ملابسات البعثة النبوية المباركة

ملابسات البعثة النبوية المباركة

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ

{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.

البداية الطبيعية لمن أراد سرد شيء من تأريخ الإسلام أن يبدأ الحديث حول سيرة نبي الإسلام(ص) والتي سنسلط الضوء على جزء منها؛ لأننا لا يمكن أن نستوعبها في هذا البحث الصغير المتواضع، وهذه البداية الطبيعية تفرض علينا أن نمر أولاً على شيء من تأريخ ما قبل البعثة النبوية الشريفة كي نتعرف على المناخ والجو الذي ظهر فيه الإسلام إلى العالم.

قبل البعثة:

الجاهلية قبل الإسلام:

سبق وأن أشرنا إلى أنَّ طبيعة البحث حول موضوع البعثة يحتم علينا ملاحظة ما قبلها من الجو والمناخ الذي ولدت فيه لنعرف ملابساتها وتداعياتها وما جرى عند ولادتها من أحداث، ولا يتأتّى لنا ذلك إلا من خلال معرفة ذلك معرفة قريبة واضحة من خلال دراسة ماهية ذلك العصر من خلال عادات أهله ومعتقداتهم، وسنعرضها كخصائص له بشيءٍ من التوسّع والبسط، وقبلها سنذكر لمحة عن نسب رسول الله(ص).

نسب نبي الإسلام (ص):

اسمه محمد(ص)، أبوه عبد الله بن عبد المطلب، كان أبوه أصغر وِلد أبيه، وكان وإخوته الزبير وعبد مناف ـ وهو أبو طالب ـ لأمٍّ واحدة وهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم(1).

وببيان أوضح وأبين وأشمل عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله(ص) قال: «إنّه(ص) محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النظر بن كنانة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدٍ بن أددٍ بن الهميسع بن يشجب بن نبتٍ بن حُميل بن قيداد بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارِخ بن ناحور بن أشوع بن أروعوس بن فالغ بن عابر «وهو هود(ع)» بن شالخ بن أفخشد بن سام بن نوح بن لمكٍ بن متوشلخ بن أخنوخ «وهو إدريس(ع)» بن أردٍ بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم»(2).

خصائص العصر الجاهلي وما يعني اصطلاح الجاهلية:

إنما سمي هذا العصر ـ العصر المتصل بظهور الإسلام ـ بالجاهلي لأنّ الحاكم فيه هو الجهل لا العلم، والمسيطر عليه يومئذ هو الباطل لا الحق؛ فلذلك سمي بذلك وعرّف الجاهليةَ بعضُهم(3)اصطلاحاً أنّها: «مجموعة الأفكار والعواطف والأعمال والمواقف أو السلوكيات المضادة لشريعة الإسلام والحضارة الإنسانية بشكل عام»، وعرّفها بعضٌ آخر(4)أنها: «عدم العلم وفقدان المعرفة»، وخصائص الجاهلية العربية قبل البعثة على مستويات منها:

المستوى العقائدي: كانت عقائده منحرفةكعبادة الأوثان والأصنام والاستسقاء بإشعال النيران في أذناب البقر بعد حزمها مع أشجار سريعة الاشتعال(5)وو..، ومن هذا وصفهم أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة بقوله: «و أنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار... الأصنام فيكم منصوبة والآثام فيكم معصوبة»(6).

مستوى العادات والتقاليد: فقد كانت متمخضةً في الجهل المدقع الذي أورث لهم عاداتٍ يمقتها الطبع الإنساني كمثل وأد البنات، وهذا ما تشير له الآية الكريمة {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}(7)، وكذلك قول أمير المؤمنين(ع): «في بلاء أزل وإطباق جهل، من بنات موؤدة وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة»(8)، وبغضهم أن يبشر أحدهم بالأنثى وهذا ما تشير له الآية الكريمة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}(9)، وإذا خاف بعضهم عند نزول القحط والجذب الإملاق فإنهم يقتلون أولادهم، وهذا ما تبينه الآية المباركة {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}(10)، وانتشار أنواع الزيجات الخاطئة الفاحشة واستحقار المرأة إلى درجة الحيوان، حتى جاء الإسلام ليغيّر مكاييل وموازين الإنسانية {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(11)، و{أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}(12)، وأوصاهم بالزواج بالإماء بالشكل الصحيح كما في قوله تعالى: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}(13)، ومن عاداتهم الخرافية الكثير أيضاً نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، مثلاً: نهيق الرجل إذا أراد دخول القرية وهو خائفٌ من وبائها، تصفيق الضّال في الصحراء ليهتدي، وأنّ شقّ الرجل برقع المرأة وشقها ردائه يوجب الحب المتقابل الدائم وإلا فلا(14)، وما إلى ذلك مما ينبأ عمّا كانوا عليه من جهل وتخلف.

المستوى الاقتصادي: فقد كانت عمليتا الربا والاحتكار رائجتين، وقد نتج عنهما ومثيلاتهما الطبقية الاجتماعية الفاحشة والرق، كذلك القمار والظلم في المواريث كعدم الإرث للمرأة، بل إنها مما يورَث، وعدم تحديد أصل الإرث بحدود وضوابط وو...

المستوى الاجتماعي: فمن سماته البارزة والواضحة ـ وهي من مقتضيات البداوة والتخلف والطبيعة العربية آنذاك ـ انتشار التعصب القبلي الذي أدّى إلى حروب طاحنة، وهذا ما يوضحه لنا أمير المؤمنين(ع) في وصفه لهم: «والأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة... وغارات مشنونة»، والنتيجة الطبيعية لهذا هو التفكك الاجتماعي الناشئ من حروبها وعصبيتها ومن التفككات الأسرية الناجمة من العبث الجنسي والانحلال الخُلقي والأخلاقي.

دفع تعارض يتوّهم:

ألفتتني كلمتان مباركتان لسيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين(ع) قد يتوهم منهما البعض التعارض، والكلمتان هما قوله(ع) في إحدى خطبه عند وصفه للعرب قبل البعثة: «وأنتم معشر العرب على شر دين وشر دار»، وفي خطبة أخرى: «في خير دار وشر جيران»، فكيف نوفق بين «شر دار» و«خير دار»؟

أقول: أولاً: لا بد أن ننظر إلى سياق الحديث في كلتيهما على حده حتى نتعرّف على ما يدور حولهما وما يفهم من سياق الحديثين الذين وقعتا فيه لرفع التعارض المتوهم.

ثانياً: من خلال النظر والتدقيق يظهر من سياقهما عدم التعارض، حيث إنّ اللحاظين الذين على أساسهما قسم(ع) الدار تارةً إلى شر وتارةً إلى خير مختلفان، فإنّ اللحاظ في المقطع الأول هو النظر لأحوال الناس وسلوكياتهم حينذاك وما تحمله من مخالفات إنسانية وأخلاقية، وهذا ما يظهر من سياق كلامه(ع) في نفس الفقرة من الخطبة وهو قوله:«.. وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»، وقد تكون من باب «تسمية الشيء باسم لازمه» كما إذا قلت: «الزّمن غدّار»، فالزمن بما هو أوقات وأحيان ـ وبما هو أمر اعتباري ـ ليس من قابلياته الغدر وإنما وُصف باسم لازمه، ألا وهم الناس الموجودون فيه.

و أمّا الثاني فلحاظه المكان الجغرافي، وأنّها منطقة خير، وما يدلل على هذا التوجيه ما عطف عليه من قوله «و شر جيران» مكانياً، وما يدلل على هذا أيضاً ـ أنها جغرافياً دار خير ـ اعتبارات عدة:

منها: احتضانها للكعبة المشرفة وهي من خير بقاع الأرض، وهي بيت الله الحرام.

ومنها: احتواؤها السلالة الطاهرة للأنبياء والأوصياء التي جاء من صلبها نبينا(ص) وأهل بيته(ع) الطيبين الطاهرين.

ومنها: تمتع بعض أهلها ببعض مكارم الأخلاق كما يذكر لنا التاريخ.

منها: أنّها تمثّل مركزاً تجارياً وثقافياً ودينياً، فكان يجتمع فيها حجاج بيت الله وأصحاب الفنون والطقوس والوجاهة وو...

وما يُثبت من جهة أخرى أن لحاظها جغرافياً هو أنّ جيرانها حقاً «شر جيران» كما يقول العلامة الطباطبائي(قده) في تفسيره «الميزان» عن هذه الحيثية:

«كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها امبراطورية الروم وهي نصرانية أيضاً، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك مصر والهند وثنيتان، وفي أرضهم طوائف من اليهود، وهم وثنيون يعيش أكثرهم عيشة القبائل، وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعاً همجياً بدوياً فيه أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وهم سكارى في جهالتهم».

مولد النبي (ص) وما رافقه من كرامات:

بما أنّ لمولد النبي الأكرم(ص) مدخلية في مسألة البعثة النبوية من جهة أنّه كان من الممهدات المهيئة للأرضية لتثبيت أمر البعثة والإسلام، وقد يطرح سؤال في المقام، ما الهدف من وقوع بعض الحوادث عند ولادة نبينا(ص)؟ ويجاب أنه يتلخص الهدف من ذلك في أمرين:

الأول: أنّها تدفع الجبابرة والوثنيين وعبدة الأصنام إلى التفكير فيما هم فيه (كهزّة تذكيرية).

الثاني: أنّ هذه الحوادث جاءت لتبرهن وتدلل على جلالة شأن المولود وعظمته.

ولا يفوتنا أن نذكر ـ هنا وقبل الدخول للمبعث الشريف ـ بعض ما صاحب وواكب ميلاد خير البشر من حوادث وعلامات وكرامات:

1) انطفاء نيران فارس التي بقيت ولم تطفأ لعشرات السنين وهي تُعبد.

2) ارتجاج إيوان كسرى وسقوط (14) شرفةً منه.

3) تساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وتنكّست كل أصنام الدنيا.

4) جفاف بحيرة ساوة.

5) رؤية أنو شيروان (مَلِك الفرس) ومؤيِّدوه رؤيا مخيفة.

6) أنّ إبليس رنّ (صوّت بحزنٍ وكآبة) أربع رناتٍ: رنّة حين لُعن، ورنّة حين أُهبط، ورنّة حين ولد رسول الله(ص)، والرنّة الرابعة يوم مبعث النبي(ص)(15).

نفحات من تاريخ شباب النبي (ص):

طيّاً لشيء من تاريخ حياته(ص) نتجاوز تاريخ طفولته حتى صباه مختصرين للوصول لمبتغانا وهي فترة البعثة وما رافقها، والكلام ـ فعلاً ـ في أهم الأحداث التي مرّت به في فترة شبابه قبل بعثته(ص) مباشرةً.

نحن نعلم من حيث المبدأ أن قادة المجتمع يجب أن يكونوا أقوياء شجعان، ومتميزين في كل أبعاد شخصيتهم، بحيث يمتلكون قوةً روحيةً كبرى، ويتمتعون بصدر رحب، وإرادة قوية، فإنّ لعظمة القائد الروحية ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً على أتباعه وأنصاره، ولقد كانت شخصية عزيز قريشٍ نبينا محمد(ص) تتميّز في شتى أبعادها بالبطولية والمثالية ومن هذا أمثلة كثيرة في شبابه ـ قبل البعثة ـ وبعد شبابه ـ قبل وبعد البعثة ـ نذكر منها:

1) ما روي عن مشاركته مع قريش في حرب الفجار ـ قبل البعثة ـ مع قبيلة هوازن، على الاختلاف الدائر في صحة ذلك وعدمه، ولكن إن كان صحيحاً فإنّه في مثل الرواية المروية عن الحادثة قد بيّن أنّ الحرب كانت نوع من إنصاف المظلوم على الظالم، ومحل شاهدنا هو: إنْ صحَّت الرواية على أنّه شارك ولم يتجاوز عمره العشرين فهذا دليل واضح على شجاعته وقوته وجرأته قبل البعثة.

أمّا بعد البعثة فالأدلة على ذلك كثيرةٌ ولكن لسنا بصددها، ولكن نذكر روايةً جميلةً عن أمير المؤمنين(ع) كمثالٍ واحدٍ وهو قوله(ع): «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول(ص)، فلم يكن أحدٌ منّا أقرب إلى العدوِّ منه»(16).

2) مشاركته(ص) في حلف الفضول، وهو حلفٌ شريفٌ حميدٌ كان يفضي إلى نصرة المظلوم والنهي عن المنكر، وقد عقد في دار أبي جدعان بغمس أيدي المجتمعين في ماء زمزم، وقد أثنى عليه(ص) بعد نبوته وأمضاه بقوله: «ما أحبّ أن لي بحلفٍ حضرته في دار أبي جدعان حمر النعم، ولو دعيت به أو لمثله لأجبت»(17).

3) عمله في التجارة: بعد أن اشتهر النبي(ص) بالصادق الأمين، بلغ خديجة(ع) ذلك وكانت آنذاك صاحبة رصيد مالي كبير، وكانت ترّكه في التجارة عن طريق المضاربة ـ وهي دفع أحد الطرفين مالاً وتحريك شخص آخر هذا المال بالعمل ويسمى (عاملاً) لتكون الأرباح بينهما بالنسبة المتفقة والخسارة على صاحب المال ـ فبعثت إليه فوراً قائلةً: «إنّي دعاني إلى الحديث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظيم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيتك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك، وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في هذا السفر»(18). وكانت هذه عبارة عن مضاربة للرسول(ص) بأموال خديجة(ع) وليس إجارة النبي لخديجة؛ لأنّ النبي(ص) لم يكن أجيراً لأحدٍ قط.

زواجه (ص) من السيدة خديجة (ع):

بعد أن عزم رسول الله(ص) على الزواج وأقدم على زواج خديجة بنت خويلد تلك المرأة الثرية المعروفة بكثرة مالها والتي رفضت كل طلبات الزواج ومن أكبر الشخصيات ثراءً آنذاك من أمثال: أبي جهل بن هشام وأبي سفيان، ولكن الغيب يخفي عنا ما السرّ في قبولها له وما الفارق الشاسع بين وضعهما المعيشي وبعض المؤرخين يصرّح بأنها هي التي عرضت نفسها للزواج منها، بل أكثر من ذلك وهبت كل ما تملك بعد ذلك فداءً للنبي(ص) والإسلام، ولا شك أنّ هذا النوع من الفداء والتفاني لا يتحقق إلا بوجود إيمانٍ بفكر ومعتقد له جذور قوية في نفس خديجة تجاه عزيز قريش الأمين محمد(ص)، لا سيما وأنّ هذا ليس أمراً مألوفاً ـ على الأقل ـ في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على وجه الخصوص.

ماذا كان دين النبي (ص) قبل البعثة؟

مما يثبته المعتقد الإمامي أنّ النبوة ثابتة لشخوص الأنبياء وعصمتهم كذلك من ولاتهم، وإنما الفعلية للبعث أو الرسالة تتفاوت بالنسبة لكل نبي،  ونحن هنا لسنا بصدد إثبات هذه الحيثية بالدقة وإنما لإثبات أمرٍ متعلقٍ بها بشكلٍ وثيقٍ، وهو أنّ النبي كان يدين بدينٍ إلهي توحيدي، وعن طريق دليل نبوته قبل البعثة يمكننا إثبات مرادنا، ولكننا سوف نذكر أدلةً أخرى:

الدليل الأول: يحتاج لمقدمتين:

المقدمة الأولى: إنّ النبي(ص) أوتي الفضائل والكرامات التي هي لجملة الأنبياء السابقين(ع) بدليل قول أحد الأئمة(ع): «إنّ الله تعالى لم يُعطِ نبياً فضيلةً ولا كرامةً ولا معجزةً إلاّ أعطاها نبيّنا محمداً(ص)»(19).

المقدمة الثانية: فلقد ورد أنّ يحيى وعيسى(ع) كانا حجتين في المهد بدليل قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}، وقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}.

النتيجة: أنّ الله وبشكل طبيعي ما دام أنّه أعطى فضيلةَ وكرامةَ ومعجزةَ الحُكم والكتاب والنبوة لنبيّين من أنبيائه فهي للنبي محمد(ص) لصدق الحديث الشريف في المقدمة الأولى.

الدليل الثاني: إنّ بغضه(ص) للأصنام وتجنبه عن الأوثان واضحٌ من الروايات الصحيحة المعتبرة والمعتمدة ولك بعض أمثلتها:

ـ جاء في حديثٍ طويل: «إنّ النبي(ص) لمّا تمّ له ثلاث سنين، قال لأمّه (مرضعته) حليمة السعدية: مالي لا أرى أخَوَيَّ بالنهار؟، قالت له: يا بُنيّ إنهما يرعيان غُنيمات. قال: فمالي لا أخرج معهما؟ قالت له: أتحبُّ ذلك؟ قال: نعم. فلما أصبح محمد دهّنته ـ والكلام لحليمة ـ وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزعٌ يمانيٌ ـ كحرز ـ، فنزعه ثم قال لأمّه: مهلاً يا أمّاه، فإنّ معي مَن يحفظني»(20).

ـ روي أنّه وقع بين النبي(ص) وبين رجل تلاحّ في سفرته الثانية إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها (ميسرة) بعد أن باع(ص) سلعته، فقال له الرجل: احلف باللات والعزّى، فقال رسول الله(ص): «ما حلفت بهما قطّ، وإنّي لأمُرُّ فأعرض»، وفي رواية أخرى: «إليك عنّي ثكلتك أمّك فما تكلمت العرب بكلمة أثقل عليّ من هذه الكلمة»، فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة: هذا نبي»(21).

أمّا ما هو الدين الذي كان يدين به، هل كانت المسيحية التي سبقت رسالته مباشرة؟ وهذا ما لم يحدثنا التاريخ به، إذن فلماذا لم يحدثنا به رغم أن المفروض أنه اتبع الدين الذي سبقه؟ بل أخبرنا التاريخ بأنه كان ملتزماً بدين إبراهيم الحنيف(ع)، وهذا قد يُطرح كإشكال في المقام ولكن قد يجاب عليه: أن جميع الأنبياء والمرسلين يتفقون في الدعوة لمضامين واحدة من وجود إله واحد لا شريك له ولا نظير، والحث على الخير والإحسان ومحاربة البغي والعدوان، ونحو ذلك مما يعود على الناس جميعاً بالخير.

البعثة النبوية:

بحث تمهيدي للبعثة المباركة:

أرى من الأفضل قبل الشروع في بيان الحوادث الأولى الواقعة عند البعثة أن نمهّد ببعض الإيضاحات حول مسألتين عقائديتين تاريخيتين مهمتين وهما:

1) ضرورة بعث الأنبياء(ع).

2) فوائد بعث الأنبياء(ع).

أولاً: ضرورة بعث الأنبياء (ع):

وهذه المسألة من أهم المسائل في مبحث أصل النبوة ويمكن إثباتها ببرهان واحد مهم وهو (قاعدة اللطف) ومفادها:

إنّ الحكمة الإلهية تقتضي من أجل بلوغ الإنسان كماله وتحقيق غرض المولى منه في الحياة الدنيا تحتّم وضع طريق واضح وقويم بالإضافة للحجة الباطنية ـ وهي العقل ـ كحجة ظاهرية حتى يستطيع البشر الاستفادة منها الاستفادة التامة لأجل الوصول للهدف المنشود، ألا وهو السعادة الأبدية والكمال النهائي، وبعبارة أخرى: يمكننا أن نمثل لذلك بمثال لتوضيح الفكرة: لو أنّ شخصاً دعا شخصاً لوليمة في منزله الكائن في منطقة بعيدة وما عهد الذهاب إلى تلك المنطقة ولا منزله من قبل، فيتحتّم ـ عقلاً ـ على الداعي أن يصف للمدعو مكان الدعوة لكي يتحقق غرضه وإلا ـ إذا لم يشرح له المنطقة والمنزل ـ فإنّ في ذلك نقض للغرض المرجو من الداعي.

ثانياً: فوائد بعث الأنبياء (ع):

بالإضافة للمهمة الرئيسة من بعثة الأنبياء(ع) ـ وهي هداية البشر وتعريفهم الطريق الصحيح لتكاملهم الحقيقي ـ توجد فوائد وتأثيرات أخرى تصب في نفس مصبّ الغاية الكبرى، وهي كثيرة نذكر من أهمها ما يلي:

ـ حالة التذكير والتنبيه: فهناك الكثير من المعلومات يمكن للعقل البشري إدراكها، ولكنه في كثير من الأحيان يغفلها أو أنه يحتاج وقتاً طويلاً وتجاربَ متعددةً للوصول إليها، وأسباب ذلك كثيرةٌ، فإما نتيجة الانهماك في المادة، أو غياب التربية الصحيحة، أو بسبب تضليل الإعلام السيء، وسيطرة الميول الحيوانية، فيأتي الأنبياء(ع) لمحو هذه المفاهيم المغلوطة وتصحيح الانحرافات المنتشرة بالتذكير والإنذار والتنبيه.

ـ القدوة العملية الحسنة: فمن أهم العوامل المؤثرة والفاعلة في مجال التربية والسلوك وجود القدوة في العمل، وهذا ما أثبتته بحوث علم النفس، وأرّخته لنا صفحات تاريخ الأنبياء(ع).

ـ تولي قيادة الأمة: وهذه القيادة على جميع الأصعدة والمجالات والتي أهمها على المستوى العملي الاجتماعية والسياسية والقضائية، هذا إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك.

البعثة النبوية الشريفة:

البعثة: لغةً: بَعَثَ بعثاَ وتبعاثاً: أرسله وحده(22)، أما اصطلاحاً: إرسال نبي الإسلام محمد بن عبد الله(ص) أو فعلية نبوة ورسالة خاتم الأنبياء والمرسلين(ص).

وهنا أسئلةٌ يتطلب المقام الإجابة عليها، ألا وهي: سنة كم كانت البعثة (تاريخ البعث)؟ وما هي كيفية بدئها؟ وكيف عرف النبي أن ما نزل عليه وحيٌ وأنه(ص) نبيٌّ؟ وما هي تفاصيل وملابسات كل ذلك؟

متى بُعث النبي (ص) برسالة الإسلام؟

أما بالنسبة لليوم والشهر لبدء البعثة الشريفة فقد اختلف المؤرخون في تحديدهما، فقال اليعقوبي: كان مبعثه(ص) في شهر ربيع الأول. وقيل: في رمضان، ومن شهور العجم: في شباط. قال: أتاه جبرائيل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين(23).وقال غيره غير ما ذهب إليه، ولكن الصحيح عندنا ـ الشيعة الإمامية ـ هو ما ورد لنا في روايات أهل بيت العصمة والطهارة(ع) في تعيين يوم المبعث الشريف، أنه في يوم السابع والعشرين من شهر رجب الأصب، فعن الإمام الصادق(ع): «في اليوم السابع والعشرين من رجب نزلت النبوة على رسول الله(ص)»، فأصبح هذا يوماً مباركاً وفضيلاً عند الشيعة، فيستحب فيه الصيام والقيام بآداب وعبادات تخصّه، وعنه أيضاً(ع): «لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد(ص)»؛ لأننا نعتقد بأنّ أبواب الرحمة والبركة تتفتح لأهل الأرض عامةً؛ لأن النبي بُعث رحمةً للعالمين أجمعين(24).

وأمّا بالنسبة لسنة البعثة فقال بعضهم: إنها كانت بعد بنيان الكعبة بخمسين عاماً، وعلى رأس عشرين سنة مضين من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وعلى رأس مائتي عام من يوم التحالف بالربذة، وكانت في سنة 609 من تاريخ ميلاد المسيح(ع)، أي بعد ميلاده(ص) بأربعين سنةً على رواية ميلاده في عام الفيل سنة 570 بعد ميلاد المسيح(ع).

كيف بدأت البعثة؟

أمّا حول كيفية بدء البعثة والنبوة لنبينا(ص) فقد كانت عن طريق الوحي، والتي بها تحركت عجلة تاريخ الإسلام المحمدي، وكان ذلك في غار حراء، والذي يقع في شمال مكة، فقد كان(ص) ولمدةٍ طويلةٍ يقضي كثيراً من وقته فيه بالعبادة ومناجاة ربه، وبالخلوة بنفسه بعيداً عن أنظار الناس.

وفي يوم معين بعد تلك الفترة الطويلة أتاه ملكٌ عظيمٌ بلوح نصبه أمامه وقال له: اقرأ، وحيث إنه(ص) كان أميّاً لم يدرس أجاب الملك بقوله: ما أنا بقارئ، فاحتضنه ذلك الملك وعصره عصرةً شديدةً، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول، فعصره الملك ثانيةً عصرةً شديدةً، وتكرر هذا العمل ثلاث مراتٍ أحس بعدها رسول الله(ص) في نفسه أنّه قادرٌ على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات التي تشكّل ـ في الحقيقة ـ ديباجة كتاب السعادة البشرية، وأساس رقيها(25).

كيف عرف النبي أنّه نبي؟ وكيف عرفَ الوحي وحياً؟

كانت للرسول(ص) قبل فعلية نبوته المباركة أماراتٌ وعلاماتٌ واضحةٌ على أنّه نبيٌّ ومرسلٌ من الله تعالى، وليس أمراً مخيفاً جديداً على النبي بنزول جبرائيل بالوحي في غار حراء فيصطدم بذلك الحدث فيخاف فيلتجأ إلى زوجه خديجة حتى تستعين هي بورقة بن نوفل وما إلى ذلك مما تقوّله البعض في حقه(ص)، فمن الأمارات والعلامات التي يذكرها لنا التاريخ ما نقله الشيخ الجليل الثقة علي بن إبراهيم القمي: «إنّ النبي(ص) لما أتى له سبعٌ وثلاثون سنةً، كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله! ومضت برهةٌ من الزمان وهو على ذلك يكتمه، وإذا هو في بعض الأيام يرعى غنماً لأبي طالب(ع) في شعب الجبال إذ رأى شخصاً يقول له: يا رسول الله! فقال له: من أنت؟ قال: أنا جبرائيل، أرسلني الله إليك ليتّخذك رسولاً، فجعل يعلّمه الوضوء والصلاة. ذلك عندما تمّ له أربعون سنةً»(26).

وفي تاريخ الطبري: «كان الرسول(ص) من قبل أن يظهر له جبرائيل(ع) برسالة الله إليه يرى ويعاين آثاراً وأسباباً من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله»(27).

و قال اليعقوبي: «كان جبرائيل يظهر له ويكلّمه أو ربما ناداه من السماء ومن الشجر ومن الجبل، ثم قال له: إنّ ربك يأمرك أن تجتنب الرجس من الأوثان، فكان رسول الله يأتي خديجة بنة خويلد ويقول لها ما سمع وتكلّم به فتقول له: استر يا ابن عم ! فوالله إنّي لأرجو أن يصنع الله بك خيراً»(28).

نقطة نظام:

في هذا المحور المهم من هذا البحث المتواضع نقف وقفة نظام تجاه ما دوّن من تاريخ حياة الرسول(ص) بشكل عام، وفترة بعثته الشريفة بشكل خاص، فمن خلال قراءتي لهذا الشطر المهم في حياته(ص) وحياة الإسلام الحنيف استوقفتني ـ كما استوقفت أرباب التاريخ من علمائنا الإمامية ـ مجموعةٌ من الروايات والمؤرخات التي يخجل الإنسان المؤمن من قراءتها فضلاً عن قبولها في حق أشرف الأنبياء وأفضلهم(ص)، ولا يقبلها لا العقل ولا النقل، ولا مقام النبوة والرسالة الشامخ، فمن هنا سنقف قليلاً مع بعضها محاولين الرد عليها مما يرتبط بحقبة البعثة المعظّمة:

الرواية الأولى: والتي تُروى في أول نزول الوحي عليه(ص) وملخصها: «أنه(ص) عندما كان مختلياً بنفسه في حراء سمع  هاتفاً يدعوه فرفع رأسه فإذا به يرى صورةً رهيبةً، ففزع فزعاً شديداً وامتلأ قلبه رعباً وهلعاً، حتى عاد إلى خديجة وأخبرها فآوته، وهدأت من روعه وثبتت قلبه وطمأنته بحديثها المرهب له، بعدها جاءه مثل من جاءه سابقاً فقامت بتهدئته مرةً أخرى، وطلبت منه أن يجلس على فخذها الأيسر ثم الأيمن فلم يذهب، ثم طلبت منه أن يجلس في حجرها فجلس وتحسّرت وألقت خمارها فذهب، فعرفت أنه ملكٌ وليس شيطاناً، فقالت: يا ابن عم، أبشر واثبت، فوالله إنه لملكٌ وما هو بشيطان. كذلك وتوكيداً لتجربة خديجة انطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وهو نصراني قارئ للكتب، فقصت عليه ما جرى على النبي(ص) فقال ورقة: لئن كنتِ صدقتِني يا خديجة، فقد جاءه الناموس الأكبر الذي جاء موسى، فقولي له: فليثبت، وإنه لنبي هذه الأمة. فعادت وأخبرت الرسول(ص) بما قال ورقة، فعند ذلك اطمأن باله، وذهبت روعته، وأيقن أنه نبي»(29). ويرد على هذه الرواية إيراداتٌ عدة، منها:

1) أمّا من ناحية سند الرواية فهو عاميٌّ محضٌ، فلم يروِها لنا إماميٌّ أصلاً.

2) وأمّا من ناحية متن ودلالة الرواية فيأخذ عليها مآخذ متعددة، فمنها: التفاوت والتهافت في عبارتها خصوصاً فيما يتعلق بموضوع ورقة، ففي بعضها: انطلقت خديجة لوحدها له، وفي أخرى: انطلقت بي إلى ورقة، وفي ثالثة: لقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالبيت، وفي رابعة: أن نوفل هو الذي بدأ الحديث عمّا ينزل على الرسول(ص)، وفي خامسة: أن أبا بكر دخل على خديجة فقالت: انطلق بمحمد إلى ورقة، وهذا مما هو واضح عدم الالتئام مع بعضه البعض.

3) ومنها: أنّا نربأ علماء ومحققين أن يفضلوا عقلية امرأة لا شأن لها وأسرار النبوات على عقلية إنسان كامل قد بلغ القمّة التي أهّلته لحمل رسالة الله، ثم تقوم بتجربتها التي يجهلها النبي وتطمئنه.

4) ومنها: أن قولة رجل شأنه كان يقرأ كتباً لا يُضمن عدم تحريفها، وما الذي وجده(ص) في قولته فكان منشأ اطمئنانه ولم يجده في الحق النازل عليه؟

5) ومنها: أن في دسّ هذه الرواية يدٌ إسرائيليةٌ أخطأت في الوضع؛ لأنّ ورقة كان مسيحياً وهذا مقطوعٌ، ولكنه حين أراد أن يزيل عن النبي الشك والاضطراب ذكر نبوّة موسى، فهذا ألا يدل على أن ثمّة يد إسرائيلية وراء هذه الحبكة هي التي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة كما يدين به ورقة بطلُ القصة؟

6) ومنها: أنّه لو صحت هذه الرواية فلماذا لم يؤمن ورقة بالنبي وهو يعلم ما يعلم بحال نبوته وو...؟

7) ومنها: أن الرواية فيها شيءٌ مما يُستقبح ذكره خارج إطار الزوجية، ولكنهم جعلوه دليلاً على نبوّة أعظم الخلق وأشرفهم، وهذا ما يوضّح لنا صحة دسّه وتزويره وافترائه وكذبه.

وأمّا من الناحية العقلائية: فإننا لتقييم هذه المزاعم يجب أن نلقي نظرةً فاحصةً لتاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم، فإنّ القرآن الكريم قد قصّ علينا قضاياهم وسيرهم، بالإضافة إلى ما ورد من روايات وأخبار كثيرة في هذا المجال، وإننا لا نجد أيَّ أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة واحد منهم.

إنّ القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول الوحي على موسى(ع) بشكل كامل ويبين جميع التفاصيل في قصته(ع) ولا يذكر فيها أي نوع من الخوف والارتعاش والوحشة والفزع، بحيث يتمنى الموت أو ما شابه ذلك، مع أن أرضية الخوف والفزع في قصة موسى كانت متوفرةً أكثر؛ لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداءً من الشجرة يخبره بأنه نبيٌّ مرسلٌ.

ولكن موسى ـ كما يصرح القرآن الكريم ـ حافظ على هدوئه وسكونه، حتى أنّ خوفه عندما ألقى العصى من جهة أنها تبدلت لثعبان لا من جهة الإيحاء إليه، فهل يمكن ـ أو يجوز لنا ـ أن نقول: كان موسى لحظة الوحي مطمئناً هادئاً ساكناً، ولكن أفضل الأنبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام الملك، وفزع إلى درجةٍ غريبةٍ؟ ووصل إلى ما وصل إليه؟ فهل هذا كلامٌ معقولٌ؟

الرواية الثانية: ورواية كسابقتها ففيها استنقاصٌ واضحٌ لمقام النبوة والنبي(ص)، وبطلانها واضحٌ، وهي رواية «الغرانيق»، ومفادها: أن النبي(ص) كان في حشدٍ من مشركي قريش بفناء الكعبة أو في نادٍ من أنديتهم، وكانت تساوره نفسه لو يأتيه شيءٌ من القرآن يقارب بينه وبين قومه الألدّاء؛ إذ كان يتألّم من مباعدتهم وو...، فعند نزول سورة النجم أخذ يتلوها حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}(30)، حتى ألقى عليه الشيطان وجعله يقول: (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) فحسبها وحياً، وقد قرأها في ملأٍ من قريش، ثم مضى وقرأ بقية السورة، حتى أكملها سجد وسجد المسلمون، وسجد المشركون، تقديراً لما وافقهم محمد(ص) في تعظيم آلهتهم ورجاء شفاعتهم»(31). ويلاحظ على هذه الرواية عدة ملاحظات تثبت زورها، وأنها مفتعلةٌ صنعتها قرائح القصاصين، ومن هذه الملاحظات:

1) على صعيد السند: لم يتصل تسلسل سند هذه الرواية إلى صحابي إطلاقاً، وعليه فهي مرسلةٌ وغير موصولة السند إلى من شاهد القضية، وأمّا أنهم رووها عن ابن عباس فهذا الأكثر حماقةً؛ إذ أنّ ولادة ابن عباس كانت في السنة الثالثة قبل الهجرة، فلم يشهد القصة بتاتاً، هذا ما لا يقبله العقل كذلك.

2) وأمّا على صعيد المدلول: ففضلاً عن سندها الموهون فإن مضمونها باطلٌ على كل التقادير:

أولاً: مناقضته الصريحة مع كثير من النصوص القرآنية المباركة والتي تمثل المقياس والميزان لصحة الروايات وعدمه، ومن الآيات الصريحة التي تبطل هذه الرواية قوله تعالى في بداية سورة النجم التي يفترون الإدخال فيها: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}(32)، وكذلك فقد ضمن الباري عزوجل حفظ وسلامة القرآن الكريم من تلاعب أيدي المبطلين، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(33).

ثانياً: منافاته لمقام العصمة، فالعصمة مما اتفق المسلمون جميعاً عليها ـ على الأقل ـ في حدود التبليغ، وعدمها فيه نقضٌ لغرض المولى من بعثه، ولولا العصمة الملحوظة في أداء رسالة الله، لزالت الثقة فيما بينهما وعدمها في التبليغ مخالفٌ لمقتضى بعثهم، ولأخذت الشكوك تتوارد في جميع الأحكام والتكاليف والتشريعات التي يبلغها النبي(ص) عن الله سبحانه وتعالى، وفي هذا تجرأ على ساحة الحق سبحانه وتعالى أن يبعث مَن يعجز عن إبلاغ ما يريد أو ـ والعياذ بالله ـ لا يحسن بعث من يناسب وبالمواصفات المناسبة وو...

3) وأمّا على الصعيد العقلائي: فإن ظاهر الكلام بعيد الالتئام، ومتناقض الأقسام، ممتزج المدح والذم، متخاذل التأليف، فهل يعقل أن النبي(ص) ومن بحضرته في ذلك الموقف من مسلمين ومشركين ـ وهم قد اتسع باب بيانهم ومعرفتهم فصيح الكلام وغيره ـ أن يخفى عليهم ذلك والذي لا يخفى على أدنى متأمّل بسيط؟! أم كيف يقتنع المشركون ـ وهم كما قلنا أهل نقد وفصاحة ـ بتلك المجاملة المفضوحة التي اقترن فيها مدحٌ مشكوكٌ مع ذلك القدح الصارم ليأخذوه تقارباً مبدئياً بين شركهم ودعوته(ص) والتي قامت على محق الشرك والإخلاص لله والدين الحنيف القيّم؟! ولا سيما مع تعقيبها بقوله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً}(34)، فهل يلتئم هذا الكلام التوحيدي الخالص مع تلك الأكذوبة: (وإن شفاعتهن لترتجى)؟! ويُأخذ على هذه الرواية أيضاً كثيرٌ من المآخذ ولكننا نريد الاختصار بعد عدمه.

الخاتمة:

إن هذا البحث الصغير لا يمكنه أن يفي ويحتوي على أفضل وأعظم يوم أو فترة مرّت على الإنسانية أجمع؛ لأنّنا سواء قيمنا الأيام بما تشتمل عليه من أحداث أو بما تتمخض عنه من نتائج، فإن هذا اليوم ـ يوم البعثة المباركة ـ هو اليوم الأول في تاريخ الإنسانية، وهذا يرجع لأسباب عديدة يفترض أنها اتضحت في ثنايا البحث ـ أو لا أقل اتضح شيء منها ـ أيضاً؛ لأنّه اليوم الذي استطاع فيه الإنسان أن يبلغ الذروة التي رشّحته لها عشرات الآلاف من الرسالات والنبوات فأصبح قاب قوسين أو أدنى، وهذا الإنسان أو أعظم البشرية على الإطلاق هو شخص النبي محمد(ص).

كذلك إذا لاحظنا ما تمخض عنه هذا اليوم العظيم، يمكننا أن نتصور المقدار العظيم من الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة النبيلة الزاخرة بكل معاني النبل والأخلاق التي ظهرت بعد هذا اليوم، ويمكننا أن نتصور مما تمخض منه العروش التي حُطمت والجبابرة الذين قُضي عليهم، وعهود الظلم والطغيان التي قوضت بعد هذا اليوم.

فهذا يجعلنا نقف وتقف عقولنا وأقلامنا حائرةً ومعترفةً بعجزها، أمام الفائض الكمي والكيفي لهذا اليوم وما تمخض عنه وما جرى فيه وبعده، ولكن لا يسعنا في نهاية هذا البحث المتواضع إلا أن نحمد الله ونثني عليه أولاً وأخيراً أن وفّقنا لترتيبه وجمعه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحبّ ويرضى بحق محمد وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

 

* الهوامش:

(1)تاريخ الطبري: ج2، ص170.

(2)كنز العمال: 12 / 441 / 35512.

(3)الشيخ المالكي في كتابه تاريخ ما قبل البعثة ص 10.

(4)الشيخ اليوسفي الغروي في كتابه موسوعة التاريخ الإسلامي ص 75.

(5)سيد المرسلين:  ج1 ص72.

(6)نهج البلاغة، الخطبة: 91.

(7)سورة التكوير، الآيتان: 8-9.

(8)نهج البلاغة، الخطبة: 95.

(9)سورة النحل، الآية: 57.

(10)سورة الأنعام، الآية: 151.

(11)سورة الحجرات، الآية: 13.

(12)سورة آل عمران، الآية: 195.

(13)سورة النساء، الآية: 25.

(14)سيد المرسلين: ص74-77.

(15)تاريخ ما قبل البعثة: في درس (الحوادث التي رافقت مولد النبي(ص).

(16)نهج البلاغة: فصل غريب كلامه رقم (9).

(17)تاريخ ما قبل البعثة: ص 319.

(18)المصدر السابق: ص 334.

(19)تاريخ ما قبل البعثة: ص388.

(20)سيد المرسلين: ج1 ص293.

(21)نفس المصدر السابق.

(22)قاموس المنجد: ص42

(23)تاريخ اليعقوبي: ج2  ص22.

(24)التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص106.

(25)سيد المرسلين: ج1 ص321.

(26)التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص102.

(27)المصدر السابق.

(28)تاريخ اليعقوبي: ج2 ص22

(29)التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص78.

(30)سورة النجم، الآيتان: 19-20.

(31)التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص86.

(32)سورة النجم، الآيات: 1-5.

(33)سورة الحجر، الآية: 9.

(34)سورة النجم، الآية: 26.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا