ما يتحلّل به الصرورة من إحرام الحجّ

ما يتحلّل به الصرورة من إحرام الحجّ

مقدّمة

نسب في المدارك والحدائق والمعتمد على المناسك إلى المشهور تخيير الصرورة بين الحلق والتقصير(1)، ولكن تعيّن الحلق عليه هو المشهور بين القدماء، فقد ذهب إليه الصدوق في المقنع، والمفيد في المقنعة، والحلبيّ في الكافي(2)، وابن حمزة في الوسيلة(3)، والشيخ في جملة من كتبه كالمبسوط(4)والتهذيب(5)والنهاية(6)، وابن الجنيد كما حكي عنه(7)، بينما صار المرتضى في الجمل إلى التخيير(8)، وتوقَّف ابن البراج في المهذب في تعيِّن الحلق(9)، لذا فالأدقّ ما عبّر به المحقق النراقي (قدِّس سرُّه) من كون القول بتعيّن الحلق مختار جماعة من أعاظم القدماء(10).

بل لا ينبغي القول بأن التخيير هو المشهور بين علمائنا أجمع؛ لعدم كون القائل بتعيِّن الحلق شاذّاً نادراً، نعم القول بالتخيير هو الأشهر بين خصوص المتأخّرين.

وأما العامَة فقد أطلقوا التخيير بين الحلق والتقصير، ويشهد

لإرادتهم الإطلاق ما في المغني:

"وهو مخيّر بين الحلق والتقصير أيّهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ التقصير يجزئ، يعني في حقّ من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه، إلا أنّه يروى عن الحسن -يعني الحسن البصري- أنَه كان يوجب الحلق في أول حجَّة حجَّها، ولا يصٌّح هذا؛ لأن اللّه تعالى قال: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}"(11).

الأصل اللفظي:

أفاد السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه) بأن التخيير بين الحلق والتقصير هو مقتضى إطلاق قوله سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِين...}(12). فالقول بلزوم الحلق يحتاج إلى دليل آخر(13).

ويلاحظ عليه -حتى لو تمّ ما أفاده من تقريب للآية على مدّعاه من التخيير، وسنعرضه لاحقاً إن شاء الله- أنّ الآية ليست بصدد البيان من جهة وظيفتهم من الحلق والتقصير، فلا ينعقد للآية إطلاق من هذه الجهة، ومنه يعرف الجواب عمّا ذكره العلّامة في المختلف انتصاراً للتخيير، قال: "وليس المراد الجمع -أي الجمع بين التقصير والحلق-، بل إما التخيير أو التفصيل -أي أنّ الحلق وظيفة بعضٍ كالصرورة، والتقصير وظيفة بعضٍ آخر-، والثاني بعيد؛ وإلا لزم الإجمال، فتعيّن الأول"(14)؛ فإن محذور الإجمال إنما يلزم لو كانت الآية بصدد البيان من هذه الجهة. ولو انعقد للآية إطلاق فلا يخرج عنه إلا إذا تمّ دليل على تعيِّن الحلق ولم يمنع منه مانع، فالكلام في مقامين: مقام وجود المقتضي لذلك، ومقام وجود المانع عنه.

حجَّة تعُّين الحلق:

ففيما يرجع إلى وجود المقتضي لتعيُّن الحلق فإنّ عمدة ما يمكن الاستدلال به ما يلي:

ألف: صحيحة معاوية عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «ينبغي للصرورة أن يحلق، وإن كان قد حجّ فإن شاء قصّر وإن شاء حلق، فإذا لبّد شعره أو عقص فإنّ عليه الحلق، وليس له التقصير»(15).

بتقريب أن كلمة «ينبغي» في نفسها وإن كانت لا تدلّ على الوجوب إلا أنّ مقابلتها بقوله «وإن كان قد حجّ فإن شاء قصّر وإن شاء حلق» تقتضي الوجوب، فيظهر من هذه الجملة أن التخيير لا يتناول الصرورة، وإلا فلا معنى للمقابلة.

وأما حمل «ينبغي» هنا على الاستحباب أو على مرتبة عالية منه (16) فبعيدٌ؛ لأن استحباب الحلق بل تأكّده ثابت في حقّ غير الصرورة أيضاً.

وقد ذكر أنّ ذيل الصحيحة مانع عن ظهور كلمة « ينبغي » في الوجوب؛ فإن ظاهر قوله: «فإذا لبّد شعره أو عقصه فإن عليه الحلق، وليس له التقصير» أنّ غير الملبّد والمعقوص وإن كان صرورةً لا يتعيّن عليه الحلق، وإلا لم يكن وجهٌ للتقسيم الثلاثي، فتحمل كلمة «ينبغي» في جملة «ينبغي للصرورة أن يحلق» على تأكّد الاستحباب في حقه(17)، ولا أقل من احتفافها بما يصلح للقرينية على الخلاف، فلا ظهور لها في التعيّن والإلزام.

ويتوجّه عليه أنّ ظاهر السياق كون ما ذكر في الذيل تفريعاً على القسم الثاني، فالقسمة ثنائية لا أنّه قسيم للقسم الأول لتعود القسمة ثلاثية، فكأنه أفاد بأن وظيفة الصرورة الحلق، وغيره مخيّر بينه وبين التقصير إلا أن يكون ملبّداً أو مقعوص الشعر، وعليه فالصحيحة تامّة الدلالة على تعيّن الحلق على الصرورة.

باء: روايات البطائني الثلاث، إحداها: ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد -وهو ابن أبي نصر البزنطي- عن عليّ -وهو ابن أبي حمزة البطائني- عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «على الصرورة أن يحلق رأسه ولا يقصّر، إنما التقصير لمن قد حجّ حجّة الإسلام»(18).

والثانية: ما رواه الكليني عن العدّة عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمّد عن علي بن أبي حمزة عن أحدهما (عليهما السلام) -في حديث- قال: «وتقصّر المرأة، ويحلق الرجل، وإن شاء قصّر إن كان حجّ قبل ذلك»(19).

والثالثة: ما رواه الكليني أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سألته عن رجل جهل أن يقصّر من رأسه أو يحلق حتى ارتحل من منى، قال: «فليرجع إلى منى حتى يحلق شعره بها أو يقصّر، وعلى الصرورة أن يحلق»(20).

ورواها الصدوق بإسناده عن علي بن أبي حمزة.

ولا يعيب هذه الروايات سنداً إلا اشتمالها على البطائني فإذا لم يحرز كون رواياته هذه أو بعضها سابقة على ابتداعه الوقف وأنه كما يحتمل روايته لها قبل الوقف يحتمل روايته لها بعده فتكون كرواية المشترك بين الثقة وغيره في رفضها وعدم الأخذ بها.

بيان ذلك: أنّ عليّ بن أبي حمزة البطائني كان ثقةً قبل وقفه، وهذا -لعله- مما لا شبهة فيه، ثمّ إنّه أظهر الوقف وكان رأسه وأول من أظهر هذا الاعتقاد وابتدعه وافتراه بلا شبهة عنده، فيعود ببدعته كاذباً فاجراً، قال الشيخ (رحمه الله) في كتاب الغيبة: "وقد روي السبب الذي دعا قوماً إلى القول بالوقف، فروى الثقات أنّ أول من أظهر هذا الاعتقاد عليّ بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي، طمعوا في الدنيا، ومالوا إلى حطامها، واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال..."(21)، بل أخبر الإمام (عليه السلام) بكذبه، ففي كتاب الغيبة أيضاً: "وروى أحمد بن محمد بن عيسى -وبعض طرق الشيخ إليه معتبرة- عن سعد بن سعد عن أحمد بن عمر قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول في ابن أبي حمزة: أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يهدى إلى عيسى بن موسى، وهو صاحب السفياني، وقال: إن أبا إبراهيم (عليه السلام) يعود إلى ثمانية أشهر، فما استبان لهم كذبه؟!"(22)، وعليه فما لم يحرز كون روايته في ظرف وثاقته فلا يمكن التعويل عليها.

ثم إنّ من طرق إحراز كون روايته سابقة على وقفه وفي ظرف وثاقته كون الراوي عنه في سند الرواية أحد أجلاء الإمامية؛ فإن الطائفة قد جانبت مثل البطائني من رؤوس الواقفة، وسمّوهم بالكلاب الممطورة(23)، كناية عن ضرورة مجانبتهم وكمال الاحتراز عنهم وتحاشيهم(24)، بل في الرواية عن الرضا (عليه السلام) نهيٌ عن مجالستهم، ففي رجال الكشّي بإسناده عن محمد بن عاصم قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «يا محمّد بن عاصم، بلغني أنّك تجالس الواقفة؟ قلت: نعم -جعلت فداك- أجالسهم وأنا مخالف لهم، قال: لا تجالسهم..»(25)، فإذا ما روى عن البطائني مثل عليّ بن الحكم -الذي قال في شأنه الشيخ (رحمه الله) في الفهرست: "ثقة جليل القدر"(26) -كشف ذلك عن كون روايته عنه قبل وقفه، وعليه فتدخل الرواية الثالثة للبطائني في حريم الاعتبار، بخلاف رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عنه، فإن أحمد وإن كان -كما قال الشيخ في رجاله- "ثقة جليل القدر"(27)، إلا أنه قال بالوقف وإن رجع عنه، كما قال في كتاب الغيبة: "ولأجلها -يعني ما ظهر من المعجزات على يد الرضا (عليه السلام) الدالّة على صحّة إمامته- رجع جماعة من القول بالوقف... مثل أحمد بن محمد بن أبي نصر والحسن بن علي الوشّاء وغيرهم ممن قال بالوقف، فالتزموا الحجّة، وقالوا بإمامته وإمامة من بعده -إلى أن قال (عليه السلام) متحدّثاً عن أحمد بن محمد بن أبي نصر- وهو من آل مهران، وكانوا يقولون بالوقف، وكان على رأيهم"(28)، ومعه فلا وثوق لنا بكون روايته عن البطائني في ظرف وثاقته، فلا تدخل الروايتان الأولى والثانية للبطائني في حريم الاعتبار.

هذا كلّه فيما يرجع إلى سند هذه الروايات، وأمّا دلالتها على تعيّن الحلق على الصرورة فهي ظاهرة، ولكن أشكل على دلالة الرواية الأولى بأنّ موضوع التقصير من حجّ سلفاً وإن لم تكن حجّته حجّة الإسلام، فمقابل الصرورة هو مطلق من حجّ لا خصوص من حجّ حجّة الإسلام(29).

ويرد عليه أنه لما كان موضوع التقصير مطلق من حجّ فلا محالة يحمل قيد (حجّة الإسلام) على الغلبة؛ إذ الغالب في الحجّ الأول كونه حجّ الإسلام؛ فإن كبرى كون القيد الوارد مورد الغالب لا ظهور له في الاحتراز وإن كانت ممنوعة، حيث إن قيد ( الدخول) في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ...}(30) وإن كان أمراً غالبياً؛ إذ قلّما يتفق عدم الدخول بها إلا أن الأصل احترازيتها، ولكن خرجنا عنه في قيد {اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} للأدلّة الدالّة على أنّ حرمة الربائب لا تختصّ بمن كان في الحجور، ولولا هذه الأدلّة لالتزمنا باحترازية هذا القيد رغم غلبته، فكذا الحال في قيد (حجّة الإسلام)، فالرواية تامّة الدلالة.

بقيّة روايات المسألة:

وثمّة روايات قد استدلّ بها على تعيّن الحلق على الصرورة وهي:

رواية أبي سعد (سعيد) -المردّد بين القمّاط الثقة والمكاري غيره- عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «يجب الحلق على ثلاثة نفر: رجل لبّد، ورجل حجّ بدءاً لم يحجَّ قبلها، ورجل عقص رأسه»(31).

وما رواه الشيخ بإسناده عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل برأسه قروح لا يقدر على الحلق، قال: «إن كان قد حجّ قبلها فليجزّ شعره، وإن كان لم يحجّ فلا بدّ له من الحلق»(32).

واشتمالها على ما لايمكن الالتزام به وهو لزوم الحلق وإن كان ضرريّاً أو حرجياّ لا يوجب سقوط الرواية رأساً عن الحجيّة، فإنّ لذيلها مدلولين، أحدهما: أن الحلق وظيفة الصرورة، وثانيهما: أنّه لازم في مورد الحرج أو الضرر، فإذا سقط المدلول الثاني عن الحجّية فلا يقتضي ذلك سقوط الأول عنها؛ فإن التبعيض في المداليل من حيث الحجّية غير عزيز في الفقه.

نعم هي ساقطة سنداً؛ لاشتمال طريق الشيخ (رحمه الله) إلى عمرو بن سعيد في الفهرست على ابن أبي جيّد، ولم يوثّق، ولا يجدي في توثيقه كونه من مشايخ النجاشي؛ فإنّ أقصى ما يفيده قوله في محمّد بن عبدالله بن محمّد بن عبدالله بن البهلول مثلاً: "وكان في أول أمره ثبتاً ثم خلط، ورأيت جُلَّ أصحابنا يغمزونه ويضعفونه... رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً،  ثمّ توقّفت عن الرواية عنه إلا بواسطة بيني وبينه"(33)، أنّه لا يروي عن المغموز فيه من قبل جُلّ المشايخ، وهو أخصّ من مطلق الضعيف فقد يروي إذاً عن الضعيف غير المغموز فيه كثيراً، نعم لا يعيب الطريق اشتماله على موسى بن جعفر البغدادي؛ فإنّه وإن لم يوثّق بالخصوص إلا أنّه من مشايخ ابن يحيى ولم يستثنه ابن الوليد، فهو ثقة على المختار.

ورواية بكر بن خالد -المجهول الحال- عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «ليس للصرورة أن يقصّر وعليه أن يحلق»(34).

ورواية سليمان بن مهران -في حديث- أنه قال لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف صار الحلق على الصرورة واجباً دون من قد حجّ؟ قال: «ليصير بذلك موسماً بسمة الآمنين، ألا تسمع قول الله عزّ وجلّ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ...}»(35).

فتحصّل أن عمدة الدليل على تعيّن الحلق على الصرورة هو صحيحة معاوية ومعتبرة أبي بصير، وأمّا بقيّة روايات المسألة فلمّا كانت مخدوشة السند فسبيلها التأييد.

جيم: ثمّ إنّ هنا وجهاً مستقلاً لتعيّن الحلق على الصرورة حتى لو تمّت المناقشة في دلالة أو سند ما تقدّم من روايات المسألة، وهو أنّه لما كان التامّ دلالةً من هذه الروايات كثيراً فإن نفس كثرته تورثنا الوثوق بصدور بعضها عن المعصوم (عليه السلام) سيّما مع إفتاء مشهور القدماء -كما عرفت- بمضمونها، وإن كانت الشهرة في مثل مسائل الحجّ التي يراعى فيها الاحتياط لا تكون بمجردها جابرة.

 

أدلّة التخيير:

وبعد ما عرفت من تمامية المقتضي على تعيّن الحلق على الصرورة فقد ذكر أمران كمانع عن تعيّن الحلق:

الأول: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إذا أحرمت فقعصت شعر رأسك أو لبّدته فقد وجب عليك الحلق، وليس لك التقصير، وإن أنت لم تفعل فمخيّرٌ، لك التقصير، والحلق أفضل، وليس في المتعة إلا التقصير»(36)، ونحوها ما استطرفه ابن ادريس من نوادر البزنطي عن الحلبي(37). فقد دلّتا على عدم تعيّن الحلق على غير الملبّد والمعقوص شعره وإن كان صرورة.

ويتوجّه عليه أن دلالة الصحيحة على عدم تعيّن الحلق على الصرورة إنما هو بالإطلاق، فنرفع اليد عنه ببدله أحد وجوه تعيّن الحلق الثلاثة(38).

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ...}(39).

وقد قرّب أحد الأعاظم هذا المانع في مقدّمتين:

الأولى: أنّ الآية واردة في نسك الحجّ، بتقريب أنّ الله تعالى وعد المسلمين بدخول المسجد الحرام حال كونهم محلّقين ومقصّرين، أي يدخلونه وهم بين محلِّق ومقصّر، وهذا لا ينطبق إلا على دخولهم المسجد الحرام بعد الفراغ من أعمال ومناسك منى، وأما دخولهم الأول إلى المسجد الحرام لأداء عمرة التمتّع أو العمرة المفردة أو حجّ القران أو الإفراد فلم يكونوا محلّقين ومقصّرين حين الدخول.

الثانية: أنّ من حجّ من المسلمين مع النبي (صلّى الله عليه وآله) في تلك السنة كانوا صرورة، إذ لم يحجّوا قبل ذلك، ومع ذلك خيّرهم  الله تعالى بين الحلق والتقصير(40).

إذن مقتضى الآية تخيير الصرورة بين الحلق والتقصير، وهو مانع من الأخذ بالروايات الظاهرة في تعيّن الحلق عليه.

ويلاحظ عليه -مضافاً إلى ما تقدّم من منع كون الآية في مقام البيان من جهة الوظيفة الشرعية حلقاً أو تقصيراً- منع كلتا المقدّمتين:

أمّا الأولى فلما يلي:

أولاً: لا نسلّم أن الموعود به هو دخولهم حال كونهم محلّقين ومقصّرين، بل الآية تعدهم بأمرين بدخولهم المسجد الحرام آمنين وبإتمام النسك إلى آخره، حيث إنّ آخره الحلق أو التقصير كما في العمرة المفردة، بأن لا يتكرر ما حدث في صلح الحديبية(41)، ولو لم يكن هذا هو ظاهر الآية فلا أقل من أنه احتمال فيها يمنع من الاستدلال بها على التخيير. ثم إنّه يشهد لعدم كون الآية واردة في الحجّ بل في العمرة المفردة ما ذكره المفسّرون من الخاصّة والعامّة وكذا المؤرّخون من أن الآية واردة في عمرة القضاء(42).

وثانياً: أنّه لو تنزّلنا بأن قلنا بأنهم وُعدوا بأن يدخلوا حال كونهم محلّقين ومقصّرين، فهذا لا ينطبق على دخولهم الأول إلى المسجد الحرام، وإنّما ينطبق على دخولهم بعد الفراغ من مناسك منى، وكما أنّ هذا محتمل فإنّه يحتمل أن المراد به الدخول إلى المسجد بعد الفراغ من الحلق أو التقصير عند المروة في العمرة المفردة.

وأما منع المقدّمة الثانية فلما يلي:

أولاً: لو سلّمنا كون جميع من حجّ مع النبي (صلّى الله عليه وآله) صرورة، وأنهم بين محلّق ومقصّر، فذلك لا يقتضي تخيير الرجل الصرورة بين الحلق والتقصير؛ لكون من حجّ مع النبي (صلّى الله عليه وآله) رجالاً ونساءً، ووظيفة النساء هو التقصير تعيناً، كما أن من المحتمل أن يكون فيهم أيضاً من لا يمكنه الحلق من الرجال فوظيفته التقصير وإن كان صرورة، ومجرد الاحتمال كافٍ لردّ جعل الآية مانعاً.

وثانياً: أنه لا شاهد على كونهم أجمع صرورة، فلعل بعضهم من أهل مكّة الّذين حجّوا قبل ذلك، وإن كان حجّهم قبل فرض الحج؛ فإن حجّ البيت عبادة معروفة في الشرائع السابقة ولم تنسخ بل أمضيت قبل الهجرة إلى المدينة، نعم فُرض الحجّ في السنة الثانية من الهجرة.

وثالثاً: -وهذا من إفادات السيّد الأستاذ (سلّمه الله)- أنّه لو سلّمنا المقدّمتين وأخذنا بالظهور البدوي للآية في التخيير فإن مقتضاه حمل النصوص الصريحة في الوجوب على الندب، وهو مستهجن عرفاً، أو طرح النصوص المتضافرة الدالّة على الوجوب بدعوى مخالفتها للكتاب، وهو بعيد، فالمتّجه كون ظهور بل صراحة هذه النصوص المستفيضة في الوجوب قرينة على أن المراد من الآية هو اختلاف وظيفة من حجّ مع النبي (صلّى الله عليه وآله) ولو لأن بعضهم لا يمكنه الحلق، فيتعيّن عليه التقصير.

فالمتحصّل تمامية المقتضي على تعيّن الحلق على الصرورة كما لا مانع منه.

والحمد لله أولا وآخراً وصلّى الله على محمّد وآله.

***

 

* الهوامش:

(1) انظر: مدارك الأحكام 8: 89، الحدائق الناضرة 17: 89، المعتمد في شرح المناسك 2= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 326:29.

(2) انظر: سلسلة الينابيع الفقهية 7: 38، 82، 161.

(3) الوسيلة: 186.

(4) المبسوط 1: 504.

(5) التهذيب 5: 243.

(6) النهاية: 262.

(7) انظر: مختلف الشيعة 4: 292.

(8) انظر السلسلة 7: 107.

(9) المهذّب 1: 259.

(10) مستند الشيعة 12: 374.

(11) المغني 3: 456.

(12) سورة الفتح: 27.

(13) المعتمد في شرح المناسك 2= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 326:29.

(14) مختلف الشيعة 4: 293.

(15) وسائل الشيعة 14: 221 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح1.

(16) تنقيح مباني الحج 3: 268.

(17) انظر: المعتمد في شرح المناسك 2= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 327:29، تنقيح مباني الحجّ 3: 267، تفصيل الشريعة (الحجّ 5) 15: 357، تعاليق مبسوطة 10: 578.

(18) وسائل الشيعة 14: 223 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح5.

(19) وسائل الشيعة 14: 227 ب8 من أبواب الحلق والتقصير ح2.

(20) وسائل الشيعة 14: 218 ب5 من أبواب الحلق والتقصير ح4.

(21) كتاب الغيبة: 36 ح65.

(22) كتاب الغيبة: 70 ح74.

(23) انظر: كتاب الغيبة: 69 ح73، اختيار معرفة الرجال: 761 ح 875، 762 ح 878، 879.

(24) انظر: رجال الخاقاني: 86، الفوائد الرجالية من تنقيح المقال 1: 83، 492.

(25) اختيار معرفة الرجال: 758 ح864.

(26) انظر: معجم رجال الحديث 12: 425 (8102).

(27) انظر: معجم رجال الحديث 3: 18 (803).

(28) كتاب الغيبة: 71.

(29) المعتمد في المناسك 2 = موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 328:29، تفصيل الشريعة (ك الحجّ 5) 15: 358.

(30) سورة النساء: 23.

(31) وسائل الشيعة 14: 222 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح3.

(32) وسائل الشيعة 14: 222 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح4.

(33) انظر: معجم رجال الحديث 17: 260 (11142).

(34) وسائل الشيعة 14: 224 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح10.

(35) وسائل الشيعة 14: 225 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح14.

(36) وسائل الشيعة 14: 224 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح8.

(37) وسائل الشيعة14: 226 ب7 من أبواب الحلق والتقصير ح15.

(38) انظر: جامع المدارك 2: 479، 480.

(39) سورة الفتح: 27.

(40) انظر: المعتمد في شرح المناسك2 = موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 329:29.

(41) انظر: تنقيح مباني الحج 3: 269.

(42) انظر: التبيان 9: 335، الدر المنثور 7: 538، 539، تفسير ابن كثير 4: 215، البداية والنهاية 3: 409.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا