معالم النهج [نهج الإمام الخميني -قده-]

معالم النهج [نهج الإمام الخميني -قده-]

بمثابة تمهيد:

إن مما ينبغي معرفته والوقوف على خباياه وأصوله بشكل متين وقوي هو فهم النهج والمسير المبارك الذي حدده الإمام الخميني(رض) عبر أصول ومعالم عبَّر عنها في خطاباته وبياناته وأفعاله ومواقفه، وقد اختزل الإمام الخميني(رض) هذا النهج المبارك عبر نظرية ((ولاية الفقيه المطلقة))، ولا شك ولا ريب أن هذا النهج المبارك هو عبارة عن فهم سماحة الإمام لحركة الأئمة وأهل بيت النبوة ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ في وسط الأفهام المتعددة في دائرة الفقهاء العظام ـ أعلى الله كلمتهم ـ، وكل ذلك عبر الأدوات المعرفية الأصيلة والمتعارفة، ومفردة ولاية الفقيه ـ التي بلورها الإمام في قالب نظري عبر بحثه القيم (الحكومة الإسلامية)، وأخرجها من بطون الكتب إلى أرض الواقع ـ هي عصارة جهد الفقهاء على طول عصر الغيبة، بل إنه كان يشكل حلم الأنبياء وآل خاتمهم محمد(ص) وحلم كم ليس بقليل من الفقهاء، وإذا بالحلم يتحقق ويصبح حقيقة في إطار جمهورية إسلامية فتية.

ولاية الفقيه هي كما عبر عنها سماحة الإمام(رض) بأنها (من أعظم النعم الإلهية علينا في هذا العصر)، أو كما يعبر في موطن آخر بتعبير ملكوتي لطيف انساب على شفتيه الشريفتين بقوله (ولاية الفقيه هدية إلهية).

أهمية هذا البحث:

ويبقى أن لهذا النهج السياسي والفكري والأخلاقي ـ الذي يعبر عنه بـ (خط الإمام) أو (الإسلام المحمدي الأصيل) والذي هو نفس الإسلام وعين ما أراده أهل البيت بحسب فهم الإمام ـ أصول ومعالم ومرتكزات، وأهمية الاطلاع على هذه الأصول من باب (السائر على غير بصيرة لا تزيده كثرة المسير إلا بعداً) و(أول الطريق معرفته)، والإشارة هاهنا تأتي لبيان أهمية المعرفة، فبدون المعرفة لا يكون السلوك لأيّ طريق أو خط أيما كان، فكيف يمكن لمحبي سماحة الإمام(رض) الذين يمثلون السواد الأعظم من شيعة آل محمد(ص) اقتفاء نهجه بدون المعرفة؟! والتي يفتقدها للأسف الشديد كثير من خواص الأمة وعوامها من الذين أرادوا نهج الإمام بشكلٍ أو بآخر بدون معرفة كافية فأخطئوا الطريق وأضاعوه.

ويبقى أنّ للالتزام بهذا النهج درجات، فمنهم الملتزم بالأحكام الولائية والأحكام السياسية والاجتماعية للولي القائد واللجوء إليه حال الخصومات، ومنهم ـ إضافةً لذلك ـ من يصل إلى أعلى مراتب الالتزام بهذا النهج، وهو الذوبان بكل طاقته ووجوده في شخص ومشروع الولي الفقيه القائد، كما أوصى بذلك الشهيد السيد محمد باقر الصدر حيث قال: (ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام)، والمتأمّل في كلام السيد الشهيد يرى قمة الإخلاص في أنه دَمَجَ مشروعه وتلامذته وكل ما كان يملك في خدمة نهج الإمام، بل ولعل إبراز ما كان يتميز به السيد الشهيد هو هذا الإخلاص ـ بل قمة الإخلاص ـ حتى أنه لتكاد هذه الميزة تفوق نابغيته وفكره العملاق، حتى لكأن المرء يقف مبهوراً أمام قمة الإخلاص هذه أكثر مما يقف أمام تراث الشهيد الفكري والمعرفي وأن في ذلك درس وعبرة لكل الحركات الإسلامية وأربابها من المصلحين ولكل الباحثين عن الحقيقة دون تعصب أو مواراة.

إن أهمية مثل هذا البحث ـ الذي يرمي إلى تسليط الضوء على أهم معالم وأصول نهج الإمام ـ تكون في أن نتحاشى ما أمكننا المجتمعَ الأجوفَ الناتجَ عن فقدان المعرفة بالإسلام والرؤية التوحيدية له ولنهج الإمام(رض)، إن أي مجتمع محبّ لنهج الإمام وهو في الآن نفسه لا يقوم على المعرفة ـ وعندما نقول هنا المعرفة فإننا نقصد جوهر المعرفة وكلياتها لا جزئياتها فقط ـ لا يمكن أن يكون مجتمعاً (ولائياً) ولا مجتمعاً (توحيدياً)؛ لأن الحب لوحده ليس كافياً إذا لم يقترن بالمعرفة، وأول من يطالب بالمعرفة خواص الأمة قبل عوامها لكي يقوم الخواص بتصدير هذه المعرفة فيكون في النتيجة (مجتمعاً ولائياً) على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية منها وغيرها، ولا يخفى أن موضوع هذا البحث يخاطب الباحثين عن نهج الإمام المتعطشين لمعينه، حيث إن غير المسلم بصحة هذا النهج وضرورة اتباعه يحتاج إلى مقدمات عدة، وهذا البحث يتجاوز تلك المقدمات ولغة الاستدلال، فالمخاطب إذن هم محبو الإمام والباحثون عن نهجه المتمثل في الإسلام المحمدي الأصيل.

إذن فلنوغل قليلاً ولنقترب من هذه الأصول ولنستعرض بعضاً منها معتمدين بعون الله تعالى على كلمات وخطابات الإمام الراحل(رض) وتلميذه القيم على نهجه الإمام الخامنئي (حفظه المولى) فإليها.

المعلم الأول:

التكليف الشرعي محور العمل ودافعه:

ويتضح ذلك من كلمات سماحة الإمام(رض) ومواقفه التي كان يقول فيها: (نحن نعمل من أجل أداء التكليف الشرعي ولسنا معنيين بتحقيق النصر)، ولا يعني ذلك أن الإمام لم يكن يريد النصر أو أنه لا يتمناه، أو أنه(رض) لم يكن يخطط ويستعين بالإدارة ونظم الأمر كما يتصور البعض، وإنما ما أراده الإمام ورمى إليه هو أن الهدف من كل تحركاتنا وثورتنا ليس النصر، وأن العمل من عدمه ليس متوقفاً على النتيجة، بل إن العمل كل العمل كان متوقفاً على تعيين التكليف لا غير، ولو (بلغ ما بلغ) بتعبير الإمام.

كان منطق الإمام ومواقفه تجسد الآية الشريفة القائلة {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ}، فالعمل بالتكليف هو الغاية لا النصر، وغاية الغاية هو الله جل شأنه، حتى أنّ الإمام كان يؤكّد تكراراً ومراراً على أننا ليس من المهم أن ندرك النصر، فلتدرك الأجيال القادمة النصر، فمتى ما شاء الله أن ينزّل نصره على عبيده المؤمنين أنزله، ومما يذكر هاهنا أنّ أداء التكليف الشرعي لا يخلو من الصعاب والنكسات الظاهرية المادية، وبالتالي فإن أداء التكليف يتطلب الحزم والثبات الخالي من التردد على الإطلاق، وهذا ما كان يتسم به الإمام وحده في مسيرة الثورة، وقِلَّةٌ قليلةٌ معه ثتبت بثباته، حتى أن بعض المقربين من الإمام كثيراً ما كانوا يشكلون على الإمام أو يضغطون عليه أن خفّف من وطأة الثورة وحدّتها، وأن لا بد من المسايسة والمسايرة بعض الحين، لكنّ الإمام كان حازماً وكان يجيبهم دائماً أن مهمتنا هي الاستمرار في أداء التكليف الشرعي، بل كان يقول أحياناً: (إنني سأستمر بالعمل بالتكليف ولو بقيت وحدي دون ناصر).

وقد يأخذ التكليف الشرعي عدّة أشكال، وتشخيص ذلك راجعٌ للولي الفقيه القائد، فتارةً يأخذ شكل المواجهة والحرب كما كان في زمن الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية، وتارةً يأخذ شكل الصلح وتجرع مرارته وغصته كما كان في قبول الإمام بالقرار القاضي بإيقاف إطلاق النار وتوقف الحرب.

مصدر تحديد التكليف الشرعي:

والعمل بالتكليف والأخذ به من أهم أصول وأسس خط الإمام(رض)، بل هو أس الأسس، فلا بد من رعاية الدقة في أخذ التكليف الشرعي من قناته المقررة المتمثلة في الولي الفقيه، وهو في الوقت الحالي سماحة الإمام الخامنئي (دام عزه)، حيث تشخيص التكليف الشرعي بيده في شتى القضايا السياسية والاجتماعية، سواء كان ذلك بالأصالة أم بالتفويض، وأما ما يرتبط بالمسائل الفردية المحضة فهذا يرجع إلى المرجع الذي يرجع إليه المكلف في حال تقليده غير الولي، فكل مكلف يرجع إلى من يقلد ليأخذ منه تكليفه فيما يرتبط بالمسائل الفردية.

المعلم الثاني:

الامتزاج بين السياسة والعرفان:

الارتباط أو الامتزاج المشار إليه لا يقبل الانفكاك بأي حال من الأحوال في فكر سماحة الإمام وممارسته السياسية، بل في كل مواقفه، وحقيقة هذا البعد لا يقف عليها إلا المتتبع لمواقف الإمام وخطاباته بحيث لا يكاد يخلو خطاب من خطابات الإمام السياسية من النكات العرفانية، بل إن خطابات الإمام ومجمل مواقفه قائمة على الرؤية الكونية المبتنية والمتأثرة بالمدرسة العرفانية التي ينتمي إليها الإمام، والتي ينتمي إليها أيضاً الخلّص من تلامذته ممن فهموه بعمق وبصيرة كالشهيد مطهري(قده).

إن الامتزاج في منهج الإمام بين السياسة والأخلاق والعرفان هو الباعث على الثبات والسداد والحكمة في اتخاذ المواقف وإدارة الثورة والبلاد والمجتمع، وبدونه تضحى السياسة ـ إلى حد ما ـ غير موفقة وغير مسددة، وأدنى تأمل في مسيرة الثورة وسني الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية وبقاء الجمهورية الإسلامية إلى يومنا هذا يلمس بوضوح مدى التوفيق والتسديد الذي صاحب الإمام(رض) ولا زال يصاحب خليفته بالحق الإمام الخامنئي (دام عزه)، وأيضاً التوفيق والتسديد الذي صاحب حركة حزب الله لبنان، حيث نرى أن مثل هذا التوفيق والتسديد مما تفتقر إليه الحركات الإسلامية الأخرى، وهذا يدعو كل الحركات الإسلامية إلى الالتصاق والذوبان بنهج الإمام في هذا البعد وغيره لتدرك بعدها سر التوفيق والتسديد فيصاحبها بعدها في كل شؤونها.

وكنموذج للرؤية السديدة والبصيرة النافذة لسماحة الإمام(رض) نقول: إننا كثيراً ما نراه يؤكد ويكرر عبارته المعروفة في شتى المواقف السياسية والاجتماعية فيقول: (الخير فيما وقع)، وكان كثيراً ما يهتز ويرتبك حواريوه وتلامذته إلا الإمام، فإنه لم يكن يكتفي بالثبات فقط، ولم يكن يكتفي كونه جبلاً شامخاً في وسط العواصف السياسية وفقط، بل كان يردد ويقول بكل طمأنينة وبصيرة نافذة ونظرة ملكوتية يقتبسها من نور الله تعالى:(الخير فيما وقع)، وهذه العبارة بعد التأمل فيها لا تعني التفويض ـ أي تفويض الأمر لله تعالى والتوكل عليه والرضا بقضائه ـ وفقط، ولا تعني الوثوق بالخير المنظور مستقبلاً من هذه الواقعة أو تلك وفقط، بل مما تعنيه أيضاً أن الإمام كان يرى عين هذا الخير ونفس هذا الخير ويدركه وينظر إليه كما ينظر أحدنا إلى الشمس في رابعة النهار، ومما تعنيه أيضاً هذه العبارة أن الإمام كان يرى كل شيء وكل ما في الوجود خيراً حتى جهنم، وهذا كله أخذه من المدرسة العرفانية التي ينتمي إليها الإمام.

ومن ثمار هذا المزج بين السياسة والعرفان أن الإمام(رض) قد فتح فتحاً مبيناً في هذا المجال لم يسبقه إليه أحد، وذلك بأن جعل طريق العرفان في متناول الجميع من عشاقه ومحبيه كما يشير إلى ذلك الفقيه المتأله عبد الله الجوادي الآملي، فقبل مجيء الإمام كان العرفان حكراً على فئة معينة.

وقد تجلت ثمار هذا الفتح المبين للإمام الراحل بالشهداء وكانوا من أبرز مصاديقه، فالشهداء هم العرفاء، فلا يكون الشهيد إلا عارفاً، حتى أن الله تعالى يرزقهم مقام الشفاعة بعد الأنبياء والأولياء، وللإمام كلمات كثيرة في حق الشهداء على أنهم هم العرفاء الحقيقيون وأنهم لا ينالون مرتبة الشهادة إلا وكونهم عرفاء قد عرفوا الله حق معرفته، ويكفي التأمل في وصايا وكلمات الشهداء في سنوات الدفاع المقدس ـ مثال ذلك وصية الشهيد جمران ـ لنرى كيف أنهم مزجوا السياسة بالعرفان، وكانت الثمرة هي لقاء الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة، ذلك لم يكن ليحصل لو لا تأثرهم بالإمام وانتمائهم لنهجه المبارك، فلنقتفِ إذن آثارهم علنا نبلغ ما بلغوا.

ويبقى أن نشير في نهاية بيان هذا الركن الوثيق من أركان نهج الإمام السياسي إلى أن الإمام عند اختياره وانتخابه لأستاذه في العرفان فإنه اختار عارفاً شجاعاً يمارس السياسة بكل جرأة، فكان عرفانه(رض) عرفاناً متحركاً ممزوجاً بالسياسة.

هذا ما وفقت إليه، وسوف يلي ذلك بإذن الله تعالى الجزء الآخر من هذا البحث إذا ما وفقني الله سبحانه.

 

نحن نعمل من أجل أداء التكليف الشرعي ولسنا معنيين بتحقيق النصر.

الإمام الخميني (قده)


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا