وقفات مع القضيَّة المهدويَّة..

وقفات مع القضيَّة المهدويَّة..

* سماحة السَّيد العزيز.. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. نشكركم على استجابة هذه الدَّعوى في إجراء هذا الحوار معكم..

وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم، وأرجو أن أكون عند حسن ظنِّكم.

* نبدأ معكم سماحة السَّيد بهذا السُّؤال حول القضية المهدويَّة: هل كانت هذه القضية واضحة عند المسلمين في عصر النَّبيe، باعتبار أنَّهe قد تحدَّث عنها في عدَّة روايات، وأنَّها من الأمور الغيبية الحتمية؟

باسمه تعالى أبدأ، وبمدد وليّهl أستعين..

الجواب: بما أنَّ السُّؤال يتكوَّن من شقيّن، لذا ستكون الإجابة موزَّعة عليهما:

أ – أمَّا بالنِّسبة للشقّ الأوَّل –وهو وضوح القضية المهدويَّة– فمحصَّل الجواب: إنَّ القضية المهدويَّة في عصر النَّبي المصطفىe كانت من القضايا الواضحة جداً، وهذا يُستكشف من عدَّة منبِّهات:

1 – المنبّه الأوَّل: كثرة الأحاديث الواردة عنهe، حتى عُدَّت عندنا وعند غيرنا من الأحاديث المتواترة، وقد صرَّحَ بذلك غير واحد، منهم: الشيخ محمد الزرنجي في كتابه: (الإشاعة لأشراط السَّاعة) حيث قال: "قد علمت أنَّ أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزَّمان، وأنَّه من عترة رسول الله صلى الله عليه[وآله] وسلم من ولد فاطمة، بلغت حدَّ التواتر المعنوي، فلا معنى لإنكارها"([2]).

     ومنهم: الشيخ محمد السفاريني في كتابه (لوامع الأنوار البهية) حيث قال: "وقد كثرت بخروجه الرِّوايات حتى بلغت حدَّ التَّواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السُّنة حتى عُدّ من معتقداتهم"([3]).

2 – المنبّه الثَّاني: اهتمام الكثير من الصَّحابة والتَّابعين بالقضية المهدويَّة، وقد تحدَّث عن ذلك الشيخ السفاريني المذكور آنفاً، فقال: "وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَعَنِ التَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، مَا يُفِيدُ مَجْمُوعُهُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ، فَالْإِيمَانُ بِخُرُوجِ الْمَهْدِيِّ وَاجِبٌ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمُدَوَّنٌ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الشِّيعَةِ أَيْضًا"([4]).

كما أنَّ أحد الباحثين حول القضية المهدويَّة من علماء الجمهور قد أحصى عدد الصحابة الذين حدّثوا بأحاديث الإمام المهديx فأنهاهم إلى ستة وعشرين صحابياً([5])، على أنَّه لم يستوفهم، فإنَّه لم يذكر في الأسماء الإمام الحسنg، وسلمان المحمدي، وأبا أيوب الأنصاري، وأبا سلمى راعي إبل النَّبيe، وأبا أمامة الباهلي، وأبا جابر الصدفي، وتميم الداري، وغيرهم، ولعلَّ عذره أنَّه قد اعتمد على بعض المصادر، وأهملَ غيرها أو لم يطلِّع عليها.

والمُحقَّق عندنا -مع تعميم الفحص لمصادر المسلمين كافّة- أنَّ عدد الصحابة الذين حدّثوا بأحاديث الإمام المهديl يقارب السِّتين صحابيّاً، وهو عدد كبير جداً، ويعكس مستوى تداول القضية المهدويَّة في العصر النبوي.

 

3 – المنبِّهُ الثَّالث: طبيعة أسئلة الرُّواة للنَّبيe حول القضية المهدويَّة، فإنَّها كاشفة عن وضوح أصل القضية عندهم، ولذا كانت أسئلتهم تدور حول خصوصياتها وجزئياتها، ويشهد لذلك سؤال جابر بن عبد الله الأنصاري› للنَّبيe: "يا رسول الله، وللقائم من ولدك غيبة؟"([6])، وسؤاله الآخر: "فهل يقع لشيعتهِ الانتفاع به في غيبته؟"([7])، وسؤال سلمان المحمدي›: "من أيِّ ولدك هو؟"([8])، وسؤال أبي هريرة: "وكم يملك؟"([9])، فإنَّ هذه الأسئلة وأمثالها شاهدة بأنَّ أصل القضية كان واضحاً على مستوى الرُّواة والصَّحابة، وهذا ما أوجب أن تتمركز أسئلتهم حول التَّفاصيل.

ب – وأمَّا بالنِّسبة للشقّ الثَّاني -وهو حتمية القضيّة- فمحصَّل الجواب: إنَّ من المفترض أن تكون مسألة الحتمية هي الأخرى من الواضحات على المستوى العام لدى الجيل الأوَّل من أجيال الإسلام، وسرُّ ذلك هو تعدُّد الأساليب البيانية التي استخدمها النَّبيe في سبيل إيصال الفكرة، ولا بأس بعرض بعض النماذج منها:

1. النُّموذج الأوَّل: قولهe: >لو لم يبقَ من الدُّنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم، حتى يلي رجلٌ من أهل بيتي، يواطي اسمه اسمي<([10]).

2. النُّموذج الثَّاني: قولهe: >لو لم تبقَ من الدُّنيا إلا ليلة لطوَّل الله تلك الليلة، حتى يملك رجل من أهل بيتي<([11]).

3. النُّموذج الثَّالث: قولهe: >لا تقوم السَّاعة حتى تُملأ الأرض ظلماً وعدواناً، ثمَّ يخرج رجل من عترتي -أو من أهل بيتي- رجل يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً<([12]).

4. النُّموذج الرَّابع: قولهe: >لن تذهب الدُّنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي<([13]).

5. النُّموذج الخامس: قولهe: >لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتى يملك العرب رجلٌ من أهل بيتي، يواطي اسمه اسمي)([14]).

6. النُّموذج السَّادس: قولهe: >من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أُنزل على محمد<([15]).

وكلُّ هذه الأساليب صريحةٌ جداً في حتميَّة القضيَّة، ونظراً لتعدُّدها وتنوُّعها فقد ارتكز في أذهان الصَّحابة أنَّ القضيَّة المهدويَّة من القضايا الحتميَّة، كما أفصحت عن ذلك كلماتهم، ومنها: ما ورد عن سلمان المحمدي› أنَّه قال: "لا بدَّ من قائم من ولد فاطمة يقوم من المغرب، فيكسـر شوكة المبتدعين، ويقتل الظالمين"([16]).

وما وردَ عن ابن عباس: قال "إنَّي لأرجو أن لا تذهب الأيام والليالي حتى يبعث الله منَّا غلاماً شابّاً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لم يلبس الفتنَ ولم تلبسه الفتنُ، وإنَّي لأرجو أن يختم الله بنا هذا الأمر كما فتحه بنا"([17]).

وما وردَ عن عبد الله بن عمر، قال: "يخرج من ولد الحسينg من قِبل المشرق، ولو استقبلته الجبال لهدَّمها، واتخذّ فيها طرقاً"([18]). 

* كيف تعامل الخلفاءُ الأمويُّون والعباسيون مع هذه القضيَّة، باعتبار أنَّها كانت تمثِّل تهديداً لسلطانهم؟

الجواب: الذي يظهر للمتتبِّع -من خلال سبر الرِّوايات والأحداث التَّاريخية- أنَّ الحكّام والسَّلاطين قد تعاملوا مع القضية المهدويَّة بثلاثة أساليب:

 

     أ – الأسلوب الأوَّل: التَّحريف، وذلك من خلال تجريد الإمام المهديّl عن خصوصياته الشخصية، وزعم أنَّه والنَّبي عيسى بن مريمh شخصية واحدة، وتشهد لذلك محاورة عبد الله بن عباس لمعاوية بن أبي سفيان، إذ قال معاوية لابن عباس: "وقد زعتمم أنَّ لكم ملكاً هاشمياً ومهديَّاً قائماً، والمهديّ عيسى بن مريم، وهذا الأمر في أيدينا حتى نسلمه إليه، ولعمري لئن ملكتم ما ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للنَّاس منكم".

     فأجابه ابن عباس بقوله: "اسمع يا معاوية، أمَّا قولك إنّا زعمنا أنَّ لنا ملكاً مهديّاً فالزَّعم في كتاب الله شكٌ، والكلُّ يشهد أنَّ لنا ملكاً لو لم يبقَ من الدُّنيا إلا يوم واحد ملَّكه الله فيه، وأنَّ لنا مهديّاً لو لم يبق إلا يوم واحد بعثه لأمره، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.. وأمَّا قولك أنَّ المهديّ عيسى بن مريم، فإنَّما ينزل عيسى على الدَّجال، فإذا رآه ذاب كما تذوب الشَّحمة"([19]).

والملفت في ظلِّ هذه المرحلة: أنَّه قد تمَّ اختلاق بعض الأحاديث ونسبتها إلى النَّبيe لتثبيت هذه الفكرة، وتذويب القضية المهدويَّة، ومن تلك الأحاديث: الحديث المنقول عن أنس عن النَّبيe أنّه قال: "لا يزداد الأمر إلا شدَّة، ولا الدنيا إلا إدباراً، ولا النَّاس إلا شحّاً، ولا تقوم السَّاعة إلا على شرار النَّاس، ولا مهديّ إلا عيسى بن مريم"([20])، وجديرٌ بالذِّكر أنَّ أحد رواة هذا الحديث هو محمَّد بن خالد الجنديّ، وهو من الوضَّاعين المعروفين([21]).

 

ب – الأسلوب الثَّاني: التَّوظيف، وأعني به التَّوظيف السِّياسي واستغلال القضية المهدويَّة من أجل تحقيق مآرب سياسية ومصالح نفعيّة، وهذا ما تحقّق في فترات زمنية متعدّدة، ومن أبرزها ما حصل في ظلّ خلافة المنصور الدوانيقيّ، حيث عمد إلى تلقيب ولده محمد بـ (المهديّ)، في قبال ما ذاع حينها من إطلاق هذا اللقب على محمَّد بن عبد الله بن الحسن المعروف بـ (النفس الزكيّة)، الأمر الذي أوجب إقبالاً كبيراً على بيعته، وهذا ما أوجب إرباكاً للسُّلطة آنذاك، فحاولت أن تقلب الطَّاولة عليه باستخدام نفس الأسلوب، فحين بلغَ المنصور ما نُقل عن محمَّد النَّفس الزكية من قوله لأصحابه: "إنَّكم لا تشكّون أنّي أنا المهديّ، وأنا هو" عقَّبَ على ذلك بقوله: "كذب عدو الله ؛ بل هو ابني"، ولم يكتفِ بذلك حتى أصدرَ قائلاً: "هذا محمَّد ابني، وهو المهديّ، وهو ولي عهديّ"([22])، وليس ذلك فحسب، بل اختلقوا مجموعة من الأحاديث التي تصبُّ في هذا السِّياق، ومنها الحديث الذي نسبوه للرسول الأعظمe وهو: "منّا السفَّاح، ومنَّا المنصور، ومنَّا المهدي"([23]).

والهدف من كلِّ ذلك هو توطيد الحكم، وإسباغُ الشَّرعيَّة على السُّلطة، من خلال بعث الأمل في نفوس النَّاس، وإيهامهم بأنَّ الدَّولة العباسية هي الدولة المثلى التي ينشدونها ويحلمون بها، والتي وعد النَّبيe بتحقُّقها في آخر الزَّمان على يد (المهديّl).

وهكذا كانت القضية تتكرَّر عبر التَّاريخ كلَّما اقتربت إحدى الدُّول الحاكمة من السُّقوط، فإنَّها كانت تتشبَّث بكلِّ ما يساعد على بقائها واستمرارها، ومن أهمّ القضايا المساعدة على تحقيق هذا الغرض هي القضيّة المهدويَّة، ولذا تكرَّر ادعاؤها عبر التَّاريخ.

 

ج – الأسلوب الثَّالث: المواجهة، وهذا ما حدث قبيل وبعد ولادة الإمام المهديّl، فقد استنفرت السُّلطات كافَّة أجهزتها، واستنفدت منتهى جهدها وطاقتها في سبيل العثور على الإمام الغائب، والقضاء عليه منذ بداية أمره.

ويشهد لذلك ما أورده الشَّيخ الكلينيS في توصيف أحداث شهادة الإمام العسكريg، نقلاً عن الحسين بن محمَّد الأشعري ومحمَّد بن يحيى وغيرهما، نقلاً عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان قال: "حتى توفيg فصارت سر من رأى ضجَّة واحدة، وبعث السُّلطان إلى داره من فتَّشها وفتَّش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أنَّ هناك جارية بها حمل، فجعلت في حجرة، ووكِّلَ بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم"([24]).

وتحدَّث الشَّيخ المفيدS عن نفس الأحداث، فقال: "وخلَّفَ ابنه المنتظرl لدولة الحقِّ، وكان قد أخفى مولده وسترَ أمره لصعوبة الوقت، وشدَّة طلب السُّلطان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولِما شاع من مذهب الشَّيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يُظهر ولدَهg في حياته، ولا عرَّفه الجمهورَ بعد وفاته، وتولَّى جعفر بن علي أخو أبي محمدg أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمدg واعتقال حلائله، وشنَّع على أصحابه بانتظار ولده وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشرَّدهم، وجرى على مخلفي أبي محمدg بسبب ذلك كلِّ عظيمة من اعتقالٍ وحبسٍ وتهديدٍ وتصغيرٍ واستخفافٍ وذل"([25]).

وقد استمرَّت محاولات القضاء على الإمامg سنين متمادية، فرغم أنَّ شهادة الإمام العسكريg -التي أعقبتها الأحداث المذكورة- كانت سنة260 هـ في ظلِّ حكومة المعتمد العباسي، إلا أنَّ بعض النُّصوص تشير إلى أنَّ دارهg قد تعرَّضت إلى الهجوم بهدف قطع رؤوس جميع من يتواجدون فيها، وكان ذلك بأمرٍ من المعتضد العباسي([26])، رغم أنَّ المعتضد لم يتسلَّم زمام الحكم إلا سنة279 هـ، أي: بعد تسع عشرة سنة من تلك الحادثة، وهو في هذه المرَّة وإن كان قد اكتفى بإرسال ثلاثة من الجنود لأجل تنفيذ تلك المهمَّة، إلا إنَّه في مرَّة أخرى قد أرسلَ جيشاً لأجل إلقاء القبض على الإمامg واغتياله، إصراراً منه على اغتيال الإمام المهديg والقضاء عليه.

  وهكذا تتالت المحاولات واحدة بعد أخرى، حتى انتهت في العصر الحاضر إلى تأسيس مراكز بحثية ومعلوماتيّة كبرى لا هدف لها إلا رصد حركة الإمامg، والسَّعي إلى تطويقها والقضاء عليها في مهدها.

* هل ثبت ادِّعاء أحدٌ للمهدوية زمن الأئمةi وقبل ولادة الإمام الحجَّةx؟ وكيف تعامل الأئمةi مع مثل هذه الدَّعاوى؟

الجواب: نعم، لقد ادَّعى المهدويَّة كثيرون، كما ادُّعيت أيضاً لكثيرين، في زمن الأئمة المعصومينi، وممَّن ادُّعيت له: سيدنا محمَّد بن الحنفية›، ومحمَّد بن عبد الله بن الحسن الملقب بـ (النفس الزكيّة)، والإمام محمَّد الباقرg، وولده الإمام الصادقg، وأولاده الثَّلاثة: الإمام الكاظمg، وعبد الله وإسماعيل، والسِّيد محمَّد بن الإمام علي الهاديh، وغيرهم.

 

 وقد تعامل الأئمةi مع دعاوى المهدويَّة ومدَّعيها بأسلوبين مهمَّين:

 

 أ - الأسلوب الأوَّل: تثقيف النَّاس بشؤون القضيَّة المهدويَّة، كتنبيههم على عدم انطباق العلامات على مدَّعيها أو مَن ادُّعيت له، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الباقرg أنَّه قال: >يزعمون أنَّي أنا المهدي، وإنِّي إلى الأجل أدنى منّي إلى ما يدّعون<([27])، وكأنَّهg  يريد بذلك بيان أنَّ المهدي المقصود في الأحاديث الشريفة موعودٌ بالقيام بدورٍ عالمي كبير -يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما تُملأ ظلماً وجوراً-وهذا ما لا يتحقَّق للإمام الباقرg، فلا تصحُّ دعوى المهدويَّة في حقِّه.

   وهذا دور تثقيفيّ هامٌ للأئمةi، وقد أسهمَ في زيادة وعي النَّاس بالقضيَّة المهدويَّة.

ب – الأسلوب الثَّاني: فضح المدَّعين وإظهار البراءة منهم، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الكاظمg في حقِّ مَن ادَّعى له المهدويَّة، إنَّه قال: >لَعَنَ اَللَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ بَشِيرٍ، وَأذَاقَهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ، إِنَّهُ يَكْذِبُ عَلَيَّ، بَرِئَ اَللَّهُ مِنْهُ وَبَرِئْتُ إِلَى اَللَّهِ مِنْهُ، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَدَّعِي فِيَّ اِبْنُ بَشِيرٍ، اَللَّهُمَّ أَرِحْنِي مِنْهُ<([28])، ولا تعجُّب من شدّة لهجتهg في مواجهة هذا المنحرف؛ فإنَّ ادّعاء المهدويَّة ادّعاء لمنصب إلهيٍّ جليل وخطير، ولا مجال للتَّهاون مع مدَّعيه.

* كيف استطاع الأئمةi إقناع شيعتهم بإمامة الإمام الحجَّةl مع لحاظ صغره، وغيبته، مع أنَّ الغالبية العظمى لم يروه ولم يشاهدوه، وقد يكون الغالب لم يعلم بولادته أصلاً؟

الجواب: استطاع المعصومونi أن يقنعوا شيعتهم بإمامة الإمام المهديg رغم صغر سنِّه الشَّريف وغيبته المباركة، من خلال ثلاثة أدوار مارسوها:

 

أ – الدُّور الأوَّل: الدُّور التَّأسيسي، وقد اعتمد هذا الدُّور بشكل رئيسي على تأصيل عقيدة أنَّ الأئمة اثنا عشر إماماً، أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبg، وأخرهم المهدي بن الحسن العسكريh، وقد ضخَّ المعصومونi هذه العقيدة في أذهان شيعتهم وعبَّؤوها بها، وبذلك هيَّؤوا الأرضية العقائدية لديهم لتقبُّل إمامة الإمام المهديg بعد أبيه الإمام العسكريg بشكل مباشر.

وتأتي في نفس هذا السِّياق النُّصوص التي عبَّرت بـ >التَّاسع من ولدكَ يا حسين<([29]) على لسان أمير المؤمنينg، و>التَّاسع من ولد الحسين<([30]) على لسان الصِّديقة الزَّهراءj، و>التَّاسع من ولد أخي<([31]) على لسان الإمام الحسنg، و>التَّاسع من ولدي<([32]) على لسان الإمام الحسينg، و>السَّابع من ولدي<([33]) على لسان الإمام الباقرg، و>الخامس من ولدي<([34]) على لسان الإمام الكاظمg، و>الرَّابع من ولدي<([35]) على لسان الإمام الرضاg، أو >الثَّالث من ولدي<([36]) على لسان الإمام الجوادg، فإنَّ هذه النُّصوص المكثّفة -التي حدّدت الشَّخصية المهدويَّة وحصرتها بالدِّقة- قد أرست قواعد إمامة الإمام المهديl وشيَّدت دعائمها.

ب – الدَّور الثَّاني: الدَّور التَّقريبي، وهذا الدَّور اعتمد على ثقافة إبراز النَّظائر، وهي من الأنماط الثَّقافية التي تساهم كثيراً في الإقناع بأيِّ قضية من القضايا عن طريق إبراز نظائرها  للأشخاص المخاطَبين بها، وهو ما بدا واضحاً في سيرة الأئمة الطَّاهرينi الذين كانوا قريبي عهد من عصر إمامة الإمام المهديg.

فمن ناحيةٍ كان الشِّيعةُ الإمامية قد ألفوا ظاهرة (الإمامة المبكِّرة) من خلال تصدِّي الإمامين الهمامين الجواد والهاديh للإمامة في مرحلةٍ مبكِّرة من عمرهما الشَّريف، حيث تصديّا لها وهما في العقد الأوَّل من حياتهما المباركة.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ الإمامين الهاديين العسكريينh قد احتجبَ كلٌّ منهما عن الشِّيعة مدّة من الزَّمان، واعتمدا في طريقة التَّواصل معهم على شبكة الوكلاء الواسعة، ممَّا ساهم في تهيُّؤ الشِّيعة نفسياً وفكرياً لتقبُّل غيبة الإمام المهديg والاقتناع التَّام بها.

وقد تحدَّث عن ذلك المؤرّخ المسعودي فقال: "روي إنَّ أبا الحسن صاحب العسكرg احتجب عن كثير من الشِّيعة إلا عن عدد يسير من خواصِّه، فلمَّا أفضى الأمر إلى أبي محمدg كان يكلِّم شيعته الخواص وغيرهم من وراء السِّتر، إلا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان، وإنَّ ذلك إنَّما كان منه ومن أبيه قبله مقدّمة لغيبة صاحب الزَّمانg لتألف الشِّيعة ذلك، ولا تنكر الغيبة، وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار"([37]).

ج – الدَّور الثَّالث: الدَّور التَّطبيقي، وقد اضلَّع به الإمام العسكريg بالخصوص، لكونه هو الإمام المعاصر للإمام المهديg، فقام بتطبيق الفكرة -التي تمَّ تأسيسها وتقريبها من خلال الدَّورين المتقدّمين- على ولده الإمام المهديl، وبما أنَّ الظُّروف المحيطة بالإمام العسكريg كانت ظروفاً حرجة جداً، حيث كانت السُّلطة تحسب عليه أنفاسه، وترصد جميع تحركاته، ترقُّباً لولادة المهدي الموعود، ومحاولة لإطفاء نوره المبارك، فقد كان إفصاح الإمام العسكريg عن ولده مسألة بالغة الحساسية، وبحاجة إلى حسابات دقيقة للغاية، ومن هنا فقد اعتمد الإمام العسكريg أسلوب التَّطبيق التَّدريجي.

ففي البداية أطلعَ خواص أصحابه على ولادة ولدهh، نظير أحمد بن إسحاق القمي، كما روى ذلك الشيخ الصدوقS بسنده عن أحمد بن إسحاق، قال: سمعتُ أبا محمد الحسن بن علي العسكريh يقول: >الحمد لله الذي لم يخرجني من الدُّنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه النَّاس برسول اللهe خلقاً وخُلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته، ثمَّ يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً<([38]).

ثمَّ أتاحg بعد ذلك لخواص أصحابه أن يكحِّلوا أعينهم بالنَّظر إلى الغرّة الحميدة لولده المهديl، فقد روى الشيخ الطوسي(أعلى الله درجته) عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري البزاز، عن جماعةٍ من الشِّيعة، منهم: علي بن بلال وأحمد بن هلال ومحمد بن معاوية بن حكيم والحسن بن أيوب بن نوح، قالوا جميعاً: اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن عليg نسأله عن الحجَّة من بعده، وفي مجلسهg أربعون رجلاً، فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري، فقال له: يا بن رسول الله، أريد أن اسألك عن أمر أنت أعلم به منِّي، فقال له: >اجلس يا عثمان<، فقام مغضباً ليخرج، فقال: >لا يخرجنَّ أحد<، فلم يخرج أحد إلى أن كان بعد ساعة، فصاحg بعثمان، فقام على قدميه. فقال: >أخبركم بما جئتم؟< قالوا: نعم يا بن رسول الله، قال: >جئتم تسألونني عن الحجَّة من بعدي<، قالوا: نعم، فإذا غلام كأنَّه قطع قمر، أشبه النَّاس بأبي محمدg، فقال: >هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنَّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتمَّ له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم والأمر إليه<([39]).

* مع اعتقاد جميع المسلمين بأصل قضية الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، إلا أنَّنا نرى أنَّ الاهتمام بهذه القضية يكاد يكون منحصراً بالشِّيعة، ما هو السِّر وراء ذلك؟ وهل الاعتقاد بكونه مولوداً له دخل في هذا الاهتمام؟

الجواب: يكمن السِّر في ذلك وراء عدّة من الأسباب، وسوف نكتفي بالإشارة إلى أهمّها:

1. السَّبب الأوَّل: موقعية العقيدة المهدويَّة في المنظومة العقائدية، فإنَّها في مدرسة الشِّيعة الإمامية قد صُنِّفت فيما يرتبط بأصل القضية من ضروريات الدِّين، وفيما يرتبط بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ووجوده من ضروريات المذهب، فهي بكلا شقّيها مصنَّفة ضمن العقائد المحوريّة، وهذا بطبيعة الحال يفرض العناية الفائقة بها.

بينما هي في المنظومة العقائدية لمدرسة الجمهور لا تحتل موقعيّة موحدّة، ففي الوقت الذي صرَّح فيه بعضهم بكفر مَن أنكرَ المهدويَّة –كما حكى ذلك عنهم المتقي الهندي في كتابه (البرهان)([40])- بالغَ بعضهم الآخر بتهميشها، ومنهم: ابن خلدون، حيث قال بعد ذكره لبعض الأحاديث الواردة في المهدي: "فهذه جملة الأحاديث الّتي خرَّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزّمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه"([41]).

ومنهم: محمد رشيد رضا، فقد قال معلِّقاً على أحاديث المهدي: "وأمَّا التَّعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الرِّوايات فيه أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشُّبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشَّيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما"([42]).

وقال أبو الأعلى المودوي: "وممّا يناسب ذكره بهذا الصَّدد إنَّه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي، ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السُّنة للعقائد"([43]).

وأمَّا مفتي قطر السَّابق ورئيس محاكمها الشَّرعية الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود فقد كتب رسالة وعنونها بـعنوان (لا مهديّ يُنتظر بعد الرَّسول محمَّد خير البشر)، وقال في مقدِّمتها: "مسألة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السُّنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصَّحابة في القرن الأوَّل، ولا بين التَّابعين، وأنَّ أصل من تبنَّى هذه الفكرة والعقيدة هم الشِّيعة.. فسَرَت هذه الفكرة بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السُّنة، فدخلت في معتقدهم، وهي ليست من أصل عقيدتهم"([44]).

وقال أيضاً بعد إبداء بعض الملاحظات الهشَّة على أحاديث المهدي: "فهذه وما هو أكثر منها، ممّا جعلت المحقّقين من العلماء يوقنون بأنَّها موضوعة على لسان رسول اللهe، وأنَّها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها، فضلاً عن تصديقها"([45]).

ولم يكتفِ بذلك، بل عقدَ فصلاً كاملاً في رسالته تحت عنوان (محاربة أكثر علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي)، وقال في بدايته: "وقد قرَّروا -أي: العلماء- قائلين: إنَّ أساس دعوى المهـدي مبني على أحاديث محقَّق ضعفها، وكونها لا صحَّة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحَّة أحاديثه عندهما، مع العلم أنّها على فرض صحتها لا تعلّق لها بعقيدة الدين.. فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها، وقد ثبت بطريق الواقع المحسوس أنَّ فكرة المهدي أصبحت فتنة لكلِّ مفتون، تنتقل من جيل إلى جيل، ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، وتراق من أجلها الدِّماء الزَّكية البريئة..

   والحاصل: أنَّه يجب طرح فكرة المهدي، وعدم اعتقاد صحتها، وعندنا كتاب الله نستغني به عنه، وعن كلِّ بدعة واتباع كلِّ مبتدع مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله باللواذ به عند الفتن، كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة، سواء كانت متواترة أو من رواية الآحاد غير المتعارضة ولا المختلقة.

   ولعلَّ العلماء الكرام، والأكابر من الطُّلاب، يقومون بجدٍّ ونشاط إلى بيان إبطال فكرة المهدي وفساد اعتقاده، وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم، وعلى أئمة المسلمين وعامّتهم، وما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول، وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم"([46]).

2. السَّبب الثَّاني: هشاشة الصُّورة المرسومة للإمام المهدي (عليه السلام) في مدرسة الجمهور، ففي الوقت الذي ترسم مدرسة الشِّيعة الإمامية -على ضوء أحاديث النَّبي والعترة الطاهرة (عليهم السلام)- صورةً فريدة للإمام المهدي (عليه السلام)، تفرض أن تهفو له النُّفوس وتتعلَّق به الآمال، تجد أنَّ صورته التي رسمها بعض أعلام مدرسة الجمهور صورة عادية جداً، لا تثير المطلِّع عليها ولا تشدّه نحو صاحبها، وإن أردت أن تتعرّف على صدق هذه الدعوى فقارن بين الكلامين التاليين:

أ – يقول الفقيه الجليل العلامة المحدِّث الشيخ النوري(طابت روحه) متحدِّثاً عن الإمام المهدي (عليه السلام): "خلف السَّلف، وصاحب غالية عزة الشَّرف، قطب الأرض، وغوث الزَّمان، كنز الرَّجاء، وكهف الأمان، والجوهرة المضيئة في بحر الإمكان، الحجاب الأزلي للحقِّ السُّبحان، والاسم الأعظم الإلهي المخفي والمستور، وعنقاء القاف المحيط بالعالم، وحاكم المحتاجين، والطَّالب بدم المصطفين، ومطهّر أطراف الأرض من لوث الملحدين، وملك ملوك ممالك الأرض والسَّماء، وحجَّة اللهِ البالغة على العالم والعالمين، بقية الله الحجَّة بن الحسن العسكري صاحب العصر والزمان، عليه وعلى آبائه صلوات الله الملك المنَّان"([47]).

ب – بينما يقول الشَّيخ عبد الله آل محمود: "حتى لو صدقنا الأحاديث الواردة في المهدي، فهو ليس بملك معصوم، ولا نبي مرسل، ما هو إلا رجل عادي، كأحد أفراد النَّاس إلا أنَّه عادل، وكلُّ الأحاديث الواردة فيه ضعيفة ويترجَّح أنَّها موضوعة على لسان رسول الله ولم يحدِّث بها"([48]).

وقد وافقه على كلامه الشَّيخ حمود بن عبد الله التويجري، حيث قال: "وأمَّا قوله: "ما هو إلا رجل عادي كأحد أفراد الناس، إلا أنَّه عادلٌ يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا"، فجوابه: أن يقال هذا هو الحقُّ لو أنَّ ابن محمود ثبت عليه"([49]).

وبالمقارنة بين هذين الكلامين ينكشف لك أحدُ أسرار اهتمام الشِّيعة بالقضيَّة المهدويَّة، وتهميش غيرهم لها.

وهذا الذي حدسنا به قد أفصحَ عنه أحد الكُتّاب الجزائريين وصرَّح به، فقال: "ففي حين ترى جماهير الأمَّة أنَّ قضية (المهديّ) من هوامش العقيدة التي لا يكفّر مسلم بسببها، تتعلَّق برجل صالح أخبر المصطفى–صلّى الله عليه وآله وسلّم- بوجوده في آخر الزّمان، اسمه كاسم النَّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واسم أبيه كاسم أبي النَّبي عليه الصّلاة والسّلام.. من نسل الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.. يُولد كما يولد كلّ الرِّجال، ويعيش كما يعيش كلُّ النّاس، ويراه أهله وأقرباؤه وكلّ من حوله، هو لا يعلم أنّه سيكون المهديّ، والنّاس من حوله كذلك، حتى تقع فتنة في المدينة المنوَّرة على إثر مقتل أمير من الأمراء، فيخرج المهديّ من المدينة إلى مكّة مع من يخرج، فيأتيه النَّاس ويختارونه للبيعة وهو كاره، ويبايعونه بين الرُّكن والمقام أميراً لهم، وعندما تتمُّ له البيعة يأتيه جيش من الشَّام لحربه، فيخسف الله بذلك الجيش في الصّحراء بين مكّة والمدينة.. عندها فقط يعلم ويعلم النّاس من حوله أنّه المهديّ، فيتوالى المسلمون على بيعته، ويبدأ فتوحاته لاستعادة مجد الأمَّة السَّليب.

هذا ما يعتقده جمهور المسلمين في حقّ (المهديّ)، الذي لم تكلّف الأمَّة ولم تُتعبّد بانتظاره، إنّما بالعمل الجادّ الدّؤوب لدين الله، حتى يتوّج سعيها بقائد فذٍّ من نسل نبيّها الخاتم -عليه الصّلاة والسّلام- يعيد الله على يديه للأمّة مجدها وعزّها، لكنّ طائفة واحدة من هذه الأمّة هي الطَّائفة الشِّيعية الإمامية الاثنا عشرية، شذّت في اعتقادها بالمهديّ (المنتظر) عن سائر طوائف المسلمين وعن بقية طوائف الشِّيعة نفسها، وجعلت الإيمان به أصلاً من أصول العقائد التي يقع عليها الولاء والبراء والخصام والفصام"([50]).

وقال د. علي محمد حسن الأزهري في مقالٍ له تحت عنوان (المهدي بين الشِّيعة وأهل السُّنة): "إنَّ المهدي عند أهل السُّنة يختلف عن معتقد الشِّيعة فيه؛ فأهل السُّنّة يصدِّقون خبر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فيه، وأنَّه من آل بيته، ويؤمنون بما صحَّ من صفاته عن نبيهم صلى الله عليه [وآله] وسلم ولا يزيدون على ذلك، فلا أثر لهذا الأمر على العقيدة أو العمل أو الإيمان وعدمه كما هو الحال عند الشِّيعة الذين غالوا في الأمر حتى أصبح من أصول الإيمان عندهم"([51]).

 

3. السَّبب الثَّالث: اهتمام الشِّيعة بالعقيدة المهدويَّة، فإنَّ هذا الاهتمام الظَّاهر في العديد من أقوالهم وأفعالهم وشعائرهم العامَّة، ألقى بظلالهِ على موقف الآخرين منها بشكلٍ معاكس، وهذا ما أفصح عنه أحد الكُتَّاب من أتباع مدرسة الجمهور، حيث قال: "ولكنّ بعض شيوخنا حشروه -أي: الاعتقاد بالمهديّ- ضمن عقيدة المسلم، وكان ينبغي استبعاده؛ لأنَّ الشِّيعة يعتبرونه من العقيدة، لأنَّه إمام والإمام منها، بينما أهل السنّة ألحقوا موضوع الإمامة لمجرّد الردِّ على الشِّيعة، وحيث استُبِعد الأصل كان ينبغي استبعاد ما تبعه، ومن ألحقه لأنَّه من أشراط الساعة كان عليه أن يتذكّر أنّ أحاديثها من أخبار الآحاد التي لا تثبت بها عقيدة"([52]).

وربما يبدو هذا السَّبب تافهاً لأوَّل وهلة، ولكنَّه سبب واقعي بالغ التَّأثير، وله العديد من الشَّواهد في كلمات القوم، ولا بأس بتوثيق بعضها: 

1 – الشَّاهد الأوَّل: قال نجم الدِّين الغزّي: "وعن أبي حنيفة، ومالك، وأحمد رضي الله تعالى عنهم: أنَّ التسنيم أفضل، وعلَّلوه بأنَّ التَّسطيح صار شعاراً للشِّيعة"([53]).

2 – الشَّاهد الثَّاني: وقال الزَّمخشري في تفسيره: "وأمَّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه، لأنَّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله "صلى الله عليه [وآله] وسلم"، ولأنَّه يؤدي إلى الاتهام بالرَّفض"([54]).

3 – الشَّاهد الثَّالث: وقال الحافظ العراقي متحدثاً عن كيفية تعمّم النَّبي (صلى الله عليه وآله): "فلعلَّه [أي: النَّبي "صلى الله عليه وآله"] كان يرخيها من الجانب الأيمن، ثمَّ يردها إلى الجانب الأيسر، كما يفعل بعضهم، إلا أنَّه صار شعار الإمامية، فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم"([55]).

4 – الشَّاهد الرَّابع: وقال ابن الرفعة  في شرحه على كتاب (التنبيه) في الفقه الشَّافعي: "وقوله:  "وإنما يخالفهم في هيئات مثل التختّم في اليمين وأمثاله" أشار به إلى أنَّ التختم في اليمين قد صار شعاراً لهم [أي: الشيعة]؛ فترك لأجل ذلك، ويتختّم في اليسار، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يتختم في اليمين، إذ هو هيئة"([56]).

5 – الشَّاهد الخامس: وقال البهوتي في روضه: "ويُكره أن يخصَّ جبهتَه بما يَسجدُ عليه؛ لأنَّه مِن شِعارِ الرَّافضة"([57]).

6 – الشَّاهد السَّادس: وقال الإسنوي: "وحكى أبو الفضل بن عبدان عن أبي علي بن أبي هريرة أنَّه قال: المستحب ترك القنوت في صلاة الصُّبح ؛ إذ صار شعار قوم من الشِّيعة"([58]).

7 – الشَّاهد السَّابع: وقال ابن تيمية في منهاجه: "حَتَّى أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَذْكُرُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ تَرْكَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ، كَمَا يَذْكُرُونَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ كَانَ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ"([59]).

وليس ذلك فحسب، بل إنَّه قد نقل عن بعض الفقهاء التقعيد الكبروي لذلك، فقال: "وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَرْكِ بَعْضِ الْمُسْتَحَبَّاتِ إِذَا صَارَتْ شِعَارًا لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا بِذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ: فِي إِظْهَارِ ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ لَهُمْ، فَلَا يَتَمَيَّزُ السُّنِّيُّ مِنَ الرَّافِضِيِّ، وَمَصْلَحَةُ التَّمَيُّزِ عَنْهُمْ لِأَجْلِ هِجْرَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ، أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ هَذَا الْمُسْتَحَبِّ"([60]).

وبالمرور بهذه الشَّواهد السَّبعة -وما قرأناه من التنظير والتقعيد لها- تنكسر سورة البعد عن سببيّة هذا السَّبب، وتأثيره في تهميش العقيدة المهدويَّة لدى غير الشِّيعة.

 

4. السَّبب الرَّابع: الإقصاء السِّياسي، فإنَّ العقيدة المهدويَّة نظراً لما تشكلِّه من مصدر قلق كبير وخطير على واقع السُّلطة السِّياسية غير الشَّرعية؛ لذلك اهتمَّت السُّلطات السِّياسية اهتماماً بالغاً ببناء حاجز نفسي ضخم لدى بعض المسلمين تجاه عقيدة الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه)، بهدف محاصرة هذه العقيدة وتضييق مساحة تأثيرها، نظراً لما تضخّه في النُّفوس المستضعفة من قيم الصُّمود والإصرار والأمل، وما تلهمه إياها من قوَّة الإيمان وصلابة الولاء.

ومن الظَّواهر الملفتة في الآونة الأخيرة –في ظلِّ المتغيَّرات العالمية– ظاهرة تكاتف المستشرقين على تسليط الأضواء على القضية المهدويَّة، ومحاولة مسخها وتشويهها وتوهينها، ممَّا يكشف عن مدى الحيِّز الذي أخذت تشغله في مجال الدِّراسات الاستراتيجيّة والعلوم الاجتماعيّة السِّياسيّة، ولا هدف من وراء ذلك سوى تمييع القضية المهدويَّة في نفوس المسلمين والحدِّ من مستوى التَّفاعل معها.

* هل هناك من علماء العامَّة المعتمدين عندهم من يعتقد بولادة الإمام الحجةl، وعلى فرض ذلك، فهل لهذا الاعتقاد أثر عملي على علاقتهم بالقضيَّة المهدويَّة؟ 

الجواب: ابتداءً يجدر الالتفات إلى أمرٍ مهم للغاية، وهو يتضمَّن مفتاح الإجابة عن السُّؤال بكلا شقيه، وهذا الأمر هو أنَّ الأجواء العامة لمدرسة العامة لم تكن تساعد علماءهم على اعتناق بعض العقائد المخالفة لما عليه الجمهور، ويمكن استكشاف هذه الأجواء من خلال ما ذكرناه في بيان السَّبب الثَّالث من الأسباب آنفة الذِّكر، ولنا أن نذكر أنموذجاً واحداً يؤكِّد ذلك، ألا وهو الشَّيخ أبو عبد الله محمَّد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي المتوفى سنة 658 هـ ([61])، فإنه ممّن آمن بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وامتداد حياته المباركة، وكان أثر اعتقاده هذا هو تصنيفه لكتابه (البيان في أخبار صاحب الزمان)، وقد عقدَ فيه باباً كاملاً تحت عنوان (في الدلالة على جواز بقاء المهدي منذ غيبته)([62])، ولكنّ اعتقاده هذا كان هو الشجرة التي صُلِبَ عليها.

ويشهد لذلك ما جاء في ترجمة أبو شامة المقدسي  له، حيث قال:  "قُتِل بجامع دمشق يوم التاسع والعشرين من رمضان، وكان فقيهًا محدِّثًا، لكنَّه كَانَ كثير الكلام، يميل إلى الرَّفْض، جمع كُتُبًا فِي التشيع وداخل التّتار، فانتدب لَهُ من تأذّى منه فبقر بطْنَه بالجامع، قُتِل كما قُتِل غيره من أعوان التّتار"([63]).

وقال اليونيني:  "فثاروا العوام بدمشق، وقتلوا الفخر محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي في جامع دمشق، وكان المذكور من أهل العلم، لكنَّه كان في شرٍّ وميل إلى مذهب الشِّيعة، وخالطه الشَّمس القمي الّذي كان حضر إلى دمشق من جهة هولاكو، ودخل معه في أخذ أموال الغياب عن دمشق فقتل"([64]).

وكما قرأنا فإنَّ هذا الرجل لمحض تأليفه كتابيه المشهورين: (كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام) و(البيان في أخبار صاحب الزمان عجّل الله فرجه) اتُّهِم بالتشيع والرفض، وكان مصيره هو بقر بطنه في جامع الصلاة، ممّا يؤكّد بنحوٍ قاطع أنَّ البوحَ بالمعتقدات التي اشتهرَ الشيعةُ بالاعتقاد بها كان محظوراً وإن قاد إليه الدليل، فضلاً عن ترتيب الأثر العملي على هذا الاعتقاد.

ومع ذلك فإنَّ علماء الجمهور الذين أفصحوا عن اعتقادهم بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وامتداد حياته المباركة ليسوا بالقليل، وقد أحصى المحدّث النوري (قدَّس الله نفسه) في كتابه الجليل (كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار) منهم أسماء أربعين عالماً([65])، كما رصد مثلهم الشيخ نجم الدين العسكري في كتابه (المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنة والإمامية)([66])، وأنهاهم المرجع الديني المعاصر الشَّيخ الصَّافي (طاب مثواه) في كتابه (منتخب الأثر) إلى ثمانية وستين اسماً([67])، وربما اشتركوا في بعض الأسماء.

* مع تواتر ما نقل عن مجموعة كبيرة من العلماء أنَّهم التقوا بالإمامg في عصر الغيبة الصُّغرى أو الكبرى، كيف نوفِّق بين ذلك وبين ما ورد من أنَّ من ادَّعى الرُّؤية فكذبوه؟

الجواب: ابتداءً ينبغي حصر الإشكال في خصوص مَن تشَّرفوا برؤيته(أرواحنا فداه) في عصر الغيبة الكبرى، لأنَّ ما ورد مِن تكذيب مَن ادّعى الرؤية قد وردَ ضمن التَّوقيع الذي خرج لآخر السُّفراء الأربعة، وهو علي بن محمد السُّمري(رضوان الله عليه)، وكان ذلك في آخر حياته الشريفة، ممّا يعني تزامن صدور التَّوقيع مع نهاية مرحلة الغيبة الصغرى، فلا يكون شاملاً لدعوى الرؤية فيها.

على أنَّ لفظ (الرُّؤية) لم يرد في التَّوقيع الشريف، وإنَّما الوارد هو لفظ (المشاهدة)، حيث جاء فيه: >ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذبٌ مفترٍ<([68])، ولا تتمُّ دعوى التَّنافي بينه وبين دعوى الرُّؤية في زمن الغيبة الكبرى إلا بناءً على تفسير المشاهدة بالرُّؤية.

فينحصر الإشكال -كما اتّضح- بدعوى الرُّؤية في عصر الغيبة الكبرى، بعد التسليم بإرادة الرُّؤية من لفظ المشاهدة، ومع ذلك يمكن التفصّي عنه بأحد أجوبة ثلاثة: 

الجواب الأوَّل: المشاهدة بمعنى الرُّؤية القطعية اليقينية

وحاصله: أنَّ المراد من المشاهدة ها هنا ليس مطلق الرُّؤية، وإنَّما خصوص الرُّؤية القطعية اليقينية، وشاهد ذلك أنَّه لو أنَّ شخصاً شكَّ في رؤية الهلال فإنَّه لا يصحُّ أن يُقال عنه أنَّه شاهده، وأمَّا إذا قطع بمشاهدته وتيقّنها صحّ أن يُوصف بالمشاهدة.

وبناءً على ذلك، فسيرة علماء الطَّائفة لا تتنافى مع هذا التَّوقيع الشَّريف حتى يلزم تكذيبهم، إذ هم لا يقطعون ويجزمون بأنَّ الذي رأوه هو الإمام المنتظر(أرواحنا فداه)، وإنَّما يحتملون ذلك وفقاً للقرائن والأمارات، فالتَّوقيع ينفي شيئاً، وما عليه علماء الطَّائفة شيء آخر، فينحلُّ الإشكال.

ويـمكن أن يُتأمل في هذا الجواب:

بأنَّ المشاهدة مأخوذةٌ من الفعل (شاهد)، وليست مأخوذةً من الفعل (شهد)، ولذا تقول: شاهد مشاهدةً، وشهد شهادةً، وفرقٌ بين الإثنين، فإنَّ الذي أُخذ في دلالته القطع واليقين هو الفعل (شهد)، بينما دلالة (شاهد) أعمُّ من ذلك، فتشمل اليقينية والظَّنية أيضاً.

الجواب الثَّاني: التَّكذيب لادّعاء المشاهدة، لا للمشاهدة

وحاصله: أنَّ التَّكذيب في التَّوقيع الشَّريف متوجهٌ لمن يدّعي المشاهدة، لا لأصل المشاهدة، إذ أنَّه لم يقل: "وسيأتي شيعتي من يشاهد"، وإنَّما قال: >وسيأتي شيعتي من يدَّعـي المشاهدة<، وهذا يستدعي الكلام في معنى الادِّعاء، فنقول: الادِّعاء هو: الإخبار الذي تتساوى فيه نسبة الصِّدق والكذب، كما لو كان فاقداً للبيَّنة.

وبناءً على ذلك فإنَّ التَّكذيب في التَّوقيع متوجّه للمدّعي الذي تتساوى نسبة الصدق والكذب في كلامه، وهذا لا ينطبق على علماء الطائفة العظام الذين نُحرِزُ وثاقتهم وورعهم وتقواهم، كأصحاب الكرامات مثل السيد بحر العلوم والمقدس الأردبيلي(رضوان الله تعالى عليهما)، فإنَّ نسبة الصِّدق هي الرَّاجحة لهما ولأمثالها على أقلِّ التقادير، إن لم نقل إنَّها فيهم يقينية.

وعليه: فالنَّص لا يشمل علماء الطائفة ومَن بحكمهم.

الجواب الثَّالث: الرُّؤية الخاصَّة

وحاصلُه: إنَّ الإشكال -كما أومأنا في بداية الإجابة- يبتني على إرادة مطلق الرُّؤية من لفظ المشاهدة؛ إذ بناءً عليه سيكون شاملاً للرُّؤية التي حظي بها علماؤنا الأبرار، وهذا ما نمنعه في المقام، ونقول: إنَّ المراد بالمشاهدة الرُّؤية الخاصَّة، أي: الرُّؤية الملازمة لمقام النِّيابة عنه(أرواحنا فداه)، فإنَّ المتشرِّف بالنِّيابة الخاصَّة عنه يحظى بالاجتماع به والتلقّي المباشر منه، فيفوز برؤية خاصة لا يفوز بها سواه، وبناءً على إرادة خصوص هذه الرًّؤية لن يكون الأمر بتكذيب مدّعي الرُّؤية شاملاً لرؤية العلماء والأوَّلياء.

ولو أُشكل على هذا الجواب بمخالفته لإطلاق لفظ الرُّؤية؛ إذ المتفاهم منه هو مطلق الرُّؤية، لا الرُّؤية الخاصَّة.

أمكن أن يُجاب عنه: بأنَّ من المقرَّر في محلِّه من علم الأصول أنَّ التمسّك بالإطلاق لا يكون إلا عند انعدام القرينة على التَّقييد، وأمَّا عند وجودها فنحن وهي.

وبما أنَّ القرينة على التَّقييد موجودة في المقام فهذا يكفي لحمل لفظ (المشاهدة) على الرُّؤية الخاصَّة، دون مطلق الرُّؤية، وبيانها يتوقَّف على بيان مقدِّمتين:

أ – المقدِّمة الأوَّلى: إنَّ صدر التَّوقيع يتحدَّث بالتَّأكيد عن خصوص النِّيابة الخاصَّة، كما يظهر ذلك من فقرتين من فقراته:

الفقرة الأوَّلى:  قولُ التَّوقيع: >فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثَّانية<.

وتقريبُ هذه الفقرة: أنَّ مقام علي بن محمد السُّمري هو مقام النِّيابة الخاصَّة عن الإمام الحجة(أرواحنا فداه)، وقد أوصاه (عليه السلام) بجمع أمره، ونهاه عن الوصاية لأحدٍ من بعده ليقوم هذا المقام، وعلَّل ذلك بوقوع الغيبة الثَّانية -وفي بعض النُّسخ (التَّامة)- وتعليلُ النَّهي بوقوع الغيبة كاشفٌ عن عليّة الغيبة لامتناع مقام النِّيابة الخاصَّة على أحدٍ فيها. 

 

الفقرة الثَّانية: قول التَّوقيع: >فلا ظهور إلا بعد إذن الله!<.

فإنَّه ظاهرٌ أيضاً في نفي السَّفارة والنِّيابة الخاصَّة، وذلك بالالتفات إلى أمرين:

الأمر الأوَّل: أنَّ الإمام "صلوات الله عليه" له نحوان من الظُّهور:

النَّحو الأوَّل: ظهور عام لمن أمكنَ لقاءه من النَّاس.

النَّحو الثَّاني: ظهور خاص لنوابه فقط.

ولا يخفى أنَّ النَّحو الأوَّل من الظُّهور قد انقطع بانقطاع الغيبة الصغرى، أي: أنّه استمر لمدَّة خمس سنوات فقط.

وأمَّا النَّحو الثَّاني فهو الذي كان لخصوص سفرائه منذ ابتداء الغيبة الصغرى حتى انتهائها.

الأمر الثَّاني: أنَّ الظُّهور المنفي في هذا التَّوقيع الشَّريف -بلحاظ صدوره في آخر زمن الغيبة الصُّغرى- هو الظُّهور بالنحو الثَّاني لا الأوَّل، إذ الأوَّل منتفٍ بحسب الفرض، فنفيه يكون لغواً وبلا موجب، وكلام المعصوم (عليه السلام) يجلُّ عنه.

وإذا كان الظُّهور الخاص المرتبط بالنّواب منفيّاً، فوجود النوّاب منفيٌ تبعاً له أيضاً، وبذلك يتمّ الاستدلال بهذه الفقرة على امتناع النِّيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى، ومن خلالها أيضاً يتّضح نظر التَّوقيع لخصوص النِّيابة الخاصة.

ب – المقدِّمة الثَّانية: إنَّ نظم التَّوقيع الشَّريف صدراً وذيلاً أشبه بالمقدمات ونتيجتها، ولنتشرف بإثباته ها هنا ليتضح الأمر جليّاً، فقد ورد عنه (أرواحنا فداه):

>بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، يا عليَّ بن محمّدٍ السِّمَّريّ، أعظمَ اللهُ أجرَ إخوانِكَ فيكَ، فإنّكَ ميِّتٌ ما بينكَ وبينَ ستّةِ أيّامٍ، فاجمع أمرَكَ، ولا توصِ إلى أحدٍ يقومُ مقامَكَ بعدَ وفاتكَ، فقدْ وقعتْ الغيبةُ الثَّانية، فلا ظهورَ إلّا بعد إذن الله -عزَّ وجلَّ-، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتِي مَنْ يَدَّعي المشاهدةَ، ألا فَمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السّفيانيِّ والصّيحة فهُوَ كذَّابٌ مفترٍ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلّا باللهِ العليِّ العظيمِ<([69])، فالتَّوقيع أولاً قد أفاد انتهاء النِّيابة الخاصة -بالنَّحو الذي أوضحناه- ثمّ أوضحَ علّة ذلك، وهي وقوع الغيبة التامة، كما اتضّح أيضاً، ثمَّ عقَّب على ذلك ببيان النَّتيجة، وهي ضرورة تكذيب مدعي المشاهدة.

فيكون المقصود من المشاهدة: الرُّؤية الخاصَّة التي قد أثبت التَّوقيع انقطاعها بانقطاع الغيبة الصغرى، بسبب وقوع الغيبة التامة.

 

 

* سماحة السيِّد، في كلِّ عصرٍ نرَى بعض المدَّعين للمهدوية أو الاتِّصال بالإمامl، ونرى بعض الجهلة يصدِّقون بذلك، كيف استطاع هؤلاء إقناع البعض بهذه الدَّعاوى الباطلة؟ وكيف نحصِّن أنفسنا من هؤلاء المدَّعين؟

الجواب:

أ / أمَّا فيما يرتبط بالشقِّ الأوَّل من سؤالكم: فجوابه قد اختزله أمير المؤمنين (عليه السلام) في تقسيمهِ الثُّلاثي المعروف، حيث قال: >النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيق<([70])، فإنَّه (عليه السلام) بعد أن تحدَّث عن القسم الثَّالث من النَّاس، وهم الذين ينعقون مع كلِّ ناعق، ويميلون مع كلِّ ريح، أوضحَ سبب صيرورتهم كذلك، وأرجعَ ذلك –ككبرى كليّة– إلى سببين مهميَّن:

 

السَّبب الأوَّل: عدم الاستضاءة بنور العلم.

السَّبب الثَّاني: عدم اللجوء إلى ركن وثيق.

وإذا أردنا أن نطبِّق السَّببين المذكورين على موضوع السُّؤال -أي: أتباع مدَّعي المهدويَّة- فيمكننا بسط الكلام حولهما بالبيان التَّالي:

 

السَّبب الأوَّل: عدم الاستضاءة بنور العلم

وهذا سببٌ مهم جداً في انصياع أتباع مدّعي المهدويَّة وراء دعاواهم الزَّائفة، وهو عنوان عريض تندرج تحته مجموعة من مستويات الجهل والفقر الثقافي، ولا بأس بالإشارة إلى أهمِّها:

 

المستوى الأوَّل: الجهل بصفات الإمام المهدي(عليه السلام)

نظير كونه هو مهدي آل محمد(عليهم السلام) ولا مهدي سواه، وأنَّه القائم بالأمر ولا قائم غيره، وأنَّه آخر الأئمة (عليهم السلام) ولا إمام بعده، وأنَّ شخصيته مجمع الفضائل والكمالات، والحائزة على أسمى المراتب والمقامات، وله القدرة على النطق والتخاطب بجميع اللغات، وهو أفصح الناس لساناً، وأكملهم جسداً، وهو المعصوم الذي لا يخطئ، والعالم الذي لا يجهل.

فلو أنَّ أتباع مدّعي المهدويَّة أحاطوا بهذه الصِّفات الشَّريفة وغيرها، لما التبس عليهم أمرُ بعض مَن ادّعى المهدويَّة والقائمية، على الرَّغم من كونه من أكثر النَّاس تناقضاً وغلطاً، وأسوأهم لغةً ونطقاً، وأضعفهم حجّةً وبرهاناً.

ومن هنا وردَ في معتبرة زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): >اعرف إمامك، فإنَّك إذا عرفته لم يضرُّك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر<([71]).

 

المستوى الثَّاني: الجهلُ بآليات ثبوت المنصب الإلهي

وأهمّها آليتان: آلية النَّص وآلية الإعجاز، فلا تثبت الإمامة لإمام، ولا السَّفارة لسفير إلا بهما، وحياةُ الأئمة(عليهم السلام) والسًّفراء (عليهم الرضوان) طافحة بذلك، وعلى ذلك القياس، فلا تُسمع دعوى مدّعي الإمامة أو السَّفارة إلا مع التَّنصيص عليه وتمكنّه من الإتيان بالمعجز، وهذا ما أصاب أكثر المدّعين بمقتل، ولذا حاولوا التملُّص منه بطرقٍ واضحة الالتواء.

واعطف على الآليتين المذكورتين آلية العلم الإلهي الغيبي، فإنَّه لا يؤتاه إلا الحجَّة ؛ ولذا أرشد أهل البيت(عليهم السلام) للمقارعة به، فعن المفضَّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: >لصاحب هذا الامر غيبتان: إحداهما يرجع منها إلى أهله، والأخرى يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك<، قلت: كيف نصنع إذا كان كذلك؟ قال: >إذا ادّعاها مدَّع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله<([72]).

وهذه الآلية هي التي اعتمدها الوفد القمّي في حواره مع جعفر -المعروف بالكذّاب- في دعواه الإمامة بعد الإمام العسكري (عليه السلام)، فقد ورد في الخبر عن أبي الأديان، قال: >فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن علي"عليهما السلام" فعرفوا موته، فقالوا: فمن نعزّي؟ فأشار النَّاس إلى جعفر بن علي، فسلَّموا عليه وعزّوه وهنّوه وقالوا: إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممَّن الكتب، وكم المال، فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منَّا أن نعلم الغيب<([73]).

المستوى الثَّالث: الجهل بعلامات الظُّهور المهدوي المقدَّس

ورغم أنَّ الأئمة من آل محمد(عليهم السلام) قد حثُّوا على معرفة العلامات وتعلّمها، حتى قال الإمام الصادق (عليه السلام): >اعرف العلامة، فإذا عرفته لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر<([74])، إلا أنَّ هنالك من الشِّيعة من يتهاون في هذا الأمر تهاوناً شديداً، ونتيجةً لهذا التَّهاون تنزلق أقدامهم، وتختلط الأوراق عليهم، وإلا كيف صحَّ لأحدهم أن يصدِّق بظهور الإمام المهدي(عجّل الله فرجه الشريف) رغم عدم تحقُّق شيء من علامات ظهوره المقدَّس؟!

 

المستوى الرَّابع: الجهل بالأحكام الشَّرعية الفرعية

وهذا من الكوارث الضَّارّة بدين الإنسان ضرراً بليغاً، فإنَّ جهله بأحكام الشَّريعة المقدَّسة غالباً ما ينتهي به إلى ما لا تُحمد عقباه، وربما اعتمد على ما لا حجيّة له بتوهُّم حجيته، ومن هذا الباب ما وقع للكثيرين من أتباع مدَّعي المهدويَّة من الاعتماد على الرُّؤى والاستخارة في تعيين الحجَّة، رغم عدم حجيَّة كلا الطَّريقين، وعدم مشروعية الاعتماد عليهما.

ومن هنا نفهم معنى قول الإمام الكاظم(عليه السلام): >تفقَّهوا في دين الله، فإنَّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسَّبب إلى المنازل الرَّفيعة، والرُّتب الجليلة في الدِّين والدُّنيا<، فإنَّ المستفاد من هذه الرِّواية الشَّريفة أنَّ التفقّه هو مفتاح البصيرة، فمن لا فقه له لا بصيرة له، ومن لا بصيرة له زلَّت قدمه في متاهات الطَّريق.

 

المستوى الخامس: الجهل بمعارف أهل البيت(عليهم السلام) وأحاديثهم

وهذا للأسف الشَّديد من مآسي أتباع أدعياء المهدويَّة، فربما كان بعضهم من ذوي الشَّأن في بعض الحقول العلمية الأكاديمية، ولكنّ أيديهم خالية الوفاض من معارف أهل البيت (عليهم السلام)، ونتيجةَ ذلك ربما انطلت عليهم بعض الرِّوايات الملتبسة، فبنوا عليها عقيدة محوريّة، رغم أنَّها ضعيفة السَّند والدلالة -كرواية الوصيّة التي تشبث بها الگواطع- بل ربما شيَّدوا دينهم على روايةٍ لا طريق لها إلا ما وثقته كتب المعاندين من الواقفية، نظير اعتماد هؤلاء على خبر صفوان بن يحيى لإثبات حجيّة الاستخارة في تعيين الحجَّة والإمام، رغم أنَّ هذه الرِّواية لم ترد إلا في كتاب (في نصرة الواقفية)، وقد نقلها عنه الشَّيخ الطوسي(قدّس سره) في كتاب (الغيبة) ناقداً ومزيّفاً لها، بل انتهى الأمر بهؤلاء القوم -للأسف الشَّديد- للاعتماد على منقولات عن (كعب الأحبار) رأس واضعيّ الإسرائيليات، تشييداً منهم لمعتقداتهم الزائفة.

وفي المقابل تجاهلوا ما ورد من الأخبار الشريفة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأعرضوا عنها، كالتَّوقيع الشريف الصادر للسفير الرَّابع(رضوان الله عليه)، بل بذلوا قصارى جهدهم من أجل تضعيفه وتوهينه؛ لأنَّه يشكِّل عقبةً كَأْدَاءَ في طريقهم، رغمَ أنَّ سيرة الطَّائفة(أعزّها الله) جارية على العمل به، منذ بداية الغيبة الكبرى حتى يوم الناس هذا.

المستوى السَّادس: الجهل بموقعية العقيدة المهدويَّة في المنظور السِّياسي

من المهمَّات جداً للمؤمن البصير أن يتعرَّف على مراكز القوَّة في المذهب الشِّيعي، ويلتفت إلى أنَّها محطَّة رصد القوى الكبرى، فيبقى مراقباً للمؤامرات التي تُحاك حولها بهدف توهينها والقضاء عليها، فإنَّ >العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس<([75]) كما وردَ عن إمامنا الصَّادق(عليه السلام).

ولا شكَّ في أنَّ أقوى مراكز القوَّة في المذهب الشِّيعي هو الاعتقاد بوجود الإمام المهدي(أرواحنا فداه)، نظراً لما يكسبه هذا الاعتقاد للشِّيعة من العنفوان والحيوية وقوَّة الأمل والإصرار على المضي قدماً في هذا الطَّريق مهما كان حجم التَّضحيات، وبالتَّالي فمن الطَّبيعي جدّاً أن يُوضع هذا الاعتقاد ضمن الدَّائرة التي تُسلّط عليها الأضواء من الشَّرق والغرب، ولا بِدْعَ أن تُؤسَّس مراكز بحثية من أجل التَّخفيف من وهجها، والتَّقليل من فاعليتها، وتحجيم تأثيرها على أقلِّ تقدير، وتأتي في هذا السِّياق كثرةُ دعاوى المهدويَّة في هذا العصر، وتعدُّد أساليب أدعيائها، فإنَّ أكثرها -إن لم نقل كلُّها- تقف وراءها أيدي خارجية لا همَّ لها إلا تفريغ هذه القضيَّة من محتواها، ولو بتوهينها لدى الشِّيعة من خلال إيهامهم بأنَّ هذه القضيَّة لا واقعية لها، وأنَّها لا تتجاوز دائرة الدَّعاوى الزَّائفة.

 

المستوى السَّابع: الجهل بأساليب المدّعين وأدوات تأثيرهم 

فإنَّ من الأساليب المؤثِّرة جداً في نفوس الكثير من النَّاس هو إبراز بعض الأمور الغريبة لهم، كإخبارهم ببعض المغيّبات، أو التَّأثير في نفوسهم ببعض أنحاء التَّأثيرات، أو إظهار بعض الأمور الخارقة للعادة، باعتبار أنَّ إبراز ذلك لهم ممَّا يبعث في نفوسهم الاطمئنان بصدق المدَّعي وكونه من أهل الحقِّ، وليس الأمر كذلك؛ إذ أنَّ بعض شياطين الإنس يتمكنون -بمعونة شياطين الجن، أو السَّحر والشَّعوذة ونحوهما- أن يقوموا بإبراز ذلك، ولا يستطيع أن يكتشف زيفهم وبطلان دعاواهم إلا المؤمن البصير، الذي تزوَّد بسلاح المعرفة الوحيانية والوعي الإيماني.

ومن المفيد هنا أيضاً أن يطَّلع الإنسان على تاريخ بعض الفرق المنحرفة -كالبهائية والقاديانية- ويقرأ عن بعض المنظمات السرّية العالمية -كالماسونية- فإنَّ ذلك ممَّا يزيده وعياً وبصيرة بأساليب المنحرفين وأدعياء الضَّلال.

 

والمتحصّل: فإنَّ الجهل بأيِّ مستوى من مستوياته قد يكون سبباً للإيقاع بصاحبه في هاوية الضَّلال والانحراف، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) حين قال في كلامهِ المتقدّم: >لم يستضيئوا بنور العلم<.

 

السَّبب الثَّاني: عدم اللجوء إلى ركن وثيق

وأمَّا السَّبب الثَّاني فهو عدم اللجوء إلى ركنٍ وثيق، والمُراد من >الرُّكن الوثيق< هو الأساس القوي المحكم في العلم والدِّين معاً، وهو مَن عبّرَ عنه أمير المؤمنين(عليه السلام) في نفس التَّقسيم الثُّلاثي المتقدِّم بـ (العالم الربّاني)، وقد أحالَ الأئمةُ الأطهار(عليهم السلام) -سيَّما المتأخرين منهم- شيعتهم في زمن الغيبة الكبرى على العلماء الربّانيّين.

فعن الإمام الهادي(عليه السلام) قال: >لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا "عليه السلام" من العلماء الدَّاعين إليه، والدَّالين عليه، والذَّابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النَّواصب، لما بقي أحدٌ إلا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشِّيعة، كما يمسك صاحب السَّفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله!<([76]).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) قال: >فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلدوه<([77]).

وعن إمام العصر والزمان(أرواحنا فداه) قال: >وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله<([78]).

فالشَّيعي غير المتفقّه إذا كانت له صلة بأحد العلماء الربانيّين، وكان يرجع إليه في شؤونه الدِّينية لم تلتبس عليهِ الفتن، ولم تدهمه الشُّبهات، وكان له العَالِم هو طوق النَّجاة في أمواج الفتن المتلاطمة، والعكس بالعكس.

ب / وأمَّا الجواب عن الشقِّ الثَّاني: فإنَّ عملية تحصين النَّفس تبتني على أربع خطوات مهمة:

 

الخطوة الأوَّلى: اتضح من خلال الشقِّ السَّابق أنَّ سبب التَّأثّر بالدَّعاوى الزَّائفة يرجع إمَّا إلى عدم الاستضاءة بنور العلم، وإمَّا إلى عدم اللجوء إلى ركن وثيق، وبما أنَّ العلاج الأساس لأيِّ مشكلة يكون بعلاج أسبابها، فهذا يعني أنَّ الخطوة الأوَّلى في سبيل التَّحصين هي التَّفقه في الدِّين والاستضاءة بنور العلم، واللجوء إلى ركنٍ وثيق بمجالسة العلماء الربّانيّين والرُّجوع إليهم.

وقد مرَّ علينا قول الإمام الصادق(عليه السلام): >اعرف العلامة، فإذا عرفته لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر<.

 

الخطوة الثَّانية: التَّنبُّه إلى أنَّ مرحلة التَّمحيص الفكري هي أخطر المراحل التي تمرُّ بها المجتمعات المؤمنة، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: >الحادي عشر من ولدي هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً، تكون له غيبة وحيرة، يضلُّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون<([79])، بل سيأتي في بعض الرِّوايات الشَّريفة أنَّ هذه المرحلة لا ينجو منها إلا مَن أخذ الله ميثاقه، وهذا ما يتطلَّب من المؤمن أن يكون على مستوى عالٍ من الفطنة والبصيرة النَّافذة.

 

الخطوة الثَّالثة: اليقظة التَّامة والحذر الشَّديد من رايات الضلال وأدعياء المهدويَّة، فقد حذَّرَ منها الأئمة الهداة (عليهم السلام) ونبّهوا عليها، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة.

منها: ما ورد عن عبد الله ابن يحيى الحضرمي، قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: >كنَّا جلوساً عند النَّبي(صلى الله عليه وآله) وهو نائم ورأسه في حجري، فتذاكرنا الدَّجال فاستيقظ النَّبي(صلى الله عليه وآله) محمراً وجهه، فقال: لَغيرُ الدجَّال أخوف عليكم من الدجَّال؛ الأئمة المضلّون<([80]).

وصحيحة أبي خديجة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): >لا يخرج القائم حتى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلُّهم يدعو إلى نفسه<([81]).

وعن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: >أما والله ليغيبنَّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنَّ حتى يقال مات أو هلك بأي واد سلك، ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفأنَّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه، ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة، لا يدرى أيٌّ من أي<([82]).

 

الخطوة الرَّابعة: إناطة قبول الدَّعوى بتحقُّق العلامات الحتميَّة، والتي تتحقَّق في وقت متقارب جداً، نظير الصَّيحة السَّماوية، فإنَّ الوظيفة المطلوبة من المؤمن -في ظلِّ اختلاط الأوراق والتباس الفتن- ليست هي المبادرة إلى تصديق المدّعين، وإنَّما هي التريّث والانتظار حتى تتحقَّق العلامات المحتومات، وتشهد بذلك عدّة من الرِّوايات:

ومنها: معتبرة جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر محمَّد بن علي الباقر (عليه السلام): >يا جابر، الزم الأرض، ولا تحرِّك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك إن أدركتها<([83]).

 وصحيحة عن عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: >خمس علامات قبل قيام القائم: الصَّيحة، والسُّفياني، والخسف، وقتل النَّفس الزَّكية، واليماني<، فقلت: جعلتُ فداك، إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: >لا<([84]).

وخبر سدير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): >يا سدير، الزم بيتك، وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنَّهار، فإذا بلغك أنَّ السّفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك<([85]).

وجاء في التَّوقيع الشَّريف المروي عن إمامنا المهدي(أرواحنا فداه) ما يؤكِّد على ضرورة التَّكذيب ما لم تتحقَّق العلامات المحتومة، وليس على مجرَّد التريُّث فحسب، حيث قال: >وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السّفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم<([86]).

* ادِّعاء المهدويَّة أو الاتِّصال المباشر بالإمامl يعتبر دليلاً على الخروج من المذهب الحقِّ، فما هي الأهداف والأغراض التي تجعل البعض يدَّعي مثل هذه الدَّعاوى الخطيرة، رغم علمهم بأثر ذلك على سمعتهم وتعامل النَّاس معهم؟

الجواب: ابتداءً لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ مدّعي المهدويَّة ربما كانوا مجرَّد منفِّذين لمشاريع قوى كبرى، وربما كانوا رؤوساً ومؤسِّسين، والدَّوافع والأهداف تختلف باختلاف الصِّنفين وربما اشتركت بينهما، وسوف نشير في المقام إلى أهمِّها:

أ – الدَّافع الأوَّل: إضعاف العقيدة المهدويَّة في نفوس الشِّيعة، وهذا الدَّافع هو دافع القوى الكبرى التي تقف خلف الكثير من مدّعي المهدويَّة، كما تحدثنا عن ذلك سابقاً، فإنَّنا -بحسب ما تتبَّعناه- وجدنا أنَّ كثيراً من الأدعياء ما هم إلا مجرَّد آلات موظَّفة لأداء دور ادّعاء المهدويَّة، ولا هدف من وراء توظيفهم سوى التَّلبيس على هذه العقيدة وتمييعها عن طريق إبراز كثرة الأدعياء، والذين قد يتّفق اجتماعهم في وقتٍ واحد في مناطق متعددة.

ب – الدَّافع الثَّاني: هو الدَّافع النَّفسي، فإنَّ كثيراً من مدّعي المهدويَّة -ونحوها من المناصب الإلهية الجليلة- كانوا يعانون من اضطرابات ومشاكل نفسية؛ إذ تسيطر عليهم عقدة النَّقص، ويرون أنفسهم عاجزين عن تحقيق رغبات نفسية معيَّنة، فيلجأون إلى الجانب المقدَّس في حياة النَّاس، ويدَّعون منصباً من المناصب الإلهية، لجذب النَّاس إليهم.

ج – الدَّافع الثَّالث: الطَّمع والجشع والرَّغبة في الثَّراء والحياة الفارهة، فإنَّه يبعث أيضاً على ادّعاء المهدويَّة، طمعاً في الحصول على الزَّكوات والأخماس والصَّدقات، التي يُفترض أن تعود للإمام (عليه السلام) لكونه هو المسؤول عنها.

د – الدَّافع الرَّابع: حبُّ الزَّعامة والكرسي، وهذه آفة من الآفات المتجذرة في حياة الكثير من مدّعي المناصب الإلهية، فإنَّهم يحبّون السَّيطرة على الآخرين، ويتلذّذون بخضوع النَّاس لأوامرهم ونواهيهم، ولذا يلجأون لادّعاء المنصب الإلهي تحقيقاً لهذه الرَّغبة الجامحة في نفوسهم، ولذا يزعجهم ميل النَّاس إلى غيرهم، كالمراجع والعلماء، وهذا ما يدفعهم لمحاربتهم وتسقيطهم، بهدف عزل النَّاس عنهم، وتفرُّدهم بالزَّعامة والرَّئاسة.

هـ – الدَّافع الخامس: حبُّ الشُّهرة وذيوع الصِّيت، وهذا الحبُّ المقيت قد ينتهي بصاحبه حتى لتبني الأفكار الضَّالة والمنحرفة، من أجل لفت الأنظار والبقاء في دائرة الضّوء، وقد قرأت ذات مرة لأحد الأطبَّاء النَّفسيين كلاماً حول ظاهرة ادّعاء النُّبوة، ذكرَ فيه: إنَّ من يدّعي النًّبوة -أو يزعم أنَّه بإمكانه عمل شيء خارق للعادة- قد يكون لديه اضطراب في الشَّخصية، ويريد تحقيق شهرة عارمة في وقت قصير، وما نحن فيه كذلك أيضاً.

* سيِّدنا العزيز.. ما هي أهمُّ المصادر التي يمكن الرُّجوع إليها في مسألة دعاوى المهدويَّة أو الاتِّصال بالإمامl، بحيث تعطي اطلاعاً واسعاً على هذه المسألة؟

 

الجواب: لستُ مطلّعاً على جميع ما كُتب في هذا المجال، ولكن يمكنني أن أشير إلى بعض العناوين النَّافعة إن شاء الله تعالى.

1. دعوى السَّفارة في الغيبة الكبرى، لسماحة الشَّيخ محمَّد السَّند.

2. رايات الضَّلال (أحمد إسماعيل گاطع أُنموذجاً)، للشَّيخ أبو خالد الجابري السَّماوي.

3. الردّ القاصم لدعوة المفتري على الإمام القائم (عليه السلام)، لسماحة الشَّيخ علي المحسن.

4. أدعياء المهدويَّة، للسِّيد عدنان هاشم الحسيني.

5. الفتنة في عصر الغيبة، للسَّيد طلال الحكيم.

6. الحيرة في عصر الغيبة الكبرى، لسماحة السَّيد ياسين الموسوي.

7. الحركات المهدويَّة (تاريخها - عقائدها – خطرها)، لذو الفقار علي ذو الفقار.

8. أدعياء المهدويَّة -ملحق الرَّصد3 - لأحمد فرج الله.

9. مدّعو المهدويَّة والسَّفارة، للدكتور كنعان جليل إبراهيم.

10. وربما صلح أن يُضاف إليها كتاب (المهدويَّة الخاتمة) لهذا العبد الجاني (عُفيَ عنه).

فتلك عشرة كاملة.

 

* ما هي أهمُّ الوظائف الشَّرعية الملقاة على عاتق المؤمنين فيما يرتبط بالقضية المهدويَّة؟

الجواب: الوظائف الشرعية كثيرة ومتعدِّدة، ولكنَّنا سنقتصر على خمس وظائف منها:

 

أ. الوظيفة الأوَّلى: التَّعاهد الدَّائم للقضية المهدويَّة

وهذه وظيفة شخصيَّة ينبغي أن تكون مورد اهتمام جميع المؤمنين المنتمين للإمام(عليه السلام) بشكلٍ مستمر، لتكون القضية حاضرة في أذهانهم ونابضة في قلوبهم على الدَّوام، وهذا ما يُستفاد من تأكيد تعاليم أهل البيت(عليهم السَّلام) على تجديد البيعة للإمام المهدي(عليه السلام) في كلِّ يوم، فقد ورد عن الإمام الصَّادق(عليه السلام) دعائه المعروف بدعاء العهد: >اللهم إنِّي أجدَّد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعةً له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبداً<.

بل ورد عنهم (عليهم السلام) ما يدلُّ على محبوبية ذكره(أرواحنا فداه) في دبر كلِّ صلاة مكتوبة، فعن محمَّد بن الفرج أنَّه قال: كتب إليَّ أبو جعفر محمَّد بن علي الرضا (عليهما السلام): إذا انصرفت من صلاة مكتوبة فقل:

>رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، وبمحمَّد نبيّاً، وبعلي وليّاً، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجة بن الحسن بن علي(عليهم السلام) أئمة.

اللهم وليك الحجة، فاحفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، وامدد له في عمره، واجعله القائم بأمرك، المنتصر لدينك، وأره ما يحبُّ وتقر به عينه في نفسه، وفي ذريته وأهله وماله، وفي شيعته، وفي عدوه، وأرهم منه ما يحذرون، وأره فيهم ما تحبُّ وتقرُّ به عينه، واشف به صدورنا وصدور قوم مؤمنين<([87]).

ب. الوظيفة الثَّانية: إيصال العقيدة المهدويَّة للأجيال اللاحقة

فإنَّ العقيدة المهدويَّة أمانةٌ قد وصلت إلينا عن طريق أجدادنا وآبائنا، بعد أن تكبَّدوا في سبيل إيصالها أشدّ أنواع الظُّلم وأقسى ألوان المحن، فوجب علينا أن نتحمَّل كما تحملوا ونقاسي كما قاسوا، ونوصل الأمانة لأولادنا كما وصلت إلينا، وهذا هو أحدُ المصاديق التَّامة لقوله تبارك وتعالى: { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(العصر:3).

 

ج. الوظيفة الثَّالثة: المحافظة على مركزيّة العقيدة المهدويَّة ومحوريتها

فإنَّها -كما ذكرنا في بعض الأجوبة السابقة- تُصنّف ضمن القضايا المحورية عند الشِّيعة الإمامية، إن لم تكن هي أهم قضاياهم العقائدية، وهي سرُّ قوتهم وصلابتهم وإصرارهم وعزّتهم وعنفوانهم وحيويتهم وصمودهم، وهذا ما يقلق القوى الكبرى ويقضُّ مضجعها، وهو ما تسعى لتجفيفه والإخلال بفاعليته، عبر إثارة الشُّكوك والشُّبهات، ودعم أدعياء المهدويَّة دعماً لوجستيّاً وماليّاً وإعلاميّاً، وهذا ما يضاعف مسؤوليتنا تجاه هذه القضية، ويحفِّزنا للدِّفاع عن مركزيتها مهما كلَّف الأمر ؛ إذ أنَّ أيَّ خلل يطال هذه المركزيّة فإنَّه سينعكس على التشيّع ككل.

 

د. الوظيفة الرَّابعة: الاهتمام الإعلامي بها

فإنَّ أهميتها الفائقة وموقعيتها المهمَّة تقتضي تكثيف الضَّخّ الإعلامي، من أجل بلورة صورتها الحقيقية للرَّأي العالمي، وتحريكها في الوجدان الإسلامي العام، وترسيخها في نفوس الأجيال الصَّاعدة، فيجدر استثمار وسائل الإعلام المتاحة -كوسائل التَّواصل الاجتماعي، والأفلام القصيرة- وبحسب الإمكانيّات المتوفِّرة، مع الاستفادة من اللغات العالمية، في سبيل تحقيق الهدف المذكور.

 

هـ. الوظيفة الخامسة: الاهتمام البحثيّ المتناسب مع حجم القضية وموقعيتها الدِّينية

فإنَّ القضيّة المهدويَّة -بحسب نظري القاصر- لا تزال بكراً، ولا زالت الكثير من أبحاثها عذراء لم تُمسّ، وهذا ما يستدعي أن تُؤسّس مراكز بحثية كبيرة لإثراء ملفات هذه القضيّة، وجعلها -في عصر التَّخصّصات- محوراً للأبحاث العلمية والدِّراسات الدِّينيّة.

* كيف نضمن أن نكون من أنصار الإمامl حال ظهوره، حيث نعلم بارتداد الكثير عنه زمن الغيبة وزمن الظُّهور كما في مضمون بعض الرِّوايات؟

الجواب: للأسف الشَّديد لا نستطيع أن نمتلك ضماناً بالنَّجاة من فتن آخر الزَّمان، والتَّوفيق لنصرة النَّاحية المقدَّسة، ولكن هنالك عدَّة خطوات تقارب من تحقيق الأمرين، وبما أنَّنا قد تحدَّثنا عن الخطوات التي تساهم في تحقيق الأمر الأوَّل ضمن إجابة الشِّقّ الثَّاني من السُّؤال الثَّامن؛ لذا سوف نقتصر ها هنا على بيان الخطوات التي تساهم في تحقيق الأمر الثَّاني، وهي ثلاث خطوات:

 

1. الخطوة الأوَّلى: التهيّؤ والاستعداد النَّفسي، بداهةَ أنَّ الوصول إلى هدفٍ معيَّن لا يمكن أن يتحقَّق إلا بالتهيّؤ والاستعداد كخطوةٍ أولى من خطوات الطَّريق، والمتتبِّعُ للنُّصوص الشَّريفة لا يعدم الحصول على تنبيهات وإشارات لهذه الخطوة، ومن ذلك قول الإمام الهادي(عليه السلام) في الزِّيارة الجامعة: >ونصرتي لكم معدَّة، حتى يحيي الله دينه بكم، ويردَّكم في أيامه، ويظهركم لعدله، ويمكّنكم في أرضه، فمعكم معكم لا مع عدوكم<([88]).

وقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) في أحد أدعيته الشَّريفة: >اللهمَّ املأ الأرض به عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وامنن به على فقراء المسلمين وأراملهم ومساكينهم، واجعلني من خيار مواليه وشيعته، أشدّهم له حبّاً، وأطوعهم له طوعاً، وأنفذهم لأمره، وأسرعهم إلى مرضاته، وأقبلهم لقوله، وأقومهم بأمره، وارزقني الشَّهادة بين يديه حتَّى ألقاك وأنت عنّي راض<([89]).

وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: >ليُعدنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنَّ الله تعالى إذا علم ذلك من نيّته رجوتُ لأن يُنسئ في عمره حتّى يدركه، فيكون من أعوانه وأنصاره<([90]).

والمستفاد من هذه النُّصوص الشَّريفة وأمثالها: أنَّ المؤمن ينبغي له أن يوطِّن نفسه على نصرة الإمام (عليه السلام) والشَّهادة بين يديه، ويعدّ نفسه لذلك، ويجعله همّاً من همومه وأملاً من آماله التي يسعى جاهداً لتحقيقها. 

 

2. الخطوة الثَّانية: الاستعانة بالغيب والاستمداد منه، فإنَّ الحولَ حولُ الله، والقوّة قوته، والتَّوفيق توفيقه، ولا حول ولا قوة ولا توفيق للعبد إلا بهِ تعالى، وقد أشارت النُّصوص الشَّريفة إلى أهميّة هذه الخطوة في تحقيق كلا الأمرين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام):‏ >سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلَا عَلَمٍ يُرَى، وَلَا إِمَامٍ هُدًى، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الْغَرِيقِ<، قُلْتُ: كَيْفَ دُعَاءُ الْغَرِيقِ؟ قَالَ: >يقُولُ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ ، يَا مُقَلِّبَ‏ الْقُلُوبِ‏ ثَبِّتْ‏ قَلْبِي‏ عَلَى دِينِكَ<([91]).

وعنه (عليه السلام): >يا زرارة، وهو المنتظر، وهو الذي يُشكّ في ولادته، فمنهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: غائب، ومنهم من يقول: ولد قبل وفاة أبيه بسنين، وهو المنتظر، غيرَ أنَّ الله يحبّ أن يمتحن قلوب الشِّيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة<.

قال زرارة: قلتُ: جعلتُ فداك، إن أدركتُ ذلك الزَّمان أيّ شيء أعمل؟ قال: >يا زرارة، متى أدركت ذلك الزَّمان فلتدعُ بهذا الدعاء: >اللهمَّ عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهمَّ عرِّفني رسولك، فإنَّك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهمَّ عرفني حجتك، فإنَّك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني<([92]).

واستفاضت النُّصوص الشَّريفة بتربية الشِّيعة على أدب الدُّعاء، وطلب التشرّف بنصرة الإمام المهدي(عليه السلام) من الله تبارك وتعالى، إذ أنَّ مثل هذا الشَّرف العظيم يتطلّب توفيقاً من الله، وتسديداً منه، وهذا ما لا يتحقّق إلا بدعائه والاستمداد منه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: >مَن دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد -أي: دعاء العهد- كان من أنصار قائمنا، وإن مات أخرجه الله إليه من قبره، وأعطاه الله بكلِّ كلمة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة<([93]).

 

3. الخطوة الثَّالثة: الإعداد العملي، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): >مَن سرَّهُ أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدُّوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة<([94]).

وهنا نكتة يجدر الالتفات إليها، وهي ضرورة التَّناسب السِّنخيّ بين عمل النَّاصر ومشروع المنصور؛ إذ أنَّ الإمام (أرواحنا له الفداء) إنَّما يطلب النَّاصر في مشروعه الإلهي الأكبر، وهو بسط القسط والعدل، وسحق الفساد والظُّلم، ومن الواضح أنَّ النَّاصر في تحقيق هذا المشروع لا بدَّ أن يكون جزء المشروع، أي: متّصفاً بالقسط والعدل، ومنزَّهاً عن الفساد والظُّلم، وإلا كان عائقاً عن تحقُّقه، لا ناصراً ومعيناً في تحقيقه، وهذا ما يقتضي الإعداد العمليّ بالتحلِّي بالفضائل والتَّنزُّه عن الرَّذائل، وهو ما أشارت إليه الرِّواية الشَّريفة، فإنَّ (العمل بالورع) إشارة إلى التخلِّي عن الرَّذائل، بينما (محاسن الأخلاق) إشارة إلى التَّحلّي بالفضائل. 

وبهذه الخطوات الثَّلاث نرجو أن نفوز بشرف نصرته، والنَّظر إلى جمال غُرَّته (أرواحنا له الفداء).

* نشكركم سماحة السيد مجدَّداً على إتاحة هذه الفرصة، وقبول الدَّعوة، ونسأل الله تعالى لنا ولكم دوام الموفقية والسَّداد، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله الطَّيبين الطَّاهرين.

ولكم كذلك خالص الشُّكر والتَّقدير؛ إذ كنتم سبباً لتشريفي بالكلام عن إمام العصر ووليّ النَّعمة(عليه وعلى آبائه التَّحية والسَّلام)، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المرضييّن عنده، والمشمولين لبركات دعائه، والفائزين بنصرته، والمنعمين في دولته، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


([1]) السيد ضياء السيد عدنان الخباز القطيفي، وُلدَ سنة(1396هـ ق) في مدينة (القطيف)، بدأ دراسته الحوزوية سنة(1411هـ ق) وهو في الخامسة عشر من عمره في بلده القطيف، هاجر سنة (١٤١٥هـ ق) حوزة قم المقدسة، لدراسة السطوح والبحث الخارج على يد علمائها الكبار. واشتغل بالتَّدريس في مراحل المقدِّمات والسًّطوح الأولى والعليا، كما أنَّه اشتغل بالخطابة في سنٍّ  مبكِّرة، فهو خطيب حسيني معروف، وله نشاطاته التَّبليغية المختلفة، ألَّف مجموعة من الكتب، منها، (مشكاة الأصول) تقرير أبحاث أستاذه السيد الشمس، و(العارف ذو الثفنات)، (الولاية التَّكوينية بين القرآن والبرهان)، و(روايات لعب الإمامين الحسنينh في الميزان) و(قبساتٌ مِن رسالة الحقوق)، و(وجها لوجه بين الأصالة والتجديد)، و(المهدوية الخالدة فوق زيف الدعاوى وتضليل الأدعياء)، وغيرها من المؤلفات.

([2]) الإشاعة لأشراط السَّاعة، ص215.

([3]) لوامع الأنوار البهيَّة، ج2، ص84.

([4]) لوامع الأنوار البهيَّة، ج2، ص84.

([5]) عقيدة أهل السُّنة والأثر في المهدي المنتظر، عبد المحسن العباد، ص128.

([6]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، الصدوق، ص288.

([7]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص253.

([8]) بحار الأنوار، المجلسي، ج51، ص80.

([9]) مجمع الزوائد، الهيثمي، ج7، ص315.

([10]) مجمع البيان، الطبرسي، ج7، ص267.

([11]) بحار الأنوار، ج51، ص84.

([12]) دلائل الإمامة، ابن جرير الطَّبري الشِّيعي، ص467.

([13]) عقد الدرر في أخبار المنتظر، المقدسي الشافعي، ص93.

([14]) مسند أحمد، ج3، ص493.

([15]) ينابيع المودة، القندوزي، ج3، ص295.

([16]) شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج3، ص395.

([17]) كنز العمال، المتقي الهندي، ج14، ص585.

([18]) الفتن لابن حمَّاد، ج1، ص229.

([19]) الملاحم والفتن، ابن طاووس، ص239.

([20]) المستدرك على الصَّحيحين، النَّيسابوري، ج4، ص441.

([21]) قال الذَّهبي عنه في (تاريخ الإسلام) 4 ص193، "قال أبو الفتح الأزدي، منكر الحديث. وقال الحاكم، مجهول. قلت، هو صاحب ذاك الحديث المنكر، "لا مهديّ إلا عيسى ابن مريم).

([22]) مقاتل الطَّالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، ص240.

([23]) كنز العمال، ص13، ص513.

([24]) الكافي، الكليني، ص1، ص505.

([25]) الإرشاد، المفيد، ج2، ص336.

([26]) الغيبة، ج1، ص248.

([27]) كنز العمّال، ج14، ص31.

([28]) اختيار معرفة الرجال، الطوسي، ج2، ص778.

([29]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص304.

([30]) كفاية الأثر، الخزاز القمِّي، ص199.

([31]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص316.

([32]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص317.

([33]) كفاية الأثر، ص252.

([34]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص361.

([35]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص372.

([36]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص373.

([37]) إثبات الوصيَّة، المسعودي، ص272.

([38]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص409.

([39]) كتاب الغيبة، الطوسي، 357.

([40]) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان، 179.

([41]) تاريخ ابن خلدون، 1 ص401.

([42]) تفسير المنار، 9 ص416.

([43]) نُقل عنه في كتاب (لا مهدي ينتظر بعد الرَّسول محمَّد خير البشر)، ص9.

([44]) لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، ص3.

([45]) لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، ص6.

([46]) لا مهدي ينتظر بعد الرَّسول محمَّد خير البشر، ص40.

([47]) النَّجم الثَّاقب، المحدِّث النُّوري، ج١، ص١١٥.

([48]) لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، ص15.

([49]) الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر، ص180.

([50]) مقال بعنوان (هذه حقيقة المهدي المنتظر) للإعلامي الجزائري سلطان البركاني، وهو منشور على الموقع الالكتروني (الشُّروق) التابع لجريدة الشُّروق الجزائرية، ومؤرَّخ بتاريخ 29/4 /2016م.

([51]) مجلة مقاربات، العدد:3، ص20، الصَّادر في شهر شوال سنة 1439 هـ عن المجلس الإسلامي السُّوري.

([52]) تراثنا وموازين النَّقد، ص188، للأستاذ السَّائح علي حسين، وهو مقال منشور في مجلة كلية الدَّعوة الإسلامية في طرابلس صليبيا، العدد:١٠، لسنة١٩٩٣م. 

([53]) حسن التنبّه لما ورد في التشبّه، ج7، ص559.

([54]) الكشّاف، الزمخشري، ج3، ص558.

([55]) شرح العلامة الزَّرقاني على المواهب اللدنية، ج6، ص276.

([56]) كفاية النَّبيه في شرح التَّنبيه، ج5، ص146.

([57]) الرَّوض المربع بشرح زاد المستنقع، ج1، ص269.

([58]) المهمَّات في شرح الرَّوضة، ج3، ص81.

([59]) منهاج السُّنّة، ج4، ص151.

([60]) منهاج السَّنة، ج4، ص154.

([61]) ترجمه الزَّركلي في الأعلام، ج7، ص150 فقال، "محمَّد بن يوسف بن محمد، أبو عبد الله بن الفخر الكنجي، محدِّث من الشَّافعية، نسبته الى (كنجة) بين أصبهان وخوزستان، نزل بدمشق، ومال إلى التَّشيع، وصنَّف "كفاية الطَّالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب– ط" و"البيان في أخبار صاحب الزَّمان –ط")، وصرَّح بشافعيته أيضاً حاجي خليفة في (كشف الظُّنون)، ج2، ص497. 

([62]) البيان في أخبار صاحب الزَّمان، ص473.

([63]) تاريخ الإسلام، الذَّهبي، ج14، ص900.

([64]) ذيل مرآة الزَّمان، اليونيني، ج1، ص361.

([65]) كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار، ص137 فما بعدها.

([66]) المهدي الموعود المنتظر، ج1، ص182.

([67]) منتخب الأثر في الإمام الثَّاني عشر، ص2، ص371.

([68]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص515.

([69]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص515.

([70]) نهج البلاغة، ج4، ص36.

([71]) كتاب الغيبة، النعماني، ج1، ص348.

([72]) الكافي، الكليني، ج1، ص340.

([73]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص٥٠٦.

([74]) كتاب الغيبة، ج1، ص350.

([75]) الكافي، ج1، ص27.

([76]) بحار الأنوار، ج2، ص6.

([77]) وسائل الشِّيعة، الحر العاملي، ج27، ص131.

([78]) الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص283.

([79]) الكافي، ج1، ص338.

([80]) الأمالي للطُّوسي، ص512.

([81]) الغيبة، ج1، ص457.

([82]) بحار الأنوار، ص52، ص281.

([83]) الغيبة، ص289.

([84]) الكافي، ج8، ص310.

([85]) الكافي، ج8، ص265.

([86]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص515.

([87]) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص327.

([88]) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص614.

([89]) بحار الأنوار، ج95، ص234.

([90]) كتاب الغيبة، ص335.

([91]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص352.

([92]) الكافي، ج1، ص337.

([93]) بحار الأنوار، ج91، ص42.

([94]) كتاب الغيبة، ج1، ص205.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا