدينية الأصيلة، بحيث يمكن أن نلحظ هذه الفكرة بعين الرفض بطرحها الحالي، وهذا ما أريد أن أقف عليه بهدف التحصين والتوعية؛ خصوصاً أنّ المتتبع يدرك أننا لسنا بعيدين عن تطبيقات هذه الرؤية العالمية المتسارعة، والمشكلة باتت مفاهيمية معرفية، بحيث أمكن أن تسبّب تشويشاً يقلب الحقائق، ويعكس المفاهيم، وهذا النوع من التغيير أشدّ ما يكون من الخطورة والآثار.
فالهدف من طرح الموضوع هو: التعرف على أساس الإبراهيمية الحقّة حسب طرح القرآن، والتفريق بينها وبين الإبراهيمية المزيّفة التي قد تُستعمل كغلاف لتحقيق مآرب غير محقّة، وذلك عبر ثلاث نقاط كالتالي:
الأولى: في بيان مختصر لفكرة الإبراهيمية المزيفة.
الثانية: تأصيل قرآني لمعنى الإبراهيمية الحقّة.
والثالثة: بيان أنّ الحسينg هو الضمانة الكبرى لفهم الإبراهيمية الحقّة، وعدم الانسياق إلى ما يقابلها.
النقطة الأولى: الإبراهيمية المزيّفة
ويمكن اختصار بيان هذه الإبراهيمية في نقاط عامّة عبر ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الخلفية
ونقول باختصار شديد: إنّ ممّا يُطرح اليوم هو أنّ التفكير العالمي يتجه –حسب المعلن لدى الجهات ذات الشأن- نحو العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفقر بالقضاء على أسبابه، وخلق بيئة تنموية رائدة تكون حاضنة للرفاه والاستقرار المبني على المساواة، والمحافظة على الموارد البيئية والمناخية، وكل ذلك مهدّدٌ من قبل النزاعات والحروب التي تشكّل أكبر عائق للوصول إلى هذا النوع من التنمية، ومن هنا جاءت فكرة السلام العالمي الذي سيتيح المجال للتركيز على مسألة التنمية، والذي يحاول أن يركّز على المشتركات الدينية لفضّ أيّ نزاع انطلق من خلفيات دينية، والإطار الذي يصلح للتعبير عن المشتركات الدينية التي تجمع الديانات السماوية هو ما يسمّى بالإبراهيمية، حيث إنّ إبراهيمg هو أبو الأنبياء الثلاثةi، وأصل شرائعهم، وهكذا تُطرح هذه الفكرة بنحو جذاب، وتتسارع تطبيقاتها، والحال أنها تعتمد أساساً لا يتناسب بتاتاً مع كثير من الثوابت الدينية، خصوصاً عند الإسلام.
الأمر الثاني: بعض تفاصيل الفكرة وتطبيقاتها
وهنا جملة من الأمور:
الأمر الأول: الإبراهيمية دبلوماسية روحية تبحث عن المشتركات فتستلزم التغيير الثقافي
تعتبر فكرة الإبراهيمية -حسب بحث د. هبة جمال- دبلوماسية روحية تؤكّد على القيم الدينية المشتركة، فهو مدخل مزعوم لسدّ فجوة النظريات التقليدية التي فشلت في القضاء على الفقر، فلا بدّ من تغيير ثقافي جذري (يتمثّل في فكرة الديانات الإبراهيمية) للقضاء على النزاعات ومسبّباتها، وإشاعة السلام العالمي.
الأمر الثاني: الإبراهيمية استراتيجية تربط بين أهمّ المجالات الإنسانية
الإبراهيمية المطروحة تعدّ معبراً لخطة التنمية المستدامة، وهي تعني: (استراتيجية عالمية للحفاظ على البيئة ومواردها التي تُستنزف؛ سعياً لتلبية احتياجات الحاضر والمستقبل، دون الإضرار بالموارد الطبيعية على تنوّعها)، وهذا المعنى يبيّن مدى ترابط هذه الاستراتيجية مع مجالات عدّة، وتأثيرها المباشر عليها، كالسياسة، والاقتصاد، والدين والمعتقدات، وإدارة الموارد، وعلم الاجتماع، والقانون، والصحة، والتعليم، وغيرها، إذن: هذا الطرح السياسي العقائدي يوظّف للتغيير الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والبيئي، بل والاعتقادي أيضاً، حيث صرّحت بعض الجهات أنّ من أهم الأدوات هو القضاء على الأصولية في الأديان الثلاثة.
الأمر الثالث: النمط الخدمي والجهة الراعية
يذكر بعض الباحثين أنّ الإبراهيمية الممهّدة للتنمية المستدامة في حقبتها الحالية الممتدة من 2015 وحتى 2030م تبرز في ثوب خدمي، بمشاريع تنموية تستند إلى واقع مشترك، تحت رعاية الأمم المتحدة([1])، ولكن يرى البعض أنه ليس سوى ستار لمخطّط استعماري جديد يستخدم التنمية كمحفّز للانخراط فيه، مدعوماً من القوى الغربية (المعسكر الغربي)، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة البريطانية، والكيان الصهيوني.
الأمر الرابع: الإبراهيمة تعتبر مرحلة ما بعد فكرة فصل الدين عن السياسة
الإبراهيمية فكرة تحاول أن تتجاوز وتتدارك فكرة فصل الدين عن السياسة تماماً، فهي تؤمن بتأثير المعتقدات في المجتمعات، وأنه أمر ثابت، فتتّجه لتوظيف هذا الثابت لصالح الفكرة العامة المتمثلة في التنمية المستدامة، وذلك عبر التمسّك بمشتركات هذه الأديان، طبعاً على مقاس أصحاب الفكرة، فتلغي غير المرغوب فيه على أنه غير مشترك، وتركّز على المرغوب فيه -ممّا يحقّق الهدف- على أنه أمر مشترك، فالدين الذي كانوا يتكلّمون عنه كمصدر للمشكلة، هو نفسه الحل مع إجراء هذا التعديل، وهنا تكمن الخطورة!
الأمر الخامس: دعوتان للإبراهيمية بنتيجة واحدة: (أصالة اليهودية)
هناك طرحان للإبراهيمية: الأول يسمّى بالأديان الإبراهيمية، والثاني بالديانة الإبراهيمية العالمية الواحدة، وكلاهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة، فالمقصود بالطرح الأول المحافظة على كيان الديانات السماوية الثلاث، والتركيز على المشتركات، وإغفال موارد الاختلاف، بل عدم الاعتراف بها، ولكن على ضوء أصالة اليهودية باعتبارها سابقة على الديانتين الأخريتين، بل اعتبار المسيحية مذهبا منشقاً عن اليهودية، وليس ديناً مستقلاً، واعتبار الإسلام يهودية معرّبة، ومن هنا يطالَب بتدويل القدس -كمقدّس مشترك- ولكن على امتداد الأصالة اليهودية.
أما الطرح الثاني فهو يتّجه تقريباً إلى إلغاء الديانات، والولاء للديانة الإبراهيمية الموحدة أيضاً على المقاس الصهيوني، وهذا الطرح يبرز الباطن الحقيقي لأطروحة الإبراهيمية العالمية، وأنها فقط تتستّر بغطاء التنمية المستدامة، ومحاربة الفقر، والعدالة الاجتماعية، وإنقاذ العالم، كل ذلك على ضوء القيم التي تريد انتقاءها من الديانات حسب هذا التوجيه المغرض([2]).
الأمر السادس: الإبراهيمية تضع دليلاً إرشادياً مقدساً يبتني على منهج التأويل المغرض
من الآليات: وضع دليل إرشادي للقادة الروحيين يقدّم مرجعية لهم، يحوي نصوصاً مشتركة، يحمل صفة القدسية (مع نزع القدسية تدريجياً عن الكتب المقدّسة وإعطائها لهذا الدليل)، ويستخدم هذا الدليل كمرجع لتحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر طرح القضايا التي تم طرحها عام 2015م من الأمم المتحدة، والمنهجية تتمثّل في: إعادة التفسير في إطار التأويل، وعدم التسرّع في فهم المعنى الظاهري للنص، ويسمّونه: الرسائل الحرفية للنص([3]).
الأمر السابع: الإبراهيمية واستهداف لبنة التغيير الثقافي: (الأطفال والشباب والأسرة)
من أهم المجالات التي يركّز عليها هذا المشروع مجال: التعليم، فهو: "اللغة المشتركة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك عبر الاتفاق بين القادة الروحيين حول التعليم المشترك عبر التوافق حول المقرّرات التي توضح المعنى المشترك للحياة المستدامة من القيم الدينية والروحية المتوافق عليها، فاتفاق القادة حول قضايا التعليم والتدريب للأطفال والشباب سيعالج جذور التطرّف وأسباب الإرهاب، وسترسّخ التعليم النقدي، وبناء معلمين مدرّبين قادرين على نقل المشترك الديني القائم على التسامح والعدالة، وبناء قيادات شبابية متعلّمة قادرة على دعم المشترك الروحي الداعم لدور التنمية، وبالتالي: بناء أجيال داعمة لفكر التنمية المستدامة المتفق عليها روحياً"([4])، ومن هنا ينفتح المجال للتغير الثقافي العام، القائم على "استهداف المرأة، والأسرة، وتصحيح الفهم للنصوص في تفسير حقيقة الأسرة، ودورها، وذلك عبر تفنيد النصوص المعوقة وفقا لهذا الفكر"([5]).
الأمر الثالث: الملاحظات العامة
من أهم ما يمكن أن يلاحظ على هذه الفكرة:
1) الجهة غير مأمونة:
أنّ الجهة التي تطرحها غير مأمونة بتاتاً، ولو من جهة خلفياتها الفكرية والعقائدية والتاريخية، وهي الجهة القوية التي ستتحكّم في صياغة المفاهيم وإدارة المشروع وفقاً لتلك الخلفيات المسبقة، وفي أشكال تطبيقاتها، فهي من يمتلك قوة الاقتصاد، والإعلام، والعسكر، وغير ذلك.
2) أداة التأويل غير موضوعية:
التصرّف التأويلي في النصوص لدى الجهة الراعية لن يكون موضوعياً؛ إذ أنه لا يحاول أن ينطلق من فهم النص عبر محاولة فهم مقاصد صاحبه، بل ينطلق من فكرة التركيز على المشتركات، وإلغاء غيرها، ولو تم تحوير المقاصد الأصلية لصاحب النص ذاته، علاوة على أنّ المتصرّف بهذا التصرّف التأويلي غير الموضوعي في النص الديني لن يكون أصلاً من أهل الاختصاص والأهلية المشترطة إلى جانب العلمية ليكون حجةً.
3) هذه الإبراهيمية تعارض الثوابت:
هذه الإبراهيمية تتعارض مع أصول وثوابت دينية كثيرة، من حيث: أ- العقيدة. ب- وتفسير المقدّسات. ج- ومن حيث الأحكام الشرعية. د- ومن حيث الثوابت التاريخية.
فمن حيث العقيدة تستبطن هذه الفكرة الاعتراف بتعدد الديانات وحقّانيتها على صيغتها المحرّفة الحالية، بل نفس التعدّد في الديانات مرفوض عندنا، حيث قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}(آل عمران: 19)، ومن حيث المقدّسات فإنها تدّعي حصر أصالة الحقّ في المقدّس المشترك (أرض القدس) عند الأسبق، وهم اليهود، وتدعو –لا إلى احترام مقدسات الآخرين-، بل إلى مساواتها في عرض واحد، فيكون القرآن بقيمة التوراة والإنجيل المحرّفين، وتكون الكعبة بقيمة الهيكل، وهكذا، ومن جهة الأحكام الشرعية، فمفاد هذه الفكرة إلغاء أحكام الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإجراء الحدود والتعزيرات، وأحكام الحجاب، والأسرة، والقوامة، والإرث -حيث تدعو للمساواة المطلقة-، وترفض تحريم المحرّمات الواضحة كاللواط والسحاق، والاعتداء على ممتلكات الآخرين وأراضيهم، وغير ذلك الكثير، وهكذا من جهة الثوابت التاريخية في تفسير شخصيات الأنبياء، وحركتهم التاريخية، وأهدافها، بل حتى تفاصيل ما صدر ولم يصدر منهم.
4) هذه الإبراهيمية تساوي إلغاء الأديان والكفر:
تقوم هذه الفكرة على أساس الإلغاء العملي لخصوصيات الأديان، ودمجها في دين مهجن مليء بالتناقضات أولاً، وثانياً: هي تساوي الكفر عملياً، بل حسب بعض الأبحاث أنّ هذه الإبراهيمية ما هي إلا غلاف لتوجيه الأديان نحو معتقد واحد يشكل باطناً مخفياً، يعتمد أصالة الديانة اليهودية، فهي فكرة تحاول الترويج للصهيونية العالمية بستار جميل، وأهداف محببة.
5) الإبراهيمية علاج لغير جهة الداء الحقيقية:
تعتبر هذه الفكرة تداركاً وعلاجاً لعبث البشر، وما وصلوا إليه من تخلّف على مختلف المجالات ممّا ينافي العدالة الاجتماعية، ويسبّب الفقر والحروب، ولكن ينبغي هنا أن نتساءل: هل أنّ النزاعات الدينية هي التي تسببت في كل ذلك؟ أم أنّ جشع الاستكبار -والقوى الغالبة، ونفعيتها الساقطة، وتحلّلها من أيّ قيمة- هو الذي أوصل الأجيال لهذه الحالة؟!
إذاً: هذه الفكرة ليست موضوعية من الأساس؛ إذ أنها تحاول أن تعالج في غير موضع الخلل الحقيقي، والعلاج يكمن في التخلي عن نزعات الأنانية والجشع، والتمسّك بقيم الدين الإنسانية، والتركيز على المبادئ الفطرية التي ترتكز عليها جميع الأديان، وسط أجواء حوارية تديرها جهات شرعية معتبرة صالحة لتمثيل كلّ ديانة على نحو الاستقلال دون أيّ ضغط، فهذا هو المرتكز الصالح لعلاج المشاكل العالمية، لا إلغاء هذه المبادئ في سبيل الترويج إلى الثقافة الانحلالية باسم الدين! فالنماذج الواقعية للمناداة بهذا المعنى للإبراهيمية تتمثّل في حرب المفاهيم، وتطبيقاتها، كالشذوذ، ومعاداة السامية، وشرعنة الاعتداء والقتل..، وكلّ ذلك مخالف للفطرة، ولضرورات التديّن –بشكل عام، وليس الدين الإسلامي فقط-، وهذا أكبر دليل فاضح لخطأ وخطورة هذه الفكرة.
6) هذه الإبراهيمية مزيفة تعارض طرح القرآن للإبراهيمية الحقة:
اتضح أنّ هذه الإبراهيمية بمنطلقاتها وأهدافها وتطبيقاتها تخالف الإبراهيمية الحقّة بحسب الطرح القرآني، فلا يمكن الأخذ بها، ومن هنا أنتقل إلى النقطة الثانية لتبيين أهم معالم الإبراهيمية القرآنية.
النقطة الثانية: الإبراهيمية القرآنية الحقّة
الانتساب إلى الإبراهيمية ليست فكرة جديدة، بل هي فكرة رافقت الشرائع السماوية الثلاث منذ ولادتها، وكلٌّ يدّعي وصلاً بالحنيفية الإبراهيمية لما لها من قيمة متجذرة من حيث أصالة الاعتقاد، والتوحيد، وبما تمثله من قيمة تاريخية عظيمة، وقد ردّ القرآن على ادّعاء الإبراهيمية هذا بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(آل عمران:67)، وهذه الآية تبيّن لنا أساس الإبراهيمية متمثّلاً في عدم التقوقع في اتجاه خاص في طريقة فهم الدين كما هو الحال في اليهودية والمسيحية بعد العبث البشري، واسترشاداً بالكتاب العزيز يمكن لنا أن نحدّد المعالم العامة لحنيفية إبراهيمg في التالي:
المعلم الأول: ملة الحنيفية والفطرة التوحيدية الخالصة
يمكن فهم سيرة النبي إبراهيمg بأكملها من خلال فهم ملّته الحنيفية، حيث إنّ القرآن قد كرّر الحنيفية ثمان مرات، ممّا يشي بأهميتها وحاكميتها، فلقد قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:120)، والحنيفية هي الاستقامة والميل، قال في مجمع البحرين: "الحنيف: المسلم المائل إلى الدين المستقيم..، والحَنَف: الاستقامة..، وأصل الحنف: الميل"([6]).
وقال المصطفوي في التحقيق: "أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة هو: الاعتدال في المشي، والتأنّي والسكون فيه، بحيث لا يلحقه تعدّي ولا تجاوز عن خطّ المشي، وهذا المعنى أعمّ من السلوك الظاهريّ أو المعنويّ"([7]).
ومع ملاحظة استعمال القرآن الكريم لهذه الكلمة في حق إبراهيمg، يمكن فهمها على ضوء ما قيل في المعنى اللغوي من دون زيادة، إلا تحديد الخط الذي اعتدل عليهg، ولم يتجاوزه، وهو الخط المقابل للشرك، وهو خط التوحيد، فما مال عنه إبراهيمg هو الشرك بكل أنواعه ودرجاته، وما استقام عليه إبراهيمg هو التوحيد الخالص المتماهي كلّ التماهي مع الفطرة البعيدة كلّ البعد عن التعقيد والتشويش.
وهذه هي ملة إبراهيمg التي حضض القرآن على الالتزام بها، والاهتداء بها، بل بين أنها الطريقة الوحيدة المرتضاة، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}(البقرة:130)، والملة هي -كما قال ابن منظور-:"المِلَّة: الشريعة والدين..، المِلَّة: الدين، كملَّةِ الإِسلام، والنَّصرانية، واليهودية. وقيل: هي مُعْظم الدين، وجملة ما يجيء به الرسل..، قال أَبو إِسحق: المِلة في اللغة: سُنَّتُهم، وطريقهم"([8]) ، فظهر من ذلك أن الملة تارة تشير إلى الدين، أي: البعد الأصولي منه، وأخرى تشير إلى الشريعة، أي: البعد التشريعي منه..
ويفهم من كلمات القرآن الكريم، ومن روايات أهل البيتi أن الحنيفية هي نفسها التوحيد الخالص في أعلى مستوياته، وهي ما قد يلحظ تارة في البعد الأصولي، وأخرى في البعد التشريعي، قال تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(البقرة:135)، وبالمقابلة يُعلم أن المقصود بالحنيفية في هذه الآية هو بعدها الأصولي الممثل في عقيدة التوحيد، وقال: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(آل عمران:95)، ولعل هذه الآية تشير إلى البعد التشريعي المستظهَر من الأمر بالاتباع، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}(النساء:125)، وهذه الآية تشير إلى البعد الأصولي بقوله: {ومَنْ أَحْسَنُ دِيْنًا}، وإلى البعد التشريعي بقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ}.
وعلى غرار الأسلوب القرآني في تفسير الحنيفية، كانت كلمات أهل البيتi أيضاً، فمنها ما فسّر الحنيفية ببعدها الأصولي، كما عن الإمام الباقرg لما سئل عن معنى الحنيفية فقال: >هي الفطرة التي فطر الناس عليها... فطر الله الخلق على معرفته...<([9])، ومنها ما فسّرها بالبعد التشريعي، نحو ما جاء عن الصادقg أنه قال: >ثم أنزل الله عليه الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسة منها في الرأس، وخمسة منها في البدن<([10]).
ومن هنا: يتضح أنّ الركيزة الأساسية للإبراهيمية الحقّة هي: الاستقامة الأصولية والسلوكية على الفطرة، وأنّ أيّ طرح إبراهيمي يؤدّي إلى القفز على طهارة هذه الفطرة فهو زائف، يريد أن ينتحل الإبراهيمية للترويج إلى ما يقابلها من قذارة، وشطط، وانحراف عن خط الله الواضح البيّن.
قال تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}(البقرة:136و 137و 138).
وقال: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام:161).
وجاء في الكافي عن الصادقg: >وكان إبراهيمg في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها، حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه، واجتباه<([11]).
المعلم الثاني: اليقين والشهود والتسليم المطلق لله والقول بأصالته
لمن تكن حنيفية إبراهيمg واستقامته مشوبةً بأيّ شكّ أو تردّد أو حيرة، ففي نفس الوقت الذي كانت تستند فيه إلى نداء الفطرة الخالصة، فإنها كانت مدعَّمة بيقين شهودي معرفي خاص، يطّلع على الحقائق والبواطن والملكوت بتوفيق من الله تعالى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(الأنعام:75).
وعليه: الإبراهيمية الحقة هي الإبراهيمية التي تبتني على أصالة مفاهيمية وسلوكية غير قابلة للحرف والخداع والتحوير والتزييف، واليقين فيها مأخوذ من أسّسه الموضوعية عبر الارتباط الصادق بالله تعالى، لا بالهوى، والأنا، واللهث وراء ملذّات الدنيا ورفاهيتها، وهنا مكمن فرق آخر بين الإبراهيمية الحقة، والإبراهيمية المزيّفة، الإبراهيمية الحقة تنطلق من أصالة الله، وعبودية الخلق له، والإبراهيمية المزيفة تنطلق من أصالة الإنسان، وعبودية الهوى والدنيا، وشتّان بين الإبراهيميّتين، تلك إبراهيمية رحمانية، وهذه إبراهيمية شيطانية.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(البقرة:131)، وقال عزّ من قائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}(النساء:125).
وورد عن الإمام الصادقg أنه قال في تفسير الآية {وَكَذَلِكَ نُرِي..}: >كُشط له عن الأرض ومن عليها، وعن السماء ومن عليها، والملك الذي يحملها، والعرش ومن عليه<([12])، وفي حديث عن عليg مروي في الكافي في معنى العرش: >والذين يحملون العرش ومن حوله هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه، قال: وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه، وأراه خليلهg فقال: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين<([13]).
وقد أكّد العلامة الطباطبائي هذا المعنى بقوله: "فقد كان يحاجهم عن إفاضة إلهية عليه بالعلم والحكمة، وإراءة منه تعالى لملكوته مبنية على اليقين، لا عن فكرة تصنيعية لا تعدو حد التخيل والتصور، ولا تخلو عن التكلف والتعسف الذي لا تهتف به الفطرة الصافية"([14]).
المعلم الثالث: المواجهة الواضحة والصريحة للكفر
ابتدأت حياة إبراهيمg منذ فتوته بمواجهة الكفر، ورفضه الصريح، وعدم التسامح مع أهله، أو الانفتاح عليهم، والتعايش معهم بكلّ أريحية، ابتداءً من عمّه آزر، ومروراً بقومه، وانتهاءً بسلطان زمانه الطاغي نمرود، أول من ادعى الربوبية كما في بعض الروايات، فكانت حياته حافلة بالمواجهة دون أيّ مجاملة، أو مؤاربة، ودون أي تماهٍ أو خوف من ردات الفعل مهما سفّهت، أو عنّفت.
فهي سيرة متجذّرة انعكست كمنهج على من لحقّه من الأنبياءi، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}(الشورى:13)، فشريعة محمدe هي عينها ما أوصى الله تعالى به إبراهيمe، وموسى، وعيسىe، والإطار العام: أقيموا الدين، ولا تتفرّقوا فيه، والنتيجة: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه!
وقد وصف القرآن إبراهيمg في منهج دعوته في الآيات التالية:
1). {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ}(الممتحنة:4).
2). {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}(التوبة:113).
3). {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}(مريم:48).
4). {وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(الأنبياء:57و58و67).
5). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(الحج:77و78)، هذه الآية الكريمة تبين أن الجهاد ونشر معالم الدين، وإقامة الصلاة، وفعل الخير، كان هو عينه طريق إبراهيمg.
6). {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}(الشعراء:75و76و77).
7). {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الزخرف:26و27و28).
هذا هو منهج إبراهيمg في الدعوة، هو عينه منهج النبيe، فيه سلم، وفيه حرب، فيه لين، وفيه غلظة، فيه حب، وفيه بغض، فيه بر واتصال، وفيه صَدٌّ واعتزال، هذه هي الإبراهيمية الحقة، وليست تلك الإبراهيمية التي تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، والتي تنتقي ما يحقق مصلحتها الضيقة من أجل كسب المال، والجاه، والسيطرة، ولو على حساب القيمة.
نتيجة:
بفهم المعالم الأصيلة للحنيفية، وبإدراك مرتكزات الإبراهيمية الحقة كما يطرحها القرآن الكريم، يأتي التأكيد على أنّ الإبراهيمي الحقيقي هو من قالت فيه الآية المباركة: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}(آل عمران:68).
وعلى ضوء ذلك: يمكن أن يقال إنّ جذور الإسلام –بل سائر الشرائع الأخرى- تعود إلى حنيفية إبراهيمg وتوحيده، فنبوة إبراهيم في قوة النبوة الأبوية لسائر الشرائع الأخرى، والتي منها الإسلام أيضا، رغم هيمنة الشريعة الإسلامية من جهة كونها الشريعة الخاتمة، وهذا ما صرّح به القرآن الكريم في غير موضع، وبنحو مكرّر وملفت، وقد أسمى هذه الحنيفية التوحيدية الفريدة بملة إبراهيمg، وقد انعكس ذلك حتى على الجانب التشريعي في الإسلام، حيث إنّ واحدة من أهم الفرائض الإسلامية المعروفة بفريضة الحج، يمكن أن يقال فيها إنها راجعة في كلّ تفاصيلها إلى ملة إبراهيم، ومسيرته، وأحداثه، وآثاره، ومواقفه، وكلماته.
وبالجملة: النتيجة المتحصّلة ممّا تقدم هي: أنّا إذا أردنا أن نفهم الإسلام والحال هذه، فلا بدّ أن نفهم ملة إبراهيم، وحنيفيته، وتوحيده، وإذا أردنا أن نفهم الإبراهيمية الحقة، فلا بدّ من فهم الإسلام كأرقى تجلٍّ ناصع غير معبوث فيه لملة إبراهيمe، وذلك على المستوى الأصولي، وعلى المستوى التشريعي.
يقول العلامة في الميزان: "ومن مننهg السابغة أن دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان، وعند من كان، فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، وينتهي إلى الكليم موسى بن عمرانg، وينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمg، ودين النصرانية وينتهي إلى المسيح عيسى بن مريمg، وهو من ذرية إبراهيمg، ودين الإسلام والصادع به هو محمد رسول اللهe، وينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليلg، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب المبارك، ويشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة والزكاة والحج، وإباحة لحوم الأنعام، والتبري من أعداء الله، والسلام، والطهارات العشر الحنيفية البيضاء، خمس منها في الرأس، وخمس منها في البدن.. والبحث المستوفي يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد والعمل في المجتمع البشري كائنة ما كانت من آثار النبوة الحسنة، كما تكررت الإشارة إليه في المباحث المتقدمة، فلإبراهيمg الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم، علموا بذلك أو جهلوا"([15]).
ومن هنا ندرك أنّ تركيز القرآن على تابعية الإسلام لملة إبراهيمg ليس الوجه فيه بيان الأفضلية المقامية، بل الوجه فيه بيان أنّ الإسلام لم يأت بانياً على اليهودية أو النصرانية حتى يُحج النبيe من أهل الكتاب بأفضلية شرائعهم عليه توهّماً، بل بيّنت هذه الآيات أنّ الإسلام يأخذ من نفس الأصل الذي أخذت عنه هذه الديانات، وهي ملة إبراهيمg، فهو في عرضها لا في طولها، وأنّ من أراد أن ينتسب إلى إبراهيمg ليس له إلا أن ينتسب إلى محمدe عقائدياً وتشريعياً.
النقطة الثالثة: الحسينg ضمانة الإبراهيمية الحقّة
وعلى ضوء النتيجة التي توصّلنا إليها في النقطة الثانية، نأتي في النقطة الثالثة لتعميقها بهذه الإضافة: لا تُفهم الإبراهيمية الحقّة إلا عن طريق فهم المحمدية الخاتمة، ولا تُفهم المحمدية الخاتمة إلا بفهم الحسينg، >حسين مني وأنا من حسين<([16])، فبوساطة المحمدية تُدرك الإبراهيمية بالحسينية الكربلائية، فهي المقياس الذي يشكل ضمانة لاستكشاف مواطن الادّعاء والخلل في الإبراهيمية المطروحة اليوم، من أجل التحصّن عن هذا الزيف بضمانة الحسينg وعاشوراء.
وأذكر لك جملة من معالم الارتباط بين الخليل والقتيلg لنؤكّد هذه الحقيقة في هذا الزمن الصعب، وهي حقيقة أنْ: (تمسّكوا بالحسينg؛ لكي لا تُخدعوا بزيف الإبراهيمية التي يراد لها أن تتحوّل إلى مشروع يستهدف عقول شبابنا وأطفالنا اليوم، هذه المآتم هي الضمانة ضدّ حرب التزييف، وقلب الموازين، وانتكاس القيم، وتغيّر المعروف إلى منكر، والمنكر إلى معروف).
ومن معالم الارتباط الوثيق بين الخليل والقتيلg:
1) الحنيفية الإبراهيمية الفطرية تكمن في تبعية الحسينg:
الركيزة الأولى التي ذكرناها لخط إبراهيمg، نجد الحسينg يؤكّد أنها محصورة باتباعهg، جاء في "اختيار معرفة الرجال" للشيخ الطوسي بسنده عن حبابة الوالبيّة أنها قالت: سمعت الحسين بن عليّg يقول: >نَحْنُ وَشيعَتُنا عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتي بَعَثَ اللهُ عَلَيْها مُحَمَّداe، وَسائرُ النّاسِ مِنْها بُرَآءٌ<([17])، وفي "المحاسن للبرقي" بسنده عنها: إنّي سمعته يقول: >وَالَّذي جَعَلَ أَحْمَسَ خَيْرَ بَجيلةَ، وَعَبْدَ الْقَيْسِ خَيْرَ رَبيعَةَ، وَهَمْدانَ خَيْرَ الْيَمَنِ، إِنَّكُمْ لَخَيْرُ الْفِرَقِ. ثمّ قالg: ما عَلى مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلاّ نَحْنُ وَشيعَتُنا، وَسائِرُ النّاسِ مِنْها بُرَآءٌ<([18]). وفي معناه عدّة أحاديث أخرى.
2) بناء الكعبة وإسكان الذرية بوادٍ غير ذي زرع، وهوي أفئدة الناس إليها وعلاقة الحسين بذلك:
قال تعالى على لسان إبراهيمg: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(إبراهيم:37).
في الخبر عن أبي جعفر الباقرg: >ويحك - يا قتادة - ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقنا يهوانا قلبه، كما قال الله a: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، ولم يعنِ البيت فيقول: إليه. فنحن والله دعوة إبراهيمg التي من يهوانا قبلت حجته، وإلا فلا<([19])، فالحسينg دعوة إبراهيمg، وامتداده، وحافظ حنيفيته وملته بهوي الأفئدة إليه.
3) إسماعيل وذبحه وعلاقة الحسين بذلك (الحسينg فداء الإبراهيمية الحقة):
قال سبحانه: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}(الصافات:99-107).
في الخصال: عن الفضل، قال: سمعت الرضاg، يقول: >لما أمر الله عز وجل إبراهيمg أن يذبح مكان ابنه إسماعيلg الكبش الذي أنزله عليه تمنى إبراهيمg أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيلg بيده وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده عليه بيده فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فأوحى الله a إليه: يا إبراهيم من أحب خلقي إليك؟ فقال: يا رب ما خلقت خلقا هو أحب إلي من حبيبك محمدe، فأوحى الله إليه: أفهو أحب إليك أم نفسك؟ قال: بل هو أحب إلي من نفسي، قال: فولده أحب إليك أم ولدك؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا رب بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما وعدوانا كما يذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي، فجزع إبراهيم لذلك، وتوجع قلبه، وأقبل يبكي، فأوحى الله a: يا إبراهيم قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل - لو ذبحته بيدك - بجزعك على الحسينg وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب وذلك قول الله a: {وفديناه بذبح عظيم}<([20]).
قال الشيخ عبد الله البحراني في "العوالم": "قد أورد على هذا الخبر إعضال وهو أنه إذا كان المراد بالذبح العظيم قتل الحسينg لا يكون المفدى عنه أجل رتبة من المفدى به فإن أئمتنا صلوات الله عليهم أشرف من أولي العزمi فكيف من غيرهم؟ مع أن الظاهر من استعمال لفظ الفداء، التعويض عن الشيء بما دونه في الخطر والشرف.
وأجيب بأن الحسينg لما كان من أولاد إسماعيلg فلو كان ذبح إسماعيلg لم يوجد نبينا وكذا سائر الأئمة صلوات الله عليهم وسائر الأنبياء من ولد إسماعيل، فإذا عوض من ذبح إسماعيلg بذبح واحد من أسباطه وأولاده وهو الحسين صلوات الله عليه فكأنه عوض عن ذبح الكل وعدم وجودهم بالكلية بذبح واحد من الاجزاء بخصوصه، ولا شك في أن مرتبة كل السلسلة أعظم وأجل من مرتبة الجزء بخصوصه.
وقيل: ليس في الخبر أنه فدى إسماعيل بالحسينg بل فيه أنه فدى جزع إبراهيم على إسماعيل بجزعه على الحسينg، وظاهر أن الفداء على هذا ليس على معناه بل المراد التعويض، ولما كان أسفه على ما فات منه من ثواب الجزع على ابنه، عوضه الله بما هو أجل وأشرف وأكثر ثوابا وهو الجزع على الحسينg"([21]).
4) يا كربلاء كوني برداً وسلاماً على الحسينg:
جاء في "الفتوح" لابن الأعثم: "ثمّ أقبل الحسينg على عبد الله بن عبّاس؛ فقال: يا ابْنَ عَبّاس! إِنَّكَ ابْنُ عَمِّ والِدي، وَلَمْ تَزَلْ تَأْمُرُ بِالْخَيرِ مُنْذُ عَرَفْتُكَ، وَكُنْتَ مَعَ والِدي تُشيرُ عَلَيْهِ بِما فيهِ الرَّشادُ، وَقَدْ كانَ يَسْتَنْصِحُكَ وَيَسْتَشيرُكَ فَتُشيرُ عَلَيْهِ بِالصَّوابِ، فَامْضِ إِلَى الْمَدينَةِ في حِفْظِ اللهِ وَكَلائِهِ، وَلا يَخْفى عَلَيَّ شَيءٌ مِنْ أَخْبارِكَ، فَإِنّي مُسْتَوْطِنٌ هذَا الْحَرَمَ، ومُقيمٌ فيهِ أَبَداً ما رَأَيْتُ أَهْلَهُ يُحِبّوُني، وَيَنْصُرُوني، فَإِذا هُمْ خَذَلوُني اسْتَبْدَلْتُ بِهِمْ غَيْرَهُمْ، وَاسْتَعْصَمْتُ بِالْكَلِمَةِ الّتي قالَها إبْراهيمُ الْخَليلُg يَوْمَ أُلْقيَ فِي النّارِ: (حَسْبي اللهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ) فَكانَتِ النّارُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاماً"([22]).
وفي ذلك تلميح لمعنى يبين المقصود منه الحديث الوارد عن الباقرg: >قال الحسين بن عليّe لأصحابه قبل أن يقتل: إنَّ رَسُولَ اللهِ قالَ لي: يا بنيّ! إنّك ستساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرض تدعى عمورا، وإنّك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: {قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً<([23]).
وهكذا انعكست مسيرة إبراهيمg وملته على كلّ تفاصيل حركة الحسينg، حتى فاق جدَّه بمراتب في المحنة والامتحان الرباني، فـ{إنا لله وإنا إليه راجعون}، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون}.
والحمد لله رب العالمين.
([1]) راجع ص29 لبحث د. هبة جمال.
([2]) راجع ص45 من المصدر السابق.
([3]) راجع ص67 من المصدر السابق.
([4]) راجع ص من المصدر السابق26.
([5]) راجع ص28 من المصدر نفسه.
([6]) مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، ج1، ص588.
([7]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن مصطفوي، ج2، ص342.
([8]) لسان العرب، ابن منظور، ج11، ص631.
([9]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج3، ص279.
([10]) بحار الأنوار، ج73، ص68.
([11]) الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص370.
([12]) بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، ص30.
([13]) الكافي، ج1، ص129.
([14]) الميزان، العلامة الطباطبائي، ج7، ص155.
([15]) الميزان، ج7، ص219.
([16]) بحار الأنوار، ج43، ص271.
([17]) اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي، ج1، ص332.
([18]) الحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج1، ص147.
([19]) بحار الأنوار، ج24 ص237
([20]) الخصال، الشيخ الصدوق، ج1، ص58.
([21]) العوالم، الشيخ عبد الله البحراني، ص106.
([22]) الفتوح، ابن أعثم الكوفي، ج5، ص26.
([23]) بحار الأنوار، ج53، ص61.

0 التعليق
ارسال التعليق