نظرة الإسلام للمرأة

نظرة الإسلام للمرأة

الحمد لله رب العالمين الذي وضع کل شيء موضعه المناسب بتشريعه الأحکام والقوانين العادلة، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى(ص) المبعوث من قبل الله تعالى ليبين للناس هذه الأحکام والقوانين وسائر المعارف الدينية الأخرى في إطار الدين الإسلامي، والصلاة والسلام على أئمة الهدى وأمهم الزهراء «صلوات الله عليهم أجمعين» الذين جعلهم الله حماة دينه وناشري أحکامه.

والإسلام العظيم ـ کما يعلم قارئي الکريم ـ شريعة ونظام شامل ومتکامل يهدف إلى تنظيم حياة الإنسان على وفق ما أراده الله سبحانه وتعالى له، فمن ظهور الإسلام وانتشار تعاليمه السامية دخلت حياة المرأة مرحلة جديدة بعيدة کل البعد عما سبقها.

 ما هي المرحلة الجديدة ـ بعد ظهور الإسلام ـ في حياة المرأة؟

* في مرحلة ظهور الإسلام أصبحت المرأة مستقلةً ومتمتعةً بکل حقوقها الفردية والاجتماعية والإنسانية فمنها:

1- تتقوم تعاليم الإسلام بشأن المرأة على أساس الآيات التي ندرسها في هذا المبحث حيث يقول تعالى:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1).

يقول الطبرسي(قده) في مجمع البيان: إنه يستفاد من هذه العبارة العجيبة والجامعة فوائد کثيرة جداً(2)، فهي قد جرّت البحث إلى مسائل أهم بکثير من مسائل أخرى، وقررت مجموعة من الحقوق المتبادلة بين الرجال والنساء فتقول: کما أن للرجال حقوقاً على النساء، فکذلک للنساء حقوق على الرجال أيضاً، فيجب عليهم مراعاتها؛ لأن الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة ولم يتحيز إلى أحد الطرفين، فالمرأة بموجب هذه الآية الشريفة تتمتع بحقوق تعادل ما عليها من واجبات ثقيلة في المجتمع.

2- اعتبر الإسلام الرجل کالمرأة کائناً ذا روح إنسانية کاملة، وذا إرادة واختيار، ويطوي طريقة على طريق تکامله الذي هو هدف الخلقة، ولذلک خاطب الرجل والمرأة معاً في بيان واحد حين قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا}، وضع لهما منهجاً تربوياً وأخلاقياً وعلمياً ووعدهما معاً بالسعادة الأبدية الکاملة في الآخرة، کما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}(3).

فالمقياس عند الله سبحانه وتعالى هو العمل، أما التمايزات المادية ‌والظاهرية ـ التي تقرها الأنظمة البشرية الفاسدة ـ فلا معنى لها أبداً.

بلى، هناک أمر واحد يرتکز عليه العمل فلا يقبل إلا به وهو الإيمان، والذين يتوفر لديهم هذان الشرطان «العمل والإيمان» هم الذين يدخلون الجنة، فيوجد في هذه الآية إشارة للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح، ولا فرق في ذلک بين الرجل والمرأة في محضر الله تبارک وتعالى، وفي القيم الإنسانية، ومن هذا المعنى تتضح ـ لقارئي الکريم ـ قضية عدالة الله تبارک وتعالى، حيث يقاضي الإنسان بما اکتسبت يداه خيراً أو شراً.

3- أکد الإسلام العظيم أن الجنسين ـ أي: الرجل والمرأة ـ قادران على انتهاج طريق الإسلام للوصول إلى الکمال المعنوي والمادي ولبلوغ الحياة الطيبة المفعمة بالطمأنينة، نظير ما جاء في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(4).

يبين القرآن الکريم في هذه الآية الشريفة قانوناً عاماً بالنسبة لنتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإيمان التي يؤديها الإنسان وبأية صورة کانت في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وعليه ـ وکما أشرنا فيما سبق ـ فالمقياس وهو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط، من حيث السن أو الجنس أو المکانة الاجتماعية أو ما شابه ذلک في هذا الأمر.

4- إن الإنسان يرى المرأة کالرجل إنساناً مستقلاً حراً، وذلك جاء في مواضع عديدة من القرآن الکريم، کقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(5) فهذه الآية الکريمة تبين لنا قاعدة‌ جارية ‌على کل نفس بدون استثناء أو تمييز بين أبيض وأسود، أو ذکر وأنثى، أو عربي وأعجمي، فلا قيمة أسمى من العمل الصالح، هکذا يشرع الله لعباده، وذلک يعني أن کل الفلسفات الضيقة ‌العنصرية والعرقية والقومية و.. و.. مرفوضة.

5- إن الرجل والمرأة متساويان أمام قوانين الجزاء: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(6).

6- لما کان الاستقلال يستلزم الإرادة والاختيار، فقد قرر الإسلام هذا الاستقلال في جميع الحقوق الاقتصادية، وأباح للمرأة ألوان الممارسات المالية، وجعلها مالکة لأموالها، يقول الله سبحانه وتعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(7).

کلمة اکتساب ـ خلافاً لکلمة کسب ـ لا تستعمل إلا فيما يعود نتيجةً على الإنسان نفسه(8).

ولو أضفنا إلى هذا المفهوم القاعدة العامة القائلة: «الناس مسلطون على أموالهم» لفهمنا مدى الاحترام الذي أقره الإسلام للمرأة بمنحها الاستقلال الاقتصادي، ومدى التساوي الذي قرره بين الجنسين في هذا المجال.

فالمرأة ـ في مفهوم الإسلام ـ رکن المجتمع السياسي، ولا يجوز التعامل معها على أنها موجود تابع عديم الإرادة يحتاج إلى قيم(9).

* ما هو المفهوم الصحيح للمساواة بين المرأة والرجل؟

 طبعاً هنا ينبغي الالتفات إلى مسألة الاختلافات الروحية والجسمية بين المرأة والرجل، وهي مسألة التفت إليها الإسلام بشکل خاص وأنکرها بعضهم منطلقين من تطرف في أحاسيسهم.

إن أنکرنا کل شي فلا نستطيع أن ننکر الاختلافات الصارخة بين الجنسين في الناحية الجسمية والناحية الروحية، وهذه مسألة تناولتها تأليفات مستقلة ملخصها:أن المرأة‌ قاعدة انبثاق الإنسان، وفي أحضانها يتربى الجيل ويترعرع، وهي لذلک خلقت لتکون مؤهلةً جسمياً لتربية الأجيال، کما أن لها من الناحية الروحية سهماً أو في من العواطف والمشاعر.

وهل يمکن مع هذا الاختلاف الکبير أن ندعي تساوي الجنسين في جميع الأعمال واشتراکهما المتساوي في کل الأمور؟!

أليست العدالة أن يؤدي کل کائن واجبه مستفيداً من مواهبه وکفائاته الخاصة؟‍!

أليس خلافاً للعدالة أن تقوم المرأة بأعمال لا تتناسب مع تکوينها الجسمي والروحي؟!

من هنا نرى الإسلام ـ مع تأکيده على العدالة ـ يجعل الرجل مقدماً في بعض الأمور مثل الإشراف على الأسرة‌ و... ويدع للمرأة مکانه المساعد فيها.

العائلة والمجتمع يحتاج کل منهما إلى مدير، ومسألة الإدارة في آخر مراحلها يجب أن تنتهي بشخص واحد، وإلا ساد الهرج والمرج.

فهل من الأفضل أن يتولى هذه المسؤولية المرأة أم الرجل؟

کل المحاسبات البعيدة عن التعصب تقول: إن الوضع التکويني للرجل يفرض أن تکون مسؤولية إدارة الأسرة بيد الرجل، والمرأة تعاونه(10).

* ما هو المفهوم الذي نستفيده من جملة قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}؟ هل يلزم أن يکون الجنسان؟ أي المرأة والرجل متساويان تماماً في الواجبات والحقوق؟

 في الحقيقة إن هذه الجملة من الآية المبارکة تکمل القاعدة السابقة في الحقوق المتقابلة بين الرجل والمرأة، وفي الواقع إن مفهومها هو أن مسألة‌ العدالة‌ بين الرجل والمرأة لا تکون بالضرورة بمعنى التساوي في الحقوق وأن يکونا في عرض واحد.

ولو أخذنا بنظر الاعتبار الاختلافات الکبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسمية والروحية لاتضح الجواب على السؤال.

المرأة بطبيعة مسؤوليتها الحساسة في إنجاب الأبناء وتربيتهم تتمتع بمقدار أوفر من العواطف والمشاعر والإحساسات، في حين أن الرجل وطبقاً لهذا القانون أنيطت به مسؤولية الواجبات الاجتماعية التي تستلزم قوة الفکر والابتعاد عن العواطف والأحاسيس الشخصية أکثر، ولو أردنا إقامة العدالة فيجب أن تضع الوظائف الاجتماعية التي تحتاج إلى تفکر وتحمل أکثر بعهدة الرجال والوظائف والمسؤوليات التي تحتاج إلى عواطف وإحساسات أکثر بعهدة المرأة، وعلى أي حال فلا يکون هذا مانعاً من تصدي المرأة للمسؤوليات الاجتماعية المتوائمة مع قدراتها الجسمية وملکاتها البيولوجية فتؤدي تلک الوظائف والمسؤوليات إلى جانب أداء وظيفة الأمومة في الأسرة.

وکذلک لا يکون هذا التفاوت مانعاً من تفوق بعض النساء من الجهات المعنوية والعلمية والتقوائية على کثير من الرجال.

فما نرى من إصرار أو ما يرد من إشکالات وشبهات وتساؤلات حول مقولة التساوي بين الجنسين في جميع الأمور هو إصرار لا تؤيده الحقائق على أرض الواقع حيث ينکرون في دعواهم هذه الثوابت العلمية في هذه المجال.

ولا شک ولا ريب أن الحکمة الإلهية والتدبير الرباني يستوجبان أن يکون لکل شخص في المجتمع وظائف وحقوق معينة من قبل قانون الخلقة ‌ويتانسب مع قدراته وقابلياته الجسمية والروحية، وبذلک فإن الحکمة الإلهية تستوجب أن تکون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليات الملقاة على عاتقها حقوقٌ مسلمةٌ کيما يکون هناک تعادل بين الوظيفة والحق.

ولهذا يستفاد من أبحاث العلامة الکبير آية الله الشيخ الجوادي الآملي «حفظه الله تعالى»: إن المرأة کذات لا تختلف عن الرجل، ولا يختلف الرجل عنها، ولذلک أفسح المجال لکل منهما للوصول إلى مقام الخلافة الإلهية، ولم يکن هذا المکان خاصاً بالرجل، وإنما کان خاصاً بالإنسان، وکما أن الرجل إنسان فالمرأة إنسان، ولا يقل أحدهما في مقام الإنسانية عن الآخر ـ طبعاً الإنسانية على مستوى الإمکانية؛ لأن الإنسانية الاکتسابية وجودها بالقوة، والإنسانية الإمکانية وجودها فعلي ـ وهنا يري الإمام الخميني بأن هدف الإسلام هو صنع الإنسان،‌ وکما أن الرجل أعطي إمکانية الوصول إلى أعلى مراتب الخلافة الإلهية، فکذلک المرأة، لأن هذا المقام لم يلحظ الذکورة‌ والأنوثة، وإنما يلحظ الإنسانية التي يمتلکها الرجل کما المرأة.

ولا سبيل في يوم القيامة للذکورة والأنوثة، حيث لا يضيع الله عمل عامل من ذکر أو أثنى، لا الذکورة تهب الرجل حقاً لا يستحقه، ولا الأنوثة تمنع المرأة حقاً فتبخسه؛ لأن الذي يملک الفاعلية في کليهما هو الروح، والروح لا تصنف بالذکورة ولا الأنوثة، أما البدن فمجرد مرکب تشق فيه الروح عباب بحر الحياة.

* هل توجد ـ إضافةً لما تقدم ـ فروقات بدنية ونفسية بين الرجل والمرأة تجعل المؤهلات والإمکانيات الإجرائية لکل منهما تختلف عن الآخر؟

 طبعاً رأت بعض المذاهب أن المرأة لا تختلف عن الرجل من ناحية العمل الإجرائي، فکل ما يقوم به الرجل تستطيع المرأة أن تقوم به، کما أن کل ما تقوم به المرأة يستطيع الرجل أن يقوم به، حتى أن أبحاثاً قد جرت حول إمکانية أن يقوم الرجل بعملية الحمل التي تقوم بها المرأة، وکذلک فإن رعاية وتربية الأطفال ليس بالضروري أن تکون بالدرجة الأولى من اختصاص المرأة، وغيرها من هذة الأمور، لکن هذه الآراء وإن أشبعت بحثاً على المستوى التنظيري، لکنها تثبت فشلها شيئاً فشيئاً على المستوى العملي، والسبب أنها لم تراعِ الفروقات الموجودة بين الرجل والمرأة.

لکن مذاهب أخرى ذهبت إلى القول بضرورة وجود الاختلاف على المستوى الإجرائي بين الرجل والمرأة، وإن کانت تختلف فيما بينها أيضاً في مدى سعة هذا الاختلاف ونوعيته.

المرأة تزاول من الأعمال ما تمتلک من مؤهلاتها وإمکانياتها،‌والرجل کذلک يزاول منها ما يمتلک من مؤهلاته وإمکانياته.

ثم يضيف سماحته قائلاً:

وهذا التنوع في الأدوار أمر طبيعي وضروري لا يقتصر على الجانب التشريعي بل يتعداه إلى التکويني في جميع مرافق الکون ومفاصل المادة، فعالم الکثرة والتعدد يقتضي تعدد وتنوع الحاجيات بعکس عالم الوحدة والأحدية، وهذا التنوع في الحاجيات يتطلب تنوعاً في الأدوار؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقوم لوحده بجميع الأدوار، وبالتالي کان لا بد لکل من مؤهلات تکوينية تجعله مستعداً لأداء الدور الذي أوکل إليه، وفي هذا تعاون واجتماع البشر لأنه وإن کان کل ما في عالم الکثرة تعدداً وکثرةً تکويناً وتشريعاً، لکن الله عزوجل أراد أن يوحي بالکثرة إلى الوحدة، وأن يشير بالتعدد إلى الأحدية(11).

* إذا کان الإنسان حاملاً لصفات خليفة الله، وکان مقام الإنسانية منزه عن الذکورة والأنوثة، فلماذا وصل أفراد کثيرون من الرجال إلى هذا المقام في حين أنه قد وصل إليه أربعة من النساء فقط؟

 نقول في جواب هذا السؤال إنه:

1- هناک الکثير من النساء اللواتي لم تدون فضائلهن في التاريخ.

2- هؤلاء الأفراد الأربعة لسن بياناً على سبيل الانحصار.

3- إذا کان المجتمع مجتمعاً راشداً فإنه يسعى لأن يضع إمکانات الترقي والسعادة في اختيار کلا الصنفين، وإذا کان المجتمع متخلفاً فيجب ألا ينسب هذا التحجر الفکري الاجتماعي إلى الدين؛ لأن الدين العظيم قد فتح الطريق أمام الصنفين، ولم يکن الکمال بأي حال من الأحوال مشروطاً بالذکورة وممنوعاً بالأنوثة، واشتراط الذکورة بالأقسام الإجرائية سوف يطرح في الأبحاث الفقهية، وستبين الإجابات المناسبة لها، بإذن الله تعالى(12).

* هل تهمل مسألة الذکورة والأنوثة في يوم القيامة؟

 بدأ القرآن الکريم الکلام حول محور الخلافة في بدء وجود الإنسان ولم يکن للخلافة امرأة ورجل، فإنه في نهاية وجوده وفي ختام العالم أيضاً عندما يطرح مسألة المعاد، ومسألة مواقف القيامة، ومسألة البرزخ والحشر، ومسألة السؤال والجواب، والکتاب ووزن الأعمال، والعبور على الصراط، والکوثر ومثلها...، فإنه لا يفرق في أي حال من الأحوال بين الرجل والمرأة، وفي جميع هذه الموارد فإن کلا من الرجل والمرأة هما مع بعضهما البعض، وحتى هذه المسألة التي جاءت في بعض الروايات أن أهل الجنة يقولون:

«يا معشر الخلائق، غضوا أبصارکم حتى تجوز فاطمة(ع) بنت محمد(ص)»(13).

غضوا أبصارکم، لا لأنکم من غير المحارم إجازة لرؤيتها، فلا کلام هناک عن التکليف ولا کلام عن الحرمة والحلية أو الجواز وعدم الجواز، بل إن هذا أمر تکويني، أي أنه عندما تمر هذه السيدة مع ذلک الجلال وتلک العظمة فإن أهل المحشر ليس لهم القدرة على رؤيتها وإن نور أعينهم سوف يطفأ، ولن تکون لهم القدرة على مشاهدتها؛ لذلک يقال: «يا أهل المحشر غضوا أبصارکم»؛ لأن فاطمة الزهراء(ع) تريد أن تجوز.

إن ما جاء في الرواية أن لحضرة الزهراء(ع) عبادة بحيث إنها يمکن أن تصل إلى يد جميع أهل المحشر وأنهم يستطيعون أن يستفيدوا من نسيج هذه العبادة العظيمة، طبعاً ليس بمعنى أن العبادة قد نسجت بخيط الصوف أو القطن وأمثال ذلک وأن حضرة الزهراء(ع) قد لبسته وهي ستعبر به، بل هو فقط لباس الرحمة ومقام الولاية الشامخ، الذي يکون محيطاً، هم مظهر: {رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(14) وسعة تلک الرحمة تصل إلى الجميع، وإلا فإن ما يکون عبادةً ظاهراً فهو ليس من الحرير أو القطن وأمثالهما، هم وإن قالوا هذا الحديث بلغتنا ولنا، فإن المقصود من ذلک اللباس هو الرحمة التي سوف تکون على سعة جميع أهل المحشر(15).

* ما هي قدرة الروح الإنسانية في بحثنا؟

 قبل أن نجيب على هذه السؤال أود الإشارة إلى مسألة تمهيدية وهي أن حجم دماغ المرأة أو وزن دماغها أقل من حجم ووزن دماغ الرجل، وبناءً على هذا فإن القدرة الفکرية التي يملکها الرجل لا تملکها المرأة لأن الدماغ آلة الفکر وعندما تکون الآلة ضعيفةً فإن ما هو مطلوب عبر الآلة سوف يکون ضعيفاً.

هذا البيان وإن کان يظهر في أول الأمر أنه تام، ولکن سوف يتضح بعد الدخول في فصل البحوث العقلية أن الإنسان وإن کان يملک بدناً وروحاً ولکن ليس على نحو تکون فيه الروح في رباط البدن، بل إن البدن هو الذي يکون في رباط الروح، فالحقيقة کل الحقيقة نفهم من هذا المعنى: أن البدن لا يصنع الروح بل الروح هي التي تصنع البدن.

إذا کانت الروح قويةً فإنها تستطيع أن تصنع آلةً قويةً، وإذا کانت الروح ضعيفةً فإنها لا تمتلک القدرة على صنع آلة قوية.

نقل المرحوم الصدوق في الکتاب الشريف الأمالي والمرحوم الحکيم الطوسي وأيضا کبار أهل الحديث والحکمة أن أمير المومنين علي بن أبي طالب(ع) عندما اقتلع باب خيبر ورماه بعيداً قال:

«ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوة جسدية ولا حرکة غذائية لکني أيدت بقوة ملکوتية ونفس بنور ربها مضيئة»(16).

قال(ع): أنا لم أقم بهذا العمل بسواعد قد تغذت واشتدت من وراء سفرة الطعام، بل قد أنجزت هذا العمل بقدرة إلهية، وعلى کل حال يمکن أن نقول إنه قد قام بهذا العمل بصِرْف الإرادة ويمکن أن نقول إنه قد قام بهذا العمل باليد، فضلاً عن الإرادة، وعلى کل صورة لم يکن هناک قدرة مطبخية کما أن قدرة الروح الإنسانية ليست من المطبخ، وقدرة الأنبياء أيضاً لم تکن من المطبخ، وبناءً على هذا ليس لديها عمل مع الطعام والأجزاء العنصرية والمادية؛ لذلک فإن ذلک العمل الذي أنجز من تلک السيدة النموذجية ـ أي حضرة فاطمة الزهراء(ع) ـ لا ينجز من أي رجل غير الإنسان الکامل، أي الأنبياء العظام والعترة الطاهرة، والروح هي التي تعطي القدرة لهذا الدماغ(17).

* ما هي قصة المرأة في التاريخ؟ وما هي حقوقها المهدورة؟

 عانت المرأة خلال العصور التاريخية المختلفة ألواناً من الظلم والاضطهاد والتعسف، ويشکل هذا التاريخ المؤلم المر جزءاً هامّاً من الدراسات الاجتماعية.

وبشکل عام يمکن تقسيم تاريخ حياة المرأة إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل التاريخ، وليس لنا معلومات صحيحة عن وضع المرأة في هذة المرحلة، ومن الممکن أن تکون قد تمتعت آنذاک بحقوقها الإنسانية الطبيعية.

والمرحلة الثانية: هي المرحلة التي تسمى بمرحلة التاريخ، وقد کانت المرأة خلالها في کثير من المجتمعات شخصيةً غير مستقلة في جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستمر هذا الوضع في قسم من المجتمعات حتى القرون الأخيرة.

هذا اللون من التفکير بشأن المرأة مشهودٌ حتى في القانون المدني الفرنسي بتقدميته، على سبيل المثال نشير إلى بعض فقراته المتعلقة بالشؤون المالية للزوجين:

يستفاد من المادتين 215 و217 أن المرأة المتزوجة لا تستطيع بدون إذن زوجها وتوقيعه أن تؤدي أي عمل حقوقي، وتحتاج في کل معاملة إلى إذن الزوج، هذا إذا لم يرد الرجل أن يستغل قدرته وأن يمتنع عن الإذن دون مبرر.

وحسب المادة 1242 يحق للرجل أن يتصرف لوحده بالثروة المشترکة بين المرأة والرجل بأي شکل من الأشکال، ولا يلزمه استئذان المرأة بشرط أن يکون التصرف في إطار الإرادة، وإلا لزمت موافقة المرأة وتوقيعها، وأکثر من ذلک ورد في المادة 1428: إن حق إدارة جميع الأموال الخاصة بالمرأة موکول إلى الرجل، على أن المعاملة الخارجة عن حدود الإدارة تتطلب موافقة المرأة وتوقيعها.

وفي أرض الرسالة الإسلامية ـ أي الحجاز ـ کانت المرأة تعامل معاملة الکائن غير المستقل، وکانوا يستثمرونها بشکل فظيع قريب من حالة التوحش.

وبلغ وضع المرأة من الانحطاط بحيث إن صاحبها کان يستفيد منها للارتزاق أحياناً، فيعرضها للإيجار.

وما کان يعانيه هؤلاء من فقر حضاري وفقر مادي جعل منهم قساة لا يتورعون عن ارتکاب جريمة الوأد بحق الأنثى(18).

* هل هناک تلازم بين الحق والوظيفة؟

 يشير القرآن الکريم إلى أصل وأساس، وهو أنه کلما کانت هناک وظيفة ومسؤولية کان هناک حق إلى جانبها، يعني أن الوظيفة والحق لا ينفصلان أبداً، فمثلاً إن على الوالدين وظائف بالنسبة للأولاد، وهذه الوظائف تسبب إيجاد حقوق في عهدة الأولاد، أو إن القاضي موظف في تحقيق العدالة في المجتمع ما أمکنه ذلک، وفي مقابل هذه الوظيفة والمسؤولية له حقوق کثيرة في عهدة الآخرين، وهکذا بالنسبة إلى الأنبياء(ع) وقومهم.

ففي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}(19) إشارةٌ إلى هذه الحقيقة، حيث تقول إن النساء لهن من الحقوق بمقدار ما عليهن من الواجبات والوظائف، وهذا التساوي بين الحقوق والواجبات يسهل عملياً إجراء العدالة في حقهن، وکذلک يثبت عکس هذا المطلب أيضاً، فمن جعل له حقاً ففي مقابله عليه واجبات ومسؤوليات لا بد من أدائها؛ ولذلک لا نجد أحداً له حق من الحقوق في أحد الموارد وليست في ذمته وظيفة ومسؤولية(20).

* ما هي السورة القرآنية التي تضمنت أبحاثاً کثيرةً ومفصلةً حول أحکام المرأة وحقوقها؟

 اختار القرآن الکريم اسم النساء على السورة التي تعتبر من حيث عدد الکلمات والأحرف أطول السور بعد سورة البقرة،‌وتحتوي على «176» آية،‌ وسُميت بسورة النساء لأنها تتحدث عن حقوق المرأة في بدايتها، ثم عن علاقة المرأة بالرجل، وعن جوانب من حياة المرأة.

وبما أن المرأة حسب النظرية الإسلامية تعتبر وجه حضارة البشر، والتي تعکس مدى التزام الحضارة بالقيم السامية التي تأمر بالمحافظة على حقوق الضعفاء؛ ولأن الإسلام يوليها اهتماماً کبيراً کان من المفروض أن يعالج موضوعها في سورة من القرآن، وکانت سورة النساء بحکم موضوعها الاجتماعي أفضل موقع للحديث عنها.

فهذه السورة الشريفة تحتوي على موضوعات مهمة، فعندما نزلت في المدينة وکان النبي الأکرم(ص) مقبلاً على تأسيس حکومة إسلامية وتکوين مجتمع إنساني قويم، نزلت وهي تحمل جملةً من القوانين التي لها أثرٌ کبيرٌ في إصلاح المجتمع، وإيجاد البيئة الاجتماعية السالمة.

وعلى العموم فإن هذه السورة المبارکة تحدثت عن موضوع بحثنا المتواضع،‌سائلاً العلي القدير التوفيق والتسديد، لتوضيح وبيان التفسير الموضوعي للآيات المتعلقة بالمرأة وحقوقها، من خلال هذه السورة المبارکة، بعد الاستفادة من التفاسير العظيمة لعلمائنا الأعلام.

* کيف کان زواج أبناء آدم وحواء؟ هل کان الأخ يتزوج أخته أم ماذا؟

 قال الله سبحانه وتعالى:

{الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}(21).

يستفاد من هذه الآية الشريفة أن انتشار نسل آدم(ع) وتکاثره قد تم عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يکون لموجود ثالث أي دخالة في ذلک.

وبعبارة أخرى: إن النسل البشري الموجود إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشارکهما في ذلک غيرهما من ذکر أو أنثى.

وهذا يستلزم أن يکون أبناء آدم إخوةً وأخوات قد تزاوجوا فيما بينهم؛ لأنه إذا تم تکثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح قوله: {مِنْهُمَا}.

وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضاً، ولا داعي للتعجب والاستغراب إذا لاحظنا الاستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت(ع) أن هذا النوع من الزواج کان مباحاً لم يرد بعد حکم بحرمة تزوج الآخر بأخته.

ومن البديهي أن حرمة‌ شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه وتعالى له، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة‌ والمصالح المعينة أن يبيح شيئاً في زمان، ويحرمه بعد ذلک في زمن آخر؟!

ولتوضيح هذا الرأي نقول:

لم يکن آنذاک حکم بحرمة الزواج، وحيث لم يکن من سبيل لحفظ النسل سوى ذلک فقد وقع زواج الأخ من الأخت، طبعاً {إِنِ الْحُکْمُ إِلاَّ للهِ}(22). فما الضير في أن تباح تلک المسألة مؤقتاً لجماعة وتحرم بعد ذلک أبداً على الجميع؟!

والدليل القرآني الذي ذکره أصحاب هذا الرأي قوله تعالى:

{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} فظاهر الآية أن النسل البشري کان بوسيلة هذين الفردين، ولو کان غير ذلک لقال: «وبث منهما ومن غيرهما»، أضف إلى ذلک الرواية عن الإمام السجاد(ع) والتي ذکرها المرحوم الطبرسي في تأييد هذ الرأي.

غير أنه قد صرح في أحاديث أخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم، وتحمل بشدة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.

ولو کان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأولى؛ لأنها توافق ظاهر الآية الحاضرة کما عرفت قبل هذا.

هذا ويوجد احتمال آخر يقول: إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله؛ لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يکن أول إنسان سکن الأرض، بل کان قبله الکثير من الناس.

وقد کشفت الدراسات والتحقيقات العلمية‌ اليوم أن النوع الإنساني کان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم، في حين لم يمر على تاريخ ظهور آدم(ع) في الأرض زمن طويل، فلا بد إذن من القبول بالنظرية التي تقول: بأنه کان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا، فما المانع من أن يکون أبناء آدم قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي کان في أواخر انقراضه؟

ولکن هذا الاحتمال هو أيضاً لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة، وهذا البحث يحتاج إلى توسع أکثر لا يسعه هذا المجال(23).

* ماذا يفهم المفسر من قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}؟ أي: نريد أن نفهم کيف خلق الله زوج الإنسان من نفسه؟ وهل يعني هذا أن الإنسان الأول کان ذا طبيعة مزدوجة، ثم انفصلت طبيعة الذکر عن طبيعة الأنثى في سائر الأجيال؟

أم هل يعني هذا أن الله خلق آدم‌(ع) ثم انتزع من أضلعه صلصالاً وخلق منه حواء؟

لا نعلم حقيقة ذلک، ولکن هذا التعبير يوحي بفکرة علمية تهمنا في تلاوة آيات القرآن الکريم، وهي أن الذکر والأنثى جنس واحد، وليست الأنثى أقل شأناً من الذکر، لا في الطبيعة ولا في منهج الله، وقد تکررت في آيات القرآن هذه الفکرة مثل قوله تعالى:

{خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}(24).

من هنا نسف القرآن الکريم الفکرة العنصرية الجنسية التي تقول:

إن للذکر سلطة مطلقة على الأنثى بسبب أنه من جنس أعلى‌ ـ کما يقولون ـ والفارق بينه وبينها يشبه تماماً الفارق بين الإنسان والحيوان!!

لقد نسف القرآن الکريم هذه الفکرة وبيَّن أن کل الحواجز بين الناس مصطنعةٌ، ولا رصيد لها من الحق أبداً(25).

* ما هو توضيح قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} وما هو سبب نزول هذه الآية؟

 نذکر أولاً سبب نزول الآية الکريمة ثم توضيحها:

لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص، فقد کان المتعارف في العهد الجاهلي قبل الإسلام أن يتکفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات، ثم يتزوجون بهن، ثم يمتلکون أموالهن، وربما ينکحوهن بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهن، بل وربما يترکوهن لأدنى سبب أو کراهية بکل سهولة، وبالتالي لم يکونوا يعطونهن ما يليق بهن ـ کزوجات ـ بل وحتى کبقية النساء العاديات من الاحترام والمکانة، فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إذا أرادوا الزواج بهن أن يلاحظوا جانب العدل معهن، وإلا فليختاروا الأزواج من غيرهن(26).

يقول سبحانه في هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، وقد جاء هذا الکلام بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها، فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم، وهو هذه المرة يتعلق باليتيمات خاصةً.

جاء في تفسير الأمثل: بملاحظة ما ذکرناه في سبب النزول يتضح تفسير هذه الآية والمراد منها، کما يتضح الجواب أيضاً على السؤال المطروح هنا وهو: لماذا تبتدئ الآية بذکر اليتامى، وتنتهي بمسألة الزواج؟! ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلک البداية، وهذه النهاية فالبداية والنهاية کلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج، غاية ما في الباب أن الآية تقول: إذا لم يمکنکم الزواج باليتيمات ومعاشرتهن على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تترکوا الزواج بهن، وتتزوجوا بغيرهن من النساء تجنباً لظلم اليتيمات والإجحاف بحقوقهن، والجور عليهن.

* ما هي فلسفة تعدد الزوجات في الإسلام؟

 فلسفة تعدد الزوجات في الإسلام هي من أجل حل بعض المشاکل الاجتماعية.

فمنها: لحل مشکلة اليتم وضع الإسلام حلاً اجتماعياً هو الزواج بالأرملة، أي: صاحبة الأيتام.

ذلک أنه لا يوجد شاب يقدم على الزواج ابتداءً من أرملة عجوز، إلا إذا جعلها زوجته الثانية لکي يسترها ويحافظ على حقوقها وحقوق أبنائها؛‌ لأن الزواج من الأم يعطي الزوج دافعاً نفسياً إلى المحافظة على حقوق أولادها اليتامى، باعتبار أنهم سوف يصبحون کأولاده بالنسب، وسوف ينفعونه عند الکبر، ويرفعون اسمه عند الناس وهکذا.

من هنا ربط القرآن الکريم بين الخوف من ظلم اليتيم وبين تعدد الزوجات فقال:

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}(27).

ثم عاد وحذر من الزواج بنية سيئة، أو مع عدم القدرة على الوفاء بحقوق الزوجية فقال:

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً}.

وعدم العدالة قد يکون بالاهتمام بزوجة وترک الأخريات کالمعلقات لا يحظين بحقوق الزوجية الجنسية والاقتصادية، ولا هنَّ مطلقات حتى يتزوجن غيره.

فالآية الشريفة تريد أن تقول: إن التزوج بأکثر من زوجة إنما يجوز إذا أمکن مراعاة العدالة الکاملة بينهن، أما إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاکتفوا بالزوجة الواحدة لکي لا تجوروا على أحد.

ومن الناس من يتزوج أرملةً بهدف التهام أموالها ثم يترکها تعاني الأمرَّين، ولقد حذّر القرآن الکريم من ذلک وأمر هؤلاء بالاقتصار على زوجة واحدة.

ثم يقول سبحانه وتعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}،أي: يجوز أن تقتصروا على الإماء اللاتي تملکونهنّ بدل الزوجة الثانية، فيمکنکم التسري بالإماء بهدف تفريغ الشهوة الجنسية، ومن جانب آخر يفتح طريق اللذة الحلال بالزواج أو الملک.

وهنا ملاحظةٌ، وهي أن الزواج بالإماء المملوکات بدل الزوجة الثانية باعتبار أنهن أخف شروطاً، طبعاً وإن کن يجب أن يحظين ويتمتعن بما لهن من الحقوق أيضاً(28).

ثم قال تعالى:

{ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}، أي أن هذل العمل ـ وهو الاقتصار على زوجة واحدة أو الاقتصار على الإماء وعدم التزوج بزوجة حرة ثانية ـ أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظکم من العدوان على الآخرين.

وبتعبير أجلى للآية الکريمة نقول: إن الاکتفاء بزوجة واحدة، أو بالتسري بالإماء، يمنع الميل عن الحق إلى الباطل، بينما تعدد الزوجات قد يتسبب في الظلم والفقر والمسکنة(29).

* ما هو المراد من قوله تعالى في الآية الکريمة: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}؟

 تعني مثنى في اللغة اثنتين اثنتين، وثُلاث أي: ثلاثاً ثلاثاً، ورباع أي: أربعاً أربعاً، وحيث إن الخطاب في هذه الآية الشريفة موجه إلى المسلمين کافةً، کان المعنى: إن عليکم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنباً من الجور عليهن، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مکانتهنَّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهن، وتظلموهنّ، ويجوز لکم أن تتزوجوا منهنّ باثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في الأمر حيث إن الخطاب هنا موجه إلى عامة المسلمين، وکافتهم عبر بالمثنى، والثلاث، والرباع إذ لا شک في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصة ـ لا يشمل أکثر من أربع نساء.

ولا بد من التنبيه هنا إلى هذه النکتة وهي أن الواو هنا أتت بمعنى «أو»، فليس معنى هذه الجملة هو أنه يجوز لکم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليکون المجموع تسع زوجات؛ لأن المراد لو کان هذا لوجب أن يذکر ذلک بصراحة فيقول: وانکحوا تسعاً، لا أن يذکره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة.

هذا مضافاً إلى أنّ حرمة الزواج بأکثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي، وأحکامه القطعية المسلمة.

وعلى کل حال فإن الآية الحاضرة دليلٌ صريحٌ على جواز تعدد الزوجات، طبعاً بشروط قد تم ذکر بعضها وسيأتي ذکرها مفصلاً ومضافةً لشرائط أخرى إن شاء الله تعالى في الدراسات القادمة، فإليک ـ عزيزي القارئ ـ هذا السؤال أولاً:

* ما هو المقصود من العدل بين الزوجات؟

 قبل الخوض في بيان فلسفة تعدد الأزواج في الشريعة الإسلامية يجب أن يتضح أولاً المراد من العدل بين الأزواج الذي هو من شروط جواز التعدد، فما هو المقصود من العدل هنا يا ترى؟

أهي العدالة في الجوانب المادية کالمضاجعة وتوفير وسائل العيش وتحقيق الرفاه والمتطلبات المعيشية؟

أم أن المراد أيضاً هو العدالة في نطاق القلب والعواطف والأحاسيس الإنسانية؟

وبعبارة صريحة: العدالة في الحب والرغبة، مضافاً إلى العدالة في الجوانب المادية؟

لا شکّ أن مراعاة العدالة في الميل القلبي والحب رغبةً شيءٌ خارجٌ عن نطاق القدرة البشرية.

فمن ذا يستطيع أن يضبط حبه من جميع الجوانب؟! يعطيه الحجم الذي يريد، والحال أن موجباته وعوامله خارجة عن نطاق قدرته، وإطار إرادته؟

ولهذا لم يوجب سبحانه مراعاة مثل هذه العدالة حيث قال سبحانه في نفس هذه السورة ـ أي النساء ـ {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}(30)، أي: لا يمکنکم مهما أردتم أن تعدلوا بين الأزواج في الميل القلبي، والحب والمودة.

إذن فلا ضير في الحب والميل القلبي الذي لا يوجب تفضيل بعض الأزواج في المواقف العملية، وعلى هذا الأساس فإن ما يجب على الرجل مراعاته هو العدالة بين أزواجه في الجوانب العملية الخارجية؛ أي في نوع التعامل العملي خاصةً؛ إذ يستحيل مثل هذه المراعاة في المجال العاطفي.

فالآية الشريفة تريد أن تقول: على الرجل ألايحرص في الزواج بأکثر من امرأة واحدة لأن الواجب الشرعي عليه يقضي آنئذ أن يعدل بينهما، وبما أن ميل الشخص سيکون بالطبع إلى الحسنى منهما، فلذلک من الصعب أن يقيم العدل في التعامل معهما، وسيؤدي ذلک بطبيعة الحال إلى ترک واحدة منهما وإهمالها، حتى تصبح کالمعلقة، فلا هي زوجةٌ تتمتع بحقوق الزوجية ولا هي مطلقةٌ فتکيف حياتها حسب إرادتها.

{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} إلى الزواج بل اجعلوا الزواج من الثانية حسب المصلحة أو الضرورة فقط.

فمثلاً: إذا وجدتم أرملةً تحتاج إلى کنف الزوجية، وليس لها من يتکفل بها فتزوّجوا منها، أو إذا کان عدد النساء أکبر بکثير من الرجال لسبب أو لآخر، مما يشکل مشکلةً اجتماعيةً ـ لولا تعدد الزوجات ـ وإذا کانت الزوجة الأولى عقيم أو مريضة أو مسنة بحيث لا تستطيع الوفاء بحقوق الزوجية وهکذا.

أما في الحالات العادية التي يکون الزواج بالثانية شهوة جنسية بحتة أو تفنناً في المتعة المجردة، فإن العاقبة المنتظرة هي إهمال إحداهما مما يشکل خرقاً لحقوقها.

{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}(31).

أي أن الزواج بالثانية ليس حراماً حتى ولو کان لمجرد المتعة أو الشهوة الجنسية، ولکن بشرط الإصلاح الدائم للعلاقة بين الاثنتين معاً، وبشرط التقوي والتحذر من سحق حقوق واحدة منهما تحت ضغط العاطفة.

من هذا الکلام يتضح بجلاء أن الذين أرادوا من ضم قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}(32) أن يستنتجوا حرمة تعدد الأزواج مطلقاً بحجة استحالة مراعاة العدالة بينهن قد وقعوا في خطأ کبير؛ لأن العدالة المستحيلة مراعاتها ـ کما أسلفنا ـ هي العدالة في المجال العاطفي، وليس هذا من شرائط جواز التعدد في الأزواج، بل إن من شرائط جوازه هو مراعاة العدالة في المجال العملي.

وللتوضيح نقول: لا شک في أن المراد من العدل في الآية الکريمة هو العدالة في مقام العمل، أي: عدم الإجحاف وظلم النساء فيما يخص الحقوق الزوجية والأسرية، وإلا فإن المودة والحب الباطني والقلبي لا يمکن السيطرة عليه بشکل کامل، وبتعبير آخر: إن الرجل المتعدد الزوجات مکلفٌ بالتزام العدالة بين زوجاته، فمثلاً عليه أن يوفر الطعام والملبس والسکن لهن على حد سواء، وإن کان يحب إحداهن أکثر قلبياً بسبب جمالها وکمالها الظاهري أو الباطني.

بناءً على هذا إن الله سبحانه وتعالى لم يکلف الرجل ولم يطالبه بأن يساوي بين زوجاته في المحبة، وفي نفس الوقت لم يسمح له بأن يمارس الظلم بحق الزوجة التي يوليها حباً أقل في مقام العمل وفي مجال الحقوق الأسرية والزوجية ويهملها ولا يعتني بها وکأنها امرأةٌ بلا رجل(33). وخلاصة القول ونتيجته هي أن الذين أمسکوا بقسم من هذه الآية ونسوا القسم الآخر وتورطوا في رفض تعدد الزوجات في خطأ يدهش کل محقق، ويستغرب منه کل باحث.

أضف إلى ذلک أن مسألة جواز تعدد الأزواج بشرائطها على درجة من الثبوت والوضوح في الفقه الإسلامي ومصادره الشيعية والسنية بحيث لا يبقي مجال للجدل، ولا محل للنقاش، بل هو من ضروريات الفقه الإسلامي ومسلماته وبديهياته.

 

* الهوامش:

(1)سورة البقرة من الآية 228.

(2)مجمع البيان، ج 1، ص 327.

(3)سورة غافر: 40.

(4)سورة النحل: 97.

(5)سورة المدثر: 38.

(6)سورة النور: 2.

(7)سورة النساء: 32.

(8)راجع مفردات الراغب، هذا طبعا حين تتقابل کلمتي: کسب و اکتساب.

(9)تفسير الامثل بتصرف، ج 2، ص 105

(10)نفس المصدر بتصرف.

(11)استفدنا هذه المعارف العظيمة من خلال ابحاث العارف الجليل سماحة الله الشيخ الجوادي الآملي حفظه الله تعالى من اشرطه التسجيل، بتصرف

(12)نفس المصدر بتصرف.

(13)بحار الانوار، ج 43، ص 221،‌حديث 4.

(14)سورة الاعراف: 156.

(15)نفس المصدر بتصرف.

(16)بحار الانوار: ج 21، ص 26.

(17)من ابحاث سماحة الشيخ دام ظله نقلناها بتصرف.

(18) تفسير الأمثل بتصرف، ج2، ص104.

(19) سورة البقرة: 228.

(20)تفسير الأمثل بتصرف، ج2، ص104.

(21) سورة النساء: 1.

(22) سورة يوسف: 40.

(23) سورة النساء: 1، بتصرف في تفسير الأمثل.

(24) سورة الروم: 21.

(25) تفسير هدايت، حول الآية الأولى من سورة النساء (بتصرف).

(26) مجمع البيان، ج3، 5 و6 (بتصرف).

(27) سورة النساء: 3.

(28) تفسير الأمثل، ج3، ص91 (بتصرف).

(29) نفس المصدر (بتصرف)

(30) سورة النساء: 129.

(31) سورة النساء: 129.

(32) سورة النساء: 3.

(33) سورة النساء: 129.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا