مُنيَةُ المُوحّدين من حياة العباس (عليه السلام) ابن أمير المؤمنين (عليه السلام)

مُنيَةُ المُوحّدين من حياة العباس (عليه السلام) ابن أمير المؤمنين (عليه السلام)

التوحيد

لغة:

على وزن تفعيل، وهو: إما لأجل التشديد في الوحدة، ومعناه الاهتمام البالغ والأكيد بالوحدة، أو من أجل انتساب المفعول- من وقع عليه الفعل- إلى الفعل مثل التكفير والتفسيق(1).

واصطلاحاً:

هو وحدانية الله (سبحانه وتعالى) ونفي أي شريك أو شبيه أو مثيل له، وذلك يكون بالأدلة العقلية والنقلية المستفادة من الكتاب والسنة الشريفة.

القرآن والتوحيد

منذ أن بذرت بذرة الإسلام، وأظهر رسول الإسلام الكريم (صلَّى الله عليه وآله) صوت الدعاية والدعاء، يتردد بين الأنحاء والأرجاء، وردده الكون كلّه من أقصاه إلى أدناه.

بذرت بذرة الإسلام ما بذرت إلا على الوحدة والتوحيد، وظهرت دعوته ودعاؤه، وليس بين شفتيه، إلا كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) يعمل بين يديه كتاب الله، وكل ما فيه الدعوة إلى الوحدة والتوحيد: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلٰهُکُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِکِينَ‌}(2).

شاء الله لرسوله الأكرم محمد (صلَّى الله عليه وآله) من أن يكون خاتم الأنبياء، كما شاء الله تعالى لنبوته أن تكون خاتمة النبوات، فيكون دينه مسك الختام للأديان، وشريعته بقية السلف لتلك الشرائع السالفة، وما سر هذا أو ذاك إلا أن دين محمد (صلَّى الله عليه وآله) يتفق مع كل عصر، ويتلاءم مع كل حياة، فهو باقٍ ببقاء العصور، خالد ما خلدت الحياة؛ ذلك أنه دين بالغ في كل فضيلة حدها البعيد، وضرب أكبر رقم قياسي في المدنية والمعارف والأخلاق والنظم والقوانين، فعاد المثل الأعلى لكل أولئك، والمثل السائر في كل كرامة ومكرمة بين الناس أجمعين.

جاء محمد (صلَّى الله عليه وآله) بدين هو دين الوحدة في العقيدة والاتجاه، دين الوحدة في الفكرة والعمل، هو دين الوحدة، فقد جاء بدعوة الاعتقاد بأن خالق الكون ومدبره والمهيمن على هذه الكائنات، والمسيطر على هذه الموجودات إله واحد هو الفاعل الكامل، والغني المطلق المتصرف المدبر، يراقب النيات، ويحاكم الضمائر، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ليس مع أمره أمر، ولا دون حكمه حجم، لأي كائن من هذه الكائنات في هذه الحياة، لا ضد له ولا ند، ولا كفء ولا شبيه، (سبحانه وتعالى) عما يشركون، وأنت تعلم، وكل من له مسكة من عقل يعلم ما لهذه العقيدة من بليغ الأثر في أدب النفس في مجتمع الحياة وحياة الاجتماع؛ فما عقيدة التوحيد -ولا يعرف كثر من الناس منها إلا أنها عقيدة فقط- إلا رأس كل فضيلة فاضلة، وأسّ كل ملكة نفسية سامية.

إن عقيدة التوحيد أساس الصدق، والصدق- سواء أكان في القول أم في العمل- أساس كل فضيلة؛ ذلك أن الإنسان- وقد عرف أن من بيده أمر هذه الكائنات في أحوالها واحد- لا يرى حينذاك غير الله -تعالى- شيئاً يستحق المداراة والمجاراة -إلا من حيث أمر الله- فتزهق حينذاك نفس الكذب والخداع، وتزهق روح الجدل والرياء، وما للبشر والرياء للبشر؟!

ولا نفع ولا ضرر للبشر على البشر، بيدٍ أو لسان، فهناك- وقد غلب الصدق وتغلّب- يعود القول صادقاً، والفعل صادقاً، لا من أجل حب سمعة، أو طلب ظهور، ويكون الناس حينذاك مثالاً للأثر الصحيح بكل وضوح(3).

المحيط القرآني

لا يخفى عليك أن المحيط الذي نزل فيه القرآن الكريم كان من أكثر بلدان العالم تخلفاً، فقد كانوا متمسكين بعبادة الأصنام، تمسكاً شديداً، يصطنعونها من الحجر والغشب بأشكال متنوعة، فكانت تلقي بظلها المشؤوم على كل ثقافتهم، حتى قيل إنهم كانوا يصطنعون الأصنام من التمر ويسجدون لها، فإذا مستهم المسغبة أكلوها!

وعلى الرغم من كرههم البنات بحيث كانوا يئدونهن، فإنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، ويجعلون مع الله أنساناً مثلهم.

كان ينتابهم العجب من التوحيد وعبادة إله واحد. وعندما دعاهم نبي الإسلام إلى عبادة الله الأحد، قالوا بدهشة: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلٰهاً وَاحِداً إِنَّ هٰذَا لَشَيْ‌ءٌ عُجَابٌ}(4)، وكانوا يلصقون صفة الجنون بكل من يخالف خرافاتهم وأساطيرهم المزيفة ويتعرض لمعتقداتهم الواهية.

لقد كان النظام القبلي هو السائد على المجتمع، حيث المنازعات القبلية على أشدها، حتى إن نار الحروب لم تخمد يوماً بينهم، وكثيراً ما اصطبغت أرضهم بحمّامات الدم، وكانوا يفتخرون بالقتل والنهب والسبي.

وإذا ظهر بينهم من يعرف القراءة والكتابة أصبح ناراً على علم، وكان من النادر أن تعثر على عالم مفكر بينهم.

هذا هو المحيط الذي ظهر فيه إنسان أمي لم يدخل مدرسة ولا رأى معلّماً، ولكنة أتى بكتاب عميق المحتوى إلى درجة أن العلماء والمفسرين ما يزالون بعد أربعة عشر قرناً مشغولين باستكناه معانيه واستخراج حقائق جديدة منه.

إن الصورة التي يرسمها القرآن لعالم الوجود ونظامه صورة دقيقة منظمة، فيعرض التوحيد بأكمل حالاته، ويعرض أسرار خلق الأرض والسماء والليل والنهار والشمس والقمر والنبات والأشجار والإنسان على أنها آيات تدل على وحدانية الله.

ويتعمق في أغوار النفس الإنسانية ويتحدث عن التوحيد الفطري، فيقول: {فَإِذَا رَکِبُوا فِي الْفُلْکِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِکُونَ‌}(5).

ويسلك سبيل العقل والمنطق لإثبات التوحيد مستنداً إلى السير في الآفاق والتأمل في الأنفس، مذكراً الإنسان بأسرار خلق السماوات والأرض والحيوانات والجبال والبحار، وهطول الأمطار، وهبوب الرياح ودقائق أعضاء الإنسان: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ}(6)(7).

كيف يكون الإنسان موحداً؟

إذا أراد الإنسان أن يكون موحداً خالصاً له سبحانه لا يمكنه أن يصل بدون وصل عبادته وعمله وأفعاله لغيره (عزَّ وجلَّ).

التلفظ بلفظ التوحيد وهو (لا اله الا الله) لا يجزي ولا يغني الإنسان المسلم أن يصل إلى هذا المقام السامي النير بدون ذلك.

صحيح أن التلفظ بكلمة التوحيد له ماله من مزية وأجر عظيم، لكون لفظ الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم الجامع لكل الكمالات، لكن كلمة (لا اله إلا هو) أعظم من كلمة التوحيد (لا اله إلا الله)؛ لأن لفظة (هو) إشارة إلى الهوية الغيبية المحضة، وبمنزلة اسم (الا اسم)؛ بينما لفظ الجلالة (الله) اسم للذات بلحاظ جامعيتها لتلك الكمالات.

والأعظم منهما كلمة (لا إله إلا أنت) الواردة في الذكر اليونسي، الذي به نجا من ظلمة بطن الحوت، وهو قوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَکَ إِنِّي کُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ٭ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَ کَذٰلِکَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‌} وجملة: {كَذلِكَ نُنجي المُؤمنينَ} توحي بأن هذا الذكر حبل النجاة لكل مفهوم منكسر، لا سيما الغافل المبتلى ببراثن الجهل، وليس خاصاً بالنبي يونس (عليه السلام).

يقول العارف الكامل ميرزا جواد الملكي التبريزي (رحمه الله): "كان لي شيخ جليل أيام تحصيلي في النجف الأشرف، وكان مرجعاً لأتقياء طلبة زمانه في التربية، وسألته عما جربه من الأعمال البدنية في تأثير حال السالك إلى الله، فذكر أمرين:

أحدهما: أن يسجد في كل يوم وليلة سجدة واحدة طويلة ويقول فيها: {لا إلَهَ إلاَّ أنت سُبحانَكَ إنّي كٌنتُ مِنَ الظَّالمين} يقصد بذلك أن روحي مسجونة في سجن الطبيعة ومقيدة بقيود الأخلاق الرذلية، وأني بأعمالي جعلت نفسي مسجونة في هذا السجن ومقيدة بهذه القيود، وأنزه ربي من أن يكون هو الذي فعل بي ذلك ظلماً، وأنا الذي ظلمت نفسي وأوقعتها في هذه المهالك.

وكان يوحي أصحابه بهذه السجدة، فكان كل من يعمل بها يعرف تأثيرها في حالاته، لا سيما من كان طول سجوده أكثر، وكان بعض أصحابه يقول ذلك ألف مرة، وبعضهم أقل وبعضهم أكثر، وسمعت أن بعضهم يقول ذلك ثلاثة آلاف مرة.

الآخر: أن يقرأ سورة القدر ليلة الجمعة وعصر يوم الجمعة مائة مرة (ظاهره أن يقرأ في ليليتها مائة مرة وفي عصرها مائة مرة أخرى)"(8).

واذا ما طوى السالك المراحل السابقة بالصدق وثبات القدم فسيسمع قوله تعالى: {لاَ إِلٰهَ إِلاَّ أَنَا}، وهي أعلى مرتبة توحيدية على الإطلاق، وهي الكلمة التي سمعها كليم الله في طور سيناء، بعد أن خوطب بـ:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْکَ إِنَّکَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى‌}(9) تعظيماً لذلك الوادي المقدس، وبعد أن جاءه الخطاب الإلهي: {وَأَنَا اخْتَرْتُکَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}‌(10)، فازدان صدره المنشرح بوسام الرسالة الفاخر، ومن ثم قال له الجليل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي}(11).

العباس  (عليه السلام) من أجلى المصاديق

منزلة العباس (عليه السلام) عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)

لا شك في أن جبرائيل (عليه السلام) لما أخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن الله تبارك وتعالى بشهادة سبطه الأصغر، وريحانته في الدنيا الإمام الحسين (عليه السلام) وما يجري عليه، أخبره أيضاً عن شهادة من يستشهد معه، وعن شهادة أخيه وصنوه، وحاميه والمدافع عنه خاصة، والذي أبلى في نصرته بلاء حسناً، وفداه بروحه ودمه، أبي الفضل العباس (عليه السلام).

ولا شك في أن اطلاع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن مواساة أبي الفضل العباس (عليه السلام) أخاه وإمامه الإمام الحسين (عليه السلام) وتعرفه إلى إيثاره له، علماً بأن هذه المواساة، وهذا الإيثار منه (عليه السلام) هو نتيجة عمله بعلمه، وتطبيقه لمعرفته ومعتقده بإمامه (عليه السلام) فإن ذلك جعل لأبي الفضل العباس (عليه السلام) عند جده –جدّ إمامه- مكانة مرموقة، ومنزلة محمودة، مما دعا رسول الله إلى التصريح بفضل أبي الفضل العباس وكرامته، والتلويح بمقامه ومنزلته عندالله وعند رسوله (صلَّى الله عليه وآله) كما صرح بذلك في حق سبطه وريحانته الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن قبله في حق سبطه الأكبر، وريحانته المجتبى الإمام الحسن (عليه السلام)، ولكن لم يصلنا شيء من تصريحاته (صلَّى الله عليه وآله) في حق أبي الفضل العباس (عليه السلام) (ولكن لم يصلنا و للأسف شيء)، كما وصلنا والحمدلله بعض تصريحاته (صلَّى الله عليه وآله) في حق الإمامين الهمامين الحسن والحسين (عليه السلام).

ويدل على ذلك ما جاء في كتاب الخصال للشيخ الصدوق، باب الاثنين، الحديث الواحد بعد المائة، فإنه (رحمه الله) بعد أن يروي فيه عن الإمام زين العبادين (عليه السلام) في حق عمه العباس بن علي (عليه السلام) الرواية المعروفة، ويذكر فيها: «إن الله أبدله مكان يديه المقطوعتين جناحين يطير  بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر  بن أبي طالب»(12)، يقول- الشيخ الصدوق- ما نصه: "والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة"، ثم يضيف: "و قد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العباس بن علي (عليه السلام) في كتاب: مقتل الحسين (عليه السلام) بن علي (عليه السلام)" انتهى كلامه، رفع الله مقامه، فإنه كما لم يصلنا كتاب مقتل الشيخ الصدوق (رحمه الله)، فكذلك لم يصلنا ما جاء فيه، وما جاء في غيره من الكتب الأخرى، من فضائل أبي الفضل العباس (عليه السلام) التي ربما نقلت في حقه عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

العباس (عليه السلام) في طليعة العلماء العاملين

هذا، ولكن يمكن أن يدعى أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان قد عنى أبا الفضل العباس (عليه السلام) أيضاً في رواياته المروية عنه (صلَّى الله عليه وآله) في مدح العلماء الأبرار، العاملين بعلمهم، والمطبقين لما عرفوه واعتقدوه من الحق في الخارج تطبيقاً عملياً دقيقاً، وذلك لأن أبا الفضل العباس (عليه السلام) هو في طليعة العلماء العاملين، فيشمله مثل قوله (صلَّى الله عليه وآله):

«فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد»(13)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «العلماء قادة المتقون سادة»(14)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «الفقهاء أمناء الرسل»(15)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»(16)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل»(17)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر»(18)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «فضل العالم على غيره كفضل النبي على أمته»(19)، ومثل قوله (صلَّى الله عليه وآله): «ألا أحدثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور؟، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون عباد الله إلي، قال: يأمرونهم بما يحب الله، وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله»(20).

فكيف بأبي الفضل العباس (عليه السلام) فإنه إضافة إلى كونه من طلايع هؤلاء العلماء العاملين، وهو في مقدمة الشهداء السعداء أيضاً؟!

فمن يكون كذلك، كيف لا يكون من أجلى مصاديق الموحدين، المجتهدين أصحاب الإدارة والعزم والثبات، لذلك هو سبيل إلى الوصول إلى الله سبحانه، وباب من أبواب اللجوء والاستغاثة إليه (عزَّ وجلَّ).

نفحات توحيدية من زيارة العباس (عليه السلام)

ولأبي الفضل العباس (عليه السلام) مواقف كثيرة في حياته تحثّ على التوحيد وتبين حقيقته، وللأسف أنه لم يصلنا منها إلا القليل، ومن ضمن ما وصلنا عنه (عليه السلام) ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته المشهورة.

ولأهمية الزيارة الشريفة في بحثنا نغترف منها أربع نفحات نشرحها بشرح إجمالي مختصر مربوط ببعض ما ورد من مواقف أبي الفضل العباس (عليه السلام) التوحيدية من سيرته العطرة.

النفحة الأولى

قوله (عليه السلام): «لعن الله من قتلك ولعن الله من جهل حقك واستخف بحرمتك ولعن الله من حال بينك وبين ماء الفرات»(21).

اللعن: الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء(22)، وقوله تعالى: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِکُفْرِهِمْ}(23)، أي أبعدهم، وقوله تعالى: {وَيَلعنهٌم اللاعِنُون}(24)، وقال الأزهري: "اللعين المشتوم المسبب، واللعين: المطرود"(25)، واللعين: الشيطان، صفة غالبة لأنه طرد من السماء، وقيل: لأنه أبعد من رحمة الله، واللعنة: الدعاء عليه.

وهنا يقف الإمام الصادق (عليه السلام) ليدعو على الذين قتلوا العباس (عليه السلام) والذين جهلوا حقه واستخفوا بحرمته وحالوا بينه وبين ماء الفرات، بالطرد والحرمان من رحمة الله تعالى، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «حرمة المؤمن عند الله خير مما طلعت عليه الشمس»(26)، وقال (صلَّى الله عليه وآله): «إن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الملائكة، قال عمر بن خطاب: ومن جبرائيل؟! فالتفت (صلَّى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) فقال (صلَّى الله عليه وآله): ما تقول يا أبالحسن؟  فقال (عليه السلام): من جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش والملائكة المقربين، فقال رسول الله: صدق اخي وابن عمي»(27).

قوله (عليه السلام): «وحال بينك وبين ماء الفرات»(28)، حال بين الشيء والآخر اعترضه ووقف بطريقه، أما كلمة الفرات فهي بمعنى الماء العذب، وفي اللغة السومرية يطلق على الفرات اسم (بوراتوتو) وفي الآشورية (بوراتو) وفي الآرامية (أفزوت) ومعناها النمو والخصب.

ويقال ماء الفرات ماء فرت ومياه فرات والتسمية وردت في القرآن: {أَسْقَيْنَاکُمْ مَاءً فُرَاتاً}(29) كان نهر الفرات ولم يزل نهر الخير والعطاء حيثما مر في طريقه بين التلال والبوادي تنتشر الخضرة والحياة في ربوع واديه(30)، وفي المسيحية بحسب رواية الكتاب المقدس فإنّ الفرات أحد أنهار جنة عدن، وفي الإسلام أخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بأن الفرات والنيل هما من أنهار الجنة، وجاء في صحيح مسلم إن الرسول محمد (صلَّى الله عليه وآله) قال: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة»(31).

ولعن الإمام (عليه السلام) من حال بين أبي الفضل (عليه السلام) وماء الفرات لنكتة مهمة، إن هذه النكتة من النكات التي اختصت بأبي الفضل العباس (عليه السلام) دون غيره، حيث إنه لما كان يوم عاشوراء، وبدأ ابن سعد القتال، وشن الحرب على آل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أكثر القتلى في صفوف الإمام الحسين (عليه السلام) وبان الانكسار فيهم، عندها أخذ الإمام الحسين (عليه السلام) ينادي إتماماً للحجة ودفعاً للعذر: «أما من مغيث يغيثنا؟ أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟».

فلما سمع ذلك أبو الفضل العباس (عليه السلام) أقبل إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) فقبل ما بين عينيه، واستأذنه في البراز، فلم يأذن له، وطلب منه الاستسقاء للأطفال، فودعه ممتثلاً أمره، وحمل القربة واتجه نحو الفرات، فلما أراد أن يقتحم الشريعة أحاطوا به ليمنعوه، فرقهم وهو يقول: «أنا العباس بن علي، أنا ابن أختكم الكلابية، أنا عطشان، وأهل البيت محمد عطاشى، وهم مذادون عن الماء وهو مباح إلى الخنازير والكلاب» ثم دخل الفرات وملأ القربة وخرج بالماء نحو المخيم، فاعترضه الموكلون بالشريعة ليمنعوه من إيصال الماء إلى المخيم، فقاتلهم وهو يقول:

أنا الذي أُعرف عند الزمجرة   بابن علي المسمى حيدرة

أن اثبتوا اليوم لنا يا كفرة

فقتل منهم كل من اعترضه، حتى قتل مائة فارس من فرسانهم، وأوصل الماء بسلامة إلى المخيم، ففرح الأطفال بوصول الماء إليهم.

وكانت هذه السقاية -على ما روي- هي السقاية الثالثة لأبي الفضل العباس (عليه السلام) وقد وقعت في يوم عاشوراء(32).

من هذا وغيره يعلم مكانة أبي الفضل العباس (عليه السلام) عند الله تبارك وتعالى حيث أنه (عليه السلام) وقف نفسه لسقاية أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأطفاله ذرية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ونسائه حرم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وجد واجتهد في ما أوقف نفسه له حتى استشهد في هذا الطريق صابراً محتسباً، فحباه الله تقديراً له، وإكراماً به، وِسام السقاية، سقاية كل شيء، وليس سقاية الماء فحسب، بل منحه تعالى أن يسقي بإذنه تعالى كل عطشان، سواء أكان عطشان ماء، أم عطشان علم، أم عطشان مال وولد، أم عطشان حج وعمرة، أم عطشان زيارة وتشرف إلى تربته وروضته (عليه السلام) أم زيارة أحد الأئمة المعصومين (عليه السلام)، أم غير ذلك، فإنه ما توسل به إلى الله متعطش إلى شيء من الأمور المادية أو المعنوية، إلا وسقاه الله مما أراد، ورواه مما شاء، ببركة أبي الفضل العباس (عليه السلام).

وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هذه المنزلة وهذه الحرمة- كما ورد في مقطع الزيارة من لعن الجاهل بحقه (عليه السلام) والمستخف بحرمته- بقوله: «و رفع ذكرك في عليين»(33)، فإن حامي الشريعة وسيدها وساقي العطاشى أبي الفضل العباس (عليه السلام)، لم يبرح مواصلاً في الطريق الذي يوصله إلى أعلى مراتب القرب من الله سبحانه، حتى وصل إليه بدم الشهادة، ونال بذلك المراتب العظيمة والمكانة الكبيرة، وهذا يكشف عن عظمته وصدقه وإخلاصه وتوحيده الله سبحانه، فنعم العبد الموحد العارف بالله ورسوله وأهل بيت (عليه السلام).

النفحة الثانية

قوله (عليه السلام): «جئتك يا ابن أمير المؤمنين وافداً إليكم، قلبي مسلم لكم، أنا لكم تابع، نصرتي لكم معدة، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، فمعكم معكم لا مع عدوكم، إني بكم(34) وبإيابكم من المؤمنين، بمن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن»(35).

وافداً إليكم: هو اسم فاعل من الفعل وفد يفد، أي إذا خرج الوفد قاصداً ملكاً أو أميراً لزيارة أو استرفاد ويقال وفد إليه ووفد عليه، والوفد الركبان المكرمون، وقيل هم القوم الذين يجتمعون ويريدون البلاد(36)، وواحدهم وافد، وقد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب على كفن سلمان المحمدي (رضي الله عنه) حينما أراد تكفينه:

وفدت على الكريم بغير زاد    من الحسنات والقلب السليم

ولحمل الزاد أقبح كل شيء     إذا كان الوفود على الكريم(37)

أما القلب فهو المركز من كل شيء، والمسيطر عليه، وفي الإنسان قد يراد بالقلب العضو المعروف بسيطرته على جهاز الدوران، النابض بحركاته، المبرهنة على حياته، وقد يراد به العقل كما في قول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «المرء بأصغريه، قلبه ولسانه...»(38).

أما النصرة: فهي إعانة المظلوم، ونصره على عدوه(39)، والإعانة أشمل من النصرة، يقال أعانه على عدوه أي نصره عليه، ويقال أعانه على فقره أي سد حاجته، ومعدة أي مهيأة، مذخورة إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين.

«فمعكم معكم لا مع عدوكم»، إلزام وإقرار وتوكيد قولاً وعملاً في السير على نهج الهداة الطاهرين (عليهم السلام)، والبقاء معهم، لا التحول إلى نهج أعدائهم الذين نصبوا لهم العداوة والحقد.

«إني بكم وبإيابكم من المؤمنين»، بمعنى إني بكم مؤمن قولاً وفعلاً، وليس هذا الإيمان إيماناً وقتياً قابلاً للزوال متى ما تعرض لاختبار صعب، بل إنه راسخ نابع عن عقيدة ثابتة أما إيماني بإيابكم، فالمقصود من الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد، والأوب بمعنى الإياب أي الرجوع.

والمراد من الإياب في قول الإمام (عليه السلام) الرجعة التي يقول بها شطرٌ من المسلمين، والرجعة في اللغة: العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت(40)، ويطلق على الرجعة أيضاً الكرة، وهو من الألفاظ المرادفة لها، قال الجوهري: «الكَر الرجوع وفي حديث أمير المؤمنين (عليه السلام): «و إني لصاحب الكَّرات ودولة الحق»(41).

والرجعة عند الشيعة الإمامية مأخوذة عما جاء عن أهل البيت (عليه السلام) هي بنفس المعنى المحقق في اللغة إذ يعيد الله تعالى قوماً من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة في صورهم التي كانوا عليها فيعزّ فريقاً ويذل فريقاً آخر، ويديل(42) المحقَّين من المبطلبين، والمظلومين من الظالمين وذلك عند قيام مهدي آل محمد (صلَّى الله عليه وآله) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً، لذا تعد الرجعة مظهراً يتجلّى فيه مقتضى العدل الإلهي بعقاب المجرمين على نفس الأرض التي ملؤوها ظلماً وجوراً.

«وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين»(43)، المخالفة هي التضاد في القول والفعل، والمخالفون من تركوا نهج النبي (صلَّى الله عليه وآله) وعترته وسلكوا نهج أعدائهم ومبغضيهم، والإمام (عليه السلام) هنا يقول إني أتبرأ ممن خالفكم وقتلكم؛ فالكافر هنا بمعنى المتبرئ من فعل القوم؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَکْفُرُ بَعْضُکُمْ بِبَعْضٍ}(44)، أي يتبرأ بعضكم من بعض(45)، وكقوله تعالى: {كَفَرْنا بِكُمْ}(46)، أي تبرأنا منكم.

«قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن»، تطلق كلمة الأمّة على معانٍ أربعة وهي:

الملة والدين، ومنه قوله تعالى: {وَمَا کَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}47).

الجماعة من الناس، ومنه قوله تعالى: {وَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ‌}(48).

الزمن، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ ادَّکَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُکُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‌}(49).

القدوة في الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ کَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَکُ مِنَ الْمُشْرِکِينَ‌}(50).

والمقصود بالأمّة هنا المعنى الثاني، وقد عملت الأمة بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على محاربة عترته باليد واللسان، ودلالة ذلك ما حفلت به كتب التاريخ من أحداث وأفظع ما جنته يد الأمة قتلها لسيد الشهداء (عليه السلام) بذلك الأسلوب الهمجي، ومن قبله كان سمّ الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، وإذ يسأله الإمام الحسين (عليه السلام) عمن فعل به ذلك فقال (عليه السلام) له: «... ولا يوم كيومك يا أبا عبدالله وقد أزدلف إليك ثلاثون ألفاً يدعون إنهم من أمة جدنا وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب رحلك...»(51)، وفي رسالة عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد ما ينبئ عمن خرج لحرب الحسين (عليه السلام) حيث يقول: "إني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال لا تمسي ولا تصبح إلا وخبرك عندي غدوة وعشية"(52)، وفي نص آخر نجد ابن زياد يحث على الخروج إلى حرب الإمام حسين (عليه السلام) بقوله: "... فلا يبيتن رجل من العرفاء والمناكب والتجار والسكان إلا وخرج إلى المعسكر معي فأيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا إلا وبرئت منه الذمة"(53).

أما القتل باللسان، فيشمل من دعا لقتال الحسين (عليه السلام) في خطبه وكلامه وكتاباته، وعبّأ الناس داعياً لاجتماعهم على أمرٍ تكاد السماوات أن تنفطر لعظمه، ورغم كل ما مرّ من تاريخ الحقد على آل محمد (صلَّى الله عليه وآله) نجد اليوم من يحارب الحسين (عليه السلام) بلسانه، ويحاول أن يجد مبررات ليزيد بن معاوية في استباحة الدم الحرام للسبط الشهيد (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام)، إن حرب الأمة على آل الله لم تنكفئ أو تهدئ منذ أن استحوذت على سلطانهم بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وحتى يومنا هذا.

ومن الأمور العظيمة التي ساهمت في قتل سيد الشهداء وفتت قلبه الطاهر وجعلت ظهره مكسوراً حتى قلّت حيلته ولم تجعله يتماسك من البكاء والحزن عندما سقط أخوه أبو الفضل العباس (عليه السلام) وناداه عليك مني السلام أبا عبدالله وحمل الأثير كلماته إليه روحي فداه، فتمزقت أحشاؤه حزناً وانطلق إليه وهو خائر القوى منهد الركن فاقتحم بجواره جيوش الأعداء ووقف على الجثمان المقدس، ثم ألقى بنفسه عليه فجعل يشمه ويقبله ويضمخه بدموع عينيه ثم صاح قائلاً: «الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي»(54)، وتركه في مكانه لسر مكنون أظهرته الأيام وهو أن يدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء ليكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات وبقعة يزدلف إليها الناس وتدعوا المولى سبحانه تحت قبته التي ضاهت السماء رفعة وسناء فتظهر هناك الكرامات الباهرة وتعرف الأمة مكانته السامية ويكون (عليه السلام) حلقة الوصل بين الله والناس وشاء الحسين (عليه السلام) كما شاء المهيمن سبحانه أن تكون منزلة أبي الفضل الظاهرية شبيهه بالمنزلة المعنوية الأخروية.

فإذا كان الوفود على أبي الفضل العباس (عليه السلام) هو وفود على الله، والتسليم القلبي لأبي الفضل هو بذاته تسليم قلبي إلى الله، واتباعه ونصرته هما بعينهما اتباع ونصرة الله (سبحانه وتعالى)، إذن لا يبلغ هذه العظمة والمرتبة الكبيرة العالية إلا من أخلص نفسه وعبادته وأفعاله وكل ما لديه وما يتعلق به لله (سبحانه وتعالى)، وهذا هو الموحد العابد الصادق العارف الواصل.

النفحة الثالثة

قوله (عليه السلام): «أشهد أنك لم تهن ولم تنكل وأنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين فجمع الله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين فإنه أرحم الراحمين»(55).

الوهن: هنا حالة من حالات الضعف التي عندها قد ينهار الإنسان فيستسلم تحت ضغط الظروف القاهرة.

أما النكول هنا هو مصدر من الفعل نكل أو أنكل، ونكل عن الأمر أنكل نكولاً إذا تأخر عنه(56)، والنكول الرجوع عن قتال العدو جبناً(57).

أما البصيرة فهي الاسم من بصرت بالشيء بالضم بصراً بفتحتين أي علمت فأنا بصير به وهو ذو بصر وبصيرة أي علم وخبرة(58)، وقال الفارابي: "البصيرة اسم لما اعتقدته في القلب من الدين وتحقيق الأمر" وقد يراد بالبصيرة قوة القلب المنور بنور القدس، يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها، وهي التي يسميها الحكماء العاقلة النظرية والقوة القدسية وكل هذه المعاني يصح إرادتها هنا(59).

وأما المراد من منازل المخبتين هي مواطن الخاشعين، فالإخبات بمعنى الخشوع والتواضع، وأخبت إلى الله أي اطمئن إليه تعالى(60).

أما أرحم الراحمين، فهي عبارة تدل على الرحمة المطلقة التي أختص بها (جلَّ وعلا)، فرحمته بنا أكثر من رحمتنا بأنفسنا، وغالباً ما تكون هذه العبارة في نهاية الدعاء، فالعبد هنا يدعو ويدعو ويطلب من الله ما يريد ثم يكل الأمر إلى الله فهو أفضل الراحمين.

فالإمام (عليه السلام) يشهد لعمه أبي الفضل العباس (عليه السلام) بأنه لم يتهيب ولم يضعف لكثرة الأعداء، ولم يؤثر السلامة لنفسه على الموت تحت ظلال السيوف التي لا تعرف الرحمة.

رغم أنه (عليه السلام) كان من الذين قد وقعوا في مأزق التغيير بين الدنيا والآخرة، بين فريق الكفر والضلالة والانحراف، وبين فريق التوحيد والاستقامة والصلاح.

وذلك عندما أقبل شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) على عسكر الحسين (عليه السلام) ونادى بأعلى صوته: «أين بنو أختي- يقصد العباس (عليه السلام) وإخوته-، أين عبدالله وعثمان وجعفر بنو علي بن ابي طالب (عليه السلام)، فسكنوا»، فقال الحسين (عليه السلام): «أجيبوه ولو كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم»، فنادوه: «ما شأنك وما تريد؟»، فقال: «يا بني أختي أنتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية»، فناداه العباس بن علي (عليه السلام): «تبّت يداك يا شمر، لعنك الله ولعن ما جئت به من أمانك هذا، يا عدو الله»، وفي رواية ثانية: «لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟(61)، أتأمرنا أن نترك أخانا الحسين (عليه السلام) بن فاطمه (عليها السلام) وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟». فرجع الشمر إلى عسكره مغضباً(62).

وهذا الموقف العظيم المشهود فيه (عليه السلام) لا يدل إلا على أن صاحبه صاحب بصيره من أمره ودينه، حتى جعلت منه (عليه السلام) أن يكون مع الحق ملازماً لا ينكل عنه أبداً، ولو عرضت عليه زخارف الدنيا وما فيها من معزيات وشهوات، فتراه ثابت العقيدة راسخ القيم والمبادئ ومحسن الاختيار، وكل ذلك في سبيل رضوان الله (سبحانه وتعالى)، وكيف لا يكون كذلك وهو من المخلصين الموحدين العارفين بالله (عزَّ وجلَّ).

وهناك موقف آخر في ليلة العاشر من المحرم حينما قال سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) لأصحابه: «وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، فأنتم في إذن مني، فإن القوم لم يطلبوا غيري ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سوادكم هذا»، فما كان جواب البصيرة والمعرفة والشهامة: «ولِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك!؟ لا أرانا الله ذلك أبداً»(63).

وهذا موقف من المواقف التي تدل على عظم مقام أبي الفضل العباس (عليه السلام) ومعرفته لإمام زمامه (عليه السلام) وعدم تخليه عنه لا في الرخاء ولا في الشدة، فهو صامدٌ ثابت في نصرة دينه وإمامه، وهذا الموقف من الأدلة على قوة إيمانه وعزيمته، وغزارة علمه وإخلاصه لله سبحانه.

وما يدل على ذلك أنه عندما انتهى من كلامه تابعه وأيده الهاشميون الصفوة والصحب الأكارم متخذين قوله حقيقة راهنة من معلَّم هذبته المعرفة وبصرته التجارت وأنه لم يرد بقوله إلا توحيد الله (عزَّ وجلَّ) ونصرة لدينه وإمامه والتضحية الخالصة لهم.

النفحة الرابعة

قوله (عليه السلام): «أستودعك الله وأسترعيك وأقرأ عليك السلام آمّنا بالله وبرسوله وبكتابه وبما جاء به من عند الله اللهم فاكتبنا مع الشاهدين»(64).

أستودعك الله: هو مما استودع، على وزن استفعل، واستودع فلاناً وديعته؛ يعني: استحفظه إياها، أي: طلب منه حفظها(65).

أما استرعيك: وهو من الرعاية، أي أطلب من الله أن يرعاك، وهو أن يحفظك ويجعلك تحت ملاحظته ونظره(66).

(أقرأ عليك السلام)(67)، أقرأ: هو من أوجد القراءة من غير اعتبار تعديته إلى مقروء به، كما يقال: (فلان يعطي) أي يوجد الإعطاء من غير اعتبار تعديته إلى المعطى(68).

السلام: من السلم، أي المصالح الراضي بالحكم(69)، وذكر الراغب الإصفهاني في المفردات: أن السلم هو اسم بإزاء الحرب، والإسلام الدخول في السلم وهو أن يسلم كل واحد منهما أن يناله ما ألم بصاحبه(70).

والإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المقطع يودع عمه العباس (عليه السلام) بوداع الأحياء، فيقول أطلب من الله أن يجعلك في وديعته، وأن يرعاك، وأسلم عليك سلام الوداع، وهذا السلام تكون صيغته: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». ويريد من هذا كله بأنه راضٍ ومصالح له، وهو يحس بما أصابه من آلام ومصائب.

«آمنا بالله وبرسوله وبكتابه وبما جاء به من عند الله»(71)، وهذا هو التسليم والانقياد لله سبحانه ولرسوله (صلَّى الله عليه وآله) ولكتابه -القرآن الكريم- ولجميع ما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذه الدرجة العظيمة لا ينالها الإنسان إلا بالفعل والعمل الصالح، حتى يطلق عليه مؤمن بذلك، وهنا الإمام المعصوم (عليه السلام) يريد أن يؤكد على هذه المسألة المهمة والخطيرة، وهذا التأكيد، لا يكون لا عبثاً وسهواً بل لغاية يريد أن يوصلها لقارئ هذا المقطع.

«اللهم فاكتبنا مع الشاهدين»، الشاهدين: كلمة مشتقة من مادة(شهد). تقول: (شاهدته مشاهدة مثل عاينته معاينة، وزناً ومعنى)، وقال الراغب: (الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة أما بالبصر أو بالبصيرة)(72)، من هنا يسمى من يحضر الواقعة ويطلع عياناً عليها، ويستشهد به في المحكمة: شاهداً، ويسمى إخباره بها شهادة(73).

وهنا يطلب الإمام (عليه السلام) من الله سبحانه أن يكتبه مع الشاهدين الذين شهدوا على ما جرى في حق آل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم الطفوف من رزايا وآلام ومصائب.

ومن المصائب التي يشهد عليها الإمام الصادق (عليه السلام) حينما انحنى الإمام الحسين (عليه السلام) ليحمل أخاه أبا الفضل العباس (عليه السلام) وإذا به قد فتح عينيه فرأى أخاه الحسين (عليه السلام) يريد أن يحمله فقال له: «إلى أين تريد بي يا أخي؟! فقال: إلى الخيمة. فقال: أخي بحق جدك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عليك أن لا تحملني دعني في مكاني هذا. فقال (عليه السلام): لماذا؟ قال: إني مستح من ابنتك سكينة وقد وعدتها بالماء ولم آتها به، والثاني أني كبش كتيبتك ومجمع عدوك فإذا رآني أصحابك وأنا مقتول فلربّما يقل عزمهم ويذل صبرهم فقال الحسين (عليه السلام): جزيت عن أخيك خيراً حيث نصرتني حياً وميتاً»(74).

فقد آثر أبو الفضل العباس (عليه السلام) أخاه وفداه بروحه، وواساه في أقسى المحن والخطوب وقد أشاد الإمام زين العابدين (عليه السلام) بهذه المواساة النادرة من عمه حتى قال (عليه السلام): «رحم الله عمي العباس (عليه السلام) فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله (عزَّ وجلَّ) بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب... وأن للعباس عند الله تعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(75).

ويقول الكميت:

وأبوالفضل إن ذكرهم الحلو    شفاء النفوس من أسقام

قتل الأدعياء إذ قتلوه      أكرم الشاربين صوب الغمام(76)

لقد كان أبوالفضل العباس (عليه السلام) يملك طاقات هائلة من التقوى والدين، وكانت أسارير النور بادية على وجهه الكريم حتى لُقب بقمر بني هاشم، كما كان من الأبطال البارزين في الإسلام، وكان إذا ركب الفرس المطهم(77) تخط رجلاه في الأرض(78) وقد ورث صفات أبيه من الشجاعة والنضال.

وقد كان هذا الإيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان من أبرز الذاتيات في خلق أبي الفضل العباس (عليه السلام) فلم تمكنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان لأخيه أن يشرب من الماء قبله، فأنى إيثار أنبل أو أصدق من هذا الإيثار لقد امتزجت نفسه بنفس أخيه، وتفاعلت روحه مع روحه، فلم يعد هناك أي تعدد في الوجود بينهما واتجه فخر هاشم مزهوا نحو المخيم بعد ما ملأ القربة وهي عنده أغلى وأثمن من الحياة، والتحم مع الأعداء التحاما رهيباً فقد أحاطوا به ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى أهل البيت (عليهم السلام)، وأشاع فيهم البطل القتل فأخذ يحصد الرؤوس ويجندل الأبطال وهو يرتجز(79):

لا  أرهب الموت إذا  الموت زقا         حتى أواري في المصاليت لقى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا       إني أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى(80)

وما إن وقع ما وقع عليه (عليه السلام) من القتل حتى رجع الإمام الحسين (عليه السلام) من مقتله إلى المخيم، وعليه الانكسار والحزن وهو يكفكف دموعه فاستقبلته ابنته سكينه قائلة: «أين عمي؟». فأخبرها بشهادته وهو غارق بالبكاء والشجون، وذعرت حفيدة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) زينب واستولى عليها الفزع حينما سمعت بمقتله، ووضعت يدها على قلبها المذاب وهي تصيح: «وا أخاه، وا عباساه، وا ضيعتاه بعدك».

وشارك الإمام الحسين (عليه السلام) شقيقته في النياحة على أخيه البار، واندفع رافعاً عقيرته، وهو الصبور: «واضيعتا بعدك يا أبالفضل»(81).

لقد شعر بالوحدة والضيعة بعد فقده لأخيه الذي لم يترك لوناً من ألوان البر والمواساة إلا قدمها لأخيه(82).

وكل هذا من تضحيات وإيثار وشجاعة وبسالة في سبيل الله سبحانه، وعلاوة على شهادة المعصومين (عليهم السلام) في حقه (عليه السلام) لا يدلنا إلا على عظم شأنه ومكانته عند الله (عزَّ وجلَّ) وما له من مقامات توحيدية وروحية ومعنوية وصل إليها باجتهاده وإخلاصه، فنعم الصابر العالم المطيع لله ولرسوله، المتبع لكتابه وسنة رسوله (صلَّى الله عليه وآله).

العباس (عليه السلام) الموحد عند إمام زمانه

إذا أراد المؤمن معرفة شخص كونه صاحب فضيلة ومنزلة علمية ومكانة اجتماعية أو أنه من أهل الأخلاق والسلوك الحسن يسأل عنه من يكون بجانبه أو من يصاحبه، فقد كثر قول: (إذا أردت معرفة شخص فاسأل عن صديقه أو صاحبه)، فإنه يكشف عن هذا الشخص وعن علمه وأخلاقه وما يرمي إليه من عقيدة ومبادئ.

وكيف يكون السؤال عن أبي الفضل العباس (عليه السلام) وصاحبه الإمام الحسين (عليه السلام) ورفيق دربه، وهو إمام زمانه وحجة الله عليه ولا يكون قوله وفعله إلا عن رسول الله عن الوحي.

ولا نحتاج إلى غير هذه الدلالة -كون العباس صديقاً وصاحباً للإمام الحسين (عليه السلام)- لبيان عظم شأن أبي الفضل العباس (عليه السلام) عند إمام زمانه (عليه السلام)، فالصديق الوفي والمخلص لصديقه يعكس أخلاق صديقه وصاحبه.

ولو أردنا غير هذا يكفينا أننا لم نجد شيئاً في التاريخ ولا في كتب الحديث أو غيرها، يشير إلى أن يوماً من الأيام غضب أو زجر أو لم يرض الإمام المعصوم (عليه السلام) لفعل من أفعال أبي الفضل العباس (عليه السلام)، بل أكثر الثناء والمدح والنعت الحسن فيه، حتى بلغ في مدحه ما بلغ به من علو منزلته وعظم شأنه ومكانته، وحسن صحبته وصداقته.

ومن المواقف التي تشهد في حق أبي الفضل العباس (عليه السلام) مع إمام زمانه وصاحبه (عليه السلام) عند ما خاطبه (عليه السلام) يوم التاسع من المحرم عندما زحف الجيش الأموي على مخيم الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: «اركب بنفسي أنت يا أخي! حتى تلقاهم وتسألهم عما جاءهم، وما الذي يريدون!»(83)، هذه كلمة لها أهميتها وقدرها، فإنها تنبئ عن مكانة أبي الفضل العباس (عليه السلام) عند أخيه وسيده وإمام زمانه الإمام الحسين (عليه السلام) وتخبر عن خطر منزلته لديه.

وهناك موقف آخر عندما اجتمع الإمام الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد (لعنه الله) ليلاً بين العسكرين، لإرشاده إلى سبيل الحق وتعريفه طغيان وجور يزيد بن معاوية عليه لعائن الله، وتذكيره بقول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حقه، أمر الإمام الحسين (عليه السلام) من كان معه بالتنحي والرجوع ولم يبق معه إلا أخوه قمر العشيرة أبو الفضل العباس (عليه السلام) وابنه علي الأكبر (عليه السلام)، وهكذا صنع عمر بن سعد أبقى معه ابنه وغلامه(84).

ومن الواضح أن هذا الفعل من قبل الإمام (عليه السلام) لم يكن عبثاً أو سهواً، بل كان إظهاراً لمكانة أبي الفضل العباس (عليه السلام) وابنه علي الأكبر وعظم منزلتهما عنده على الأنصار، وبقية من حضر من آل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في كربلاء(85)، رغم أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد شهد لهم باليقين والصدق في النية والوفاء في التضحية.

وقد خاطب الإمام (عليه السلام) أخاه العباس (عليه السلام) يوم عاشوراء، لما استأذنه لبراز الأعداء، والقتال بين يديه بقول: «أنت صاحب لوائي وإذا مضيت تفرق عسكري»، وفي رواية أخرى قال له وهو يريد استبقاه: «أنت العلامة من عسكري، وأنت مجمع عددنا، فإذا مضيت يؤول جمعنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب»(86).

وموقف آخر في يوم عاشوراء أيضاً عندما وقف الإمام الحسين (عليه السلام) على مصرع أخيه وأراد حمله إلى المخيم فأقسم عليه العباس (عليه السلام) بحق جده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أن يتركه مكانه لئلا يتجرأ الأعداء عليه فقال الإمام الحسين (عليه السلام) له: «جزيت عن أخيك خيراً، فلقد نصرته حياً وميتاً»(87).

ولا أنسى موقفاً من المواقف التي قد بينت عظم مكانة أبي الفضل العباس (عليه السلام) عند إمام زمانه وما له من شأن رفيع، وهذا الموقف سجله التاريخ من أشد المواقف على قلب سيد الشهداء حينما قام الإمام من مصرعه وهو يبكى ويكفكف دموعه بيديه ويقول: «الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي، وشمت بي عدوي»(88).

وهذه بعض المواقف التي يشهد إمام زمانه في حقه (عليه السلام) وعلى عظم مكانته وشأنه العالي والرفيع، وهذا لا يكون إلا لمن عرف الله حق معرفته، ووحده وأخلص له في وحدانيته، حتى يجازيه الله (عزَّ وجلَّ) بأن إمام زمانه يفديه بنفسه، وينكسر ظهره لعظم ما جرى عليه من قتل وسلب.

وكيف لا يكون كذلك وقد حمل على عاتقه الدعوة إلى توحيد الله وعبادته، والسير والسلوك نحوه، بكل جدٍ واجتهاد، حتى بلغ بذلك أعلى مراتب الموحدين العارفين المخلصين لله وحده لا شريك له، فنعم الصابر البصير العالم الموحد الجليل.

كرامات توحيدية للعباس (عليه السلام)

من سنن الله الجارية في أوليائه {وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(89)، إكرامهم بإظهار ما لهم من الكرامات عليه والزلفى منه، ذلك غير ما ادخره لهم من المثوبات الجزيلة، تقديراً لعملهم وإظهاراً لمكانتهم وعظيم شأنهم، وحثاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة، ومهما كان العبد يخفي الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الإخفاء بإشهار فضله، كما يقتضيه لطفه ورحمته الواسعة، وبره المتواصل، وأنه (جلَّ وعلا) يظهر الجميل من أفعال العباد، ويخفي القبيح رأفة منه وحنانا عليهم، وإليه أشار في الدعاء: «يا من أظهر الجميل وستر القبيح»(90).

"ومن السادات الأولياء الذين اجرى الله (سبحانه وتعالى) سنة على يديه المباركة؛ سيدنا ومولانا أبوالفضل العباس (عليه السلام)، ومن أجلى مظاهر هذه السنة الإلهية، أنك ترى مشهده المقدس في آناء الليل وأطراف النهار معموراً بأرباب الحوائج، من عاف يستمنعه بره، ومن عان يطلب عافيته، على مضظهد يتحرى كشف ما به من غم وهم، إلى خائف ينضوي إلى حمى أمنه، وغير هذه المقاصد من أنواع الحوائج، وكل هذا ليس على الله بعزيز، ولا من المقربين من عباده ببعيد.

ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر نذكر بعضاً منها تيمناً، ولئلا يخلو بحثنا منها وتعريفاً للقارئ بما جاد به قطب السخاء على من لاذ به واستجار بتربته".

الكرامة الأولى

ما ذكره العلامة الشيخ حسن دخيل (رحمه الله)؛ عما شاهده بنفسه في حرم أبي الفضل (عليه السلام)، قال (رحمه الله): "زرت الحسين (عليه السلام) في غير أيام الزيارة وذلك في أواخر أيام الدولة العثمانية في العراق في فصل الصيف، وبعد أن فرغت من زيارة الحسين (عليه السلام) توجهت إلى زيارة أبي الفضل العباس (عليه السلام) قرب الزوال، فلم أجد في الصحن الشريف والحرم أحداً لحرارة الهواء غير رجل من الخدمة، واقف عند الباب ويقدر لي عمره في الستين، كأنه مراقب للحرم.

وبعد أن زرت صليت الظهر والعصر، ثم جلست عند الرأس المقدس، مفكراً في الأبّهة والعظمة التي نالها قمر بني هاشم عن تلك التضحية الشريفة، وبينما أنا في هذا الحال وإذ رأيت امرأة محجبة من رأسها لقدمها، وعليها آثار الجلالة، وخلفها غلام يقدر بالستة عشر سنة، بزي أشراف الأكراد جميل الصورة، فطافت بالقبر والولد تابع لها، ثم دخل بعدهما رجل طويل القامة أبيض اللون، مشرباً بحمرة ذو لحية شعرها أشقر يخالطه شعرات بيض جميل البزّة، كردي اللباس والزي فلم يأتي بما تصنعه الشيعة من الزيارة أو السنة من الفاتحة، فاستدبر القبر المطهر وأخذ ينظر إلى السيوف والخناجر والدرق المعلقة في الحضرة، غير مكترث بعظمة صاحب الحرم المنيع.

فتعجبت منه أشد العجب ولم أعرف الملة التي ينتحلها غير أني اعتقدت أنه من متعلقي المرأة والولد، وظهر لي من المرأة عند وصولها في الطواف إلى جهه الرأس الشريف التعجب، مما عليه الرجل من الغواية، ومن صبر أبي الفضل العباس (عليه السلام) عنه، فما رأينا إلا ذلك الرجل الطويل القامة، قد ارتفع عن الأرض ولم أرَ من رفعه ضرب به الشباك المطهر، وأخذ ينبح ويدور حول القبر، وهو يقفز، فلا هو بملتصق بالقبر ولا بمبتعد عنه، كأنه مكهرب به، وقد تشبحت أصابع يديه واحمّر وجهه حمرة شديدة، ثم صار أزرقاً، وكانت عنده ساعة علقها برقبته بزنجيل فضة، فكلما يقفز تضرب بالقبر، حتى تكسرت، وحيث إنه أخرج يده من عبائته، لم تسقط إلى الأرض، نعم سقط الطرف الآخر إلى الأرض، وبتلك القفازات تخرقت.

فأدهشني هذا الحال، وبقيت واقفاً لا أدري ما أصنع، والرجل قوي البدن، وليس في الحرم أحد يقبض عليه، فدار حول القبر مرتين وهو ينبح ويقفز، فرأيت ذاك السيد الخادم الذي كان واقفاً عند الباب، دخل الروضة الشريفة، فشاهد الحال فرجع، وسمعته ينادي رجلاً اسمه جعفر من السادة الخدام في الروضة، فجاءا معاً، فقال السيد الكبير لجعفر: «اقبض على الطرف الآخر من الحزام، وكان طول الحزام يبلغ ثلاثة أذرع، فوقفا عند القبر، حتى إذا وصل إليهما وضعا الحزام في عنقه وأداراه عليه، فوقف طوعاً، لكنه ينبح، فأخرجاه من حرم العباس، وقالا للمرأة اتبعينا إلى (مشهد الحسين عليه السلام)، فخرجوا جميعاً وأنا معهم، ولم يكن أحد في الصحن الشريف، فلما صرنا في السوق بين (الحرمين) تبعنا الواحد والاثنان من الناس، لأن الرجل كان على حالته من النبح والاضطراب مكشوف الرأس ثم تكاثر الناس.

فأدخلوه (المشهد الحسيني) وربطوه بشباك (علي الأكبر عليه السلام) فهدأت حالته ونام، وقد عرق عرقاً شديداً، فما مضى إلا ربع ساعة فإذا به قد انتبه مرعوباً وهو يقول: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خليفة رسول الله بلا فاصل وأن الخليفة من بعده ولده الحسن ثم أخوه الحسين (عليه السلام) ثم علي بن الحسين وعد الأئمة إلى الحجة المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

فسئل من ذلك قال: إني رأيت رسول الله الآن وهو يقول لي اعترف بخلفائي من بعدي وعدهم عليَّ، وان لم تفعل يهلكك العباس، فأنا أشهد بهم وأتبرأ من غيرهم.

ثم سأل عما شاهده هناك، فقال: بينما أنا في حرم أبي الفضل العباس (عليه السلام) إذ رأيت رجلاً طويل القامة قبض علي، وقال لي: يا(91)... إلى الآن بعدك على الضلال ثم ضرب بي القبر ولم يزل يضربني بالعصا في قفاي وأنا أفر منه.

ثم سئلت المرأة عن قصة الرجل، فقالت: إنها شيعية من أهل بغداد والرجل سني من أهل السليمانية، ساكن في بغداد، متدين بمذهبه، لا يعمل الفسوق والمعاصي، يحب الخصال الحميدة، ويتنزه عن الذميمة، وهو بندرجي تتن، وللمرأة أخوان حرفتهما بيع التتن ومعاملتهما مع الرجل، فبلغ دينه عليهما مائتي ليرة عثمانية، فاستقر رأيهما على بيع الدار منه، والمهاجرة من بغداد، فأحضراه في دارهما ظهراً وأطلعاه على رأيهما، وعرفاه أنه لم يكن دين عليهما لغيره، فعندها أبدى من الشهامة شيئاً عجيباً، فأخرج الأوراق وخرقها ثم أحرقها، وطمنئما على الإعانة مهما يحتاجان.

فطارا فرحاً وأرادا مجازاته في الحال، فذاكر المرأة على التزويج منه، فوجدا منها الرغبة فيه لوقوفها على هذا الفضل، مع ما فيه من التمسك بالدين واجتناب الدنانير، وقد طلب منهما مراراً اختيار المرأة الصالحة له، فلما ذكرا له ذلك زاد سروره وانشرح صدره بحصول أمنيته، فعقدا له من المرأة وتزوج منها.

ولما حصلت عنده طلبت منه زيارة الإمامين الكاظمين (عليه السلام) إذ لم تزرهما مدة كونها بلا زوج، فلم يجبها مدعياً أنه من الخرافات، ولما ظهر عليها الحمل سألته أن ينذر الزيارة إن رزق ولداً، ففعل، ولما جاءت بالولد طالبته بالزيارة، فقال: لا أفِ بالنذر حتى يبلغ الولد، فآيست منه، ولما بلغ الولد السنة الخامسة عشر طلب منها اختيار الزوجة، فأبت مادام لم يفِ بالنذر، فعندها وافقها على الزيارة مكرهاً، وطلبت من الجوادين (عليهم السلام) الكرامة الباهرة ليعتقد بإمامتها، فلم ترَ منهما ما يسرها بل أساءها سخريته واستهزاؤه.

ثم ذهب الرجل بالمرأة والولد إلى العسكريين (عليهم السلام) وتوسلت بهما (عليهم السلام) وذكرت قصة الرجل، فلم تشرق عليه أنوارهما وزادت السخرية منه.

ولما وصلا كربلاء قالت المرأة: أقدم زيارة العباس (عليه السلام) وإذا لم تظهر من الكرامة، وهو أبو الفضل وباب الحوائج، لا أزور أخاه الشهيد (عليه السلام)، ولا أباه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأرجع إلى بغداد، وقصت على أبي الفضل قصة الرجل، وعرفته حال الرجل وسخريته بالأئمة الطاهرين (عليه السلام)، وأنها لا تزور أخاه ولا أباه إذا لم يتلطف عليه بالهداية وينقذه من الغواية، فأنجح سؤلها وفاز الرجل بالسعادة"(92).

الكرامة الثانية

ما ذكره السيد سعيد البهبهاني(93) في كتابه أعلام الناس في فضائل العباس (عليهم السلام) قال: «تزوجت في أوائل ذي القعدة 1351هـ وبعد أن مضى أسبوع من أيام الزواج، أصابني زكام صاحبته حمى، وباشرني أطبّاء النجف، فلم انتفع بذلك، والمرض يتزايد، ومن جملة الأطباء؛ الطبيب المركزي (محمد زكي أباقة).

وفي أول جمادي الأولى من سنة 1353هـ خرجت إلى الكوفة وبقيت إلى رجب، فلم تنقطع الحمى وقد استولى الضعف على بدني، حتى لم أقدر على القيام، ثم رجعت إلى النجف وبقيت إلى ذي القعدة من هذه السنة، بلا مراجعة طبيب لعجزهم عن العلاج.

و في ذي الحجة من هذه السنة اجتمع الطبيب المركزي المذكور- مع الدكتور (محمد تقي جهان) وطبيبان آخران جاءا من بغداد وفحصوني، فاتفقوا على عدم نفع كل دواء وحكموا بالموت إلى شهر وفي المحرم من سنة 1354هـ خرج والدي إلى قرية (القاسم ابن الإمام الكاظم عليه السلام) للقراءة في المآتم التي تقام لسيد الشهداء (عليه السلام) وكانت والدتي تمرضني ودأبها البكاء ليلاً ونهاراً.

وفي الليلة السابعة من هذه السنة رأيت في المنام رجلاً مهيباً وسيماً جميلاً أشبه الناس بالسيد الطاهر الزكي (السيد مهدي الرشتي) فسألني عن والدي، فأخبرته بخروجه إلى قرية (القاسم عليه السلام)، فقال: إذاً من يقرأ في عادتنا يوم الخميس، وكانت الليلة ليلة الخميس، ثم قال إذاً أنت تقرأ.

ثم خرج وعاد إلي، وقال: إن ولدي السيد سعيد(94) مضى إلى كربلاء يعقد مجلساً لذكر مصيبة أبي الفضل العباس (عليه السلام) وفاء لنذر عليه، فامضار إلى كربلاء واقرأ مصيبة العباس، وغاب عني.

فانتبهت من النوم، ونظرتُ إلى والدتي عند رجلي تبكي ثم نمت ثانياً فأتاني السيد المذكور، وهو يقول: ألم أقل لك إن ولدي سعيد ذهب إلى كربلاء، وأنت تقرأ في مأتم أبي الفضل العباس (عليه السلام)، فأجبته إلى ذلك، فغاب عني، فانتبهت.

وفي المرة الثالثة نمت فعاد إلى السيد المذكور، وهو يقول بزجر وشدة: ألم أقل لك امضِ إلى كربلاء، فما هذا التأخير، فهبته هذه المرة، وانتبهت مرعوباً.

وقصصت الرؤيا من أولها على والدتي، ففرحت وتأوّلت بأن هذا السيد هو أبو الفضل، وعند الصباح عزمت على الذهاب إلى حرم أبي الفضل العباس (عليه السلام) ولكن كل من سمع بهذا لم يوافقها لما يراه من الضعف البالغ حده، وعدم الاستطاعة على الجلوس حتى في السيارة، وبقيت على هذا إلى اليوم الثاني عشر من المحرم، فأصرت الوالدة على السفر إلى كربلاء، بكل صورة، فأشار بعض الأرحام على أن يضعوني في تابوت، ففعلوا ذلك، وصلت ذلك اليوم إلى القبر المقدس ونمت عند الضريح الطاهر.

وبينما أنا في حالة الإغماء في الليلة الثالثة عشر من المحرم، وإذ جاء ذلك السيد المذكور، وقال لي لماذا تأخرت عن يوم السابع وقد بقي سعيد بانتظارك، وحيث لم تحضر يوم السابع فهذا يوم دفن العباس (عليه السلام)- وهو يوم 13- فقم واقرأ ثم غاب عني، وعاد إلي ثانية وأمرلي بالقراءة، وغاب عني، وعاد إلي الثالثة، ووضع يده على كتفي الأيسر، لأني كنت مضطجعاً على الأيمن، وهو يقول: إلى متى النوم قم واذكر(مصيبتي) فقمت وأنا مدهوش مذعور من هيبته وأنواره، وسقطت على وجهي مغشياً علي، وقد شاهد ذلك كل من كان حاضراً في الحرم الأطهر.

وانتبهت من غشيتي وأنا أتصبب عرقاً والصحة ظاهرة علي، فاجتمع علي من في الحرم الشريف وأقبل من في الصحن والسوق، وازدحم الناس في الحضرة المنورة، وكثر التكبير والتهليل، وخرّق الناس ثيابي، وجاءت الشرطة، فأخرجوني إلى البهو الذي أمام الحرم فبقيت هناك إلى الصباح.

وعند الفجر تطهرت للصلاة وصليت في الحرم، بتمام الصحة والعافية ثم قرأت مصيبة أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وابتدأت بقصيدة السيد راضي بن السيد صالح القزويني وهي:

أبا الفضل يا من أسس الفضل والإبا     أبا الفضل إلا أن تكون له أبا

والأمر الأعجب أني لما خرجت من الحرم قصدت داراً لبعض أرحامنا بكربلاء، وبعد أن قرأت مصيبة العباس (عليه السلام) خلوت بزوجتي، وببركات أبي الفضل العباس (عليه السلام) حملت ولداً سميته (فاضل) وهو حي يرزق كما رزقت عبدالله وحسن ومحمد وفاطمة كنيتها أم البنين.

وقد نظم هذه الكرامة جماعة من الأدباء الذين رأوا السيد سعيد في الحالتين الصحة والمرض، أذكر واحداً منها.

ما قاله السيد الخطيب السيد صالح الحلي (رحمه الله) في حقه:

بأبي الفضل استجرنا          فحبانا منه منحة

وطلبنا أن يداوي      ألم القلب  وجرحه

فكسا الله سعيداً      بعدسقم ثوبَ صحه

بدّل الرحمن منه      قرحة القلب بفرحه"(95)

الكرامة الثالثة

ما ذكره الشيخ العالم الثقة الثبت الشيخ حسن بن العلامة الشيخ محسن بن العلامة الشيخ شريف آل الشيخ المقدس صاحب الجواهر (رحمه الله) عن حاج منيشد بن سلمان آل حاج عبوده من أهل الفلاحية، وكان ثقة في النقل عارفاً بصيراً شاهد الكرامة بنفسه، قال: "كان رجل من عشيرة البراجعة يسمى (مخيلف)، مصاباً بمرض في رجليه، وطال ذلك حتى يبستا، وبقى على هذا ثلاث سنين، وشاهده الكثير من أهل المحمرة يحضر الأسواق ومجالس عزاء الحسين (عليه السلام)، مستعيناً بالناس على زمانه، وقد عجز عن المباشرة، ويئس من البرء.

وكان للشيخ خزعل بن جابر الكعبي في المحمرة حسينية يقيم فيها عزاء الحسين (عليه السلام) في العشرة الأولى من المحرم، ويحضر هناك خلق كثير حتى النساء يجلسن في الطابق الأعلى من الحسينية، والعادة المطردة في تلك البلاد ونواحيها أن الخطيب النائح إذا وصل في قراءته إلى الشهادة قام أهل المجلس يلطمون بلهجات مختلفة، وهكذا النساء، وفي اليوم السابع من المحرم كان المتعارف أن تذكر مصيبة أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وهذا الرجل أعني (مخيلف) يأتي الحسينية ويجلس تحت المنبر، وحينما وصل الخطيب إلى ذكر المصيبة، أخذت الحالة المعتادة في المجلس رجالاً ونساء وبينما هم على هذا الحال، إذ يرون ذلك المصاب بالزمانة في رجلية (مخيلفاً) واقفاً معهم، يلطم ولهجته (أنا مخيلف قيمني العباس).

وبعد أن بانت هذه الفضيلة من أبي الفضل العباس (عليه السلام)، تهافتوا عليه وخرقوا ثيابة للتبرك بها، وازدحموا عليه يقبلون رأسه ويديه، فأمر الشيخ خزعل غلمانه أن يرفعوه إلى إحدى الغرف، ويمنعوا الناس عنه، وصار ذاك اليوم في المحمرة أعظم من اليوم العاشر من المحرم، وكثر البكاء والعويل والصراخ من الرجال، وأما النساء فمنهن من تهلل وأخرى تصرخ وغيرها تلطم.

وسئل مخيلف عما راه وشاهده، فقال: بينما الناس يلطمون على العباس (عليه السلام)، أخذتني غفوة وأنا تحت المنبر، فرأيت رجلاً جميلاً طويل القامة، على فرس أبيض عالٍ في المجلس، وهو يقول: (يا مخيلف لم لا تلطم على العباس مع الناس)، فقلت له: (يا أغاتي) لا أقدر وأنا بهذا الحال، فقال لي: (قم والطم على العباس)، قلت له: يا مولاي أنا لا أقدر على القيام أعطني يدك لأقوم، فقال: (أنا ما عندي ايدين)، فقلت له: كيف أقوم؟، قال: (الزم ركاب الفرس وقم)، فقبضت على ركاب الفرس وأخرجني من تحت المنبر وغاب عني وأنا في حالة الصحة، وعاش سنتين أو أكثر ومات"(96).

هذا ما أردنا إثباته من الكرامات وهو قطرة من بحر، فإن الإتيان عليها كلها يحتاج إلى مجلّد كبير، لأن الله سبحانه منح عبده الموحد العارف به (حامي الشريعة وسيدها) أبا الفضل العباس (عليه السلام) جزيل الفضل، وأجرى عليه من الفيض الأقدس، ما لم يحوه بشر غير الأنبياء والمقربين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) جزاء لذلك الموقف الباهر الذي لم يزل يرن رجع صداه المؤلم في مسامع القرون والأجيال مذكراً بما أبداه أبو الفضل العباس (عليه السلام) من إباء وشمم وكرمٍ وإقدام وتضحية دون الشرع والمبادئ المحمدية الأصيلة.

مفخرة بني هاشم

في الواقع بعدما يتحدث الإنسان عن بحر الفضائل والعلوم، لا يسعه أن يختم كلامه إلا بشيء يناسب مقامه، وقد احترت في اختيار العنوان المناسب للختام، ولم أجد عنواناً أختم به أنسب من هذا العنوان وهو (مفخرة بني هاشم).

نعم، أبو الفضل العباس (عليه السلام) كان مفخرة وأيّ مفخرة من مفاخر هذه العشيرة العظيمة أو القبيلة المحمدية الرسالية، فكان من نوابغ رجالها ومن نوادر شخصياتها، فكان نبراساً يستلهم من نوره، وأسوة حسنة للاقتداء به، فقد جسد جميع معاني الخير والجمال، والشجاعة والشهامة، والفصاحة والنباهة، لقد كان في حسن السيرة والأخلاق قِمة، وفي جمال الوجه والمحيّا روعة، كان وجهه كالقمر ليلة البدر، حيث إنه ورث الجمال من آبائه وأجداده، وفعاله كالشمس في ضاحية النهار، حيث إنه قد تأدب على يدي أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليهما السلام) وأخوى الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، ولذلك أسرع بنو هاشم عشيرته من ناحية الأب إلى الافتخار به، والاعتزاز بشخصيته، فأطلقوا عليه وبكل كفاءة لقب: (قمر بني هاشم) فاشتهر العباس (عليه السلام) بهذا اللقب بين الهاشميين ثم فشى لقبه هذا وبكل سرعة بين الناس.

وهو جديرٌ بهذا اللقب وجديرٌ بهذا الشرف العظيم الذي لا يناله أيُ أحد إلا باجتهاد ومثابرة وجد واهتمام، وقد ناله العظيم بعظم شأنه ومكانته عند الله تبارك وتعالى، لأنه نعم الثابت البصير المضحي والعارف بالله وبرسوله وبخلفائه الأئمة الهداة عليهم صلوات الله، فنعم الموحد العابد الزاهد الراكع والساجد لله وحده لا شريك له.

فسلام على سيرتك وذكرك يا مولاي وسيدي يا أبا الفضل العباس (عليه السلام)، فلقد مضيت إلى مصيرك العظيم، وأنت من أعظم الشهداء في معسكر التوحيد في التأريخ إشراقاً وتضحية.

وسلام عليك أيها البطل الهمام يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.

***

 

* الهوامش:

(1) التوحيد في كلام الإمام الخميني (قدِّس سرُّه)؛ ج1؛ ص7.

(2) فصلت: 7.

(3) القرآن والعقيدة أو آيات العقائد؛ ج1؛ ص220.

(4) سورة ص: 5.

(5) العنكبوت: 65.

(6) فصلت: 53.

(7) المكارم سلسلة دروس في العقائد الإسلامية: ص106.

(8) المراقبات؛ ص123، أسرار الصلاة: ص432.

(9) طه: 12.

(10) طه: 13.

(11) طه:14.

(12) الخصال؛ باب2؛ ح101 الشيخ الصدوق.

(13) منية المريد؛ ص 216، ص16، البحار؛ج1؛ص211.

(14) ميزان الحكمة؛ ج6؛ ص177.

(15) الكافي؛ ج1؛ ص46.

(16) منية المريد؛ ص13؛ ص216.

(17) البحار؛ ج1؛ ص209.

(18) منية المريد؛ ص16.

(19) ميزان الحكمة؛ ج6؛ ص177.

(20) بحار الأنوار؛ ج1 ص210.

(21) كامل الزيارات؛ ص471.

(22) ابن منظور؛ ج13؛ ص387 لسان العرب.

(23) البقرة:88.

(24) البقرة: 189.

(25) لسان العرب لإبن منظور؛ ج13؛ ص388.

(26) الرد على الخطيب البغداد لابن النجار البغدادي؛ ص98.

(27) شرح الأخبار؛ ج3؛ص109.

(28) كامل الزيارات؛ ص 471.

(29) المرسلات: 27.

(30) www.ugaidaat.com/alfurat-lakhaled.htm.

(31) صحيح مسلم؛ ج8؛ ص149.

(32) أبوالفضل العباس ساقي عطاشي كربلاء وحامل لواء الحسين (عليه السلام)؛ ص219.

(33) كامل الزيارات؛ ص471.

(34) وفي نسخة أخرى: فقط (بكم من المؤمنين).

(35) كامل الزيارات؛ ص471.

(36) لسان العرب؛ ج3؛ ص464.

(37) العروة الوثقى لليزدي؛ ج2؛ ص76.

(38) تفسير القرآن للآلوسي؛ ج16؛ ص214.

(39) لسان العرب؛ ج5؛ ص210.

(40) الصحاح؛ ج3؛ ص1216.

(41) مجمع البحرين؛ ج4؛ ص31.

(42) من الإدالة بمعنى الغلبة والنصرة.

(43) كامل الزيارات؛ ص471.

(44) العنكبوت:25.

(45) الكافي؛ ج2؛ ص391.

(46) الممتحنة4.

(47) يونس:19.

(48) الأعراف:159.

(49) يوسف: 45.

(50) النحل:120.

(51) الأمالي للشيخ الصدوق؛ ص178.

(52) بحار الأنوار؛ ج44؛ ص386.

(53) أنساب الأشراف؛ ص187.

(54) بحار الأنوار؛ ج10؛ ص251.

(55) كامل الزيارات؛ ص 471.

(56) المجازات النبوية؛ ص34.

(57) شرح ابن عقيل؛ ج2؛ ص97.

(58) مجمع البحرين؛ ج1؛ ص171.

(59) مجمع البحرين؛ ج1؛ ص171.

(60) لسان العرب؛ ج2؛ ص27.

(61) تذكرة الخواص؛ ص 142، مقتل المقرم؛ ص 252.

(62) الملهوف على قتلى الطفوف؛ ص148، موسوعة كربلاء؛ ج1؛ ص638.

(63) الملهوف على قتلى الطفوف؛ ص151، تاريخ الطبري؛ ج6؛ ص238.

(64) كامل الزيارات؛ ص474.

(65) الفقه الميسر دورة فقهية مختصرة ميسرة وفقاً لمذهب أهل البيت للشيخ محمد على الأنصاري، انظر المعجم الوسيط(ودع).

(66) انظر مجمع البحرين؛ ج1؛ ص121(ر ع ا).

(67) كامل الزيارات؛ ص474.

(68) انظر مجمع البحرين؛ ج1؛ ص208(ق ر ا).

(69) أشار إلى هذا المعنى أحمد بن فارس بن زكريا في كتابه اللغوي معجم مقاييس اللغة.

(70) المفردات في غريب القرآن؛ ص246.

(71) كامل الزيارات؛ ص474.

(72) المفردات في غريب القرآن؛ ص272.

(73) أدب فناء المقربين شرح زيارة الجامعة الكبيرة؛ ج3؛ ص127.

(74) معالي السبطين؛ ج1 ص.

(75) حياة الإمام حسين للقرشي؛ ج3؛ ص263، نقلاً من البحار؛ ج9؛ ص147.

(76) مقاتل الطالبين؛ ص84.

(77) المطهم: الفرس السمين الفاحش للسمن.

(78) مقاتل الطالبين؛ ص84.

(79) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) للقريش؛ ج3؛ ص266.

(80) مناقب ابن شهر اشوب؛ ج4؛ ص108.

(81) مقتل الحسين للمقرم؛ ص228.

(82) اقتباس من حياة الإمام الحسين للقرشي؛ ج3؛ ص268.

(83) تاريخ الطبري؛ ج6؛ ص237، روضة الواعظين؛ ص157.

(84) مقتل الحسين للخوارزمي؛ ج1؛ ص245.

(85) غير الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقد كان مريضاً بأبي وأمّي.

(86) موسوعة كربلاء؛ ج2؛ ص135.

(87) معالي السبطين؛ ج1.

(88) بحار الأنوار؛ ج10؛ ص251.

(89) فاطر:43.

(90) مفاتيح الجنان؛ ص73، صلاة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ودعاؤه.

(91) قال له يا كلب هذا ما ورد في الكتاب.

(92) قمر بني هاشم السيد عبدالرزاق المقرم؛ ص99.

(93) ابن الخطيب السيد إبراهيم البهبهاني ولهذه الكرامة كتب السيد كتاباً في أحوال العباس ما يزيد على أربعمائة صفحة أجهد نفسه وسهر الليالي في جمعه.

(94) السيد مهدي الرشتي توفي في النجف 14رجب 1358هـ وكان من خطباء ذلك الزمان.

(95) قمر بني هاشم للمقرم؛ ص102.

(96) قمر بني هاشم للمقرم؛ ص109.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا