نهضة الإمام الحسين(ع).. الأسباب والدوافع

نهضة الإمام الحسين(ع).. الأسباب والدوافع

الملخّص:

((تطرّق الكاتب أولاً في مقدمة بحثه لفوائد هذا الموضوع وأهميته، ثمّ بحثَ أهداف النهضة الحسينيّة في مقامين، أنَّه لا ينبغي الفصل بين هذين المقامين  لفهم هدف الإمام الحسين من النهضة: المقام الأوّل: أحداث ما قبل موت معاوية، والمواقف التي صدرت من الإمام الحسينg ضدّ قرار تنصيب يزيد ولياً للعهد، ذاكراً شواهد مهمة على ذلك.

المقام الثاني: أهمّ النظريّات المطروحة في بيان أهداف الإمام الحسينg في نهضته المباركة، فذكر خمسة نظريات مع ذكر الإيرادات والإشكالات على كلّ نظريّة، حتى انتهى الكاتب إلى النظريّة الصحيحة في نظره)).

 مقدمة: لماذا هذا البحث؟

قد يتساءل البعض ويقول: لماذا نبحث عن أهداف النَّهضة الحسينيّة؟ ولماذا نجهد أنفسنا في تحليل دوافع الحركة الحسينيّة؟ فهل نحنُ معنيُّون بتفسير هذه الحركة وتحليلها؟ فالحركة الحسينيّة كانت تحت ظروف معيَّنة وقد شخَّصها الإمام الحسينg وبنى عليها حركته المباركة، أمّا نحن فلا يمكننا فهم تلك الظروف على حقيقتها، فما الثمرة من إتعاب أنفسنا بلا طائل؟

وللجواب عن هذا التساؤل نقول: يمكننا إجمال مجموعة من الفوائد التي تدفعنا نحو تفسير وتحليل الحركة الحسينيّة وبيان أسبابها ودوافعها:

الفائدة الأولى: الفهم العميق لهذه الحركة المباركة

من المهمّ جدّاً على قارئ السيرة الحسينيّة أن يتعرَّف على الأسباب والدوافع التي دعت الإمام الحسينg إلى الخروج والنهوض والثورة؛ حتى يكون القارئ لهذه السِّيرة على بصيرة من أمره، وتكون إحاطته للسيرة الحسينيّة بشكلٍ أدقَّ وأعمق، ومن ثمَّ يستطيع استخراج العِبر والمواقف منها بشكلٍ صحيح؛ حتى يتمكَّن من التَّأسي بالمعصوم بفهمٍ صحيح.

فلماذا ثار الإمام الحسينg على يزيد؟ لماذا لم يتّبع الطريقة التي سار عليها الأئمةi من الالتزام بالتقيّة؟ فموقف الإمام الحسينg ظاهراً لم يختلف مع الإمام الحسنg فقط -كما يتصوّر الكثير- بل يختلف مع موقف جميع الأئمةi؛ إذ جميعهم -صلوات الله عليهم- لم يقوموا بثورة كما قام بها الإمام الحسينg، فلماذا حدث ذلك؟ هذا يحتاج إلى تفسير وتحليل.

الفائدة الثانية: التعرُّف على السُّنن التاريخية

توجد لظواهر الكون قوانين وضوابط تحكمه، والتَّاريخ البشريّ يندرج تحت هذه الظواهر للكون، وبالتَّالي فإنَّ للتاريخ أيضاً سنن وقوانين وضوابط تتحكَّم في مسيرته، فمعرفة هذه الضوابط تساعدنا على فهم حياتنا الحاضرة، وينفعنا في تفادي الأخطاء السابقة، فلا تكفي قراءة التاريخ قراءة سطحية فقط، بل لا بدَّ من تحليل التاريخ وتفسيره للوصول إلى تلك السنن والقوانين والاستفادة منها، قال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}([1]).

فمثلاً: في قوله تعالى: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كل شيء قدير}([2])، يتحدّث القرآن الكريم عن سنّة تاريخيّة، بمعنى أنَّه متى ما تخاذل النَّاس عن الجهاد فإنَّ عملية تغييرهم واستبدالهم بقوم آخرين سوف تحصل لا محالة، فهذا التغيير والاستبدال خاضعٌ لشروط موضوعية راجعة للبشر.

إذاً، نحن عندما نحاول تفسير النهضة الحسينيّة فإنّنا نحاول استكشاف السنن التاريخيّة والإلهيّة المهمّة التي كانت حاكمة في هذه المسيرة المباركة، ثم نحاول ربطها بواقعنا إلى زمان ظهور القائم الحجّةx، فحركة الإمام المنتظرx لها ارتباط وثيق بحركة الإمام الحسينg.

الفائدة الثالثة: التعرّف على مقام المعصومg

التعرّف على مقامات المعصومينq ضروريّ جدّاً؛ إذ كلّما زادت المعرفة عن مقاماتهم ومكانتهم زاد التعلّق بهم، وقد ذكرت الزيارة الجامعة مجموعة كبيرة من تلك المقامات العالية لهم، ويمكن للمؤمن أن يراجعها ويراجع الشروحات التي كُتبت على هذه الزيارة.

وبالتالي يعتبر فهم السيرة الحسينيّة وتحليلها من أهمّ الوسائل التي توصلنا لمعرفة شيء من مقامات الإمام الحسينg، وكذلك يعتبر هذا الجهد مصداقاً من مصاديق إحياء أمرهم صلوات الله عليهم.

[ماهية البحث:]

نكتفي بذكر هذا المقدار من الفوائد المرتبطة بتفسير وتحليل حركة الإمام الحسينg، ونحن هنا نريد أن نتطرّق إلى مجموعة من النظريات المطروحة في تفسير حركة الإمام الحسينg ونهضته، ثمَّ نورد عليها ما يمكن إيراده من نقوض واعتراضات، حتى يصل القارئ إلى فهم عميق حول هذه الحركة المباركة، ويكون على إطلالة كافية ووافية حول هذا الجانب.

ولكن قبل الشروع في بيان تلك النظريّات ينبغي أن نلقي بإطلالة موجزة حول الظروف السائدة التي سبقت حركة الإمام الحسينg، أي الظروف التي كان يعيشها الإمام الحسينg قبل موت معاوية، فما هي هذه الظروف التي عاشها الإمام الحسينg منذ استشهاد أخيه الإمام الحسنg إلى زمن موت معاوية؟ وما هي أهم المواقف التي قام بها الإمام الحسينg في تلك الفترة؟ فإنَّ فهمَ تلك المرحلة السابقة يساعدنا كثيراً في فهم حركة الإمام الحسينg بعد موت معاوية، ويساعدنا على فهم الأسباب والدوافع التي دفعت الإمام الحسينg إلى الخروج والنهوض.

فيقع البحث في مقامين: المقام الأول: إطلالة حول أهمّ الحوادث التي حصلت بعد استشهاد الإمام الحسنg إلى زمن موت معاوية. والمقام الثاني: بيان النظريات المطروحة حول أسباب ودوافع النهضة الحسينيّة. وفي المقام الثاني سوف نذكر كلّ نظريّة وما يرد عليها، حتى ننتهي إلى النظرية الصحيحة.

المقام الأوّل: أهمّ الحوادث قبل موت معاوية

سوف نتكلّم في هذا المقام في مجموعة من النقاط:

النقطة الأولى: دور معاوية في التمهيد لبيعة يزيد

خطَّط معاوية لتولية ابنه يزيد ولياً للعهد، ولكنَّه يعلم بأنَّ هذا الأمر ليس بالأمر الهيّن، فابنه هذا لا يليق لهذا المنصب أبداً، ولن يرضى بهذا التنصيب حتى المقرّبون منه([3])، فعمد إلى مجموعة من الأمور تمهيداً لتنصيب يزيد:

الأمر الأول: تصفية مَن يُشكِّلون عقبة أمام طريقه

عمد معاوية إلى تصفيّة واغتيال مجموعة من الأشخاص ممّن عرف منهم خلافهم في تنصيب يزيد، ونذكر منهم:

أولاً: الإمام الحسن المجتبىg، فإنّه بحسب عقد الصلح الحاصل بين الإمام الحسنg ومعاوية فإنَّ الخلافة بعد معاوية تكون للإمام الحسنg، فالإمام الحسنg يعتبر الخطر الأوّل والعقبة الكبيرة أمام تنصيب يزيد وليّاً للعهد، فلذا قام معاوية بدسِّ السُّمِّ إليه كما تصرّح بذلك المصادر التاريخية، جاء في مقاتل الطالبين: "دسّ معاويةُ إليه [أي إلى الإمام الحسنg] -حين أراد أن يَعهد إلى يزيد بعده- وإلى سعد بن أبي وقّاص سمّاً، فماتا منه في أيام متقاربة"([4]).

ثانياً: سعد بن أبي وقّاص، كما صرّح به النصّ المتقدّم.

ثالثاً: عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان من المعارضين لتنصيب يزيد ولياً للعهد، فـ"بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق بمائة ألف درهم، بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردّها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي! وخرج إلى مكّة فمات بها، قبل أن تتمّ البيعة ليزيد، وكان موته فجأة من نومة نامها! بمكان اسمه حبشي([5]) على نحو عشرة أميال من مكّة، وحُمِل إلى مكّة فدفن بها"([6]). والذي يعرف سياسات معاوية يعرف كيف مات هذا المعارض فجأة!

رابعاً: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فإنّه ممَّن عَظُم شأنه في الشام، ومال إليه أهلها؛ لمَّا كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم، ولبأسه، فخافه معاوية فأمر باغتياله، فقد جاء في أسد الغابة: "قيل: لما أراد معاوية البيعة ليزيد ابنه، خطب أهل الشام فقال: يا أهل الشام، كبرت سني، وقرب أجلي، وَقَدْ أردت أن أعقد لرجل يكون نظاماً لكم، وإنّما أنا رَجُل منكم، فأصفَقوا([7]) على الرضا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فشقَّ ذلك على معاوية وأسرَّها في نفسه، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن مرض فدخل عليه ابنُ أثال النصراني فسقاه سمّاً، فمات، فقيل: إنّ معاوية أمره بذلك، وذلك سنة سبع وأربعين"([8]).

إذاً، هذه مجموعة من الذين اغتالهم معاوية من أجل التمهيد لبيعة ابنه يزيد، ولعلّ هناك غير هؤلاء لم أقف عليهم.

الأمر الثاني: الترغيب والترهيب

اتّخذ معاوية أسلوب الترغيب بالأموال والهدايا، والترهيب بالسيف والقتل؛ من أجل التمهيد لبيعة يزيد، ونذكر هنا نموذجين:

النموذج الأول: شراء ضمائر الناس

ونذكر مجموعة من الأمثلة:

أولاً: كبار أهل الكوفة، فقد بعث معاويةُ المغيرةَ بن شعبة ليكفيه أمر الكوفة في أمر البيعة ليزيد، فسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكَرَ مَن يثق إليه ومَن يعلم أنّه شيعة لبني أميّة أمرَ يزيد، فأجابوا إلى بيعته، فأوفد منهم عشرة -ويقال أكثر من عشرة- وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة وقدموا على معاوية، فزيّنوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها، فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا، وكونوا على رأيكم، ثمَّ قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً، قال: لقد هان عليهم دينهم([9]).

ثانياً: الشعراء؛ فهم الواجهة الإعلاميّة في ذلك الوقت، وكان من المهمّ لدى معاوية أن يستميلهم إليه، فقد ذكر ابن أعثم ما يلي: "وكان الناس في أمر يزيد على فرقتين من بين راضٍ وساكت، أو قائل منكر. قال: فكان عُقيبة الأسدي شاعر أهل البصرة ممّن يكره بيعة يزيد ويبغضه، فأنشأ في ذلك يقول:

مُعاوِيَ إنَّنا بَشَرٌ فَأسجِح([10]) ... فَلَسنا بِالجِبالِ ولَا الحَديدِ

أكَلتُم أرضَنا فَجَرَدتُموها ... فَهَل مِن قائِمٍ أو مِن حَصيدِ

أتَطمَعُ فِي الخُلودِ إذا هَلَكنا ... ولَيسَ لَنا ولا لَكَ مِن خُلودِ

فَهَبها أُمَّةً هَلَكَت ضَياعاً ... يَزيدُ يَسوسُها وأبو يَزيدِ

دَعوا حَقَّ الإِمارَةِ وَاستَقيموا ... وتَأميلَ الأَراذِلِ وَالعَبيدِ

وأعطونَا السَّوِيَّةَ لا تَزِركُم ... جُنودٌ مُردِفاتٌ بِالجُنودِ

قال: فبلغ ذلك معاوية، فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم ليكفّ لسانه، فأنشأ عُقيبة يقول:

إذَا المِنبَرُ الغَربِيُّ حَلَّ مَكانَهُ ... فَإِنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَزيدُ

عَلَى الطّائِرِ المَيمونِ وَالحَدُّ صاعِدٌ([11]) ... لِكُلِّ أُناسٍ طائِرٌ وجُدودُ

فَلا زِلتَ أعلَى النّاسِ كَعباً ولَم تَزَل ... وُفودٌ يُساميها إلَيكَ وُفودُ

ألا لَيتَ شِعري ما يَقولُ ابنُ عامِرٍ ... لِمَروانَ أم ماذا يَقولُ سَعيدُ؟

بَني خُلَفاءِ اللّهِ مَهلاً فَإِنَّما ... يَنوءُ بِهَا الرَّحمنُ حَيثُ يُريدُ

قال: فأرسل إليه معاوية ببدرة أخرى([12])"([13]).

ثالثاً: أهل مكة والمدينة، فقد حجَّ يزيد بن معاوية في سنة 56هـ، ففرَّق بمكة والمدينة أموالاً كثيرة يشتري بها قلوب النَّاس، ثمَّ انصرف والنَّاس عنه راضون، ثمَّ شاع الخبر بين النَّاس بأنَّ معاوية يريد أن يأخذ البيعة ليزيد([14])، فيبدو أنَّ توزيع الهدايا من يزيد كان بتخطيط من معاوية نفسه.

بل إنَّ بعض النقولات تذكر بأنَّ معاوية كان يقدِّم الهدايا والجوائز للإمام الحسينg أيضاً([15])، ولعلَّه كان يظنُّ أنَّ باستطاعته أن يستميله.

النموذج الثاني: التهديد

كان معاوية يهدِّد النَّاس إمّا بحجّة أنَّهم سوف يتفرَّقون ويتمزَّقون من بعده إذا لم ينّصب لهم ابنه يزيد خليفة من بعده، وإمّا بالقتل فيما لو لم يغيّروا رأيهم في بيعة يزيد.

فمثلاً في خطابه لأهل الشام كان يقول: "أيّها الناس: إنّ لإبليس من الناس إخواناً وخلّاناً، بهم يستعدّ وإيّاهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعاً أوجفوا، وإن استغني عنهم أرجفوا، ثم يُلقحون الفتن بالفجور، ويُشقّقون لها حطب النفاق، عيّابون مرتابون، إن لَوَوا عروة أمرٍ حنفوا، وإن دُعوا إلى غيٍّ أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين، ولا بمقلعين، ولا متّعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحلُّ بهم قوارع أمر جليل، تجتثُّ أصولهم كاجتثاث أصول الفقع، فأولى لأولئك ثمَّ أولى؛ فإنَّا قد قدَّمنا وأنذرنا إن أغنى التقدُّم شيئاً أو نفع النذر"([16]).

وكذلك في كتابه الذي عهد فيه ببيعة ابنه يزيد كان يقول فيه: ".. فمن قرئ عليه هذا الكتاب وقبله حقّ قبوله وبادر إلى طاعة أميره يزيد بن معاوية، فمرحباً به وأهلاً، ومن تأبّى عليه وامتنع فضرب الرقاب أبداً حتى برجع الحقّ إلى أهله، والسلام على من قرئ عليه وقبل كتابي هذا"([17]).

الأمر الثالث: محاولة التقرّب من بني هاشم

علم معاوية بأنَّ بني هاشم لن يبايعوا ابنه يزيد، فحاول استمالتهم والتقرّب منهم عن طريق خطبة ابنة عبدالله بن جعفر لابنه يزيد، وبذلك يكون معاوية قد تقدَّم خطوة كبيرة في طريق التمهيد لخلافة ابنه يزيد، إلا أنّ الإمام الحسينg أفشل هذا المخطّط ورفض هذا التزويج.

ذكر ابن شهرآشوب في المناقب: "إنَّ معاوية كتب إلى مروان وهو عامله على الحجاز يأمره أن يخطب أمَّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد، فأتى([18]) عبد الله بن جعفر فأخبره بذلك، فقال عبدالله: إنَّ أمرها ليس إليَّ إنما هو إلى سيِّدنا الحسين وهو خاله، فأخبر الحسينg بذلك فقال: >أستخير الله تعالى، اللهمَّ وفق لهذه الجارية رضاك من آل محمد<، فلمَّا اجتمع الناس في مسجد رسول اللهe أقبل مروان حتى جلس إلى الحسينg وعنده من الجِلّة وقال: إنّ أمير المؤمنين أمرني بذلك، وأن أجعل مهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ، مع صلح ما بين هذين الحيَّين، مع قضاء دينه، واعلم أنَّ من يغبطكم بيزيد أكثر ممَّن يغبطه بكم! والعجب كيف يُستمهر يزيد وهو كفو من لا كفو له، وبوجهه يستسقى الغمام، فرُدَّ خيراً يا أبا عبد الله.

فقال الحسينg: >الحمد لله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خلقه.. ثمَّ قال: يا مروان قد قلت فسمعنا، أمّا قولك مهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول اللهe في بناته ونسائه وأهل بيته وهو اثنتا عشرة أوقية؛ يكون أربعمائة وثمانين درهماً، وأمّا قولك مع قضاء دين أبيها فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟ وأمّا صلح ما بين هذين الحيَّين فإنّا قوم عاديناكم في الله ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري فلقد أعيى النسب فكيف السبب! وأمّا قولك العجب ليزيد كيف يُستمهر، فقد استُمهر من هو خيرٌ من يزيد ومن أب يزيد ومن جدّ يزيد، وأمّا قولك إنّ يزيد كفو من لا كفو له، فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً، وأمّا قولك بوجهه يستسقى الغمام، فإنما كان ذلك بوجه رسول اللهe، وأمّا قولك من يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل<.

ثم قال بعد كلام: >فاشهدوا جميعاً أني قد زوّجت أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من بن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر على أربعمائة وثمانين درهماً، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة، أو قال: أرضي بالعقيق، وإنّ غلَّتها في السنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لها غنى إن شاء الله<. قال: فتغيَّر وجه مروان، وقال: أغدراً يا بني هاشم؟! تأبون إلا العداوة! .."([19]).

النقطة الثانية: أخذ البيعة ليزيد

استطاع معاوية بن أبي سفيان في مدّة حكمه المطلق وبدهائه ومكره أن يهيمن ويسيطر على الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في العالم الإسلاميّ، ومن القضايا التي روَّجها هي فكرة وجوب إطاعة الحاكم المسلم مطلقاً، حتى لو كان فاسقاً وظالماً ما لم يُظهر الكفر الصريح أمام الناس، وكان غرضه تصحيح مواقفه ومخالفاته، وكذلك التمهيد لحكم يزيد.

فقد وضعت أحاديث عن النبيe في هذا المعنى، ثمَّ استلم بنو العباس هذه الفكرة من بعده وتقبّلوها؛ لأنَّها تدخل في مصالحهم، وللأسف هذه الفكرة وهذه النُّصوص لا زالت تُتداول في كتب العامة، وهي محلّ قبول عندهم.

ومن أجل ذلك كان الإمام الحسينg يحاول تصحيح هذه الفكرة التي سادت في المجتمع، فنجده يروي حديثاً عن جدّه رسول اللهe ويقول: >أيها النَّاس إنَّ رسول اللّه قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ، كان حقّاً على اللّه أنْ يدخله مدخله<([20]).‏

وعلى كلّ حال، كان من الصعب جدّاً في ذلك الوقت أن يُغيّر الناس طريقة تفكيرهم، وأن يرفضوا أمرَ معاوية في تنصيب يزيد خليفة من بعده، خصوصاً مع ما كان يقوم به معاوية من ترغيب وترهيب، ولذلك تمّت البيعة ليزيد في العام 56 للهجرة عندما قدم معاوية بنفسه إلى مكّة والمدينة لأخذ البيعة، وقد بايعت الشام والعراق ومكة والمدينة، إلّا فئة قليلة من بني هاشم وغيرهم.

يقول العلامة الأمينيp: "إنَ المستشفّ لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جدّ عليم أنّها تمت برواعد الإرهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والافتراء، فيرى معاوية يتوعّد هذا، ويقتل ذاك، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدر من رضائخه([21]) على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم من لا يؤثّر فيه شيء من ذلك كلّه، غير أنّه لا رأي لمن لا يطاع، لكن إمام الهدى، وسبط النبوّة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مصحراً بالحقيقة، ومصارحاً بالحقّ، وداحضاً للباطل مع كلّ تلكم الحنادس([22]) المدلهمّة، أصغت إليه أذن أم لا، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين .."([23]).

النقطة الثالثة: موقف الإمام الحسينg من تنصيب يزيد

أعلن الإمام الحسينg معارضته الشديدة لتنصيب يزيد ولياً للعهد؛ لأنّ الخلافة هي حقٌّ لهg، ولأنَّ عقد الصلح بين الإمام الحسنg وبين معاوية كان ينصّ على ذلك، ولأنَّ يزيد بن معاوية كان فاجراً فاسقاً وغير مؤهّل لهذا المنصب، فكانت للإمام الحسينg مجموعة من المواقف المعارضة لمعاوية في هذا الشأن، نذكر منها:

الموقف الأول: ردّ الإمام الحسينg على رسالة معاوية

لم يلبث معاوية بعد شهادة الإمام الحسنg إلا يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام، وكتب ببيعته إلى الآفاق، ولكنَّ أهل المدينة أبطأوا في الاستجابة بسبب امتناع بني هاشم وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وغيرهم، فكتب معاوية كُتباً إليهم، ومن الذين كتب إليهم معاوية هو الحسينg، وفيها: "أما بعد، فقد انتهت إليَّ منك أمور، لم أكن أظنُّك بها رغبة عنها، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتقّ الله، ولا تردنَّ هذه الأمَّة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمَّة محمَّدٍ، {ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}([24])"([25]).

فأجابه الإمام الحسينg برسالة شديدة اللهجة وقال: >أمَّا بعد، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنَّه انتهت إليك عنِّي أمورٌ لم تكن تظنّني بها، رغبة بي عنها، وإنّ الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدّد إليها إلّا الله تعالى، وأمّا ما ذكرت أنّه رقى إليك عنّي، فإنّما رقاه الملّاقون، المشاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردتُ حرباً ولا خلافاً، وإنِّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك، القاسطين المحلِّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم.

ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود المؤكّدة، جرأةً على الله واستخفافاً بعهده، أو لست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من شعف الجبال، أو لست المدعي زياداً في الإسلام، فزعمت أنَّه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول اللهe أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثمَّ سلَّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلّبهم على جذوع النخل، سبحان الله يا معاوية! لكأنَّك لست من هذه الأمَّة، وليسوا منك.

أوَ لست قاتل الحضرميّ الذي كتب إليك فيه زيادة أنَّه على دين عليٍّ، ودين عليٍّ هو دين ابن عمِّهe، الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين؛ رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا، منَّة عليكم، وقلت فيما قلت: لا تردّ هذه الأمة في فتنة، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمَّة محمد، وإنِّي واللهِ ما أعرف أفضل من جهادك، فإنْ أفعل فإنَّه قربة إلى ربي، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون، وإني لأرجو ألّا تضرّ إلا نفسك، ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا لك، واتقِّ الله يا معاوية، واعلم أنَّ لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، واعلم أنَّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب [يعني يزيد بن معاوية]، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام<([26]).

الموقف الثاني: ردّ الإمام الحسينg على معاوية في المدينة

بعد أن رفض الإمام الحسينg البيعة ومعه بنو هاشم، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وغيرهم، فكذلك لم يجبه أهل المدينة؛ تبعاً لهؤلاء الأشخاص، فأمره معاوية أن لا يحرِّك هؤلاء النَّفر ولا يهيَّجهم.

فكتب سعيد بن العاص والي المدينة إلى معاوية: إنَّه لم يبايعني أحد، وإنَّما النَّاس تبعٌ لهؤلاء النَّفر، فلو بايعوك بايعك النَّاس جميعاً، ولم يتخلِّف عنك أحد، فكتب إليه معاوية يأمره ألّا يحرّك هؤلاء النَّفر ولا يهيّجهم إلى أن يقدم هو بنفسه إلى المدينة.

فقدم معاوية المدينة حاجّاً عام 51هـ([27])، وفي صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له، ثمَّ أرسل إلى الحسينg وعبدالله بن عبّاس، فلمّا دخل ابن عبّاس أجلسه على يساره، ولمَّا دخل الحسينg أجلسه على يمينه، ثمَّ بعد السؤال عن الأحوال وغير ذلك ابتدأ معاوية الكلام فقال بعد كلام له: "أمَّا بعد، فالحمد لله وليِّ النعم، ومنزل النقم! وأشهد ألّا إله إلّا الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيراً، وأنَّ محمداً عبده المختص المبعوث إلى الجنِّ والإنس كافّة، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأدَّى عن الله، وصدع بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى وضح دين الله، وعزَّ أولياؤه، وقمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه، وقد ترك من الدُّنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخّر له، زهادة واختياراً لله، وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسولe [هكذا صلاة بتراء]، ثمَّ خلفه رجلان محفوظان، وثالث مشكور، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به في أمر الرعية، من سدّ الخلل، ولمّ الصدع بولاية يزيد بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنّة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمِّ الصلاب، وقد علمتما أنَّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة، قدَّم على الصديق والفاروق، ومن دونهما من أكابر الصحابة، وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل، من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة، ولا سنة مذكورة [يقصد عمرو بن العاص]، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال فلم يقل معه، وفي رسول اللهS أسوة حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب، فأنا وأنتم شُعبا نفع [أب] وجدِّ، وما زلتُ أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فرُدَّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما".

فتيسَّر ابنُ عبَّاس للكلام، ونصب يده للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: >على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التُّهمة أوفر<، فأمسك ابن عبَّاس، فقام الحسينg، فحمد الله، وصلَّى على الرسول ثمَّ قال: >أمَّا بعدُ يا معاوية، فلن يؤدِّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولe من جميعٍ جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتى أفطرت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى محلت، وجُزت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقَّه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظَّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمِّة محمد، تريد أن توهم النَّاس في يزيد، كأنَّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمَّا كان ممَّا احتويته بعلمٍ خاص، وقد دلَّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السُّبق لأترابهنَّ، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممَّا أنت لاقيه، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص!

ورأيتك عرَّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولقد -لعمر الله- أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة، وجئت لنا بما حاججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجَّة بذلك، وردّه الإيمان إلى النَّصَف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللهe وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذٍ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له، وما صار -لعمر الله- يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقالe: >لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري<. فكيف تحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت [قارنت] بصاحب تابعاً وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يُعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاّهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم<.

فنظر معاوية إلى ابن عبَّاس فقال: "ما هذا يا بن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمر".

فقال ابن عبَّاس: "لعمر الله إنَّها لذريّة الرسول، وأحد أصحاب الكساء، وفي البيت المطهَّر، فالْهُ عمّا تريد؛ فإنَّ لك في الناس مقنعاً، حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين".

فقال معاوية: "أتعوّد الحليم التحلّم؟!"، قال ابن عبّاس: "وخيره التحلّم عن الأهل". فقال معاوية: "انصرفا في حفظ الله"([28]).

ثم احتجب معاوية ثلاثة أيام لا يخرج، ثم خرج فأمر أن يجتمع الناس في المسجد، فخطب فيهم وذكر يزيد وفضائله، ثم قال لهم بأنَّ النَّاس جميعهم قد بايعوا وسلَّموا إلا أهل المدينة، ثمَّ قال: "وكان الذين أبوا البيعة منهم من كانوا أجدر أن يصله، ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له".

فقام الحسينg فقال: >والله لقد تركت من هو خير منه أباً وأماً ونفساً<.

فقال معاوية: "كأنك تريد نفسك؟"، فقال الحسينg: >نعم، أصلحك الله<([29]).

وهكذا ردّ عليه معاوية، فردّ عليه الإمام الحسينg بكلام شديد اللّهجة أمام الناس، وأيّده في ذلك بعض الأشخاص، وإنّما تركنا نقل الكلام طلباً للاختصار.

الموقف الثالث: استيلاء الإمام الحسينg على قافلة كانت متّجهة إلى معاوية في الشام.

بما أنّ معاوية هو خليفة جور وظلم، فهو ليس مالكاً شرعياً لأموال المسلمين، بل هو متصرّف غاصب لأموالهم، ولعلّه من أجل تسجيل موقف معارضة من الإمام الحسينg تجاه تنصيب معاوية لابنه يزيد ولياً على العهد حصلت الحادثة التالية التي ذكرها ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرحه، قال: "كان مالٌ حُمل من اليمن إلى معاوية، فلمّا مرّ بالمدينة وثب عليه الحسين بن عليّg فأخذه وقسمه في أهل بيته ومواليه، وكتب إلى معاوية: >من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً و طيباً إليك؛ لتودعها خزائن دمشق، وتعلُ بها بعد النهل بني أبيك، وإنّي احتجت إليها فأخذتها، والسلام<.

فكتب إليه معاوية: "من عند عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ، سلام عليك، أما بعد، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً و طيباً إليّ؛ لأودعها خزائن دمشق، وأعل بها بعد النهل بني أبي، وأنك احتجت إليها فأخذتها، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال، ثم عليه المخرج منه، وأيم الله لو ترك ذلك حتى صار إليّ لم أبخسك حظّك منه، ولكني قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة، وبودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك ولكني والله أتخوّف أن تبتلي بمن لا ينظرك فواق ناقة([30])، وكتب في أسفل كتابه:‌

يا حسين بن عليّ ليس ما ... جئت بالسائغ يوماً في العلل

أخذك المال ولم تؤمر به ... إنّ هذا من حسين لعجل

قد أجزناها ولم نغضب لها ... واحتملنا من حسين ما فعل

يا حسين بن عليّ ذا الأمل ... لك بعدي وثبة لا تحتمل

وبودي أنني شاهدها ... فإليها منك بالخلق الأجل

إنني أرهب أن تصلى بمن ... عنده قد سبق السيف العذل"([31])،([32]).

الموقف الرابع: خطبة الإمام الحسينg في منى قبل عام من موت معاوية

روى سليم بن قيس الهلالي: "أنَّ الحسينg حجَّ قبل موت معاوية بسنة أو سنتين (58هـ)، ومعه ابنا عمّيه عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر، فلمَّا كانوا بمنى جمع إليه من حجَّ من بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ومن يعرف من أهل بيته والأنصار، وأرسل رسلاً وقال لهم: >لا تدعوا أحداً ممّن حجّ العام من أصحاب رسول اللّه المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ أن تجمعوهم لي<، فاجتمع إليه في سرادقه نحو من مئتي رجل من أصحاب النبي، وأكثر من سبعمئة رجل من التابعين وغيرهم، ثمَّ قام فيهم الحسينg خطيباً:

فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: >أمَّا بعد، فإنّ هذا الطاغية [معاوية] قد فعل بنا وشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم! وإنّي أريد أن أسألكم عن شي‌ء فإن صدقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني! أسألكم بحقّ اللّه عليكم وحقّ رسول اللّه وحقّ قرابتي من نبيّكم! لما سبرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي، ودعوتم من أنصاركم في قبائلكم من أمنتم من الناس ووثقتم به، فأدعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا، فإنّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحقّ ويغلب! {وَاَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ}([33])، ثمّ قال: أتعلمون أنّ رسول اللّهe فضّل [علياً] على جعفر وحمزة([34]) حين قال لفاطمة: >زوّجتك خير أهل بيتي: أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً<؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللّهe قال: >أنا سيّد ولد آدم، وأخي سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، وابناي الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة<؟ قالوا: اللهمَّ نعم!

قال: أتعلمون أنَّه كانت له من رسول اللّهe كلّ يوم خلوة وفي كلّ ليلة دخلة، إذا سأله أجابه وإذا سكت ابتدأه؟ قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أنّ رسول اللّهe قضى بينه وبين زيد وجعفر فقال له: >يا عليّ، أنت منّي وأنا منك، وأنت وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي<؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللّهe لم تنزل به شدّة قط إلاّ قدّمه لها ثقة به، وأنه لم يدعه باسمه قط إلاّ أن يقول: يا أخي أو ادعوا لي أخي؟ قالوا: اللهم نعم!

قال: أنشدكم اللّه، أتعلمون أنَّه دفع إليه اللواء يوم خيبر وقال: >لأدفعه [لأدفعنه] إلى رجل يحبّه اللّه ورسوله، ويحبّ اللّه ورسوله، كرّار غير فرّار، يفتحها اللّه على يديه<؟ قالوا: اللهم نعم!

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّهe اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل (تدريجاً) تسعة له، وجعل أوسطها لأبي، ثمّ خطبe فقال: «إنّ اللّه أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيره، وغير هارون وابنيه؛ وإنّ اللّه أمرني أن ابني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وابنيه»، ثمّ سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه، فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقالe: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه»، ثمّ نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره... وإنّ عمر بن الخطّاب حرص على كوّة قدر عينيه من منزله إلى المسجد، فأبى عليه! قالوا: اللهم نعم!

قال: أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّهe قال له في (خروجه إلى) غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كل مؤمن بعدي»؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّهe نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولاية وقال: «فليبلّغ الشاهد الغائب»؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّهe حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أن رسول اللّهe قال في آخر خطبة خطبها: «أيّها الناس، إنّي تركت فيكم الثقلين: كتاب اللّه وأهل بيتي، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا»؟ قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أن رسول اللّهe أمره بغسله وأخبره: أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللهم نعم!

فلم يدع شيئاً أنزله اللّه في عليّ بن أبي طالب خاصّة وفي أهل بيته من القرآن، ولا على لسان نبيّه، إلاّ ناشدهم فيه، فيقول الصحابة: اللهم نعم قد سمعناه، ويقول التابعي: اللهم نعم قد حدّثنيه من أثق به!

ثمّ ناشدهم: أنهم هل سمعوهe يقول: «من زعم أنّه يحبّني ويبغض علياً فقد كذب، ليس يحبّني وهو يبغض علياً»، فقال قائل: يا رسول اللّه وكيف ذلك؟ فقال: «لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه! ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه»!

فقالوا: اللهم نعم قد سمعناه"([35]).

إذاً، هذه بعض المواقف الصلبة والمعارضة من الإمام الحسينg ضدّ معاوية بن أبي سفيان، فيتبيّن لنا أنّ معارضة الإمام الحسينg لبيعة يزيد لم تكن فجأةً حين موت معاوية، بل كانت معارضته لذلك منذ عهد معاوية وحين تنصيب يزيد ولياً للعهد، فهو لم يبايع ليزيد في عهد معاوية، وقد ترك معاوية الإمامَ الحسينg في شأن البيعة، ولم يلاحقه لإجباره على البيعة.

ولكن يبقى السؤال: لماذا لم يخرج الإمام الحسينg على معاوية بعد أن أمر بالبيعة لابنه يزيد، خصوصاً وأنّ معاوية قد خرق عقد الصلح؟!

نقول: لم يكن ليخفى على الإمام الحسينg ما كان عليه معاوية من دهاء ومكر وغدر يمكّنه من تظليل أذهان الناس بحيث لا يعود لحركة الحسينg ضدّه أيّ أثر؛ إذ لو ثار الإمام الحسينg على معاوية فإنّ من المتوقّع أن يتّجه معاوية إلى عدّة خيارات في المواجهة:

الخيار الأوّل: اغتيال الإمام الحسينg بالسمّ، كما هو ديدنه مع معارضيه، وبالتالي لن يتحقّق التأثير الذي تعطيه الحركة والثورة.

الخيار الثاني: حصار الإمام الحسينg وعدم قتله، بل مراعاته ومراعاة أهل بيته، ثمّ إطلاق سبيلهم، وهذا ما يتمنّاه معاوية من أجل أن يردّ إليهم إطلاق رسول اللهe لهم، وبذلك تكون له المنّة عليهم. بل هذا هو ما أوصى به ابنه يزيد أيضاً([36]).

الخيار الثالث: حتى لو قتل الحسينg، إلا أنّ جهازه الإعلاميّ الضخم يمكنه أن يصوّر الحسينg أنه طالب ملك، أو خارجيّ، أو غير ذلك، خصوصاً وأنّ معاوية كانت له مسحة دينيّة لم تكن ليزيد ابنه.

فتلاحظ أنّ كلّ هذه الخيارات لم تكن في صالح قيام الإمام الحسينg ضدّ معاوية، فلو ثار الإمام الحسينg في ذلك الوقت لما أعطت حركته ثمارها المطلوبة، بالإضافة إلى وضع الأمّة آنذاك من التسليم لمعاوية والخوف منه، ولذا صرّح الإمام الحسينg بذلك حينما جاءته كتب أهل الكوفة من الشيعة يطلبون منه القيام على معاوية، حيث قال فيما قاله: «فليكن كلّ رجل منكم حلساً([37]) من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّاً، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا، والمعونة على أمرنا، وألّا يكلنا إلى أنفسنا، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون»([38]).

وقد مات معاوية في مستهلّ شهر رجب من عام 60هـ بعد أن أوصى ابنه يزيد بوصايا عديدة، ومن ضمن تلك الوصايا بأنّه يخشى عليه من ثلاثة نفر: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، والحسين بن عليّg، وأوصاه أن يراقب عبدالله بن عمر ولا يدعه، وأن يظفر بعبدالله بن الزبير ويقتله، وأن يظفر بالحسينg ولكن لا يقتله، بل يصفح عنه([39]).

 المقام الثاني: النظريّات المطروحة حول أسباب ودوافع النهضة الحسينيّة

بعد أن ألقينا نظرة على الظروف والأحداث التي حدثت قبل موت معاوية، نأتي الآن إلى بيان النظريّات التي تُذكر في أسباب وأهداف حركة الإمام الحسينg ضدّ يزيد بن معاوية.

وسوف نذكر في هذا البحث أهمّ النظريات التي يمكن قبولها في حدّ ذاتها والتي طرحت في بيان سبب خروج الإمام الحسينg وثورته، أمّا النظريات الواضحة البطلان فلن نتعرّض لها ولا للجواب عنها، كنظرية بعض السلفيين الذين قالوا بأنّ خروج الإمام الحسينg لم يكن شرعيّاً، وأنّه قُتل بسيف جدّه، وأنّه السبب في تمزيق الأمّة، وكذلك نظريّة بعض المستشرقين الذين قالوا بأنّ خروج الإمام الحسينg على يزيد كان بدافع قَبَليّ؛ وذلك للصراع القديم القائم بين بني هاشم وبني أميّة، فهذه كلّها نظريات باطلة وغير مقبولة في نفسها، فلذا نعرض عنها.

فنذكر هنا أهمّ النظريات:

النظريّة الأولى: الحفاظ على النفس([40])

تفيد هذه النظريّة بأنّ الإمام الحسينg لم يكن يريد القتال والمواجهة، بل كان يريد الحفاظ على نفسه وأهل بيته فقط، ولكنّه أُجبر على الخروج والقتال.

ولهذه النظرية مجموعة من الشواهد:

الشاهد الأول: تصريحات الإمام الحسينg نفسه

إنّما خرج الإمام الحسينg من المدينة بسبب أنّ القوم قد هدّدوه بالقتل، ولم يراعوا فيه حرمة رسول اللهK، فخرج من المدينة ليحفظ نفسه، وقد صرّح بذلك في مواطن متعدّدة:

منها: عندما توجّههg إلى قبر النبيK يشكو ما أصابه، قال: «فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني»([41])، فالقوم لم يحفظوه بل أرادوا قتله.

ومنها: عندما خرج من المدينة جعل يقرأ هذه الآية: {فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قال رَبِّ نَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}([42])([43])، فهو خائف من أن يُقتل.

ومنها: عندما التقى في الطريق إلى مكة بأبي هرم [أو أبي هرّة] الكوفيّ، وقد سأله أبو هرم عن سبب خروجه من المدينة، فقالg: «ويحك يا أبا هرم، شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله ليقتلنّي، ثم ليلبسنّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلطنّ عليهم من يذلهّم»([44]).

فالإمامg يصرّح بأنّه خرج خائفاً هارباً، وهذا ليس أمر سلبيّاً حتى يؤاخذ الإمامg به، بل هو بمعنى الاحتراز وحفظ النفس؛ لأنّه كان لا يريد المواجهة آنذاك.

الشاهد الثاني: فهم المؤرّخين

هناك مجموعة من المؤرّخين قد ذكروا أنَّ سبب خروج الإمام الحسينg من المدينة هو الخوف والفرار لحفظ النفس، وليس أمراً آخر، منهم مثلاً:

-ابن كثير: حيث قال: "وصمّم على المخالفة الإمام الحسينُ وابنُ الزبير، وخرجا فارّين إلى مكّة فأقاما بها"([45]).

-ابن حجر: حيث قال: "وسبب مخرجه رضي الله عنه أنّ يزيد لمّا استخلف سنة ستّين أرسل لعامله بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين، ففرّ لمكّة خوفاً على نفسه"([46]).

الشاهد الثالث: طريقة سير حركة الإمام الحسينg

إذا لاحظنا كيفيّة الأحداث التي سار عليها الإمام الحسينg منذ خروجه من المدينة إلى يوم العاشر من المحرّم نجد بأنَّها كانت من أجل الدفاع والحفاظ على النفس فقط، فالإمام الحسينg عندما لم يكن يريد البيعة ليزيد وكان الخطر يتهدّده في المدينة خرج إلى مكّة ليحفظ نفسه؛ باعتبار أنّ مكّة هي البلد الحرام والآمن، وهكذا عندما علمg بأنّ يزيد قد أرسل إليه ثلاثين شيطاناً ليقتلوه ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة خرج من مكّة قاصداً الكوفة؛ باعتبار أنّهم هم الذين كاتبوه وأنّهم سوف يحمونه من وصول أعوان يزيد إليه، ثم بعد لقائه بجيش الحرّ اقترح عليهم الرجوع إلى المدينة، ولكنّه أُجبر على الذهاب إلى كربلاء وحصاره في العراء، وفي كربلاء كذلك لم يكن يريد البدء بالقتال أصلاً، فقد قال لمسلم بن عوسجة في يوم العاشر: «ما كنت لأبدأهم بالقتال»([47])، حتى أُجبرg على القتال وقُتلg، فكلّ المجريات تفيد بأنّ الإمام الحسينg كان يريد الدفاع عن نفسه فقط.

الشاهد الرابع: بقاء الإمامg في مكة أربعة أشهر

لقد خرج الإمام الحسينg من المدينة في مستهل شهر رجب، وبقي إلى شهر ذي الحجّة، أي ما يقارب الأربعة أشهر، وفي فترة بقائه في مكّة لم ترصد الحكومة أيّ تحرّك من قبله ممّا من شأنه أن يهدّدها، مع أنّ الناس كانت تدخل على الإمامg وتخرج أمام أنظار السلطة، وإلا لو كان الإمام الحسينg يتحرّك للثورة لما أُمهل كلّ هذه الفترة.

ثمّ إنّ مصطلح (الخروج) الذي استعمل على لسان الإمام الحسينg لا يعني الثورة، فهذا التحميل للمصطلح على غير معناه، وهو إنّما حصل بسبب الأجواء والحماسة السياسيّة التي نعيشها، وإلّا فالتعبير بالخروج -في جميع المواضع التي استعملها الإمامg- يعني الخروج من المدينة؛ لأنّ كلمة (الخروج) اقترنت بالحرف (إلى)، وليس بالحرف (على) حتى نحمّلها معنى الثورة، كما قالg لأخيه محمد بن الحنفية: «وأنا عازم على الخروج إلى مكّة»([48]).

الإيرادات على هذه النظرية:

هذه النظرية لا يمكن القبول بها؛ لعدّة أمور:

الأمر الأوّل: صحيح أنّ الإمام الحسينg لم يقبل بمبايعة يزيد وخرج من المدينة إلى مكّة ثم إلى الكوفة، إلا أنّ هذا لا يعني أن نحصر هدف الإمام الحسينg بهذا، بل هو قد أعلنها صريحاً بأنه خارجٌ لطلب الإصلاح في أمّة جدّه، لا أنّه فقط يريد الفرار من البيعة والحفاظ على نفسه.

الأمر الثاني: الإمام الحسينg أعلن صريحاً بأنّه سوف يستشهد وأنّه طالبٌ للشهادة، ولذا قال: «مَن لَحِقَ بنا منكم استشهد، ومَن تخلّف لمْ يبلغ الفتح<([49])، وقال: >شاء الله أن يراني قتيلاً»([50])، فهو خارج وعازم على الشهادة، وهذا لا ينسجم مع القول بأنّه يفرّ للحفاظ على نفسه فقط؛ إذ كانg يعلم بأنّ فراره لا يجدي نفعاً، فبنو أميّة سوف يلاحقونه ويقتلونه أينما كان، فلذا كان يقولg: «لو دخلت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني»([51]).

الأمر الثالث: أنّه لا مانع من القول بأنّ الإمام الحسينg كان يريد الحفاظ على نفسه، ولكن ليس ذلك هدفاً في نفسه، بل هو يريد الحفاظ على نفسه من أجل هدف آخر وغاية أخرى.

النظريّة الثانية: التكليف الخاصّ بالإمامg([52])

تفيد هذه النظريّة أنّ الإمام الحسينg قد خرج بداعي التكليف الإلهيّ الخاصّ به، فالله! كلّفه بالخروج وأوجب عليه ذلك، أمّا ما هو السبب في ذلك؟ فلا نعلمه، فهو أمر غيبيّ بالنسبة لنا.

ولهذه النظرية مجموعة من الشواهد:

الشاهد الأول: الوعد بالشهادة من رسول اللهe

عندما ذهب الإمام الحسينg لوداع جدّه المصطفىe، ثم غفى على القبر غفوة، رأى رسول اللهe في المنام فقال لهe: «إنّ لك في الجنة درجات لن تنالها إلا بالشهادة»([53])، يعني أنت مكلّف بالخروج، ولكن ما هو سرّ هذا التكليف؟ لا نعلمه.

الشاهد الثاني: ما روي عن الإمام الصادقg من أنّ لكلّ إمام مسؤولية وتكليف إلهي

وكان تكليف الإمام الحسينg هو الشهادة، فقد جاء في الكافي عن الإمام الصادقg رواية طويلة تذكر تكليف كلّ إمام، ننقل محلّ الشاهد: «فلما توفي الحسنg ومضى، فتح الحسينg الخاتمَ الثالث، فوجد فيها: أنْ قاتِل فاقتُل وتُقتل، واخرج بأقوام للشهادة لا شهادة لهم إلا معك، قال: ففعلg»([54]).

الشاهد الثالث: ما ذكره الإمام الحسينg لأخيه محمد بن الحنفية

من أنه رأى جدّه رسول اللهK وقال له: «يا حسين اخرُج، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»([55]).

فجميع هذه الشواهد تشهد بأنّ خروج الإمام الحسينg كان تكليفاً شخصيّاً وخاصّاً به، وأمّا الأسباب فهي غيبيّة بالنسبة لنا، فثورة الإمام الحسينg هي حالة استثنائيّة وليست قاعدة عامّة.

الإيرادات على هذه النظرية:

وهذه النظرية لا يمكن قبولها أيضاً؛ لعدّة أمور:

الأمر الأوّل: إنّ الأنبياء والأوصياء إنّما يتعاملون بالعنصر الظاهري البشري، ولا يتعاملون بالعنصر الغيبيّ كما هو معلوم؛ إذ الهدف من بعثهم وجعلهم هو إصلاح الناس وتربيتهم، وهو إنّما يكون عن طريق جعل القدوة التي يستطيع الناس الاقتداء بها، وهذا يقتضي أن تكون القدوة في نطاق قدرة المقتدي حتى يمكنه الاقتداء، بمعنى أنّه لا بدّ من أن يكون تعامل هذه القدوة تعاملاً وفق مقتضيات العنصر البشريّ لا الغيبيّ، وأمّا القول بهذه النظريّة فهذا يعني أنّه لا يمكن الاقتداء بالإمامg.

الأمر الثاني: إنّ الإمام الحسينg قد صرّح بأنّ خروجه كان بدوافع عقلانيّة لا غيبيّة، فهو قد قالها صريحاً: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»، فهذا أمر عقلانيّ واضح، لا أنّه أمر غيبيّ وغير واضح.

النظريّة الثالثة: إقامة دولة الحقّ([56])

تفيد هذه النظريّة أنّ الإمام الحسينg قد خرج من أجل إقامة دولة الحقّ وإحياء سنّة النبيK، فالحسينg لمّا رأى أنّ الفرصة مواتية له لإقامة الدولة الإسلاميّة الحقّة والعادلة بدأ بالتخطيط للخروج والثورة، ولكن بعد ذلك عندما خذله الناس ولم يمتثلوا لتكليفهم الشرعيّ لم يتحقّق هذا الهدف وهو إقامة الدولة الحقّة، فهذا من قبيل خروج النبيK في معركة أحد، فبعد أن لم يمتثل المسلمون أوامر رسول اللهe انهزموا.

ولهذه النظرية عدّة شواهد:

الشاهد الأوّل: مراسلات الإمام الحسينg مع أهل الكوفة التي تبيّن أنّ الهدف كان هو إزاحة يزيد وإقامة دولة الحقّ.

الشاهد الثاني: إرسال الإمام الحسينg مسلم بن عقيل إلى الكوفة من أجل استخبار حال أهل الكوفة ومدى استعدادهم للحرب والقتال، فهذا يكشف عن أنّه كان يريد إقامة دولة وحكومة.

الشاهد الثالث: إنّ بنود صلح الإمام الحسنg مع معاوية قد نصّت على أنّ الخلافة بعد معاوية إنّما تكون للحسينg إن لم يكن الإمام الحسنg موجوداً، فالإمام الحسينg خرج يريد أخذ الخلافة وتكوين الدولة؛ وفقاً لما جاء في الصلح.

الشاهد الرابع: أنّ تصريح الإمام الحسينg بأنّه خارج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه، وأنّه يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يلزم منه أن يكون خروجه من أجل إقامة الدولة، وإلّا كيف سيتحقّق الإصلاح؟! وكيف سيكون مبسوط اليد حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! فلا بدّ من إقامة الدولة حتى تتحقّق هذه الأمور.

الإيرادات على هذه النظرية:

ويرد على هذه النظرية عدّة أمور:

الأمر الأوّل: إنّ خطابات الإمام الحسينg وإعلانه صريحاً بأنّه سوف يُقتل ويُستشهد لا ينسجم مع هدف إقامة الدولة؛ لأنَّ هذا التصريح منه يعتبر عاملاً منفّراً للناس، والحال أنَّ الإمام الحسينg يحتاج إلى الناس والجند للقتال من أجل تحقيق هذا الهدف.

الأمر الثاني: بناءً على هذه النظرية كان ينبغي على الإمام الحسينg بعد أن خذله أهل الكوفة، وبعد أن سمع بمقتل مسلم بن عقيل أن يتراجع عن هذا الهدف وهو إقامة الدولة؛ لأنه لن يتحقّق هدفه من دون جنود ومقاتلين، ولكنّا نجده× قد واصل طريقه بعد سماع خبر مقتل مسلم، فهذا يعني بأنه ليس إقامة الدولة هو الهدف؛ فالذي يتحرّك من أجل الحكم فإنه يتقدّم في حركته إلى حيث يرى إمكان المواصلة، وأما إذا علم بعدم إمكان تحقّق إقامة الحكم والدولة فتكليفه أن يرجع.

الأمر الثالث: إنّ قول الإمام الحسينg بأنّه قد خرج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه، وأنّه يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يدلّ بالصراحة على أنّه يريد إقامة دولة، نعم سيأتي توجيه ذلك في النظريات الآتية.

النظريّة الرابعة: طلب الشهادة من أجل إيقاظ الأمّة([57])

تفيد هذه النظرية أنّ الإمام الحسينg خرج طالباً الشهادة من أجل إيقاظ هذه الأمّة بعد أن أصابها الخمول والركود، وانطفأت فيها شعلة الحماسة والثورة ضدّ الانحرافات الكبيرة والخطيرة، فلا يمكن إعادة الأمّة إلى الطريق الصحيح إلا من خلال الدم الطاهر لأبي عبد الله الحسينg، وكذلك الإمام الحسينg كان يعلم بأنّه سوف يُقتل ويُستشهد، والروايات في هذا المعنى كثيرة، فهو لم يخرج لأجل إقامة الدولة، بل لإحياء ضمير الأمّة من جديد.

 ويمكن أن نذكر عدّة شواهد على ركود الأمّة وعدم مبالاتها بما يجري في العالم الإسلاميّ والذي يعبّر عنه السيد الشهيد الصدرp بـ (أخلاقيّة الهزيمة وموت الإرادة):

الشاهد الأول: إنّ من كانوا يُسمّون بعقلاء المسلمين وكبار القوم في المدينة ومكّة أجمعوا على أنّ تحرّك الحسينg فيه خطر كبير، وكانوا يخوّفونه بالموت، وبقوّة بني أميّة، أمثال عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر الطيّار، ومحمد بن الحنفيّة، وغيرهم، فهذا هو حال نخبة المسلمين! فهذا شاهد على مستوى الانهيار النفسيّ الذي تفشّى حتى في سادة المسلمين فضلاً عن سائر الناس.

الشاهد الثاني: عندما طلب الإمام الحسينg من عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ أن ينصره، فإنّه قد عزّ عليه أن يقدّم شيئاً سوى فرسه! هنا روح الانهزام، فهو لا يريد أن يضحّي، يريد أن يحفظ نفسه فقط، فهو الذي كان يقول عندما أرسل إليه الإمام الحسينg رسولاً يدعوه إليه: "والله ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين بن عليّg وأنا فيها فلا أنصره"([58]).

 الشاهد الثالث: جاء في بعض النقولات أنّ حبيب بن مظاهر استأذن الإمام الحسينg أن يذهب ويدعو عشيرته -(بني أسد) التي كانت قريبة من الغاضريّة- للالتحاق بالإمام الحسينg، فعندما ذهب إليهم حبيب وهو مع تلك الوجاهة عندهم ماذا صنعوا؟ هل استجابوا؟ كلا، بل في نفس تلك الليلة غادرت كلّ عشيرة بني أسد تلك المنطقة خوفاً على أنفسهم([59])!.

الشاهد الرابع: عندما وقع قيس بن مسهر -رسول الحسينg- في قبضة ابن زياد أمره أن يصعد المنبر ويسبّ الإمام عليّg وابنيه الحسن والحسينp وإلا سيقتله، فعندما صعد المنبر قال وبكلّ شجاعة: "أنا رسول الحسين إليكم، وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه"([60])، فأمر عبيد الله بن زياد جلاوزته أن يُرمى من فوق القصر ويُقتل، فأخذوه وقتلوه أمام أعين الناس.

هذا الموقف العظيم من هذا الشخص العظيم والشجاع كان من شأنه أن يحرّك ضمائر كلّ أهل الكوفة، ويثير حميّتهم، فهذا رسول الحسينg يخبر بكلّ أمانة وبكلّ شجاعة بأنّ الحسينg على الأبواب، فيُقتل بهذه الطريقة البشعة، ولكن ما هي النتيجة؟! لا أحد يحرّك ساكناً، ضمائر ميّتة، قلوب راكدة، لم تتأثّر بهذا الموقف، ولم تتحرّك فيهم روح التضحية والفداء.

وهناك شواهد أخرى كثيرة يذكرها السيد الشهيد، ولكن نكتفي بهذا المقدار، فإذاً هذه شواهد تبيّن مدى تفشّي روح الهزيمة في المجتمع الإسلاميّ، فأراد الحسينg أن يوقظ هذه الأمّة من غفلتها ونومتها، ويعيدها إلى خطّها الرساليّ التضحويّ من جديد، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا بشهادة الإمام الحسينg وسفك دمه الطاهر.

والإيراد على هذه النظرية يأتي أثناء بيان النظرية الخامسة.

النظريّة الخامسة: نظريّة الجمع([61])

تفيد هذه النظرية بأنّ نظريّة إقامة الحكومة ليست مقبولة في حدّ ذاتها، ولا نظريّة الشهادة مقبولة في حدّ ذاتها؛ فقد حصل خلطٌ بين الهدف وبين النتيجة، فهدف الإمام الحسينg هو خلق نهضة وروح مقاومة في الأمّة، ونتيجة هذا الهدف هي إمّا إقامة الحكومة وإمّا الشهادة، ولا ثالث في البين.

فإذا تكلّلت حركة الإمام الحسينg بالنجاح فذلك نور على نور، وسوف يتحقّق الهدف وهو خلق نهضة وروح مقاومة في الأمّة، وإذا لم تتكلّل الحركة بالنجاح فسوف يستشهد الإمام الحسينg إلا أنّه مع ذلك سوف يتحقّق هذا الهدف، فنفس تحرّك الإمام الحسينg هو درس لكلّ المسلمين آنذاك وللأجيال اللاحقة.

أما أنه لماذا نظرية الحكومة لوحدها ليست مقبولة؟

فلأجل ما تمّ ذكره سابقاً من إيرادات على نظرية إقامة الدولة.

وأما أنه لماذا نظرية الشهادة لوحدها غير مقبولة؟

فيقول السيّد القائد الإمام الخامنئيّŽ: بأنّه لا يوجد عندنا في الشرع شهادة بهذا المعنى، فلا توجد في مصادر الأحكام من الآيات والروايات شهادة بمعنى أن يتحرّك الإنسان لأجل أن يُقتَل، فهذا لا يمكن أن يكون هدفاً للإمام الحسينg، بل الموجود في الشريعة شهادة بمعنى أن يتحرّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدف مقدّس واجب أو راجح، هذه هي الشهادة الإسلاميّة الصحيحة، أمّا أن يتحرّك الإنسان من أجل أن يُقتل، أو بحسب التعبير الشاعريّ أنّ يجعل دمه وسيلة لزلزلة الظالم وإيقاعه أرضاً، فمثل هذه الأمور لا علاقة لها بواقعةٍ بتلك العظمة([62]).

ويقول سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسمŽ: "حركة الإمام الحسينg ماذا كانت تستهدف أوّلاً وبالذات؟ هل كان المستهدَف الأول للإمام الحسينg هو أن يُستشهد مع إمكان النصر؟ لا؛ أوّل ما أن يكون مستهدفاً للإمام الحسينg هو النصر على يزيد، وإقامة حكومة إسلاميّة عادلة على يد الإمام الحسينg، فإذا لم يمكن هذا ومنعته الظروف، وكانت الشهادة لا بدّ منها، وإن لم يتحقّق الغرض الموضوعيّ القريب، ولكن كان حفظ الإسلام متوقّفاً على الشهادة، الهزّة العنيفة التي تحيي إرادة الأمّة، وعي الأمّة، تستثير إرادتها، تنتشل إرادتها، تسلّط الضوء على فساد الحكم الأموي الذي كان قائماً، إذا لم يكن طريق لحفظ الإسلام، ولا وقت يتّسع للمناورة، ولإعطاء فعاليّة العمليّة التبليغيّة والتوعويّة قيمتها، كان لا بدّ من الاستشهاد، ممّن شهادته تحيي الإسلام وليس من أي واحد"([63]).

ويقول أيضاً في خطاب آخر: "ماذا كان هدف الحسينg؟ ما أكثر النصوص وما أكثر المواقف والشواهد العملية التي تفيد بأنّ الحسينg كان يستهدف أحد أمرين، وكلّ أمر من الأمرين له كلماته، وله شواهده، وله مواقفه، كان يطلب النصر العسكريّ من أجل الله، للإسلام، لإقامة الأمة الإسلامية على يديه الشريفتين، لإنقاذ الأمّة والعالم، وكان من تخطيطه وما يعلمه أنّه يُستشهد، ولكن علمه بالشهادة لم يثنهِ عن اتّخاذ كلّ الخطوات الممكنة في سبيل تحقيق النصر العسكريّ"([64]).

فإذاً، الهدف من حركة الإمام الحسينg هو خلق روح النهضة والمقاومة في الأمّة، بأن تكون روح الغيرة على الدين وعدم التسليم للطواغيت ورفض الانحرافات الخطيرة مرتكزةً في نفوسهم، وكانت هناك نتيجتان لهذا التحرّك؛ إما إقامة الدولة والحكم، وإما الشهادة، وقد أعدّ الإمام الحسينg العدّة لكلتا النتيجتين.

الخاتمة

لقد حاولنا في هذا البحث أن نبيّن أحداث ومواقف الإمام الحسينg ضدّ قرار تنصيب يزيد وليّاً للعهد قبل موت معاوية، وكان هدفنا من ذلك هو الاستعانة بتلك المواقف في تحديد هدف الإمام الحسينg في حركته ضدّ يزيد؛ إذ لا يمكن فصل الأحداث -ما قبل موت معاوية وما بعده- بعضها عن بعض، لا سيما بأنّ الموضوع واحد وهو رفض البيعة ليزيد.

ومن خلال النظر في مجموع هذه الأحداث والمواقف يتبيّن -بنظري القاصر- أنّ النظريّة الصحيحة والتي بيّنت هدف خروج الإمام الحسينg ضدّ يزيد بشكل مقبول ومقنع هي النظريّة الأخيرة وهي نظرية الجمع، فهي فعلاً قد جمعتْ بين أهمّ نظريتين قال بهما كبار العلماء، وهما نظرية إقامة الدولة، ونظريّة طلب الشهادة، ووفّقتْ بينهما بشكل يزيح عنها الإشكالات التي يمكن أن تورَد.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

([1]) آل عمران: 140.

([2]) التوبة: 39.

([3]) فحتى زياد بن أبيه -والذي كان مقرّباً لبني أميّة، بل نسبه معاوية إلى أبيه أبي سفيان خلافاً للشريعة- لم يكن راضٍ بهذا الأمر. (راجع: موسوعة التاريخ الإسلاميّ، اليوسفيّ الغرويّ، ج5، ص553).

([4]) نقلاً عن موسوعة الإمام الحسينg، الريشهريّ، ج2، ص206.

([5]) حبشيّ: جبل بأسفل مكّة.

([6]) أسد الغابة، ابن الأثير، ج3، ص364.

([7]) أصفقوا: أجمعوا واتّفقوا.

([8]) أسد الغابة، ابن الأثير، ج3، ص336.

([9]) موسوعة الإمام الحسين×، الريشهري، ج2، ص213.

([10]) أسجح: أي سهّل ألفاظك وارفق.

([11]) فلانٌ صاعد الحدّ: معناه البخت والحظ في الدنيا.

([12]) البدرة عشرة آلاف درهم.

([13]) الفتوح لابن اعثم، ج4، ص329.

([14]) المصدر السابق.

([15]) راجع موسوعة الإمام الحسينg، الريشهريّ، ج2، ص179.

([16]) الغدير، العلامّة الأمينيّ، ج10، ص232.

([17]) الفتوح لابن اعثم، ج4، ص348.

([18]) في المصدر: "فأبى"، والتصويب من بحار الأنوار.

([19]) المناقب لابن شهرآشوب، ج3، ص200.

([20]) تاريخ الطبري، ج4، ص304.

([21]) الرضخ: العطية القليلة.

([22]) الحندس: الليل الشديد الظلمة.

([23]) من حياة معاوية بن أبي سفيان، العلامّة الأمينيّ، ج1، ص118.

([24]) الروم: 60.

([25]) الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوريّ، ج1، ص154.

([26]) الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوريّ، ج1، ص155- 157.

([27]) كما استظهره الشيخ اليوسفيّ الغرويّ في موسوعته، موسوعة التاريخ الإسلاميّ، ج6، ص20.

([28]) الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوريّ، ج1، ص189- 161. موسوعة التاريخ الإسلاميّ، الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغرويّ، ج6، ص23- 26.

([29]) المصدر السابق.

([30]) يهدّده بابنه يزيد من بعده، وأنّه لن يرعى له مكانته كما يفعل هو بزعمه.

([31]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص409.

([32]) علّق السيد بحر العلوم على هذه الحكاية قائلاً: "والحكاية الثانية -عندنا- من الأكاذيب الباطلة، فإنّ مقام الحسين× يجلّّ عن هذه الدنيّة ويأبى تصديق تلك القضية، فإنّّ الدنيا كلّّها وإن كانت له، وليس لمعاوية في العير ولا في غيرها فتيل ولا نقير، إلّا أنّ الحال قد كانت حال مسالمة وموادعة، والتوثّب على أخذ المال شنيع في مثل هذه الحال. وليس ذلك كتعرّض النبي| لعير قريش، ولا كتعرّضه× للورس المحمول إلى يزيد من اليمن، فإنهما قد وقعا حال المباينة والاختلاف، بخلاف الأولى، ولو لم يمنع من ذلك إلا كفّّ ألسنّة المخالفين له والمبتغين سبيل الطعن عليه لكفى إلا أن يسلك بذلك سبيل المطايبة والمعابثة، وفيه حزازة أخرى". الفوائد الرجاليّة (رجال السيد بحر العلوم)، ج4، ص48.

([33]) الصف: 8.

([34]) علّق الشيخ اليوسفي الغروي: "هذا وعبد اللّه بن جعفر حاضر يسمعه، ويومئذ كان جعفر في هجرة الحبشة، وراعينا في المناشدات تواريخ وقوع حوادثها".

([35]) موسوعة التاريخ الإسلاميّ، الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغرويّ، ج6، ص38- 41. نقلاً عن كتاب سليم بن قيس، ج2، ص788- 793.

([36]) موسوعة التاريخ الإسلاميّ، الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغرويّ، ج6، ص44.

([37]) الحلس: هو ما يلي ظهر الدابة تحت البرذع، والمعنى الزموا بيوتكم ولا تبرحوها.

([38]) الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوريّ، ج1، ص142.

([39]) موسوعة التاريخ الإسلاميّ، الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغرويّ، ج6، ص44.

([40]) وقد تبنّى هذه النظرية آية الله الاشتهارديّ (راجع: موسوعة الإمام الحسين×، الريشهريّ، ج2، ص349، هـ4)، وكذلك السيد عليّ أشرف في مجموعة من كتبه التي ألفها لإثبات هذه النظرية.

([41]) الفتوح لابن أعثم، ج5، ص18.

([42]) الصواعق المحرقة لابن حجر، ص117.

([43]) الفتوح لابن أعثم، ج5، ص22.

([44]) الأمالي للصدوق، 153.

([45]) البداية والنهاية، ابن كثير، ج8، ص151.

([46])

([47]) بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج44، ص380.

([48]) بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج44، ص329.

([49]) مقتل الحسين×، السيد عبد الرزّاق المقرّم، ص66.

([50]) مقتل الحسين×، السيد عبد الرزّاق المقرّم، ص65.

([51]) تاريخ الطبريّ، ج4، ص289.

([52]) وقد ذهب إلى هذه النظرية مجموعة من العلماء، كالميرزا محمد تقي سبهر في كتاب ناسخ التواريخ، والعلامة المجلسي في كتاب مجموعه رسائل اعتقادي، وصاحب الجواهر. (راجع: موسوعة الإمام الحسين×، ج2، ص352).

([53]) الفتوح لابن أعثم، ج5، ص19.

([54]) الوافي، الفيض الكاشانيّ، ج2، ص261.

([55]) موسوعة الإمام الحسين×، الريشهريّ، ج3، ص276.

([56]) ويذهب إلى هذه النظريّة غالب أهل السنّة؛ إذ أنّهم ينظرون إلى الحوادث بنظرة تاريخيّة بحتة، ولا يفسّرونها من جوانب كلاميّة. وكذلك يذهب إليها من الخاصّة الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وكذلك الشيخ الصالحي نجف آبادي من المعاصرين. (راجع: موسوعة الإمام الحسينg، الريشهريّ، ج2، ص357.

([57]) ذهب لهذه النظريّة الكثير من العلماء، وإن اختلفوا في بيانها وتفسيرها (راجع: موسوعة الإمام الحسينg، الريشهريّ، ج2، ص351)، ونحن نبيّن هذه النظريّة وفق ما ذكره السيّد الشهيد الصدر¤ في كتاب (أهل البيتi تنوّع أدوار ووحدة هدف).

([58]) الفتوح لابن أعثم، ج5، ص73.

([59]) هكذا ذكر الشهيد الصدرp، والصحيح أنّهم انهزموا بعد أن وجّه إليهم عمر بن سعد جيشاً يردّهم، فهم في الحقيقة استجابوا لحبيب، ولكن ابن سعد منعهم من الوصول. (راجع: موسوعة الإمام الحسينg، الريشهري، ج4، ص41).

([60]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44، ص370.

([61]) ذهب إلى هذه النظريّة مجموعة من العلماء، منهم آية الله السيد على الخامنئيŽ في كتاب (إنسان بعمر 250 سنة)، وآية الله الشيخ عيسى أحمد قاسمB.

([62]) إنسان بعمر 250 سنة، الإمام الخامنئي، ص203.

([63]) كلمة آية الله قاسم بقرية الدير(البحرين)، محرم 1430 هـ، https://almuqawim.net

([64]) خطاب سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم ليلة العاشر من المحرم 1433هـ، الموافق 5-12-2011م. https://almuqawim.net


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا