مشكل تأخير البيان.. وحلُّه

مشكل تأخير البيان.. وحلُّه

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على محمّدٍ وآله.

مقدِّمةٌ (تحرير محلّ الكلام):

من جملة ما وقع محلاًّ للإشكال لدى الأصوليّين تأخُّر المخصِّصات كثيراً عن العمومات بعد حضور وقت العمل بها في كلمات المعصومين (عليهم السلام)؛ لأن الالتزام بالتخصيص في جميع ذلك يستلزم الالتزام بتأخير البيان عن وقت الحاجة، مع أنّ المفروض قبحه، ولا يمكن صدوره من المعصوم. وممّا أجيب به عن هذا المشكل أنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس على حذو قبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه، بل غايته أن يكون مثل قبح الكذب القابل لانفكاكه عنه؛ لوجود المصلحة المقتضية له، أو كان في تقديم البيان مفسدةٌ ملزمةٌ، وفي ضوء هذا فيتعين كون الخاصّ المتأخِّر الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام مخصِّصاً لا ناسخاً، وعليه فلا مشكل في تخصيص عمومات الكتاب والسنة الواردة في عصر النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بالمخصِّصات الواردة في عصر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)؛ حيث إنّ المصلحة تقتضي تأخيرها عن وقت الحاجة والعمل، أو كانت في تقديمها مفسدةٌ ملزمةٌ تمنع عنه(1). وممّا أجيب به عن هذا المشكل أيضاً ما أورده أحد الأساتيد (سلَّمه الله) من أنّ الخاصّ المنفصل بعد حضور وقت العمل بالعامّ هو مخصِّصٌ من حين وروده، لا من أول الأمر، والارتكاز العقلائيّ - والمتشرعيّ - على ذلك، وحكم العامّ إلى حين ورود المخصِّص فعليٌّ، وبناءً على ذلك فلا يرد محذور تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنّ حكم الخاصّ إنمّا هو في ظرفه، لا من أوّل الأمر، وذلك لا يعني أنه محكومٌ واقعاً بحكم العامّ كي يكون من باب النسخ، فهو تخصيصٌ أزمانيٌّ، وتأسيسٌ أفراديٌّ(2).

وثمَّة مشكلٌ آخر عامٌّ يواجه جملةً من الروايات - الّتي استفيدت منها أحكامٌ فقهيّةٌ-، وقد ألجأ هذا المشكل بعض الفقهاء إلى طرح مفاد تلك الروايات، وعدم الإفتاء بموجبها، أو إلى طرح تلك الروايات من الأساس، ويتمثَّل هذا المشكل في أنّ تأخُّر ورود حكم الواقعة في أصل الشريعة المقدَّسة، فلا يرد حكمها إلاّ من الأئمّة المتأخّرين، كالرضا والجواد (صلَّى الله عليه وآله)، مع كونها عامَّة البلوى - ممّا يستهجن أو يستبعد معه مثل هذا الحكم، ويعود الالتزام به صعباً جدّاً.

ومن الروايات المبتلاة بهذا المشكل - أو قيل بابتلائها به - ما يلي:

الأولى: ما دلَّ من الروايات على نجاسة الناصب، والّتي لم يرد شيءٌ منها عمّن قبل الصادقَين (صلَّى الله عليه وآله)، وعمدتها موثَّقة عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ في حديثٍ ـ قال: وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام، ففيها تجتمع غسالة اليهوديّ، والنصرانيّ، والمجوسيّ، والناصب لنا أهلَ البيت، وهو شرّهم؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإنّ الناصب لنا أهلَ البيت لأنجسُ منه(3).

الثانية: ما دلَّ من الروايات على نجاسة عرق الجنب من الحرام، والّتي لم يرد شيءٌ منها عمّن قبل الإمام الهادي (عليه السلام)، وكما في بعض الكلمات: (إنّ اختفاء هذا الحكم إلى زمان الهادي (عليه السلام)، وخلوّ الأخبار عن التعرُّض له من أقوى الشواهد على عدم النجاسة)(4)، وفي بعضٍ آخر: (وربما يُقال بحمل هذه الأخبار على الكراهة؛ لتأخُّر هذا الحكم، وعدم معروفيَّته قبل ذلك، وفيه: إنّ عدم المسبوقيَّة لا يدل على عدم الحكم)(5)، ومن تلك الروايات ما رواه الشهيد في (الذكرى)، قال: روى محمّد بن همّام بإسناده إلى إدريس بن يزداد الكفرثوثي (ابن زياد الكفرتوثي) أنّه كان يقول بالوقف، فدخل سُرَّ مَن رأى في عهد أبي الحسن (عليه السلام)، فأراد أن يسأله من الثوب الّذي يعرق فيه الجنب، أيصلّي فيه؟ فبينما هو قائمٌ في طاق بابٍ لانتظاره، إذ حرَّكه أبو الحسن (عليه السلام) بمقرعةٍ وقال - مبتدئاً -: إن كان من حلالٍ فصلِّ فيه، وإنْ كان من حرامٍ فلا تصلِّ فيه(6).

الثالثة: ما دلَّ من الروايات على ترخيص الإتمام في المواضع الّتي قال المشهور فيها بالتخيير بين القصر والإتمام - وهي رواياتٌ مستفيضةٌ، ولم يردْ شيءٌ منها عمّن قبل الصادق (عليه السلام)-، ومنها صحيحة حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن، حرم الله، وحرم رسوله (صلَّى الله عليه وآله)، وحرم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحرم الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)(7). وصحيحة مسمع، عن أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: كان أبي يرى لهذين الحرمين ما لا يراه لغيرهما، ويقول: إنّ الإتمام فيهما من الأمر المذخور.(8) وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمام بمكّة والمدينة، فقال: أتمّ، وإن لم تصلِّ فيهما إلاّ صلاةً واحدةً(9).

الرابعة: ما دلَّ من الروايات على وجوب الخمس في أرباح المتاجر والمكاسب، ولم يردْ شيءٌ منها عمّن قبل الصادقَين (صلَّى الله عليه وآله) من الأئمّة، وكما قال أحد الأعاظم (قدِّس سرُّه): (وإنْ تعجب فعجبٌ أنّه لم يوجد لهذا القسم من الخمس عينٌ ولا أثرٌ في صدر الإسلام إلى عهد الصادقَين (صلَّى الله عليه وآله)، حيث إنّ الروايات القليلة الواردة في المقام كلَّها برزت ـ وصدرت ـ منذ هذا العصر، أمّا قبله فلم يكن منه اسمٌ، ولا رسمٌ بتاتاً حسبما عرفت)(10)، منها موثَّقة سماعة، قال: سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس، فقال: في كلّ ما أفاد الناس، من قليلٍ أو كثيرٍ(11).

الخامسة: ما دلَّ من الروايات على حرمة نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن ولادةً ورضاعاً، وفي أولاد المرضعة ولادةً لا رضاعاً، ولم يردنا شيءٌ من هذه الروايات عمّن قبل الإمام الرضا (عليه السلام) من الأئمّة (عليهم السلام)، ومنها صحيحة عليّ بن مهزيار، قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني (عليه السلام): أنّ امرأةً أرضعتْ لي صبيّاً، فهل يحلّ لي أن أتزوج ابنة زوجها؟ فقال لي: ما أجودَ ما سألت، من ههنا يؤتى أن يقول الناس: حَرُمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره. فقلتُ له: الجارية ليست ابنة المرأة الّتي أرضعت لي، هي ابنة غيرها، فقال: لو كنَّ عشراً متفرّقاتٍ، ما حلَّ لك شيءٌ منهنّ، وكنَّ في موضع بناتك(12). وصحيحة عبد الله بن جعفر، قال: كتبتُ إلى أبي محمّدٍ (عليه السلام): امرأةٌ أرضعتْ ولد الرجل، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقَّع: لا تحلُّ له(13).

السادسة: ما دلَّ من الروايات على حرمان الزوجة من إرث الأرض عيناً وقيمةً، ومن إرث غيرها من العقار عيناً لا قيمةً، وهي رواياتٌ ادُّعي تواترها، ورغم التواتر المدّعى لم يردنا شيءٌ منها عمّن قبل الصادقَين (صلَّى الله عليه وآله)، ومنها صحيحة جميلٍ، عن زرارة، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال: «لا ترث النساء من عقار الأرض شيئاً»(14)، وصحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا ترث النساء من عقار الدور شيئاً، ولكن يُقوَّم البناء، والطوب، وتُعطى ثمنها، أو ربعها. قال: وإنمّا ذلك لئلا يتزوّجن، فيفسدن على أهل المواريث مواريثهم»(15)، وفي بعض الكلمات: (كيف يتصوَّر أن يكون حكم الله الواقعيّ هو عدم إرث الزوجة من الأرض شيئاً، وبالتالي صيرورة فرضه من الربع أو الثمن محدوداً في المنقولات من الثياب والمتاع دون القرى، والدور، والعقارات، ومع ذلك لا يذكر ذلك في كلمات النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)وعصره المديد، ولا في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) وقضاياه؟!.. مع ملاحظة أنّ هذه المسألة ليست من حقوق الله أو الإمام.. بل من حقوق الناس والورثة الآخرين- إلى أن قال:- فالمسألة ثبوتاً مشكلةٌ جدّاً.. بحيث يطمئن الإنسان بملاحظة مجموعة الجهات (وقد أوردها) أنّ المراد من هذه الروايات ليس ظاهرها الأوَّلي من حرمان الزوجات من العقار والأراضي عيناً وقيمةً(16).

ذلك هو المشكل، وهذه جملةٌ من موارده، ثمَّ إنّه للتفصِّي عن هذا المشكل نعرض - أولاً- إجاباتٍ عامَّةٍ عن المشكل بلا خصوصيَّةٍ لموارده، ونتناول - ثانياً - موارد هذا المشكل كلَّ موردٍ على انفرادٍ؛ لنتبيَّن حقيقة الحال فيها.

إجاباتٌ عامَّةٌ عن المشكل:

أمّا الإجابات العامَّة عن المشكل فهي كما يلي:

الإجابة الأولى: ما سلكها أحد الأعاظم (قدِّس سرُّه)(17) - تبعاً للشيخ الأعظم (رحمه الله)(18)- من تدريجيّة الأحكام، وجواز تأخير التبليغ عن عصر التشريع بإيداع بيانه من النبيّ إلى الإمام؛ ليظهره في ظرفه المناسب له حسب المصالح الوقتيّة الباعثة على ذلك، - مضيفاً أنّه - قد يظهر من بعض النصوص أنّ جملةً من الأحكام لم تنشر لحدّ الآن، وأنّها مودعةٌ عند وليّ العصر (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف)، وهو المأمور بتبليغها متى ما ظهر وملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

أقول: ويدلّ على ما أفيد - من تفويض التبليغ إلى الإمام (عليه السلام) ليظهره في ظرفه المناسب له حسب المصلحة الوقتيّة الداعية إليه - صحيحةُ الوشّاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سمعتُه يقول: «قال عليّ بن الحسين (صلَّى الله عليه وآله): على الأئمّة من الفرض ما ليس على شيعتهم، وعلى شيعتنا ما ليس علينا، أمرهم الله (عزَّ وجلَّ) أن يسألونا، قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(19)، فأمرهم أن يسألونا، وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا، وإن شئنا أمسكنا»(20). وتؤيِّدها روايته الأخرى، قال: سألتُ الرضا (عليه السلام) عن قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فقال: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون. قلتُ: فأنتم المسؤولون، ونحن السائلون؟ قال: نعم. قلتُ: حقٌّ(حقّاً) علينا أن نسألكم؟ قال: نعم. قلتُ: حقٌّ عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل، أما تسمع قول الله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(21)؟!»(22)، ويرشد إلى ذلك روايات ترخيص المسافر في إتمام الصلاة في المواضع الأربعة، الّتي تضمَّنت أنّ الإتمام من العلم المخزون، والأمر المذخور، وسيأتي- إن شاء الله سبحانه- التعرُّض إليها.

وقد أُورد(23) على هذه الإجابة بإيرادين:

الأوّل: (وهو يرجع إلى عدم المقتضي) أنّ ذلك مخالفٌ لتبليغ الأحكام، وأنّ دعوى اقتضاء المصلحة ذلك مجازفةٌ، فأيَّةُ مصلحةٍ تقتضي كون نوع الأحكام معطّلةً غير معمولٍ بها؟!

ويلاحظ عليه: أنّه لمَّا جاز تأخير بيان جملةٍ من الأحكام عن الصدر الأوّل ـ بحيث لم تُبيَّن من قِبل الرسول (صلَّى الله عليه وآله) إلاّ في المدينة مثلاً، كوجوب صوم شهر رمضان ـ جاز تأخير بيان جملةٍ منها عن زمن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) إلى أزمنة المعصومين (عليهم السلام)، والمصلحة المسوِّغة المتصوَّرة بالإضافة إلى الجملة الأولى متصورةٌ بالإضافة إلى الثانية، بلا فرقٍ بينهما، بل كيف لا تُتصوَّر مصلحةٌ مع أنّه قد وردنا أنّ جملةً من الأحكام لا يبلِّغها ويبيِّنها إلا الصاحب (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) بعد ظهوره؟! وما تأخير ذلك إليه إلا لمصلحةٍ لا محالة.

الإيراد الثاني: (وهو يرجع إلى وجود المانع) منافاة ذلك لقوله (صلَّى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: «معاشر الناس، ما من شيءٍ يقرِّبكم من الجنّة، ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيءٍ يقرِّبكم من النار، ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه»(24)، والقول بأن إيداعها لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) يكفي في رفع المنافاة كما ترى.

ويلاحظ عليه- نقضاً وحلاًّ -، أمّا النقض فإنّه لمَّا دلَّ الدليل على أنّ جملةً من الأحكام سيتم بيانها وتبليغها من قِبل الصاحب (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) - فيتعيَّن توجيه ما ورد عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في حجَّة الوداع بوجهٍ يتصوَّر به عدم المنافاة بينه وبين تأخير بيان تلك الأحكام إلى أزمنة المعصومين (عليهم السلام) بالأولويّة. وأمّا الحلّ فحيث إنّ الأحكام لم تبلَّغ لهم فهم معذورون، وعليه فما من شيءٍ يقرِّبهم إلى الجنَّة فيما هو فعليٌّ في حقِّهم إلا بلِّغوا إيّاه، وكذلك في ما نهوا عنه ممّا هو فعليٌّ في حقِّهم، وهو ما وصل صراط العمل.

والمحصَّلة هي تماميّة هذه الإجابة العامَّة عن المشكل.

الإجابة الثانية: ما يُستفاد ممّا ذكره أحد المحقّقين (قدِّس سرُّه)(25) من أنّ الأحكام الّتي وردت عن الأئمّة المتأخّرين - قد بيَّنها وبلَّغها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ولم يتمّ ضبطها إلاّ من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأودعها عند الأئمّة (عليهم السلام)، وإنمّا أُخِّر البيان إلى زمن الصادقَين (صلَّى الله عليه وآله)؛ لابتلاء ساير الأئمّة المتقدّمين عليهما ببليّاتٍ كثيرةٍ سُدَّ عليهم لأجلها بيان الأحكام، كما يشهد به التاريخ، فلمّا بلغ زمانهما اتّسع لهما المجال في برهةٍ من الزمان، فاجتمع العلماء والمحدِّثون عليهما، فانتشرت الأحكام، وانبثّت البركات، ولو اتّسع المجال لغيرهما ما اتّسع لهما لصارت الأحكام منتشرةً قبلهما، ـ وأضاف بأنّك ـ لو تأمّلتَ فيما ذكرنا، وتتبّعتَ الأخبار، لوجدت ما ذكرنا احتمالاً قريباً قابلاً للتصديق.

ويلاحظ عليها بأنّها خلاف ظاهر الروايات في أنّهم (عليهم السلام) مفوَّضٌ إليهم أمر التبليغ، فلو تمَّ تبليغ الأحكام كلِّها لم يكن معنى للتفويض والولاية.

الإجابة الثالثة: إنّ أسئلة الرواة كانت - على الأكثر- تعبيراً عن الحاجات الّتي يواجهونها مباشرةً، ويندر بالإضافة إلى بعض المسائل إحراز صغراها من غيرهم، فمن الجائز عدم ابتلاء رواة زمن الصادق (عليه السلام)- فعلاً - ببعض هذه المسائل، كنجاسة عرق الجنب من الحرام(26)، وحرمة نكاح أبي المرتضع في أولاد المرضعة وصاحب اللبن.

دراسة الموارد الستّة للمشكل:

وبعد عرض هذه الإجابات العامَّة عن المشكل، نأخذ في تناول الموارد المزبورة تباعاً.

* أمّا مسألة نجاسة الناصب، فبعد البناء على أنّ الناصب هو من يدين الله بعداوة أهل البيت (عليهم السلام)، ويعمد إلى إظهارها - فلا وجود لفردٍ له في زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، ولا في فترة الخلفاء غير المعصومين؛ فإنّ من أظهر عداءه لهم، وحاربهم، وناواهم، ما كان يدين الله بكلّ ذلك، بل كان منه ما كان إخلاداً إلى الأرض، واتّباعاً للهوى، وحبّاً للرئاسة، نعم، سلك من سلك التديُّن بعداوة أهل البيت (عليهم السلام) لمحض عداوةٍ بعض السلف لهم (عليهم السلام)؛ إذ يدور الأمر لديه بين نفض اليد عمّن عاداهم محبّةً لهم (عليهم السلام)، وبين التديُّن بلزوم طريقة السلف، والأخذ بها، واستمراء معاداتهم (عليهم السلام)، وقد اتّفق التديُّن بعداوة أهل البيت (عليهم السلام) في الشام البعيدة عن مركز الإشعاع الدينيّ الحقّ في زمن تخلُّف اللعين معاوية، وأمّا رعاع الشام ومساورتهم فلم تكن محلاًّ لابتلاء الرواة في الفترة السابقة لزمن الصادق (عليه السلام)، ولو لاختلاف المكان بين الرواة وأولئك الرعاع.

ولكن قد يُقال: بأنّه لا شاهد على اعتبار التديُّن بعداوتهم (عليهم السلام)؛ إذ ظاهر الأدلَّة أن الناصب هو مَن نصب العداء لهم، وأظهر بغضهم، مع التفاته إلى أنّهم آل محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا واضحٌ في عصر الخلفاء.

* وأمّا مسألة نجاسة عرق الجنب من الحرام فلعلّ طبيعة الجهة الخُلُقيَّة الهابطة فيها تحول دون تداولها، والسؤال عنها، ووزانها وزان مسألة تحقّق الجنابة بثقب الغلام، ووطء الدابَّة الّتي لم ترد فيها روايةٌ، ولعلّه للجهة المذكورة، وإن وردت رواياتٌ في حرمة الدابَّة الموطوءة، مع أنّها أكثر خسَّةً.

* وأمّا مسألة ترخيص المسافر في الإتمام في المواضع الأربعة المعهودة فإنّه لمَّا كان من العلم المخزون، والأمر المذخور- كما دلَّت عليه جملةٌ من الروايات- لم يخبر الأئمة (عليهم السلام) به إلاّ بعض أصحابهم، وخواصّ شيعتهم، بل أمروا أصحابهم بالتقصير مخافةَ وقوعهم في خلاف التقيّة، فإنّ من لاحظ الروايات الواردة في المواضع الأربعة يظهر له بوضوحٍ أنّ المتعارف بين الناس كان هو القصر دون الإتمام، ومعه فلا موضع لاستهجان أو استبعاد الإتمام فيها للمسافر؛ لأجل عدم تعرُّض مَن قبل الصادق (عليه السلام) من الأئمّة إليه.

* وأمّا مسألة وجوب الخمس في أرباح المتاجر والمكاسب فلعلّ تأخير بيانها لمصلحةٍ(27)- كما تقدَّم في الإجابة الأولى من الإجابات العامَّة- من قبيل: عدم طاقة مسلمي الصدر الأول لتحمُّل مثل هذا الحكم الشاقّ زيادةً على ما كانوا يؤدّونه من الزكوات(28)، ولعلّ عدم شيوعها لكونها على خلاف العامَّة(29)، خصوصاً وأنّ مصرف الخمس ليس عموم فقراء المسلمين، بل خصوص الإمام (عليه السلام)، ومساكين بني هاشم، وإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)- فضلاً عن غيره من المعصومين (عليهم السلام)- لم تكن مورد قبولهم، بل لم يبايعوا الأمير (عليه السلام) بصفته إماماً لهم، بل بعنوان الخليفة للنبيّ، على غرار غيره ممّن سبقه(30)، ولعلّ إظهار ثبوت الخمس في هذا المورد في مصلحة حكَّام الجور؛ لأنّ الخمس للإمام (عليه السلام)، فيستغلُّه حاكم الجور؛ لكونه يدَّعي الإمامة، ويأخذه من الناس لنفسه، ويعطي بعضه بعض فقراء بني هاشم ممّن يختاره، كما يحتمل أنّ هذا القسم من الخمس وظيفةٌ حكوميّةٌ وولائيّةٌ جُعلت من قبل الأئمّة المتأخّرين (عليهم السلام) حسب الاحتياج، حيث كانت الزكوات - ونحوها - في اختيار خلفاء الجور، ولذلك ترى الأئمّة (عليهم السلام) محلّلين للخمس تارةً، ومطالبين به أخرى(31)، هذا وفي بعض الكلمات: (والإنصاف أنّه لم يتّضح لدينا بعدُ ماذا كانت الحالة عليه في عصره (صلَّى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى أخذ هذا النوع من الخمس وعدمه، كيف؟! والعهد بعيدٌ، والفصل طويلٌ، وقد تخلّل بيننا عصر الأمويّين الّذين بدَّلوا الحكومة الإسلاميّة حكومةً جاهليّةً، ومحقوا أحكام الدين، حتىّ أنّ كثيراً من الناس لم يعرفوا وجوب الزكاة الثابت بنصّ القرآن، كما يحكيه لنا التاريخ والحديث، بل في صحيح أبي داوود، وسنن النسائيّ أنّ أكثر أهل الشام لم يكونوا يعرفون أعداد الفرائض، وعن ابن سعدٍ في الطبقات أنّ كثيراً من الناس لم يعرفوا مناسك حجّهم، وروى ابن حزمٍ عن ابن عبّاسٍ أنّه خطب في البصرة، وذكر زكاة الفطرة، وصدقة الصيام، فلم يعرفوها، حتّى أمر من معه أن يعلِّم الناس، فإذا كان الحال هذه بالإضافة إلى مثل هذه الأحكام الّتي هي من ضروريّات الإسلام، ومتعلِّقة بجميع الأنام، فما ظنّك بمثل الخمس الّذي هو حقٌّ خاصٌّ[للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله)]، ولقرابته؟! ولم يكن من الحقوق العامّة كما في الزكاة، بل لخصوص بني هاشم - زادهم الله عزّاً وشرفاً -. فلا غرابة إذن في جهلنا بما كان عليه أمر الخمس في عصره (صلَّى الله عليه وآله) أخذاً وصرفاً. إلاّ أنّ هذا كلَّه لا يكشف عن عدم الوجوب، وعدم الوصول لا يلازم عدم التشريع بعد أن نطق به الكتاب العزيز، والسنّة المتواترة ولو إجمالاً..)(32).

ثمّ إنّ العامَّة قد رووا عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وجوب الخمس في هذا النوع، ففي صحيح البخاريّ- بستّة أسانيد-، وصحيح مسلم، عن ابن عبّاس، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله [(صلَّى الله عليه وآله)]، (قال: مرحباً بالوفد الّذين جاؤوا غير خزايا، ولا ندامى). فقالوا: إنَّا هذا الحيّ من ربيعة (قد حالت بيننا وبينك كفَّار مضر)، ولسنا نصل إليك إلاّ في الشهر الحرام، فمرنا بشيءٍ نأخذه عنك، وندعو إليه مَن وراءنا، فقال: آمركم بأربعٍ، وأنهاكم عن أربعٍ؛ الإيمان بالله، ثمّ فسّرها لهم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدُّوا (لله/إليَّ) خمس ما غنمتم..(33). والمقصود خمس الأرباح والمتاجر، لا خمس غنائم دار الحرب؛ لعدم فرض حربٍ وغزوٍ، بل صرَّحت الرواية بأنّ هؤلاء لا يستطيعون الوصول إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) إلاّ في الشهر الحرام؛ لحيلولة كفَّار مضر، فلا غنيمة حرب؛ إذ لاحرب. وثمَّة كتبٌ وعهودٌ لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وجَّه بها إلى جملةٍ من القبائل تتضمَّن لزوم أداء حقّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، أو حظّ الله، وحظّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، أو الخمس من المغنم في عرض إيتاء وإعطاء الزكاة(34).

* وأمّا مسألة حرمة نكاح أبي المرتضع في أولاد المرضعة وصاحب اللبن فقد تناولتُها بنحوٍ مبسوطٍ في رسالةٍ منشورةٍ(35)، ومحصَّل ما يرتبط بالجهة المبحوث عنها هنا - إضافةً للإجابتين العامَّتين الأولى والثالثة- هو: أنّ هذا النكاح لم يثبت شياعه ودورانه بنحوٍ يُعدُّ من المستهجن عدم التعرُّض له، ولعلَّه صدرت نصوصٌ فيه لم تصلْ إلينا.

* وأمّا مسألة حرمان الزوجة من إرث الأرض عيناً وقيمةً، ومن إرث غيرها من العقار عيناً لا قيمةً - فهي وإن كانتْ محلاًّ للابتلاء - وبكثرةٍ كاثرةٍ - إلاّ أنّ تواتر رواياتها الإجماليّ - على الأقل- مع وضوح دلالتها على أصل الحرمان المذكور، بضميمة الإجابة العامَّة الأولى أو الثانية- يدفع استهجان - أو استبعاد - مثل هذا الحكم؛ لتأخُّر بيانه، ثمّ إنّ رواية عبد الملك(36) قال: دعا أبو جعفر (عليه السلام) بكتاب عليٍّ (عليه السلام)، فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويّاً، فإذا فيه: إنّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل (إذا توفّي عنهنّ) شيءٌ، فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا واللهِ خطُّ (خطَّه) عليٍّ (عليه السلام) بيده، وإملاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)(37)- وإن كانت قاصرةً سنداً، إلاّ أنّها تصلح مؤيِّداً لورود هذا الحكم عن الأمير (عليه السلام)، بل وعن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، وإن كان هذا الورود لا يؤذن بتبليغه من قبلهما.

والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله.

 

* الهوامش:

(1) لاحظ أجود التقريرات1: 508، ومحاضراتٌ في أصول الفقه5: 321.

(2) وهو من إفادات سماحة العلاّمة الأستاذ السيّد منير الخبَّاز(سلَّمه الله)، وقد كتب ذلك إليّ، ونقل بأنّه ذكره في بحث الخاصّ والعامّ. ولم أحضره عنده؛ إذ كان تتلمذي عليه من بداية مبحث الإجماع.

(3) الوسائل1: 220 (ك الطهارة)، ب11، من أبواب الماء المضاف والمستعمل، ح5.

(4) مدارك العروة الوثقى2: 163- 164، لآية الله الشيخ يوسف الحائريّ الخراسانيّ البيارجمنديّ (قدِّس سرُّه).

(5) دليل العروة الوثقى1: 521، للحجّة الشيخ حسين السعيد، تقريراً لبحث آية الله الشيخ حسين الحلِّي (قدِّس سرُّه).

(6) الوسائل3: 447 (ك الطهارة)، ب27، من أبواب النجاسات، والأواني، والجلود، ح12.

(7) الوسائل8: 524 (ك الصلاة)، ب 25، من أبواب صلاة المسافر، ح1.

(8) الوسائل8: 524 (ك الصلاة)، ب 25، من أبواب صلاة المسافر، ح2.

(9) الوسائل8: 525 (ك الصلاة)، ب25، من أبواب صلاة المسافر، ح5.

(10) مستند العروة الوثقى(ك الخمس) = موسوعة الإمام الخوئيّ25: 197.

(11) الوسائل9: 503 (ك الخمس)، ب8، من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح6.

(12) الوسائل20: 391 (ك النكاح)، ب6، من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح10.

(13) الوسائل20: 404 (ك النكاح)، ب16، من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح2.

(14) الوسائل26: 208 (ك الفرائض والمواريث)، ب 6، من أبواب ميراث الأزواج، ح6.

(15) الوسائل26: 208 (ك الفرائض والمواريث)، ب6، من أبواب ميراث الأزواج، ح7.

(16) مجلّة فقه أهل البيت (عليهم السلام)- العدد45، ميراث الزوجة من العقار، لسماحة السيّد محمود الهاشميّ الشاهروديّ (سلَّمه الله): 35- 36.

(17) مستند العروة الوثقى(الخمس)= موسوعة الإمام الخوئيّ25: 197- 198.

(18) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاريّ5: 148، ولاحظ الرسائل للإمام الخمينيّ (رسالة في التعادل والترجيح)2: 25.

(19) سورة النحل: 43، سورة الأنبياء (عليهم السلام):7.

(20) الوسائل27: 64 (ك القضاء)، ب7، من أبواب صفات القاضي، ح9.

(21) سورة ص: 39.

(22) الوسائل27: 64 (ك القضاء)، ب7، من أبواب صفات القاضي، ح8.

(23) الرسائل للإمام الخمينيّ2: 26.

(24) الكافي2: 74 (ك الإيمان والكفر، ب الطاعة والتقوى، ح2)، الوسائل17: 44 (ك التجارة)، ب12 من أبواب مقدّمات التجارة، ح2.

(25) لاحظ الرسائل للإمام الخمينيّ2: 27، ومصبّ كلامه وإن كان هو تأخّر المخصِّصات والمقيِّدات وسائر الصوارف – إلاّ أنّه شاملٌ لما نحن فيه، كما لا يخفى على مَن راجعه بطوله.

(26) بحوث في شرح العروة الوثقى للشهيد الصدر (قدِّس سرُّه)4: 7- 8.

(27) مستند العروة الوثقى(الخمس)= موسوعة الإمام الخوئيّ25: 197- 198.

(28) دليل تحرير الوسيلة للحجّة الشيخ علي أكبر السيفيّ المازندرانيّ 1: 145.

(29) مهذَّب الأحكام11: 432- 433.

(30) دليل تحرير الوسيلة1: 145.

(31) كتاب الخمس للفقيه المنتظريّ: 202، وإن استبعد هو هذا الاحتمال باستدلال الأئمة (عليهم السلام) في هذا الباب بآية الخمس، وتطبيقهم إيّاها عليه.

(32) مستند العروة الوثقى (الخمس)= موسوعة الإمام الخوئيّ25: 199- 200، وقريبٌ منه في تفصيل الشريعة (الخمس والأنفال): 110- 111.

(33) صحيح البخاريّ1: 133، 2: 109، 4: 44و157، 5: 116، 7: 114، صحيح مسلم1: 35.

(34) وقد استقصاها ورصدها المرحوم السيّد مرتضى العسكريّ في كتابه معالم المدرستين (مقدّمة مرآة العقول1: 101- 107)، منها كتاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، وكتابه لسعد هذيم من قضاعة وإلى جذام، وكتابه لمالك بن أحمر الجذاميّ، ولمن تبعه من المسلمين، وكتابه للفجيع، ومن تبعه، وكتابه للأسبذيّين ملوك عمان مَن منهم بالبحرين، وكتابه لمن أسلم من حدس ولخم، وكتابه لجنادة الأزديّ، وقومه، ومن تبعه، وكتابه لبني معاوية بن جرول الطائيّين، وكتابه لجهينة بن زيد، وكتابه لبني ثعلبة بن عامر، وكتابه لبني زهير العكليّين، وكتابه لبعض أفخاذ جهينة، وكلّ هذه العهود والكتب مرويّةٌ في كتب العامَّة، فراجع.

(35) نشرتْ في مجلة «رسالة القلم»، العدد14، الصادرة في ربيع الثاني 1429 هـ بقمّ المقدَّسة.

(36) لتردُّد عبد الملك بين الثقة وغيره، وإن كان جُلّ رجال السند ثقات بما في ذلك الحسين وأبو مخلَّد، فإنّ الحسين هو الحسين بن أبي العلاء الثقة الّذي يروي عن أبي مخلَّد، وأبو مخلَّد هو السرَّاج الثقة برواية صفوان بن يحيى عنه، وأمّا عبد الملك فهو مردّدٌ بين عبد الملك بن أعيَن الثقة، وعبد الملك بن عتبة الهاشميّ الّذي لم تثبت وثاقته؛ إذ هما الراويان عن الباقر (عليه السلام)، وليس المراد منه عبد الملك بن عتبة النخعيّ الثقة، فإنّ لفظ عبد الملك وإن كان ينصرف إليه؛ لأنّه صاحب الكتاب، إلاّ أنّه لا يروي عن الباقر (عليه السلام).

(37) الوسائل26: 212 (ك الفرائض والمواريث)، ب6، من أبواب ميراث الأزواج، ح 17.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا