لهيب الانطلاق وإعصار الثورة

لهيب الانطلاق وإعصار الثورة

الثورة والحركة الإصلاحية مصطلحان لهما دلالتهما الخاصة في الفكر السياسي المعاصر، فالبعض يفرق بينهما ببيان أن الحركة الإصلاحية إنما تكون نابعةً من نفس أطراف النظام السياسي، بينما الثورة تعبر عن استياء عام لذلك النظام السياسي، فهي ترفض النظام السياسي القائم جملةً وتفصيلاً، بخلاف حركة الإصلاح التي تؤمن بالنظام السياسي القائم إلا أنها تؤمن في نفس الوقت بضرورة إصلاحه؛ ولذلك تجد الكثير من الحكومات ترفع مثل هذه الرايات البراقة والعناوين الجذابة كضرورة التغيير وحتمية الإصلاح مع أن الكثير من القائمين على تلك الحكومات التي ترفع عقيرتها مناديةً بالإصلاح اليوم كانوا بالأمس أرباب الماضي الأسود والحقبة السوداء، لكنهم لا ينادون بالثورة لا اليوم ولا بالأمس لما تختزنه هذه الكلمة من لهيب التغيير الجذري الذي يذهب بعرش النظام السياسي الذي تتبناه تلك الحكومات.

إذن فرّق البعض بين الثورة والإصلاح بأن الثورة تعبر عن رفض النظام السياسي من الأساس فهي تعبر عن التغيير الجذري أو ما يسمى بالتغيير الراديكالي، بينما الإصلاح يعبر عن ترميم النظام السياسي المقبول من حيث المبدأ الذي دعت الحاجة إلى تطويره وإصلاحه.

إذا تأملنا في الخطاب الحسيني سنجده قد عبر عن ثورة سيد الشهداء(ع) منذ انطلاقتها بالإصلاح، فها هو سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي(ص) يخاطب أخاه محمد بن الحنفية في رسالته بالمدينة المنورة: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)، فنلاحظ أن أبا الأحرار قد عبر عن ثورة عاشوراء بأنها إصلاح، وهي ثورة كانت ترفض أساس النظام السياسي القائم آنذاك، وهو سيطرة الفاجر يزيد بن معاوية على مقاليد الحكم الإسلامي الذي هو من شؤون أهل بيت النبوة وموضع الرسالة(ع)، وعلى رأسهم آنذاك الإمام الحسين(ع).

إذن الثورة وسيلة من وسائل الإصلاح بمقتضى هذا الخطاب الحسيني، وهو موافق للغة العربية، إذ أن لفظة الإصلاح تختزن معنى التغيير إلى الأفضل، غاية ما في الأمر أن التغيير قد يكون بترميم النظام مع المحافظة على أصله، وقد يكون بقلب النظام وإزالة أركانه الفاسدة.

في هذه الكلمات نتطرق إلى خروج الإمام الحسين وما قد يذكر له من أسباب، ثم نتطرق إلى مفهوم الثورة وما قد يذكر بشأنها من مفاهيم في الفكر السياسي المعاصر، ثم نعرج على ترجمة يسيرة للسيد الإمام الخميني(ره) لأننا نعيش هذه الأيام ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

خروج الحسين (ع)، الآفاق والدلالات:

بعد رحيل الرسول الأعظم(ص) مرت الأمة الإسلامية بمنعطفات هامة وحادة لعلّ من أبرزها خروج فلذة كبده الإمام الحسين(ع) مما أدى إلى استشهاده في اليوم العاشر من المحرم، ولذلك اختلفت آراء الباحثين والمؤرخين في السبب الرئيسي الذي دعاه(ع) للخروج على يزيد، وهل كان يعلم(ع) بأنه سيصل إلى الحكم أو يستشهد أو غير ذلك؟

في هذه العجالة نتطرق إلى بعض النظريات وسننتهي إلى النظرية التي نتبناها:

النظرية الأولى: أن الحسين(ع) قد خرج بسبب تحريض أهل الكوفة عندما أرسلوا له الكتب إلا أن الواقع قد تغير بعد ذلك بانقلابهم عليه مما أدى إلى استشهاده(ع).

النظرية الثانية: أنه(ع) قد خرج طالباً الحكم وكان يعتقد أن الظروف قد حانت وتهيأت لاستلام الحكم إلا أن الظروف لم تكن كذلك.

النظرية الثالثة: أنه أعلن معارضته ولم يكن ينوي الثورة إلا أنه صار أمام الأمر الواقع حينما التقى بجيش الحر بن يزيد الرياحي فقال له اختر طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يرجعك المدينة إلى أن وصل إلى كربلاء والتقى بجيش عمر بن سعد.

النظرية الرابعة: أنه(ع) خرج لنزاع أسري قديم بين بني أمية وبني هاشم فكانت الغلبة ليزيد ولذلك قال:

لــيـت أشـــيــاخـــي بـــبــدر شــهــدوا

                        جــزع الـــخــزرج مـــن وقـــع الأســـل

 

لأهـــــلــــوا واســـتـــهـــلـــوا فـــرحـــاً

                        ثــــم قــــالــــوا يـــا يــزيــد لا تـشـــل

 

 

النظرية الخامسة: ـ وهي التي نتبناها ـ أنه(ع) قد خرج لأداء التكليف الشرعي الملقى على عاتقه، وهذه النظرية عليها الكثير من الشواهد بخلاف النظريات الأربع الأولى التي يخلو بعضها من أي شاهد تاريخي، بينما بعضها الآخر عليه بعض الشواهد كالنظرية الأولى إلا أنه يحتاج إلى بعض البيان.

الصحيح أن الحسين(ع) قد خرج لأداء التكليف الشرعي وكان يعلم أن النتيجة هي الاستشهاد والشواهد والأدلة على ذلك كثيرة منها:

1ـ قوله(ع): (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي، فمن قبلني بقبول فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليَّ ذلك أصبر حتى يحكم الله لي والله خير الحاكمين).

فهنا يركز الإمام(ع) على أن خروجه كان من أجل إصلاح الأمة أي أداء الواجب الإلهي.

2ـ قوله(ع) (من رأى منكم سلطاناً مستحلاً لحرم الله فلم يغير عليه بشيء كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) فهنا الحسين(ع) يبين للأمة الضابطة العامة والقاعدة الكلية للتغيير وما هي عاقبة التخاذل والخنوع.

3ـ قوله(ع): لوالي المدينة (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق قاتل للنفس المحترمة شارب للخمر ومثلي لا يبايع مثله) فلم يقل(ع) وأنا لا أبايعه وإنما قال ومثلي لا يبايع مثله، فالقضية قضية مبدأ لا أشخاص وعوائل كما عليه النظرية الرابعة.

هذه ثلاثة شواهد تدلل على أن السبب الرئيسي لخروجه(ع) كان هو التكليف الشرعي وأما كتب أهل الكوفة فكانت تؤكد التكليف الشرعي والإمام(ع) قد احتج عليهم بكتبهم (عندما واجه الحر الرياحي ثم جيش عمر بن سعد) من باب ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فالإمام(ع) أراد إلقاء الحجة عليهم بذلك، وأما الشواهد التي تدلل على أنه كان يعلم بمصيره ـ وهو الشهادة ـ فكثيرةٌ منها:

1ـ قوله(ع) لأخيه محمد بن الحنفية حينما نصحه بأن يخرج إلى اليمن فقال (لو كنت في جحر دابة لاستخرجوني وقتلوني) مما يدلل على أنه يعلم بمصيره(ع).

2ـ قوله(ع) لمحمد بن الحنفية أيضاً حينما قال له: وما بال النساء؟ فقال (شاء الله أن يراهن سبايا) ثم قال: (شاء الله أن يراني قتيلاً).

3ـ خطابه في مكة عندما أراد الخروج فقد نعى نفسه حيث قال: (خُطَّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء...) والشواهد كثيرةٌ فمن أراد ذلك فليرجع إلى حواره(ع) مع عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية في كتب التاريخ والمقاتل مثل نفس المهموم للشيخ عباس القمي وغيره.

وبعد هذا العرض الموجز تتجلى لنا آفاق خروج الحسين(ع) ودلالته، إنه يعلمنا كيفية القيام بالواجب الإلهي إذا تطلب الموقف الشرعي القيام مهما كان الثمن ومهما كانت النتيجة، فمع علمه(ع) بمقتله أصر على الحركة والنهوض، إنه يذكرنا بقول الله عز وجل {الَّذِيْنَ قَاْلَ لهَمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمَعُوْا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَّقَالُوْا حَسْبُنَاْ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلِ}.(1)

وأما النظرية الثانية والثالثة فلا شاهد عليهما مما يعني خلو النظريات الأربع الأولى من الأدلة، إذ بعرضنا للنظرية الخامسة يتضح ضعف توجيه النظرية الأولى والرابعة.

والخلاصة: خرج الحسين(ع) على يزيد عندما اقتضى التكليف الشرعي ذلك، إنه يذكرنا بقوله تعالى {الَّذِيْنَ يُبَلِّغُوْنَ رِسَاْلاَتِ اللهِ وَيخْشَوْنَهُ وَلاَ يخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيْباً}(2).

لهيب الثورة و الانتفاضة:

لو تصفحنا جنبات التاريخ لوجدناه مليئاً بالثورات والانتفاضات التي عمّت تاريخ الإنسانية. ولكننا لو تأملنا لوجدنا أنّ القليل القليل قد خلّد منها وأصبح نبراساً ينير الطريق للأحرار والثوار، ومن هنا نتساءل: ما هو السر في بقاء بعض الثورات وخلودها كثورة أبي عبد الله الحسين(ع)، واندثار أغلب الثورات التي لم تبق إلا مدونةً في بطون كتب التاريخ وغابت عن واقع الأمة الحي؟

يمكن أن يقال أنّ للثورة جسم وروح، فجسم الثورة هو وقائعها المادية التي حدثت في زمان ومكان معين، وهو ما تعتني بتسجيله كتب التاريخ. أما روح الثورة فهو مظاهر انعكاس الثورة في حياة الناس ومدى انفعالهم بها و تفاعلهم معها، فكلما كانت الثورة والانتفاضة نابعةً في احتياجات الناس الدينية والمعيشية وكلما كانت الثورة منبثقةً من واقع مؤلم ومُلحّ لا يغادر ذهنية الأمة، كانت الثورة أكثر خلوداً وأبرز مصداقيةً من بقيّة الثورات، فالثورة المفتعلة لا بقاء لها لأنها ليست إلا أحداثاً ماديةً خاويةً من الروح، أما الثورة والانتفاضة الحقيقية النابعة من حاجاتٍ أساسيةٍ وملحةٍ لا يمكن أن تزول، نعم يُمكن أن تقمع ويتحدث إعلام السلطة عن استتباب الأمن إلا أنّ ذلك لا يطال إلا جسد الانتفاضة المادي، أما روح الانتفاضة فهو بعيد كل البعد عن قمع أي سلطة لأنه يمثل الذهنية العامة للأمة التي تفاعلت مع الحدث الذي رأته يمثل كلّ وجودها فتفاعلت معه وانفعلت معه وخرّجت على أثره جيلاً جديداً يحمل سماتٍ تغاير سمات الجيل القديم مما بشر بغدٍ مشوقٍ.

ومن هذا ندرك سر خلود بعض الثورات التي قُضِيَ عليها آنذاك، فهي لم يُقضى إلا على أحداثها المادية التي تتأطر بالزمان والمكان ويعنى بتدوينها التاريخ العام، أما موقعها من قلب الأمة فهو لا يتأطر بالزمان والمكان، ولا يكون محلاً للتاريخ، وإنما يكون محلاً لدراسة المفكرين ونابضاً في عروق الأمة تتوارثه جيلاً بعد جيل، إنه الشرارة التي تبرز لهيباً لانطلاقة الأمة من جديد كلها واجهتها مختلف التحديات.

مفجرات الثورة:

تُعد الثورة من أبرز أنماط التغيير، ويُطلق اصطلاح الثورة للدلالة على أمرين:

1ـ تغيرات تطرأ على الظروف الاجتماعية والسياسية بشكل مفاجئ وجذري، أي أن حركة التغير تصل إلى أعمال الشؤون السياسية والاجتماعية للنظام لمحوه من واقع الأمة، ولذلك فإن الثورة يصاحبها العنف في الغالب.

2ـ تغيرات جذرية إلا أنها غير سياسية بل تشمل مجالاتٍ أخرى، كما أنّها قد تتم ببطء ومن دون عنف كما هو الحال عندما يقال ثورة ثقافية، ثورة علمية، ثورة المعلومات، ثورة فنية... فإن هذه الاصطلاحات تستخدم لوصف التغيرات الجذرية في مجالات متعددة من الحياة.

ونحن هنا نتناول الثورة التي تمثل منعطفاً في الحياة السياسية والاجتماعية للأمة، فالثورة غالباً ما تنبثق من جراء الإحساس بالمظلومية والحرمان، فالظلم والاستبداد وتبديد مقدرات الشعوب وتحقيرها يولّد حس القيام بالثورة لتغيير الواقع المؤلم الذي لا تزال تتلوى تحت سياطه.

وتختلف أسباب الثورة باختلاف زمان ومكان تفجرها، فلكل ثورة أسبابها التي تؤدي إلى اندلاعها، إلا أنّ هنا أسباباً تشكل الإطار العام لمعظم الثورات في العالم، ومن هنا فقد تجتمع جميع هذه الأسباب في ثورة واحدة، وقد تنفرد بعض الثورات ببعض الأسباب بل قد تزيد عليها أسباباً أخرى، وأهم أسباب الثورات هي:

1- الاستياء السياسي: فالحكومة التي لا تتجاوب مع آمال الشعب وتثبت أركانها بالقوة والاستبداد سوف لن تستطيع تكبيل العقل والإحساس اللذَيْن يتحركان ببطء بركان الثورة لتفجيره.

2- الاستياء الاجتماعي: فالقلق الاجتماعي الذي تعيشه الطبقات المحرومة، وممارسات التميز الطائفي والمذهبي والعرقي والقومي التي يعانيها الشعب من حكومته كفيل بتوليد الثورة، كما أنّ إهمال مطالب الشعب وتجاهل طموحاته كفيل بتعجيل الثورة، فالضغط الاجتماعي يولّد ضغطاً ثورياً وانفجاراً بركانياً.

3- الأزمة الاقتصادية: فارتفاع أسعار المواد الضرورية وانخفاض قيمة نقد البلد وفرض الكثير من الرسوم والضرائب وارتفاع مقدارها، والبطالة، وانهيار خزينة الدولة من جراء السرقات والتلاعب بالأموال وغيرها من الأمور التي تؤدي إلى عدم الاستقرار الاقتصادي قد تؤدي إلى انهيار النظام بثورة عارمة تجتاحه.

4- الهزيمة العسكرية: فهزيمة القوات المسلحة في حربٍ تخلق مناخاً ثورياً لقلب النظام المنهزم.

5- الاحتلال الأجنبي: فاحتلال دولة لدولة أخرى كفيل بقيام الشعب بالدفاع عن أرضه. وجميع هذه الأسباب لها قاسمٌ مشتركٌ وهو الدفع الثوري، والدفع الثوري قد يكون ناشئاً من هذه الأسباب وغيرها وقد يكون ناشئاً من الأمر الإلهي القاضي بقيام الثورة لتغير مع الأمة وواقعها السائر نحو الانحراف كما في ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، حيث يقول مخاطباً الأمة آنذاك: (ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتَنَاهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادةً والحياة مع الظالمين إلا برماً).

6- القهر العقائدي: وذلك بمسخ عقيدة الشعب ومحاولة تزريقه بثقافات وعادات بعيدة كل البعد عن دينه وتراثه وعقيدته وإجباره على اكتسابها.

مراحل الثورة وكيفية انبثاقها:

تمر الثورات غالباً بثلاث مراحل رئيسية، لكل مرحلة مقتضياتها وطبيعتها الخاصة وهذه المراحل هي:

1) مرحلة الاستنهاض: وفيها تقوم النخب الثورية ببث الحماس الثوري وغرس المفاهيم الثورية في الشعب مما يهيئ الأرضية المناسبة لقيام الثورة.

2) مرحلة الثورة: وذلك بقيام الشعب بالمظاهرات والاحتجاجات وأعمال التخريب وغير ذلك من الأمور التي تتولد من السخط الشعبي.

3) مرحلة قيام الدولة: حيث إن الأعمال الثورية تتوج بتأسيس الدولة التي ينشدها الثوار في الغالب أو ذلك بعد العناء الطويل وطول المدة والصبر الذي قد يقل له نظير.

ولكن كيف تنبثق الثورة؟ فهل أنّ مجرد قيام القيادات والنخب الثورية باستغفار الأمة يفجر الثورة؟ أم أن تحقق أحد الأسباب المفجرة للثورة كفيل بتحقيقها؟

في الحقيقة إنّ انبثاق الثورة يتطلب وجود أسبابٍ إلا أنّ مجرد تحقق الأسباب لا يعني بالضرورة قيام الثورة؛ إذ أنّ انفجارها يتطلب الوعي الجماهيري العميق لدى الشعب بوجود أسباب الثورة، ومن هنا فإنّ القيادات الثورية تعمل على توعية الجماهير بأسباب الثورة مما يُساعد على خلق المناخ الثوري، وهذه أول مرحلة من مراحل الثورة وهي مرحلة الاستنهاض، وعندما تصبح الأرضية مهيأةً لقيام الثورة يصبح الوضع متأزماً، وبالتالي فإنّ أيّ سبب عابر حينئذٍ قد يفجر الثورة؛ إذ يمثل الشرارة التي تمر عفوياً فتفجر البرميل الذي بُذِل الكثير من الجهد لكي يمتلئ.

وهذا الحدث العابر يختلف باختلاف القضايا والزمان والمكان، فقد يكون اعتقال رمزٍ كبير للشعب، وقد يكون صداماً خفيفاً بين الشعب وقوات الشعب وقد يكون منع اجتماع جماهيري وشعبي وغير ذلك مما يؤدي إلى قيام الثورة وانتشارها. ولكن كيف تنتقل الثورة إلى البلدان الأخرى؟ إن انتقال الثورة يتم على نحوين:

1ـ تصدير الثورة: وهو محاولة مفتعلة لنقل الثورة من بلد إلى بلدٍ قبل أن تنصح الحالة الثورية فيه من أجل خلق المناخ الثوري.

2ـ العدوى الثورية: وهو انتقال الثورة وتجربتها طبيعياً إلى البلدان المجاورة وغيرها نظراً للظروف المتشابهة بين البلدين، ولذلك نرى البلدان المجاورة تسعى لدعم النظام المواجه للثورة حتى لا تتسع الثورة وتنتقل إليهم نظراً لسرعة المد الثوري عند تحقق الظروف الموضوعية.

المبادئ الأساسية للثورة ونتائجها:

للثورات مبادئ أساسية لابد أن تتبلور لكي تتجلى الثورة في واقع الأمة، ومن أبرز تلك المبادئ عنصران أحدهما مؤسس للثورة والآخر يعمل على استمرارية الثورة، ويتضمن كل عنصر بعض النقاط نذكر بعضها اختصاراً:

1ـ العناصر المؤسسة للثورة:

أ) الهدف: فإصلاح الوضع القائم يُعد من أبرز أهداف الثورات، وما الثورة إلا وسيلة من وسائل الوصول إلى ذلك الهدف.

ب) الهيجان الثوري: فمن دون وجود مشاعر السخط والتظلم وعدم الرضا بالواقع لا تتحقق الأحاسيس الأبية التي تولد الهيجان الثوري.

ج) الإقدام: فما لم تؤدِّ المشاعر والأحاسيس إلى التحرك لتغيير الواقع لا تتجلى الثورة على الأرض، فلابد من الإقدام لتغيير الواقع.

2ـ العناصر المبقية للثورة:

أ) وحدة القيادة: فالقائد يمثل المحور الذي يدور حوله الثوار فهو الحاسم والفاصل للأمة في أحلك ظروف الثورة، ومن هنا فلابد من توحد القيادة إذ لا يجتمع ربانان على سفينة واحدة إلا وقُدِّم رأي أحدهما.

ب) وحدة الأمة: فالقائد الضعيف باجتماع الأمة والتفافها حوله يصبح قوي الشوكة، والقائد القوي المحنك بافتراق الأمة عنه يصبح ضعيفاً مشلول الحركة لا يستطيع أن يقدم شيئاً أو يؤخر.

ج) الصبر والصمود حتى نهاية الطريق: فوقوف الأمة في وسط الطريق وخذلانها لقادتها يؤدي إلى انهيار الثورة؛ إذ أن التغير الاجتماعي يتطلب زمن طويلاً وصبراً حثيثاً قد لا يتحقق إلا في الأوحدين من الناس، ولذلك نرى البعض في أول أو أواسط الطريق يتراجع وينهزم.

ومن أهم نتائج الثورة:

1ـ امتحان الأمة وفرز رجالها.

2ـ تحقيق الشعارات الثورية.

3ـ تكوين الدولة.

4ـ إنعاش الأمة وبث روح الإباء فيها.

5ـ إخراج النخب الثورية التي تمثل أمل المستقبل المشرق.

النماذج الأساسية للثورات في العصر الحديث:

في التاريخ الحديث والمعاصر توجد ست ثورات تمثل النماذج الأساسية للثورات، إذ أن أغلب الثورات تستقي من معين إحداها غالباً، وقد برزت هذه الثورات كنماذج لما كان لها من الأثر الكبير في أوضاع بعض الأمم والثورات، ونحن نذكر هذه الثورات بالترتيب بحسب التاريخ كما يلي:

1) الثورة الإنكليزية (1688 م): وهي في الواقع حصيلة عدة ثورات ضد التسلط والاستبداد التي تُوجت في النهاية بالملكية الدستورية، وقد تعلّم منها الفلاسفة الفرنسيون كيف تنهض الأمم وتنال حريتها فدوّنوا ذلك في ثنايا القصص تضاعيف المصنفات مما هيأ الأرضية لقيام الثورة الفرنسية.

2) الثورة الأميركية (1783): الذي أسقطت الحكم الاستعماري البريطاني وأحلّت مكانه نظاماً رئاسياً يقوم على الانتخاب.

3) الثورة الفرنسية (1789): وهي تُعد من أبرز الثورات حيث أسقطت النظام الملكي وأقامت دولة تستند إلى دستور، كما قامت بنشر بعض المبادئ والمفاهيم كـ(إعلان حقوق الإنسان)، ومن هنا فإننا نجد أنّ أغلب دساتير الدول العلمانية قد استقت الكثير من مبادئ الثورة الفرنسية، ولذلك نجد لها ذلك الزخم الكبير بينهم.

4) الثورة الروسية (1917): وتسمى بالثورة البلشفية أيضاً التي أسقطت الحكم الملكي المطلق وأقامت مكانه الحزب الثوري الطليعي الواحد، ومن هنا قد يُعبّر عنها بسلطة دكتاتورية الطبقة العاملة.

5) الثورة الصينية (1949): التي أسقطت النظام الإمبراطوري وأقامت مكانه قيادة الحزب الثوري الطليعي، أي النظام الاشتراكي كالثورة الروسية إلا أنّ قاعدة السلطة في الثورة الروسية كانت الطبقة العاملة الصناعية في المدن، بينما كانت السلطة في الثورة الصينية تمثل في الفلاحين.

6) الثورة الإسلامية في إيران (1979): بقيادة الإمام الخميني العظيم(ره) الذي هو بحق ملهم الثوار وسيد الأحرار، إذ أنّ ثورته لم تتجلى بإسقاط نظام الشاه العميل وإقامة النظام الإسلامي على أنقاضها، بل إنها امتدت لتدخل قلب كل مسلم في الأرض لكي يعود إلى إسلامه الحقيقي، ومن هنا نلاحظ شدة الحملات التي تعرضت لها وما زالت تتعرض لها الثورة الإسلامية من قبل الاستكبار العالمي حتى لا تتحقق الصحوة الإسلامية التي تؤدى إلى قيام الحركات الإسلامية.

ولا بأس أن نتطرق بالمناسبة هنا إلى سيرة وترجمة الإمام الخميني العظيم(ره).

الإمام الخميني (ره) مفجر ثورة القرن العشرين:

مفجر ثورة القرن العشرين الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني(ره).

ولادته:

ولد الإمام الخميني في يوم ولادة الزهراء 22جمادى الثانية من عام 1320هجرية(24 سبتمبر1902م) في مدينة خمين الإيرانية.

استشهد أبوه السيد مصطفى وله من العمر5 شهور، فقامت بتربيته والدته بالإضافة إلى عمته اللتان رحلتا عنه وهو في سن الخامسة عشرة من عمره.

دراسته:

درس المقدمات في مسقط رأسه على يد أخيه الأكبر آية الله مرتضى بسنديده وآخرين،ثم انتقل إلى أراك في عام 1919م ليواصل دراسته فيها، ثم انتقل إلى مدينة قم المقدسة في رجب عام 1340هجرية، وهناك تتلمذ على يد أبرز جهابذتها، منهم مؤسس الحوزة العلمية في قم الشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد البروجردي، والميرزا محمد علي الشاه آبادي، والميرزا جواد الملكي التبريزي.

قام الإمام الخميني بالتدريس في الحوزة العلمية سنين طوال، وقد قارب عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات الألف ومائتي طالب كان بينهم العشرات من المجتهدين.

كفاحه السياسي:

كان الإمام الخميني(ره) يراقب الأحداث السياسية عن كثب عندما كان مشغولاً بالتدريس في الحوزة العلمية في قم، إلا أنه لم يقف بوجه الشاه محمد رضا بهلوي (ملك إيران آنذاك) بشكل ظاهر إلا عندما طرح الشاه ما ادعاه من إصلاحاته بشأن قانون مجالس الولايات مستغلاً بذلك تعدد المرجعيات بعد وفاة السيد البروجردي(ره) الذي توحدت الأمة تحت مرجعيته، فما كان من الإمام إلا أن وقف بوجه الشاه بشكل علني مما أجبره على التراجع عن مخططه المشئوم في 28/11/1962م بعد أن الْتَفَّت الأمة بالإمام الخميني(ره) وعاد الهدوء إلى الساحة من جديد.

طرح الشاه في 9/1/1963م مشروعاً يرتكز على أصول ستة مخالفة للإسلام أطلق عليها(الثورة البيضاء)، وقد طالب باستفتاء شعبي لكي يصادق الشعب عليها، فما كان من الإمام الخميني إلا أن حرّم ذلك الاستفتاء، بل إنه حرّم الخروج من المنازل والمدارس لاستقبال الشاه يوم وصوله إلى قم، وبعد يومين من وصول الشاه لقم أجري الاستفتاء الذي لم يشارك فيه إلا أزلام النظام، لكن الإمام واصل فضح النظام من خلال البيانات والخطابات العديدة التي توجت بخطابه في المدرسة الفيضية في عصر يوم عاشوراء لعام 1383هـ(3حزيران1963م) الذي ركز فيه على المصائب التي ألحقتها العائلة البهلوية بإيران مع فضح العلاقات السرية بين الشاه وإسرائيل، مما أدى إلى أن يداهم المئات من قوات الكومندوز منزله في فجر يوم الخامس من حزيران في الوقت الذي كان يؤدي فيه نافلة صلاة الليل، وتم نقله فوراً إلى العاصمة طهران، فانتشر الخبر بين القميين بسرعة.

فتجمعوا في منزل الإمام ثم اتجهوا مع نجله إلى مرقد السيدة المعصومة(ع) هاتفين:(إما الخميني وإما الموت)، ففتحت القوات أسلحتها الأتوماتيكية عليهم مما أسفر عن سقوط العديد من الشهداء قُدِّرَ عددهم بـ14أو15 ألف شهيد، وعرفت هذه الحركة فيما بعد بانتفاضة 15خرداد(5 حزيران).

وفي مساء السابع من نيسان1964م أطلِق سراح الإمام الخميني من دون إطلاع مسبق، ولم تمر 3 أيام على إطلاق سراحه حتى بادر إلى بيان كافة الأمور التي تمسك بها النظام وإبطالها،فكان من جملة ما قاله:(كتبوا في مقالة صحفية أن تفاهماً قد حصل مع علماء الدين، وأن علماء الدين يؤيدون ثورة الملك والشعب البيضاء، أية ثورة هذه؟ وأي شعب؟ إن الخميني لن يساومهم حتى وإن أعدموه، ولا يمكن تنفيذ الإصلاحات تحت أسنة الحراب). لكن الشاه وحكومته لم يكترثوا بالشعب ونصائح الإمام فتمادوا في غيهم فقاموا في نفس عام 1964م بالمصادقة على قانون منح الحصانة القضائية للرعايا الأمريكان الذي يقضي بعدم شمول القانون الإيراني للمستشارين والفنيين الأمريكيين وعوائلهم وخدمهم، بل يقضي بجعلهم في عداد الدبلوماسيين.

أما الإمام الخميني فقد فضح ممارسات الحكومة وأسيادها، فقد هاجم الشاه وأمريكا وإسرائيل في خطابه بتاريخ 26/10/1964م الذي كان بأسلوب يفهمه جميع فئات الشعب، مما أدى إلى نفيه إلى تركيا في فجر يوم 4/11/1964م، ذلك المنفى الذي استمر فيه 11شهراً دوّن فيه رسالته العملية(تحرير الوسيلة) على الرغم من الصعوبات التي كان يواجهها، حيث كان تحت مراقبة مباشرة وشديدة من قبل رجال أمن إيرانيين كانوا قد نسقوا مع قوات الأمن التركية.

وفي يوم 5/11/1965م نقل الإمام الخميني ونجله السيد مصطفى من تركيا إلى المنفى الجديد في العراق التي مكث فيها ما يقارب 13 عاماً في النجف الأشرف لم يقطع فيها ارتباطاته بالمجاهدين في إيران مع قيامه بتدريس خارج الفقه في مسجد الشيخ الأنصاري.

كان الإمام يتخذ من المبعوثين والرسائل وسيلة لحفظ ارتباطه بالشعب الإيراني، والعجيب أن الكثير من رسائله كانت تشير إلى قرب وقوع تغير سياسي واجتماعي كبيرين، وتدعو إلى لزوم تحمل أعباء تلك المرحلة.

في تشرين الأول 1977م استشهد ابنه الأكبر السيد مصطفى(ره) في ظروف غامضة إلا أن الإمام عبر عن شهادته بأنها كانت من الألطاف الإلهية الخفية، وبالفعل فقد أدت شهادته إلى تجدد قيام الحوزة العلمية والشعب الإيراني النهضة.

في يوم السبت 7/1/1978م نشرت صحيفة (اطلاعات) مقالاً أساءت فيه مباشرة وبصراحة إلى السيد الإمام الخميني مما أوجب غضباً شعبياً في مدينة قم واجهته الحكومة بالرصاص مما أسفر عن مذبحة 9/1/1978م التي سقط فيها العديد من الشهداء مما أدى إلى اتساع رقعة الثورة في مناطق عديدة من إيران.

حوصر منزل الإمام الخميني من قبل قوات الأمن العراقية بتاريخ4/9/1978م بعد أن اتفق كل من وزير خارجية العراق وإيران على إخراج الإمام من العراق في اجتماعهما الذي انعقد في نيويورك.

غادر الإمام الخميني النجف الأشرف إلى باريس بتاريخ6/10/1978م التي بقي فيها أربعة أشهر عرض خلالها مختلف وجهات نظره حول الحكومة الإسلامية في لقاءاته الصحفية المتعددة بعد أن رفض طلب الرئيس الفرنسي المتمثل في ضرورة تجنب أية فعالية سياسية قائلاً: (إن هذا ينافي ما تدعونه من ديمقراطية، وإنني إذا اضطررت للسفر من مطار إلى مطار ومن بلد إلى بلد فلن أكف عن جهادي حتى تحقيق الأهداف).

فرّ الشاه من إيران في 16/12/1978م بعد أن اشتدت الاضطرابات فيها، فشكل الإمام في مطلع العام 1979م شورى لقيادة الثورة. وفي مطلع شهر شباط1979م وصل الإمام الخميني إلى إيران بعد فراق دام 14 عاماً على الرغم من معارضة حكومة بختيار(رئيس وزراء الشاه) لرجوعه، حيث أقدمت على إغلاق مدارج المطار بوجه الطائرات، وهددت بقصف الطائرة، إلا أن الملايين تظاهرت مطالبة بفتح المطار، فلم تتمكن الحكومة من الصمود، وقد قدّر عدد المستقبلين للإمام من أبناء الشعب بين4 أو 5 مليون نسمة.

نزل الإمام إلى المطار ثم اتجه مباشرةً إلى مقبرة الشهداء(جنة الزهراء)، وهناك أعلن عن عزمه على تشكيل الحكومة الإسلامية وأنه سيوجه  ضربة قاضية للشاه وحكومته التي يجب أن يحاكم المجرمون من أفرادها، وفي 8/2/1979م بايع منتسبو القوة الجوية الإمام الخميني في مقر إقامته في مدرسة (علوي) بطهران، إلا أن القائد العسكري لمدينة طهران أعلن في بيان عسكري عن حظر التجول بعد أن بيّت مؤامرةً ضد الثورة،فقد كشفت الوثائق التي عثر عليها فيما بعد أنَّ خطةً قد رسمت بحيث يتمركز الجيش في المراكز المهمة أثناء منع التجول لكي يقوم باعتقال قادة الثورة ليتم إخماد الثورة بهذا الانقلاب العسكري، إلا أن الإمام أصدر بياناً دعا فيه الناس في طهران إلى النزول إلى الشوارع أمام الدبابات والمدرعات لكسر قرار منع التجول بشكل عملي، فاندفع أفراد الشعب بما فيهم الشيوخ والنساء والأطفال إلى الشوارع وابتدءوا بإعداد الخنادق، وبذلك فشل الانقلاب العسكري في ساعاته الأولى، وانتصرت الثورة  في صباح يوم 11/2/1979م حيث خضع الجيش بالكامل للإمام الخميني بعد عشرة أيام من رجوعه إلى إيران، وقد أطلق عليها فيما بعد (عشرة الفجر المباركة).

واصل الإمام الخميني قيادته للحكومة الإسلامية بكل جدارةٍ واقتدار،فقد خرج من كل المؤامرات والأزمات بكل قوة وثبات وبروح وثابة كان حليفها النصر.

وفاته:

بعد عشر سنوات من انتصار الثورة الإسلامية اشتد مرض الإمام حيث كان يعاني من مرض القلب مما استوجب أن يمضي فترةً قصيرةً في المستشفى لإجراء عملية جراحية، وقد فاضت روحه الطاهرة في الساعة العاشرة واثنتين وعشرين دقيقة من مساء يوم السبت 28 شوال 1409 هجرية الموافق 3/6/1989م عن عمر ناهز السابعة والثمانين عاماً، وقد أودع جثمانه الثرى عصر يوم الثلاثاء 6/6/1989م في مقبرة(جنة الزهراء) بين جماهير المشيعين الذين قدر عددهم بـ10ملايين نسمة وهو تشييع لم يُعرف له نظير على مدى التاريخ.

موقف وعبرة:

حينما أبعد الإمام الخميني(ره) إلى تركيا سأله أحد المراسلين عند الحدود التركية قائلاً: أين أنصارك يا خميني؟ فقال الإمام(ره): أنصاري لا يزالون في المهد يرضعون الحليب!! وفعلاً بعد مرور أربعة عشر عاماً قضاها الإمام في المهجر عاد الخميني إلى إيران مظفراً منتصراً فهب جميع أفراد الشعب لنصرته بمن فيهم من كان حين إبعاد الإمام ونفيه في المهد يرضع الحليب.

إن نظرة فاحصة لهذه الكلمة التي صدرت من الإمام توجب علينا أن نتأمل في الدوافع التي أوجبت صدورها منه(ره)، وبعد شدة التأمل وإمعان النظر نلحظ أن الإمام كان يدرس الخطوات التي كان يتخذها بكل دقة وتأنٍ، لم يكن يتخذ خطوات ارتجالية أو آنية، وإنما كان ينظر إلى الآثار المستقبلية التي قد تترتب على خطواته، فحينما قام بالثورة كان يدرك أنه سيواجه قمعاً شديداً من قبل الشاه وجلاوزته مما سيعرض الشعب إلى الكثير من الجراحات والآلام، إلا أنه كان يدرك أيضاً أنه بنهضته هذه سيزرع الأمل في النفوس والشجاعة في القلوب مما يبشر بخروج جيل جديد يرفع هذه الظلامات للوصول إلى واقع أفضل، وإن كان هذا الجيل لا يزال في المهد يرتضع الحليب.

شيء آخر بارز في شخصية الإمام لا يمكن أبداً أن نفكك بينه وبين نظرته المستقبلية لكل خطواته، ألا وهو شدة ارتباطه بالله تبارك وتعالى، فما كان يخطو خطوةً إلا وكان رضا الله أمام ناظريه مما يهون عليه شدة الأهوال التي كانت تعترض طريقه، كان يعيش الله في كل خطواته، في أفراح انتصاراته، وأحزان ما قد يلم به، فمن كان مع الله كان الله معه، فلا حزن إذن ولا أفراح ما دامت الروح كلها موهوبة لله عز وجل، وهذا ما يفسر لنا موقفه عندما رجع إلى أرض الوطن عندما سأله أحد المراسلين:

ما هو شعورك وأنت تهبط إلى أرض الوطن؟ فأجاب الإمام: لاشيء.

هذا الموقف ينبثق بين ثناياه عمق النظرة الإسلامية التي تقضي أن الأعمال يجب أن تكون جميعاً لله ولا مكان لغير الله فيها، وما دام جهاد الخميني لله فلا مجال لسرور الخميني وفرحه برجوعه إلى أرض الوطن، وإنما السرور كل السرور يتحقق بأداء الوظيفة الشرعية والتكاليف الإلهية سواءً أوجبت النفي من البلاد أو الرجوع إليها، فهذه كلها لا شيء أمام نيل رضوان الله تبارك وتعالى.

دوره الاجتماعي:

شخصية الإمام الخميني(ره) كانت متعددة الأبعاد، فقد برع في أكثر من علم وميدان،فهو في الوقت الذي نراه عارفاً إلهياً نراه سياسياً، وفي الوقت الذي نراه فقيهاً كبيراً نراه فيلسوفاً، وهكذا فقد رقى في علوم كثيرة كالتفسير والأصول والأخلاق وغيرها، بل إننا نراه شاعراً كبيراً وقائداً قديراً مما يكشف عن عظمة هذه الشخصية التي تجلت فيها كل هذه القدرات.

ونحن هنا نتطرق بشكل مختصر إلى دور هذه الشخصية الاجتماعي الذي تجلى هو الآخر في أكثر من ُبعدٍ أيضاً، فإليكم بعض أنشطته الاجتماعية:

1ـ التدريس: فقد قام بتدريس الفلسفة عدة سنين في الحوزة العلمية في قم، بعدها اقتصر على تدريس خارج الفقه وأصوله، ولم يترك تدريس الفقه حتى في منفاه في النجف الأشرف، بل واصل درسه طيلة مدة بقائه هناك.

2ـ الوعظ والإرشاد: كان الإمام الخميني يخصص اليوم الأول من بداية الدروس في الحوزة العلمية واليوم الأخير للوعظ والنصائح والتوجيهات الأخلاقية، كما كان يُدَرِّسُ الأخلاق يومي الخميس والجمعة في المدرسة الفيضية، وكان لتلك التوجيهات أثرٌ كبيرٌ إلى المستمعين بحيث إن الكثير منهم كانت تغرورق أعينهم بالدموع، بل كان البعض منهم تعتريه حالة الإغماء كما ينقل آية الله الحائري الشيرازي، يقول الشهيد مطهري: (إن كلمات الإمام كانت تطرق سمعي أيام الاثنين والثلاثاء من الأسبوع على الرغم من أن الإمام كان يلقيها يومي الخميس والجمعة، مما يعني أنها كانت تمتلك وقعاً قوياً في النفوس والأرواح).

3ـ الإفتاء:فقد تصدى الإمام للمرجعية الدينية بعد وفاة السيد البروجردي، وتصدى لأمور الناس العامة، فكان يجيب على الاستفسارات الدينية بالفتاوى الشرعية.

4ـ الكتابة والتأليف: ألَّف الإمام الخميني(ره) الكثير من الكتب في الفقه والأصول والأخلاق وغيرها، وكان أولها كتاب كشف الأسرار الذي كتبه رداً على شبهات كتاب (أسرار ألف عام) بالفارسية الذي كان يطعن في الإسلام، فقد عطّل الإمام دروسه عدة شهور لكي يتفرغ للرد على الكتاب المزبور.

5ـ مساعدة الفقراء والمحتاجين: فلم يتوقف عن مساعيه الخيرة في أحلك الظروف الصعبة حتى عندما كان الناس يعزونه في منزله باستشهاد ابنه السيد مصطفى(ره)، فقد أعطى أحد مرافقيه مبلغاً من المال أرسله لكي يوصله إلى أحد المحتاجين الذي علم الإمام بحاجته الماسة.

6ـ المواجهة السياسية للشاه وإقامة الحكم الإسلامي بعد ذلك: فلم يتردد في أي لحظة من لحظات حياته عن نصح الشاه أو الوقوف بوجهه عندما كان يقتضي تكليفه الشرعي ذلك، فالشيء البارز في شخصية الإمام هو سمو همه الديني واستشعاره لروح المسئولية، فقد صرح في حديث له بعد تراجع الشاه عن لائحة المجالس المحلية بعد قيام الاضطرابات: (خلال الشهرين الماضيين اضطرتني الأحداث إلى الاكتفاء بساعتين من النوم يومياً، ومرة أخرى إذا رأينا أن شيطاناً من الخارج أراد استهداف بلادنا، فنحن كما نحن والدولة كما هي النصيحة من الواجبات فعلى العلماء أن ينصحوا الجميع بِدْءاً من الملك وحتى آخر فرد في البلاد)، هذا المقطع يدل بوضوح على هم الإمام الديني الذي جاوز همومه الشخصية وأصبح حاكماً عليها، وهذا أيضاً ما تجسد في أيام حكمه وقيادته للثورة المباركة، فقد واجه مختلف العواصف والتحديات بقدم راسخة ومواقف صلبة مكنت الإسلام من قيادة واقع الحياة في أحلك الظروف الصعبة.

 

* الهوامش:

(1) سورة آل عمران، الآية 173.

(2) سورة الأحزاب، الآية 39.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا