نظرة حول كتاب (الإسلام يقود الحياة) للشهيد السيّد محمّد باقر الصدر

نظرة حول كتاب (الإسلام يقود الحياة) للشهيد السيّد محمّد باقر الصدر

الملخّص:

المقالة عبارة عن ملخص لكتاب (الإسلام يقود الحياة) للسيّد الشهيد، وقد تم ذكر أهم مطالب الكتاب مع تقديم وتأخير فيها، وذكر عناوين جانبيّة، والغرض من ذلك إحياء مثل هذه الكتب المحوريّة في مجتمعاتنا الدينيّة، وفكرة كتاب السیّد الشهيد عبارة عن منهج لتدوین دستور للجمهورية الإسلامية.

 

يعتبر سماحة المرجع الكبير السيِّد محمّد باقر الصدرS (السِّيد الشهيد) من أعظم المفكِّرين الإسلاميين في الزَّمن المعاصر، والذي استمدَّ فكرَه من الفقه والأصول والعلوم الإسلاميّة الخالصة، فهو فقيهٌ أصوليٌ كبير، وكذلك هو فيلسوف له نظرتُه الفلسفية الخاصَّة، فشخصيته موسوعيّة وشموليّة رغم عمره الصِّغير نسبياً (1935-1980م)، وقد كتب في حقول كثيرة، ولا زالت بحوثُه تطرحُ وتُدَّرس وتتداول على أيدي كبار العُلماء والمفكِّرين.
تحقّق حلمُه الكبير حينما انتصرت الثَّورة الإسلامية المباركة في إيران، وكان له اهتمامه الخاصّ بها، باعتبارها تمثّل الإسلام المحمّديّ الأصيل، وأنَّها أوّل دولة يحكمها الفقهاء بعد دولة الرسول الأعظمe ودولة أمير المؤمنينg، ولهذا وجّه مجموعةٌ من علماء لبنان -بينهم الشهيد الشيخ راغب حرب- رسالة إليه يطلبون فيها كتابة شيء يكون ردّاً على الفكر العلمانيّ الذي يرى بأنَّ هذه الدَّولة الدينيّة لا معنى لها فهي: "تدمج الدولة بالإسلام، وتربطها بالسماء"، ويرى هذه الفكر بأنَّ "الدولة من صنع الأرض ولا ربط لها بالسماء، وأنَّ أيّ محاولة لهذا الربط تبقى شعاراً لا مضمون".
فاستجاب السيّد الشهيد بكتابة رسالة مقتضبة تحت عنوان: "لمحة فقهيّة تمهيديّة عن مشروع دستور الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران"، بيَّن فيها الأفكار الرئيسيّة التي تُمهّد كتابة الدستور الإسلاميّ، وحري بالدول الإسلاميّة أن تقرأ هذه المقدمة المهمّة لكي لا تحيد عن الإسلام في كتابة دساتيرها الأرضيّة. ثمَّ كتب ما يُعدّ تفصيلاً لذلك وأنّ الإسلام فعلاً هو الذي يمتلك الصلاحيّة لقيادة الحياة.
وبما أنَّ هذا الكتاب يعد جوهرة ثمينة تحتاج إلى إضاءة وإحياء تقرَّر أنْ تُلقى عليه نظرة ويتمَّ تلخيص أهمِّ أفكاره، لعلَّ ذلك يساهم في نشر الإسلام الصحيح، ويحثّ المسلمين جميعاً علی مراجعة أنفسهم وأنَّهم كيف خسروا الكثير حينما تمسكوا بالأفكار الأرضيّة البشريّة وتركوا رسالة السماء ولم يفعِّلوها في حياتهم الدُّنيا، والحال أنَّها هي الكفيلة بإسعادهم دنياً وآخرة.

لمحة فقهيّة تمهيديّة

قبل أن يذكر السيّد الشهيد ما يتعلّق بطلب لمحة فقهيّة حول الدولة أشار إلى أنّه كلّه ثقة في الإمام الخمينيّ الذي "هو صاحب الكلمة العليا، وسيد الموقف الفصل" بشأن الثورة وأنَّ "نجاحه العظيم في تجسيدها وتقطبيها سوف لن يقلَّ روعة عن جهاده في نسف الطاغوت وإخراج إيران من ظلمات الطغيان".

تعريف الدولة

عرَّف الشهيد الدَّولة بأنَّها: "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان"، وبيَّن أنَّ بدء نشوء الدولة إنّما كان على يد الأنبياء ورسالات السماء، فهم الذين قادوا المجتمع الإنسانيّ ووجّهوه من خلال ما حقّقوه من "تنظيمٍ اجتماعيّ قائمٍ على أساس الحقّ والعدل ، يستهدف الحفاظ على وحدة البشريّة وتطوير نموّها في مسارها الصحيح".
وبعد أن كان الناس أمّة واحدة تسودها الفطرة كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم "ثمّ نمت - من خلال الممارسة الاجتماعيّة للحياة - المواهب والقابليات، وبرزت الإمكانات المتفاوتة، واتّسعت آفاق النظر، وتنوّعت التطلّعات، وتعقّدت الحاجات، فنشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القويّ والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعيّة بحاجةٍ إلى موازين تحدِّد الحقّ وتجسّد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس في إطارٍ سليم". حينها "ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء، وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة اسسَها وقواعدها". 
وقد واصل النبيّ الأعظمe مسيرة الأنبياء "بإقامة أنظف وأطهر دولةٍ في التأريخ شكّلت بحقٍّ منعطفاً عظيما في تاريخ الأنبياء، وجسدت مبادئ الدولة الصالحة... وعلى الرغم من أنّ هذه الدولة قد تولّاها في كثيرٍ من الأحيان بعد وفاة الرسول الأعظم قادةٌ لا يعيشون أهدافها الحقيقية ورسالتها العظيمة ؛ فإنّ الإمامة -التي كانت امتداداً روحياً وعقائدياً للنبوّة ووريثاً لرسالات السماء- مارست باستمرار دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة وإعادتها إلى طريقها النبويّ الصحيح".
وهذه الثورة تخاطب جميع طبقات المحرومين والمعذّبين في الأرض والجماهير البائسة، فثورة الأنبياء ثورةٌ اجتماعيّةٌ على الظلم والطغيان وعلى ألوان الاستغلال والإستعباد، غير أنّها تتميّز بتحرير الإنسان من الداخل بما يسمى بالجهاد الأكبر وتحرير الإنسان من الخارج بما يعرف بالجهاد الأصغر، وبأنّها لم تستبدل مستغِلاًّ جديداً مكان مستغِلٍّ آخر لقيامها بتجفيف جميع منابع الاستغلال وتغيير نظرة الإنسان حيال الكون والحياة، وبأنّها لم تتخذ أي طابعٍ طبقيٍّ كما حصل لكثيرٍ من الثورات الاجتماعيّة لأنّها ثورةٌ من أجل الإنسان لتحرير الإنسان، تُعلي من شأن المستضعفين كلّ المستضعفين وتستبدلهم بجميع الطغاة المستغلِّين، فلا تقوم بتغيير مواقع الاستغلال كما استبدِل الإقطاعيّ بالرأسماليّ أو الرأسماليّ بالبروليتاريا، بل هي تصفيّةٌ نهائيّةٌ لجميع أنواع الظلم وأشكال الاستغلال، وفي ذلك يقول تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: ٥)، وفي موضعٍ آخر يصفهم سبحانه بقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور}ِ (الحجّ/٤١).
ثمّ أشار السيد الشهيد إلى أنَّ "الإسلام الذي حجزه الاستعمار عسكريّاً وسياسيّاً في قمقمٍ ليصبغ العالم الإسلاميّ بما يشاء من ألوانٍ قد انطلق من قمقمه في إيران ، فكان زلزالاً على الظالمين، ومثلاً أعلى في بناء الشعب المجاهد والمضحّي، وسيفاً مصلتاً على الطغاة ومصالح الاستعمار، وقاعدةً لبناء الأمّة من جديد. ولم يبرهن الإمام الخمينيّ بإطلاقه للإسلام من القمقم على قدرته الفائقة وبطولة الشعب الإيرانيّ فحسب، بل برهن أيضاً على ضخامة الجناية التي يمارسها كلّ من يساهم في حجز الإسلام في القمقم وتجميد طاقاته الهائلة البنّاءة وإبعادها عن مجال البناء الحضاري لهذه الامّة".
وأنّ هذا "النور الجديد الذي قدِّر للشعب الإيرانيّ أن يحمله إلى العالم سوف يعرِّي أيضاً تلك الأنظمة التي حملت اسم الإسلام زُوراً بنفس الدرجة التي يدين بها الأنظمة التي رفضت الإسلام".

الأفكار الأساسيّة في مشروع الدستور

انطلق الشهيد من كتابة مبادئ الدستور الإسلاميّ من منطلق الإيمان بالله تعالى، وعلى أساس هذا الإيمان تتقرَّر الأمور التالية:
 1. إنَّ اللهd هو مصدر السلطات جميعاً.
واعتبر أنّ هذه الحقيقة الكبرى "تعتبر أعظم ثورةٍ شنّها الأنبياء ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وتعني هذه الحقيقة أنّ الإنسان حرّ ، ولا سيادة لإنسانٍ آخر أو لطبقةٍ أو لأيِّ مجموعةٍ بشريةٍ عليه... تحت شعار (لا إله إلا الله)".
وبيّن الشهيد أنَّ الأنبياء -بخلاف الطغاة والملوك والجبابرة الذين استغلوا هذه السيادة اسميّاً لله، ولكنهم احتكروها واقعاً- "آمنوا بهذه السيادة وحرّروا بها أنفسهم والإنسانيّة من ألوهيّة الإنسان بكلّ أشكالها المزوّرة على مرِّ التأريخ ؛ لأنّهم أعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعيّ المحدّد المتمثِّل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء".
وبناء على ذلك لا بد من أن تكون الشريعة الإسلامية هي التي تحدد طريقة ممارسة هذه السلطات.
 2. "إنَّ الشريعة الإسلاميّة هي مصدر التشريع، بمعنى أنّها هي المصدر الذي يستمدّ منه الدستور وتشرّع على ضوئه القوانين".
وفرّع السيّد الشهيد على ذلك ثلاثة أمور مهمة بلحاظ الأحكام الشرعية:
الأوّل: إنّ أحكام الشريعة الثابتة بوضوحٍ فقهيّ مطلقٍ تُعتبر جزءاً ثابتاً في الدستور، سواء نُصّ عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.
الثاني: عند تعدد الاجتهاد يكون الاختيار "موكولًا إلى السلطة التشريعيّة التي تمارسها الأمّة على ضوء المصلحة العامّة".
الثالث: "في حالات عدم وجود موقفٍ حاسمٍ للشريعة من تحريمٍ أو إيجابٍ، يكون للسلطة التشريعيّة التي تمثِّل الأمّة أنْ تسنّ من القوانين ما تراه صالحاً على أنْ لا يتعارض مع الدستور ، وتُسمّى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ".
 3. إنَّ السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة وإنْ أُسندت إلى الأمّة إلّا أنّها ليست "صاحبة السلطان، وإنّما هي المسؤولة أمام اللَّهd عن حمل الأمانة وأدائها : {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} (الأحزاب/٧٢)". ثم فصّل الشهيد كيفية انتخاب هذه السلطة الشريعيّة.
4. "إنّ المرجعيّة الرشيدة هي المعبِّر الشرعيّ عن الإسلام، والمرجع هو النائب العامّ عن الإمام من النَّاحية الشرعية"، وهذه العبارة تدلُّ على وجهة نظر السيّد الشهيد في ولاية الفقيه، ثم إنّه فرّع على ذلك أموراً ترتبط بصلاحيّة الوليّ الفقيه يأتي ذكرها إنْ شاء الله.
 5. إنَّ أفراد الأمّة جميعاً متساوون في هذا الحقّ أمام القانون، ولكلٍّ منهم التعبير عن آرائه وأفكاره ، وممارسة العمل السياسيّ بمختلف أشكاله.
 6. للدولة الإسلاميّة أهداف عظيمة فمن أهمّها في الداخل تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة. وتجسيد روح الإسلام بإقامة مبادئ (الإسلام يقود الحياة) الاجتماعيّة، والقضاء على الفوارق الطبقيّة، وإعادة توزيع الثروة بالأساليب المشروعة وتثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً، وبناء الشخصيّة الإسلاميّة العقائديّة في كلّ مُواطِنٍ.
وفي الخارج تستهدف الدولة حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كلّه. والوقوف إلى جانب الحقّ والعدل في القضايا الدوليّة، ومساعدة كلِّ المستضعفين والمعذّبين في الأرض، ومقاومة الاستعمار والطغيان.
ثم أشارS إلى أمر مهمّ جدّاً فيما يتعلق بهذه الأهداف وهي أنَّ: "دولة القرآن العظيمة لا تستنفد أهدافها ؛ لأنّ كلمات اللَّه تعالى لا تنفد".

الردّ على ما يدّعيه الغرب من قصور الإسلام

وعمّا يطرحه الغرب وعملاؤه المستغربون من أنّ الإسلام ما هو إلّا دينٌ وعقيدةٌ وعلاقةٌ بين الإنسان وربّه، وأنّه لا يشكّل انتصاراً أو منهج حياةٍ ليشكّل منطلق ثورةٍ اجتماعيّةٍ، وكيما تستطيع الشعوب أن تكافح من أجل الحريّة لا بدّ لها من أنْ تتخلّى عن الدّين قياساً على أوروبا التي لم تتطور -بزعم الغرب- إلا حين فصلت الدّين عن الحياة، الدّين الذي هو أفيون الشعوب ، استشهد الشهيد الصدر بثورة الشعب الإيرانيّ وقيامه بقيادة الإمام الخمينيّ ليهزّ ضمير العالم ويزعزع مقاييسه الماديّة، وليغمر العالمَ نورُ الإسلام الذي احتجزه الغرب وعملاؤه المثقّفون عبر تحريفهم للدّين وتشويههم إيّاه، وقد برهن الشعب الإيرانيّ بقيادة الإمام قدرته على الخروج من القمقم الذي ظلّ قابعاً فيه، وأنّ للإسلام القدرة على تفجير الطّاقات الكامنة والمخبّأة في النّاس.
والإمام الخمينيّ في طرحه لشعار الجمهوريّة الإسلاميّة لم يكن إلّا استمراراً لدعوة الأنبياء وامتداداً لدور محمّد وعليّh في إقامة حكم الله على الأرض.
هذا، والتشكيك بأنّ الإسلام الثابت لا يمكنه علاج الحياة المتطوّرة، مندفعٌ بمعرفة أنّ الأحكام على نوعين، الأوّل: ما يشكّل العناصر الثابتة، والآخر ما يشكّل العناصر المرنة والمتحرّكة التي يعتمد في تحديدها على العناصر الثابتة كمؤشّرات.

العناصر المتحرّكة في الإسلام

وعملية استنباط العناصر المتحرّكة من المؤشّرات الإسلاميّة العامّة تتطلّب:
منهجاً إسلاميّاً واعياً للعناصر الثابتة وإدراكاً معمّقاً لمؤشّراتها ودلالاتها العامّة.
استيعاباً شاملاً لطبيعة المرحلة وشروطها ودراسةً دقيقةً للأهداف التي تحدّدها المؤشّرات العامّة وللأساليب التي تتكفل بتحقيقها.
فهماً فقهيّاً قانونيّاً لحدود صلاحيّات الحاكم الشرعيّ، والحصول على صيغةٍ تشريعيّةٍ تجسّد تلك العناصر المتحرّكة في إطار صلاحيّات الحاكم الشرعي.

مبدآن قرآنيّان، الخلافة والشَّهادة

والشهيد الصدر يرى بأنَّ اللهd شرَّف الإنسان على سائر الخلق بالخلافة في الأرض، حتَّى صار مستحقّاً لسجود الملائكة، وهو ما نطقت به آيات القرآن الكريم من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ...}(البقرة/30)، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}(الأعراف/69)، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} (فاطر/39)، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص/26).
ويرىO بأنَّ الآيات الشريفة لا تتحدث عن استخلافٍ خاصٍّ لآدم وللأنبياءi، بل هو استخلافٌ للجنس البشريّ كلّه، إذ أنّ الإفساد وسفك الدماء وفقاً لمخاوف الملائكة ليس لآدم بل للنفس الآدميّة والذات الإنسانيّة.
وأنّ القرآن قد تحدث إلى جنب ذلك عن مسؤوليّة الإنسان في تحمّل أعباء الخلافة، بوصفها أمانةً يعجز الكون عن حملها غير الإنسان، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب/٧٢).
والخلافة التي هي أساس الحكم تعني رجوع جميع ما للمستخلف والمنوب عنه إلى الخليفة والنائب، ليناط به قيادة الكون وإعماره، وعلى هذا الأساس بنيت نظريّة حكم النّاس لأنفسهم ومشروعيّتها.

خط الشَّهادة

وقد وضع اللهa إلى جنب الخلافة التي تشكّل سيراً نحو المطلق وقيم الخير والعدل والقوة -على الخليفة توفير الشروط الموضوعيّة لهذا الحراك وتحقيق المناخ المناسب له- خطّ الشَّهادة على ما نطقت به الآيات القرآنيّة:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} (النساء/٤١).
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة/١٤٣).
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (لمائة/١١٧).
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (الحجّ/٨٧).
{وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل‌عمران/١٤٠).
وخطّ الشَّهادة -الذي يمثّل التدخّل الربّاني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة- يتمثل في الأنبياء والأئمة والمرجعيّة التي تُعتبر امتداداً رشيداً للنبيّ والإمام.
والدور المشترك للأصناف الثلاثة على العموم:
استيعاب الرسالة السماويّة والحفاظ عليها.
الإشراف على قيام الإنسان بدور الخلافة وإعطاء التّوجيه المناسب المتّصل بالرسالة.
التّدخل لمقاومة الانحراف واتّخاذ التدابير لضمان سلامة المسيرة.
فالشهيد مرجعٌ فكريٌّ وتشريعيٌّ من الناحية الإيديلوجيّة ويشرف على سير الجماعة وانسجامه مع الرسالة الربانيّة التي يحملها.

الفرق بين المرجعية والإمامة

إنَّ مقام المرجعيّة يمكن اكتسابه بالعمل الجادّ المخلص لله تعالى خلافاً للنبوّة والإمامة فإنّهما رابطتان ربانيّتان بين الله تعالى والنبيّ أو الإمام -المعيّنان من الله تعالى تعييناً شخصيّاً- ولا يمكن اكتساب هذه الرابطة بالسعي والجهد كما في المرجع المعين تعييناً نوعيّاً.
والفارق الآخر بين المرجع وبين النبيّ والإمام، عدم عصمة الأوّل على مستوى تجسيد الرسالة بقيمها وأحكامها فكراً ومشاعراً وسلوكاً، لا بعمدٍ أو جهالةٍ أو خطأٍ، والرابطة بينه وبين اللهd نوعيَّة تتحدد على أساس المواصفات العامّة كالعدالة التي تقترب من العصمة ولا تبلغ درجتها.

الإعداد والتمهيد لِمبدئيّ الخلافة والشَّهادة

قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة /213).
ويذهبO إلى أنَّ الخلافة الربانيّة للجماعة البشريّة تقضي بطبيعتها على كلّ العوائق المصطنعة والقيود التي تجمّد الطاقات البشريّة وتهدر إمكانات الإنسان، وبهذا تصبح فرص النموّ متوفرةً توفراً حقيقيّاً، والنموّ الحقيقيّ في الإسلام أنْ يحقّق الخليفة على الأرض في ذاته كلّ القيّم التي يؤمن بأنّها للهa -الذي استخلفه على الكون- فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والإنتقام من الجبّارين، هي مؤشراتٌ للسلوك في مجتمع الخلافة ومن هنا جاء في الحديث الشريف: «تشبّهوا بأخلاق الله».
كما أنّه قد جرى التّمهيد للشهادة والاستخلاف على مقاطع زمنيّة مختلفة بدءاً بآدم‌g الذي بدأ حياته كأيّ إنسانٍ آخر بفارقٍ جوهريٍّ وهو أنَّ كلَّ إنسانٍ حتى يمرَّ بمرحلة النُّضج والرشد يمرّ بفترة احتضانٍ يوفّرها له أبويه، غير أنَّ آدمg الإنسان الأوّل والذي لم ينشأ في جوٍّ عائليٍّ كان بحاجةٍ إلى حضانةٍ استثنائيّةٍ وجدها في ما عبّر عنه القرآن بالجنّة -التي وفّر اللهa فيها لآدم وحوّاء كلّ وسائل الراحة والاستقرار- وفي هذا يقول تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ} (طه/ 118 - 119) .
وكان أوّل تكليفٍ لآدم بعد مروره بفترة النموّ نحو الرشد التي لا بدّ منها وتعمّق روح المسؤوليّة فيه أنْ وجّهه إلى الإمساك عن شجرةٍ معيّنةٍ ترويضاً له من أجل الخلافة التي تتطلب التحكّم في المشاعر والسيطرة على نزوات النفس والإكتفاء من طيبات الدنيا بالحدود المعقولة، إذ أنّ الحرص هو الأساس لكلّ ألوان الاستغلال.

دور فطرة التوحيد في ممارسة الخلافة

ثمَّ إنَّ فطرة التَّوحيد كانت كفيلةً بممارسة دور الخلافة وإقامة مجتمع التّوحيد إلى جنب توجيه الأنبياء وإرشادهم الممثّل لخطّ الشَّهادة، إلى أنْ مرَّت على البشريّة فترةٌ من الزمن وهي تمارس خلافتها من خلال مجتمعٍ موحّد؛ تحقّقت نبوءة الملائكة وبدأ الاستقلال وظهر التناقض في المصالح والتنافس على السيطرة والرغبة في التملّك، وتحقّق الإفساد وسفك الدماء وبرزت ألوان التفاوت في مواقع القوّة وأتيحت فرص استغلال الضعيف لمن حظي بالقوّة.
ومن هنا لم يعد للأقوياء المستغلِّين بحسب المنطق القرآنيّ أيّ دورٍ في موقع الخلافة لأنّها أمانةٌ لا جدارة للخائن في تحمّلها، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب/٧٢)، بخلاف المستضعف الذي لم يواكب القويَّ في الظلم أو يستسلم للظلم ليصبح الوريث الشرعيّ لمنصب الخلافة، وبهذا نطق القرآن الكريم: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص/٥).
ولهذا كلّه برزت الحاجة إلى ثورةٍ تعيد المسيرة إلى طريقها الصالح وتبني المجتمع الموحّد من جديدٍ على أساسٍ أعمق من أساس الفطرة؛ وقد شهد التّاريخ منذ أقدم العصور أساسين مختلفين للثورة:
الأوّل: ما تزخر به قلوب المستضعفين من مشاعر متّقدة تتلاءم مع النزعات الماديّة وتحتاج إلى من يقوم باستقطابها من قيادة.
الثاني: استئصال المشاعر التي خلّفتها ظروف الاستغلال واعتماد مشاعر أخرى كأساسٍ لثورةٍ تمثّل الإحساس بالقيم الموضوعيّة للعدل والحقّ والإيمان بعبوديّة الإنسان لله التي تحرّره من كلّ عبوديّة وبالكرامة الإنسانيّة.
ومن الواضح أنَّ الأساس الثاني هو الكفيل وحده لأنَّ يشكّل الخلفيّة الحقيقيّة للثورة والرصيد الروحيّ لها، غير أنَّ هذا الأساس بحاجةٍ إلى تربيٍّة تطهّر النفوس من مشاعر الاستغلال، وهذه التربيّة لا يمكن أن تبدأ من داخل الجماعة التي انحرفت مسيرتها، ليأتي هنا دور الوحي والنبوّة، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة/2١٣) .

القيادة النبويّة

والنبوّة ظاهرةٌ ربانيّةٌ تمثّل رسالةً ثوريّةً وعملاً تغييريّاً لكي تستأنف الجماعة دورها الصالح، وتفرض ضرورة الثورة أن يستلم شخص النبيّ الرسول الخلافة العامّة ليحقّق أهداف الثورة في القضاء على الجاهليّة والاستغلال، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الزخرف/23).
وبذلك يندمج خطّ الشَّهادة وخطّ الخلافة في شخص واحد وهو النبيّ، وهو ما يستدعي اشتراط الإسلام العصمةَ في النبيّ؛ وقد أوجب اللهd على النَّبيّ إعداد الجَّماعة للخلافة وإشعارهم بالمسؤوليّة من خلال التّشاور معهم، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} (النساء/ 58).
وقد دأب القرآن الكريم على أن يتحدَّث إلى الأمَّة في قضايا الحكم في سبيل توعيتها على دورها في خلافة الله على الأرض، قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء/58)، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (النور/2)، {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة/38)، {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى/13)، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(التوبة/71).

القيادة بعد النبوّة

وصنع مجتمع التّوحيد ليس بالأمر الهيّن لأنّه ثورةٌ على الجاهليّة بكلّ جذورها، الأمر الذي يتطلّب وقتاً أطول من عمر القائد الرسول، وكان لا بدّ من أن يمتدّ دور النبيّ في قائد ربّاني يضمن عدم وقوف الثورة في منتصف الطريق ويمارس خلافة الله على الأرض وتربيّة الجماعة وإعدادها ويكون شهيداً عليها في نفس الوقت، وهو الإمام المعصوم المنزّه بكلّ وجوده من رواسب الجاهليّة «لم تدنّسه الجاهليّة بأنجاسها ولم تلبسه من مدلهمّات ثيابها».
وقد قُدّر للإمامة بعد وفاة الرسول الأعظمe أن يُنتزع منها دورها في ممارسة الخلافة والشَّهادة، غير أنَّها لم تتخلَّى عن المسؤوليّة القياديّة في التّجسيد الحيّ الثوريّ للإسلام والقوّة الرافضة لكلِّ ألوان الانحراف والاستغلال، الأمر الذي كلَّفها التضحيَّة بالأرواح حتى استشهد الأئمّة من أهل البيتi‌‌، إلى أن فرض هذا الواقع المرير غيبة الإمام الثاني عشر وتواريه عن الأنظار، متدرجاً بالغيبة الصغرى وحتى الغيبة الكبرى، فبدأت مرحلةٌ جديدةٌ يتمثّل فيها خطّ الشَّهادة والخلافة في المرجعيّة التي هي امتدادٌ للنبوّة والإمامة.

البعد السياسيّ لِمبدئيّ الخلافة والشَّهادة

الدّولة ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ أصيلةٌ في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنسانيّ وتوجيهه من خلال ما حقّقه الأنبياء في هذا المجال من تنظيمٍ اجتماعيٍّ قائمٍ على أساس الحقّ والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشريّة وتطوير نموّها في مسارها الصحيح.
وهي ضرورةٌ شرعيّةٌ لأنّها إقامةٌ لحكم الله على الأرض وتجسيدٌ لدور الإنسان في خلافة الله، وضرورةٌ حضاريّةٌ لأنّها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلاميّ والإرتفاع به إلى مركزه الطبيعيّ على صعيد الحضارة الإنسانيّة، إذ أنّ الهدف الوحيد الذي يضمن للتّحرك الحضاري أن يواصل سيره وإشعاعه باستمرار هو الهدف الذي يقترب منه الإنسان باستمرارٍ ويكتشف فيه كلّما اقترب منه آفاقاً جديدةً تزيد الجذوة اتقاداً والحركة نشاطاً والتطوّر إبداعاً، وهنا يأتي دور الدّولة الإسلاميّة لتضع الله هدفاً للمسيرة الإسلاميّة وصفاته معالماً لهذا الهدف الكبير كالعدل والقدرة والقوّة والرحمة، قال تعالى: {وَالَّّذينََ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت/69).
وفي المقابل فإنَّ الانشداد للدنيا وزينتها والتعلّق بالحياة على هذه الأرض مهما كان شكلها يحول دون إقامة الحقّ والعدل ويثبّط عن تحمّل مشاقّ البناء الصالح النّاشئ من دوافع الشعور بالمسؤوليّة والإحساس بالواجب، فلا بدّ للدّولة من تركيبٍ عقائديٍّ يربّي الفرد على أن يكون سيّداً للدّنيا لا عبداً لها، وهذا ما ينحصر في الدّولة الإسلاميّة.

بعض ملامح الدولة الإسلاميّة

ثمَّ إنّ من أهم ملامح الدّولة الإسلاميّة تعاملها في الساحة الدوليّة على أساس الحقّ والعدل ونصرة المستضعفين، لا على أساس الاستغلال وامتصاص الشعوب الضعيفة أو على أساس المصالح المتبادلة كما تصنع الحضارة الغربيّة.
وأيضاً فإنَّ من أهم الملامح في الدولة الإسلامية كوضعٍ واقعيٍّ لا قانوني أن يعيش الحاكم عيشة المحكوم أيْ كمواطنٍ اعتيادي في حياته الخاصّة وسلوكيّاته وعلاقاته مع الآخرين، قال أمير المؤمنينg: «أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، وأكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟!».
ثمّ إنَّ المرجعيّة الرشيدة باعتبارها امتداداً للنبوّة والإمامة والممثّل الوحيد الذي يندمج فيه خطّا الخلافة والشَّهادة عصر الغيبة، وباعتبارها المعبّر الشرعيّ عن الإسلام والمرجع هو النائب عن الإمام من الناحية الشرعيّة، فإنّه يتولى الآتي في الدّولة:
الممثّل الأعلى للدّولة والقائد الأعلى للجيش.
المرجع بيده إمضاء المرشّح لرئاسة السلطة التنفيذيّة.
تعيين الموقف الدستوريّ للشريعة الإسلاميّة.
البتّ في دستوريّة القوانين التي يعيّنها مجلس أهل الحلّ والعقد لملء منطقة الفراغ.
إنشاء محكمةٍ عليا للمحاسبة في كلّ مخالفةٍ محتملة.
إنشاء ديوان المظالم في كلّ البلاد لدراسة لوائح الشكاوى والتظلمات.
والأمّة وإن لم تكن مصدر السيادة كما في الأنظمة الديموقراطية إلّا أنّها محطّ الخلافة ومحطّ المسؤوليّة أمام الله تعالى في النظام الإسلاميّ ولها نصيبٌ في تحمّل الأمانة وهي صاحبة حقٍّ في الرعاية وأفرادها متساوون في هذا الحق أمام القانون، والدستور وإن لم يكن صنيعتها كما في الأنظمة الديموقراطيّة -والذي لا يمثّل في أفضل التقادير وفي لحظاتٍ مثاليّةٍ إلّا تحكّم الأكثرية في الأقلية- إلّا أنّها تمثّل الأجزاء الثابتة من الدستور، وتتولى في الدّولة الآتي:
في حال تعدد المرجعيّات المتكافئة من خلال الاجتهاد المطلق والعدالة ووضوح الخطّ الفكريّ المؤمن بالدّولة الإسلاميّة وبلوغ المرجعيّة بالطرق الطبيعيّة المتّبعة تاريخياً يعود إلى الأمّة أمر التعيين باستفتاءٍ شعبيٍّ عام.
للأمّة انتخاب رئيس السلطة التنفيذيَّة المرشّح من قبل المرجع.
الانتخاب المباشر لمجلس أهل الحلّ والعقد المنسجم مع قاعدة الشورى.
أيّ موقفٍ شرعيّ يحتوي على أكثر من اجتهادٍ فإنّه يعتبر في نطاق البدائل المتعدّدة وللأمّة من خلال السلطة التشريعيّة اختيار أحد هذه البدائل.
في حالة عدم تواجد موقفٍ شرعيّ حاسمٍ ومحدّدٍ من إيجابٍ أو تحريم، يكون للأمّة الحقّ ممثّلةً بالسلطة التشريعيّة في ملء منطقة الفراغ بما تراه مناسباً من قوانين لا تتعارض مع الدستور.

البعد الاقتصاديّ لمبدئي الخلافة والشَّهادة:

إنّ مبدأ الخلافة العامّة الذي نادى به الإسلام يؤمن بأنَّ الله تعالى هو المالك الحقيقيّ الوحيد للكون، وأنّه قد استخلَف الإنسان على ما يملك لكونه الكائن الأرضيّ الوحيد المتميّز بإحساس المسؤوليّة وشرف الأمانة، ومن هنا خاطبه القرآن قائلا:
{وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (الحديد/ 7).
{وَآتُوهُم مِّن مَّالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ} (النور/5).
والاستخلاف يتمّ على مرحلتين:
المرحلة الأولى: استخلافٌ للجماعة البشريّة الصالحة ككلّ، قال الله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} وهذا النصّ الشريف يضيف الأموال للجماعة ناهياً إيّاهم عن تسليمها للسفهاء، على الرغم من أنّها أموال أفرادٍ منهم في إشارةٍ إلى أنّ أموال هذا الكون إنّما جعلت لإقامة حياة الجماعة. ومن ناحيةٍ أخرى يطبّق القرآن الكريم والفقه الإسلاميّ اسم الفيء على كلّ الثروات الطبيعيّة التي تحصل عليها الجماعة المسلمة من الكفّار، والفيء كلمةٌ تدلّ على إعادة الشيء إلى أصله، ما يعني أنّ هذه الثروات هي في الأصل للجماعة، ومن جانبٍ آخر يحدّد القرآن الكريم مسؤوليّة الجماعة أمام هذه الأموال، بقوله: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم/32 -34) وهذا النصّ الشريف بعد أن استعرض ما استخلف الله عليه الإنسان يشير إلى نوعين من الانحراف، الأول: الظلم وهو سوء التّوزيع وعدم توفير الثروات لأفراد الجماعة على حدٍ سواء، والثاني: كفران النّعمة أي تقصير الجماعة في اسثمار ما حباها الله به من طاقاتٍ وخبرات.
المرحلة الثانية: استخلاف الأفراد والذي يتّخذ من الناحية الفقهيّة والقانونيّة شكل الملكيّة الخاصة، والاستخلاف هنا من الجماعة للفرد وبهذا فمن الطبيعي أن يكون الفرد مسؤولاً أمام الجماعة عن تصرفاته في ماله وانسجامها مع مسؤولياتها أمام الله تعالى، ومن الطبيعي من حقّ الممثّل الشرعي للجماعة أن ينتزع من الفرد ملكيّته الخاصّة إذا جعل منها أداةً للإضرار بالجماعة، كما صنع رسول اللهe في قصة سمرة بن جندب. 
وعلى ضوء مبدأ الخلافة يمكن تحديد مسؤوليَّات الدولة الإسلاميّة عن الحياة الاقتصاديّة في المجتمع ضمن خطّين عريضين يتفرع عنهما جملة من المسؤوليات، أحدهما: تطبيق العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلامي، والآخر: ملء العناصر المتحرّكة وفقاً لظروف الواقع وعلى ضوء المؤشّرات الإسلاميّة العامّة.

المؤشرات الإسلاميّة العامّة لملء العناصر المتحركة

وهي كالآتي:

المؤشر الأوّل: اتّجاه التّشريع

وهذا المؤشّر يعني أنْ تتواجد في الشريعة وضمن العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلاميّ أحكامٌ منصوصةٌ في الكتاب والسنّة تتجه كلّها نحو هدفٍ مشتركٍ على نحوٍ يبدو اهتمام الشارع بتحقيقه، فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشراً ثابتاً قد يتطلّب الحفاظ عليه وضع عناصر متحرّكة تضمن بقاءه، وفيما يلي مجموعةٌ من الأحكام الشرعيّة التي تشكّل بمجموعها اتّجاهاً تشريعياً يصبّ نحو استئصال الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل ورفض الاستثمار الرأسماليّ، أي تنميّة ملكيّة المال بالمال وحده:
 1. سماح الإسلام بالملكيّة الخاصّة لرقابة المال في مصادر الثروة الطبيعية.
 2. إلغاء الإسلام للحقّ في اكتساب مصدرٍ طبيعي على أساس الحيازة من دون إحياءٍ وعمل.
 3. العمل في مصدر طبيعيّ لا ينقل ملكيّة من القطاع العامّ للقطاع الخاص، وإنّما يعطي حقّ الأولويّة للعامل فيه فقط.
 4. الإحياء غير المباشر بالطريقة الرأسماليّة أي بدفع الأجرة ووسائل العمل للأجير لا يكسب حقّاً للرأسماليّ ولا يبرّر له الحقّ في تملّك السلعة المنتجة.
 5. أيّ ربحٍ ينتج عن توظيف رأس المال المضمون غير مستحقٍ، لحرمة الربا.
 6. شغل ذمّة الغير بمالٍ عن طريق الإقباض للمال غير الحقيقيّ -كما تفتّق عنه العقل الرأسماليّ من أموال تشكّل تعهّدات والتزامات تفوق ما لديه من أموالٍ حقيقيّة لتغطّي قروض الآخرين- غير جائز.

المؤشر الثاني: الهدف المنصوص لحكمٍ ثابت

كما لو أنّ مصادر الإسلام من الكتاب والسنّة قد شرّعت حكماً ونصّت على الهدف منه فإنّه يشكّل مؤشراً عامّاً وعلامة هاديةً لملء الجانب المتحرًك، وللحاكم الشرعيّ التحرك لتحقيقه، ومثاله: الزكاة التي صرّحت النصوص بأنّها ليست لسدّ حاجات الفقير فحسب وإنّما لإعطائه المال بالقدر الذي يلحقه بالنّاس في مستواه المعيشيّ، ما يعني أنّ على الحاكم الشرعيّ السعي نحو توفير مستوى معيشيّ موحّد ومتقارب لكلّ أفراد المجتمع.

المؤشر الثالث: القيَم الاجتماعيّة التي أكّد عليها الإسلام

وهي تشكِّل أساساً لاستيحاء صيغٍ تشريعيّة متطوّرة ومتحرّكة وفقاً للمستجدّات والمتغيرات تكفّل تحقيق تلك العناصر الثابتة وفقاً لصلاحيات الحاكم الشرعيّ في ملء منطقة الفراغ، ومثاله النصوص القرآنيّة: {یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} (المائدة/8)، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة/42)، {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ} (النحل/90)، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى/15).

المؤشر الرابع: اتجاه العناصر المتحرّكة على يد النبيّ أو الوصيّ 

وهذا المؤشّر يعني أنَّ النَّبيّe والأئمّةi لهم شخصيّتان، الأولى: تبليغ العناصر الثابتة، والأخرى: الحكومة والقيادة بوضع العناصر المتحركة المستوحاة من المؤشّرات العامّة للإسلام.
ومثاله: ما روي في أحاديث عديدة من أن النبيّe منع في فترةٍ معيَّنةٍ إجارة الأرض حفاظاً على التوازن الاجتماعيّ وللحيلولة دون نشوء كسبٍ مترفٍ لا يقوم على أساس العمل في الوقت الذي يغرق فيه نصف المجتمع -المهاجرون- في العوز والفاقة؛ أو ما رُوي من نهي النبيّe عن منع فضل الكلأ والماء في فترةٍ كانت فيها المدينة بحاجةٍ شديدةٍ لإنماء الثروة الزراعيّة والحيوانيّة؛ وكذلك ما جاء عن أمير المؤمنينg في عهده لمالك الأشتر من التأكيد على منع الإحتكار حرصاً منه على شجب الأرباح التي تقوم على أثمانٍ مصطنعةٍ تخلقها ظروف الإحتكار.

المؤشر الخامس: الأهداف التي حُدّدت لوليّ الأمر

أي ما وضعته الشَّريعة من أهدافٍ لوليّ الأمر مكلفةً إياه بتحقيقها والسعي للاقتراب نحوها برسم السياسة الاقتصاديّة وصياغة العناصر المتحرّكة في الاقتصاد الإسلاميّ، كما جاء عن الإمام موسى بن جعفر الكاظمg من أنَّ على الوالي تموين الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا، حال عدم كفاية الزكاة.
فالصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ هي الصورة التي تبرز فيها العناصر المتحركة إلى جانب العناصر الثابتة لتتعاون معاً لتحقيق العدل الإسلاميّ على الأرض وفقاً لما أراده اللهd .

مسؤولويّات الدولة

ومسؤوليّات الدولة التي تتفرّع على تنفيذ العناصر المتحرّكة سعياً لتطبيق العناصر الثابتة، هي كما يلي:
 1. مسؤولية الضمان الاجتماعيّ التي ترتكز في الأساس على إيمان الإسلام بحقّ الجماعة كلِّها في الانتفاع بثروات الطَّبيعة، ما يلزم الدولة بضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم لجميع أفراد المجتمع بتوفير العمل للقادر عليه وبإعالة العاجزين عنه.
 2. ومسؤوليّة التوازن الاجتماعيّ والتي تعني توفير حدٍّ أدنى من اليسر والرفاه لكلِّ أفراد المجتمع، والتحديد في الإنفاق بنحو لا يسمح بتجاوز مستوى المعيشة المعقول للرفاه، والحيلولة من احتكار الثروة وتكديس الأموال في أيدي طبقةٍ خاصّة والسعي من أجل توفير إمكانات العمل وفرص الإنتاج للجميع.
 3. والمسؤوليّة في رعاية القطاع العامّ لكونه أمانةً بيد الدّولة ينبغي الحفاظ عليها وتحقيق الأهداف الربّانيّة منها بالاستفادة من أحدث الأساليب وكل المستجدّات العلميّة في سبيل تنميته.
 4. ومسؤوليّة الإشراف على الإنتاج وضمانه بدرجةٍ تلبي الحاجات العامّة للجميع والحيلولة دون الإسراف فيه.
 5. ومسؤوليّة الحفاظ على القيَم التبادليّة الحقيقيّة للسلع وأشكال العمل المستمدّة من المنفعة وعامل الندرة الطبيعيّة لا الندرة المصطنعة التي يخلقها الاحتكار.

الأحكام الفرديّة والأحكام الاجتماعيّة

ثمّ أنّا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحالة التي يعيشها الفرد المسلم فيمكن أن تعطى ضمن تصورين، الأوَّل: تصوَّر جزئيٌّ محدود في الشريعة لفردٍ متديّن يعنى شخصياً بتطبيق سلوكه وعلاقاته مع الآخرين على أساس الإسلام غير أنّه يعيش ضمن مجتمعٍ لا يتبنى الإسلام نظاماً في الحياة، والثاني: تصوّر شموليٌّ كامل في التّشريع لمجتمعٍ يريد بناء وجوده على أساس الإسلام وإقامة اقتصاده وخلافته في الأرض على ضوء شريعة السماء.
والفارق بين الحالتين كبيرٌ جداً فإنّ عدداً من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلاميّة يتجاوز قدرة الفرد ويعتبر حكماً موجّهاً نحو المجتمع كوجوب إيجاد التوازن الإجتماعيّ، وهذا النحو من الأحكام لا موضع له في التصوّر الجزئيّ والحالة الأولى؛ كما أنّ حالة الفرد المتديّن الذي يعيش في مجتمع لا يتبنى الإسلام منهجاً للحياة هي حالةٌ معقّدةٌ وتحتوي تناقضاً بين التكليف الشرعيّ والضرورات التي لا يجد لها بديلاً في المجتمع مما يولّد ظروفاً شاذةً لها أحكامٌ استثنائيّة، كما في موقف الفرد المتديّن من البنوك الحكوميّة الربويّة.
وفي أكثر الرسائل العمليّة تقدّم عادةً الصورة المحدودة لأنّها تتعامل مع فردٍ متديّنٍ يريد أن يطبّق سلوكه على الشريعة رغم تواجده في مجتمعٍ غير ملتزمٍ بالإسلام كمنهجٍ للحياة، ومن هنا لم تكن الصورة التي توحي بها الرسائل كافيةً لاستيعاب التصوّر الشامل لأهميّة الاقتصاد الإسلاميّ وثماره المرجوّة في توفير السعادة والرفاه.

علاقة الإنسان بالحياة الاقتصاديّة

ثمَّ إنَّ تحديد عناصر الصورة الكاملة يتوقّف على تحليل العلاقات التي يمارسها الإنسان في حياته الاقتصاديّة، وهي على نوعين:
الأوّل: علاقة الإنسان بالطبيعة من خلال العمل وهو ما يتجسّد عادةً في عمليّة الإنتاج بأشكالها المختلفة على مرّ التاريخ.
الثاني: علاقة الإنسان مع الإنسان الذي يشاركه الحقّ في الاستفادة من الطبيعة وهو ما يتجسّد عادةً في عمليّة التوزيع بأشكالها المختلفة التي تعبّر عن علاقات متنوّعةٍ تقوم بين أفراد المجتمع لتحديد طريقة اشتراكهم في خيرات الطبيعة إيجاباً وسلباً كالاسترقاق والنّظام الإقطاعيّ والرأسماليّة والاشتراكيّة والاقتصاد الإسلاميّ.

خطأ الماركسيّة

وقد ذهبت الماركسيّة خطأً إلى ربط أشكال التوزيع بأشكال الإنتاج فكلّ علاقة إنتاجٍ ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيعٍ معيّنة وهي العلاقة التي تنسجم مع الشكل السائد للإنتاج وتساعد على نموه حتى إذا أصبحت علاقات التوزيع بشكلها الاجتماعيّ عقبةً أمام نمو الإنتاج اتجهت قوانين المادية التاريخية إلى تغيير الميزان الاجتماعيّ وتبديل علاقات توزيع جديدة تفي حاجات الإنتاج وعلاقاته، وهذا يعني أن مصلحة الإنتاج لا الإنسان هي التي تحدّد وتبرّر علاقات التوزيع وأنّ كلّ شكلٍ لعلاقات التوزيع يعتبر صحيحاً ومقبولاً ما دام يحقّق مصلحة الإنتاج حتى نظام الاسترقاق.
وعلى العكس فإنَّ الإسلام لا يجد في مصلحة الإنتاج المبرّر لعلاقات التوزيع وإنّما يقيم هذه العلاقات على أساس قيَمٍ ثابتةٍ وهي القيَم الربّانيّة والإنسانيّة التي تعبّر عنها خلافة الإنسان في الأرض وتؤكّد الحقّ والعدل والمساواة والكرامة الإنسانيّة، وفي تصوّر الإسلام أنّ علاقات الإنتاج يجب أن تتأثر باستمرارٍ بتطوّر خبرة الإنسان بالطبيعة وتقدّمه العلميّ، وكلّما تنامت هذه الخبرة تطوّرت علاقة الإنسان بالطبيعة.
وأمَّا علاقات التوزيع فهي تقوم في التصوّر الإسلاميّ على الحقوق الإنسانيّة الثابتة ومنطق خلافة الله في الأرض ومن هنا لم يكن شكل التوزيع يختلف ويتجدد بالضرورة تبعاً لاختلاف علاقات الإنسان بالطبيعة، فربط الإسلام بين العمل والملكيّة وجعله العمل والحاجة أساسين للملكيّة في الاقتصاد الإسلامي ليس قراراً نسبياً، ونمو الأداة المنتجة في يد بعض الأفراد لا بدّ من مواجهته بتشريعاتٍ إضافيةٍ لصيانة المجتمع من الاستغلال ولضمان سلامة التوزيع وعدالته.
وعلى هذا الأساس تقسّم عناصر المجتمع في ضوء الإسلام إلى ثلاثة:
القسم الأوّل: عناصر ثابتةٍ وهي عناصر وضعت في الإسلام على شكل أحكامٍ منصوصةٍ في الكتاب الكريم أو السنّة لتنظيم علاقات التوزيع وفقاً لمبادئ العدالة الاجتماعيّة والخلافة العامّة للإنسان على الأرض.
القسم الثاني: عناصر متحرّكة في مجال التوزيع وتنظيم علاقاته تدعو الضرورة إليها بسبب المتغيرات في عمليّة الإنتاج، ومثال هذا القسم: تحديد الحاكم الشرعيّ حدّاً أعلى لا يسمح بتجاوزه في عملية إحياء الأرض مثلاً فيما إذا كان السماح المطلق يؤدّي إلى إمكان ظهور ألوانٍ من الاستغلال والإحتكار لا يقرّها الإسلام.
القسم الثالث: عناصر متحرّكة في مجال الإنتاج وتحسينه وهي عناصر متطوّرة بطبيعتها ولا معنى لافتراض الثبات فيها ما دامت وليدة الخبرة البشريّة.
وفي هذا السِّياق يذهب الشِّهيد الصَّدرO إلى أنَّ الاقتصاد الإسلاميّ في الوقت الذي يتّفق فيه مع كلّ المذاهب الاجتماعيّة الأخرى من ضرورة الاهتمام بالإنتاج وبذل كل الأساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه لتمكين الإنسان الخليفة على الأرض من السيطرة على المزيد من نعمها وخيراتها، فإنّه يضعه ضمن الإطار الحضاريّ الإنسانيّ ووفقاً للأهداف العامّة لخلافة الإنسان على الأرض؛ فيختلف النظام الرأسماليّ مثلاً والذي يعتبر تنمية الإنتاج هدفاً بحدّ ذاته عن الإسلام الذي لا يرى تجميع الثروة إلا وسيلةً لإيجاد الرخاء والرفاه وتحقيق العدالة الإجتماعيّة، وهذا الاختلاف يؤدّي إلى فروق عديدة بين موقف الإسلام من عمليّة الإنتاج ومواقف الاتجاهات الاجتماعيّة الأخرى.

نظرة الإسلام حول الإنتاج 

وهي كالتالي:
 1. إنّ الأشكال التي تتخذها عمليّة الإنتاج يجب أن تنسجم إسلاميّاً مع كرامة الإنسان وقيمه المعنويّة، بعيداً عما مارسته الرأسماليّة من استغلالٍ للنّساء والصبيان بأرخص الأجور.
 2. لا يتحرّك الإنتاج في الاقتصاد الإسلاميّ وفقاً لمؤشّرات الطلب في السوق فحسب، وإنّما يتحرّك -إيجاباً- لتوفير الموادّ الحيويّة اللازمة لكل فردٍ مهما كانت ظروف الطلب في السوق، ويتحرك -سلباً- لشجب كلّ قطاعات الإنتاج التي تخصّص لتوفير سلع الترف والبذخ؛ خلافاً للمجتمع الرأسمالي الذي يتحرّك فيه الإنتاج وفقاً للطلب والقدرة الشرائيّة للطالبين، فيؤدّي ذلك إلى اتجاه الإنتاج نحو توفير سلع الترف وغيرها مما يعتمد على القدرة الشرائيّة للأغنياء، وتقاعس الإنتاج وانكماشه عن توفير السلع الحيويّة بالقدر الكافي.
 3. إنَّ الإنتاج في المجتمعات الرأسماليّة غالباً ما يتحرّك وفقاً لطلب المشتري الوسيط بين المنتج والمستهلك الحقيقيّ وهو ما يسبب حالات معيّنة من التضخّم المصطنع لتراكم الإنتاج، مما يؤدّي لإيقاف العمل وإتلاف كمياتٍ كبيرةٍ من البضاعة حفاظاً على درجة من التناسب بين العرض والطلب.
والإسلام قد عمل على استئصال الأدوار الطفيليّة لهؤلاء الوسطاء وتقريب عمليتّيّ الإنتاج والإستهلاك، بنحوٍ يعالج معه هذه الوفرة من الإنتاج الذي لا مبرر موضوعي له.
وهكذا تبرز عظمة الإسلام في أنَّه يصمِّم المجتمع تصميماً يصونه من أعراض الاستغلال الرأسمالي والإثراء على حساب الآخرين مع الحفاظ على الحقّ الطبيعي للعامل في تملّك الثروة التي ينتجها.

القيود الإسلاميّة في الاقتصاد

ويرىO أنَّ الإسلام تدخّل أيضاً في فرض القيود على عمليّة التبادل التي اتخذت شكل المقايضة قدم التاريخ فكان الإنتاج مرتبطاً بالمبادلة إذ أنّ المستهلك منتجٌ في نفس الوقت حتى اتخذت المبادلة شكلاً آخر مع بدء التّعامل بالنقد الذي شكّل وسيلةً للادّخار لعدم نقص القيمة فيه مع مرور الوقت مما ساعد على احتكاره بكميّاتٍ كبيرةٍ وبيعه بنقدٍ أكبر مؤجّلٍ فنشأ الربا الذي تمّ شجبه في الإسلام وحرّمت الفائدة تحريماً باتّاً لأنّ الفائدة حينئذٍ نتيجةُ السعر الاحتكاريّ للنّقد وليست أجراً في قبال العمل، كما أنّ الإسلام حرّم اكتناز النّقود وفرض عليه ضريبةً في كثيرٍ من الحالات كي لا يفقد دوره الطبيعي كأداةٍ لتيسير المبادلة، واتجه أيضاً إلى إلغاء عمليات المبادلة الطفيليّة التي تفصل بين الإنتاج والاستهلاك ومنع بيع السلعة قبل قبضها ولم يرخَّص للفرد في شراء منفعةٍ بثمن وبيعها بثمنٍ أكبر ما لم يقم بعملٍ يبرّر هذه الزيادة.
وكما وضع الإسلام قيوداً على تبادل المال كذلك وضع قيوداً على عمليّة الاستهلاك والإنفاق لإشباع الحاجات، بتحريمه للإسراف الذي يمثل تحديداً كمياً لنفقات المعيشة لا يسمح لأيّ فردٍ في المجتمع الإسلاميّ بتجاوز الحدود المألوفة من إشباع الحاجات في مجتمعه؛ وبتحريم التبذير الذي يمثل تحديداً كيفياً للتصرّف لا يسمح لأيّ فردٍ بصرف المال في نزواتٍ غير مقبولة؛ وفي نفس الوقت قام الإسلام بالحثّ على التطوّع بما زاد على الحاجة المعقولة للجماعة وإنفاقه في سبيل الله، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة : 219) أي ما زاد على الحاجة.

علاج البنوك الربويّة

وفي هذا المجال يقدّم الشهيد الصدرO علاجاً لمشكلة البنوك الربويّة التي يتمثّل نشاطها الرأسماليّ في الاقتراض بفائدةٍ عن طريق ما يتسلّمه من ودائع ثم الإقراض بفائدةٍ أكبر عن طريق ما يسلفه للأفراد أو المشاريع الإنتاجيّة والتجاريّة من نقودٍ ورؤوس أموال، الأمر الذي لا ينسجم مع ما فرضه الإسلام من قيودٍ على عمليتّي الإنتاج والتبادل.
وذلك بطرحه لفكرة البنك اللّاربويّ والذي يقوم على أربعة أسسٍ نظريّة، هي: حرمة الربا والإقراض بفائدةٍ لعدم انسجامه مع ربط الإسلام الربح بالعمل، وعلى حرمة اكتناز النقود لأنّه يؤدّي إلى الركود في عمليّة الإنتاج لفقدان النقد حينئذٍ لدوره الطبيعيّ كأداة تبادل، وعلى فرض الإسلام ضريبةً على الاكتناز تتمثّل في الزكاة، والأمر الرابع والأخير تأكيد الإسلام وحثّه الفائق على مساعدة المستضعفين وإقراض المحتاجين بنحوٍ يعزّز روح الأخوّة والمحبّة.
وأمّا الوسائل العمليّة التي يمكن للبنك اتخاذها في تجميع كميّاتٍ متفرّقةٍ للأموال من دون إغراءٍ بالفائدة الربويّة -بنحوٍ يسهل معه تمويل المشاريع عن طريق الإقراض- فتلقّي الأموال على شكل ودائع ليتمتّع المودع بالإطمئنان على سلامة أمواله والإحتفاظ بقيمتها الحقيقيّة لأنّ البنك ضامنٌ لها بما تمثّل من قيمتها عند الإيداع على أساس الذهب وسعر الصرف بالذهب، والحصول على الأجر والثواب فيما لو خصّص الوديعة لإقراض المحتاجين والمعوزين؛ والشكل الثاني لتلقّي البنك للأموال ما يتّخذ طابع المضاربة بتفويض البنك في استثمار المال وتوظيفه في المشاريع الاقتصاديّة بنحوٍ يحصل معه المودع على نسبةٍ من الأرباح ويتحمّل فيه الخسارة حال حصولها، وهكذا يصبح البنك في المجتمع الإسلاميّ جزءاً أصيلاً من الصورة الكاملة لاقتصاده.
إذن فالاقتصاد الإسلامي يؤمن بأنّ مصادر الثروة الطبيعيّة كلّها لله تعالى، وأنَّ اكتساب حقٍ خاصٍّ في الانتفاع بها لا يقوم إلا على أساس الجهد والعمل، وأنَّ أيّ إنتاجٍ بشري للثروة الطبيعيّة لا يعطي حقاً في الثروة المنتجة إلا للعامل المنتج نفسه، وأنّ على الدّولة توفير مستوًى معيشيٍّ موحّد أو متقاربٍ لأفراد المجتمع والحفاظ على التوازن الاجتماعيّ بالحيلولة دون تركيز الأموال وعدم انتشارها، وتتّجه الدّولة في ظلّ الصورة المتكاملة للاقتصاد الإسلاميّ إلى إعادة النّقد لدوره الطبيعي كأداةٍ للتبادل لا كأداةٍ لتنميّة المال بالربا أو الادّخار، وتتّجه الدّولة أيضاً إلى تحويل نظام المصرف من كونه وسيلةً للتنميّة الرأسماليّة إلى كونه وسيلةً لإثراء الأمة ككل. 

الخاتمة

وقد تبين أنَّ الإسلام خلافاً لمجتمعات الجاهليّة التي لا تنظر إلى الحياة إلا من خلال شوطها القصير الذي ينتهي بالموت ولا تدرك ذاتها ومتعتها إلا من خلال إشباع ما لدى الإنسان من غرائز وشهوات، وهي على هذا الأساس تجد في المال -بوصفه مالًا- وفي تجميعه وادّخاره والتنافس عليه الهدف الطبيعي للإنسان؛ وكان لهذا التصوّر للحياة الدور الأساس في كل ما رزحت به هذه المجتمعات من محاولات الاستزادة والتكاثر وألوان التناقض والاستغلال؛ لأنَّ مسرح الحياة محدود والأوراق معدودة واللاعبون كثيرون وصاحب الحظّ السعيد من يحصل على أكبر عددٍ من تلك الأوراق ولو على حساب الآخرين، فعمل الإسلام على إزالة هذا التصوّر واستئصال جذوره النفسيّة من الإنسان بشجب المال وتجميعه وادّخاره والتكاثر فيه كهدف، ونفى أيّ دورٍ له في تخليد الإنسان أو منحه وجوداً حقيقيّاً أكبر، قال تعالى:
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ}.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة/34-35).
ولم يقتصر الإسلام على شجب أهداف الجاهليّة وقيمها، بل وضع بدلاً عنها الهدف الذي يجب أن تسير في اتجاهه، قالd: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(الملك /1ـ2)، فبدلاً عن الأكثر مالاً والأخلد ثروة، وضع من الأحسن عملاً المثل الأعلى والهدف الأوّل، وليضمن الإسلام قيام هذا الهدف على أساسٍ متينٍ وواقعيّ أكّد على خلود العمل بدلاً عن المال والثروة عبر ذلك العالم غير المنظور، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}(سبأ/39)، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام/160)، وهذا هو الوجه الاجتماعيّ الثوريّ للمعاد بوصفه الأصل الخامس من أصول الدين.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا