من محراب الصلاة إلى ساحة الحرب

من محراب الصلاة إلى ساحة الحرب

ينسب إلى أمير المؤمنين (ع) قوله في وصف المتقين:

«رهبانٌ في الليل، فرسانٌ في النهار»

1. في محراب العبادة يقاوم الإنسان عدوه الداخلي وشروره الذاتية التي تمنع تكامله وتقدمه وارتقاءه في مدارج الحياة والفضيلة.

فالمحراب: مشتق من الحرب.

محل إقامة الصلاة في المسجد اسمه «محراب». ما أجمل هذا الإسم وما أعظم المعنى الذي يرمز إليه..

المحراب: أي محل الحرب والمقاومة مع النفس والشيطان.. وهي الجهاد الأكبر في الإسلام.. التربية الذاتية.. من أول واجبات الإنسان المؤمن الرسالي والفرد المجاهد.. وقبل أن يخوض الإنسان هذه المعركة الفاصلة في نفسه.. بين نوازع الخير والشر.. بين الحق والباطل بين الصدق والكذب.. بين الإخلاص للحقيقة والمصلحية والانتهازية.

وقبل أن يخرج من هذه المعركة الداخلية منتصراً ظافراً وقد قهر عدوه الداخلي بقوة.. فمن الطبيعي أن لا يتمكن من التصدي لمقاومة العدو الخارجي وخوض المعارك السياسية والعسكرية مع أعداء دينه ووطنه بنجاح وانتصار.

لذلك ينسب للإمام علي (ع) :

«ميدانكم الأول أنفسكم فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها عاجزين».

ومن محراب الصلاة ينتقل المؤمن إلى ساحة الحرب. ففي قلب المحراب يقاوم الهزيمة والتخاذل والضعف في نفسه. فيتخذ سلاح الهمة والعزيمة، ويعد نفسه للمقاومة والصمود والمواجهة للعدو والعقبات المختلفة..

ومن محراب الصلاة يأخذ الإنسان الوعي والبصيرة على مقاومة الأعداء والصعاب في طريق الحق. وفي محراب العبادة وعن طريق التربية الروحية في الإسلام يتحرر الإنسان من الشهوات والأهواء وسلبيات النفس ونواقصها.. ليعود إنساناً صلباً قوي الإرادة والفكر فيكون حينئذٍ قادراً على انتزاع حريته من أعداء عقيدته ووطنه.

وأما إذا انعكست المعادلة، ولم يمر الإنسان بدورة تدريبية تربوية وجهاد روحي فحينها يكون الإنسان مهزوم النفس مهزوم الإرادة والثقة بالذات، تتحكم فيه شهوته، وتعرضه عن الحق رغبته.. وتجره إلى الرذيلة نزوته.. فهذا يكون من السهل أن يسيطر عليه الأعداء ويتحكموا في مصيره وبلاده وأموره.. بل العدو الخارجي لا يتمكن من السيطرة على الإنسان إلا إذا سيطر عليه عدوه الداخلي.. وسلم المرء القياد للجبن والخوف من مواجهة العدو.. لذلك على الإنسان أن يحارب الخوف والجبن والاستسلام والضعف في نفسه، ويطارد شيطان الإغراء والرغبة والهوى حتى يقهره.. ويخرج من معركة الذات منتصراً قوياً يمتلك الشجاعة والإرادة والإصرار. هذا يحق له التصدي لأعداء الدين والوطن، وهذا يستحق النصر عليهم لأنه تسلح بالسلاح الحقيقي والأقوى.. وهو سلاح الإيمان واليقظة والإرادة الصلبة.. أما المهزوم أمام شهواته..والذي تسيطر المصالح والنزوات الشريرة على جوانب نفسه وتفكيره، فهذا أبعد ما يكون عن التفكير في مواجهة الأعداء وتحرير الأوطان من رجس المحتل..

2. رهبان الليل هم الذين يكونون فرسان النهار.

فتحت جناح الظلام.. ينتهزون الستار المسدل على أعين الأعداء.. وبينما الأعداء يغطون في نومٍ عميقٍ وجهلٍ أعمى.. يستيقظ المجاهدون المتقون ويسهرون الليل بإعداد الخطط وشحذ الأسلحة وتربية الذات وترويضها على خوض ساحات المعركة.. والمؤمن لا ينزل إلى ساحة الحرب والمواجهة مع الأعداء إلا بعد أن يحكم الخطة العسكرية ويعد العدة ويخطط للمعركة في أثناء الليل.. فما أن يصبح الصباح إلا والمؤمن مسلح بسلاح اليقظة والمبادرة والعزم على النصر أو الشهادة، وإن تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين..

فالعبادة في الإسلام تأخذ بعداً واسعاً لتشمل كل أجزاء الحياة وجوانب العمل والتصدي للمسؤوليات القيادية الملقاة على عاتق الإنسان المؤمن... فليست العبادة نفس الركوع والسجود فقط.. بل هما مظهر بسيط من مظاهر العبادة... والعبادة في جوهرها تعني شحذ الطاقات الفكرية والنفسية وتفجير الكوامن والمواهب الروحية والعقلية في الإنسان وفتح الآفاق الواسعة في الكون واحتلالها لذلك جاء في الحديث:

(ليست العبادة بكثرة الصلاة والصيام، بل العبادة التفكر في أمر الله) ومعنى التفكر في أمر الله... هو معرفة الطاقات والنعم والمواهب المادية والمعنوية التي وهبها الله تعالى للإنسان وبثها في هذا الكون...

إذن فالصلاة عبادة، والتخطيط ـ في أثناء الليل ـ لمواجهة العدو في النهار عبادة...

لأن الصلاة حربٌ مع العدو الداخلي، ومقاومة لشيطان النفس والحرب مقاومة مع عدو الدين والوطن، وعبادة من أفضل العبادات. فمن لم يحارب عدو العقيدة والوطن ـ فلا يقبل الله له صلاة وصياماً. ومن لم يتجه إلى ربه، ويجعل نشاطه السياسي ونضاله ـ ضد الأعداء ـ لغير الله، فإن حربه ليست أكثر من عملية انتماء تنتهي بالإنسان إلى سوء المصير. فالهدف من النضال يجب أن يكون هو الله وليس الأغراض والمصالح الشخصية والحزبية.. لذلك نجد علياً (ع) يصلي في ساحة الحرب ـ بينما القتال كان محتدماً بينه وبين جيش معاوية. فافترش علي ساحة القتال ووقف يصلي ـ وذلك في ليلة الهرير في معركة صفين. فلما سأله ابن عباس: يا أمير المؤمنين: أهذا وقت الصلاة؟

فقال أمير المؤمنين(ع) : نعم إذن على ما نقاتلهم؟

يعني أنه يقاتل من أجل تطبيق مبادئ الصلاة وحكم الله في الأرض.

وفي يوم عاشوراء... سنة 61 هجرية... وعندما تقابل جيش الحسين(ع) الثائر مع جيوش بني أمية، وفي قلب المعركة الدامية.. طلب الحسين(ع) من أعدائه إيقاف الحرب ليصلي صلاة الظهر ورفضوا في البداية أن يلبوا طلبه إلا أنهم قبلوا أخيراً.. فصلى الحسين(ع) بمن بقي من أصحابه صلاة الظهر ووقف إثنان من أصحابه أمامه وجعلا من جسدهما درعاً واقياً لجسد الحسين(ع) فكانا يتلقيان سهام الأعداء بالصدر واليدين.. حتى سقطا إلى الأرض شهيدين يسبحان في دمائهما..

وبهذا جسّد الحسين(ع) الهدف من الصلاة.. وهو أن الحياة عقيدة وجهاد.. وحرب مقدسة ضد أعداء الله والإنسانية.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا