قرآننا والقواعد الأصولية والفقهية (القسم الأول)

قرآننا والقواعد الأصولية والفقهية (القسم الأول)

قرآننا، والكتاب والسنة والدليل العقلي

قال الله تعالی: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}(1). تبين هذه الآية المبارکة هنا جانبا من حقيقة الإيمان، ومواقف الناس تجاهه، فمنهم من يجادل جدالاً خاوياً لا أساس له، حيث تشير هذه الآية إلی الحجة التي بدونها يصبح الجدال في الله باطلاً، وهي العلم والهدی، أو الکتاب المنير.

وللتوضيح نقول: إن الحجة بين الله وخلقه العقل، ومنه العلم والمعرفة، ومنه الهدی، والعقل يدل صاحبه إلی اتباع الکتاب المنير ومن لا يملك هذه الحجة، فإنما يجادل في الله باطلاً.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} فيقول: هل الله قادر علی أن يبعث الموتی، أو يفعل ذلك؟ ولماذا؟ ونحن نستوحي من الآية: أن الإيمان بالنشور فرع الإيمان بالله، وبأسمائه ومنها القدرة والحکمة، بل الإيمان بسائر حقائق الدين إنما هو فرع لمعرفة الله، کما ينبغي أن يعرف بعظمته وحکمته ورحمته بعباده.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} ما هي حقائق هذه الکلمات التي من تمسك بواحدة منها فاز؟ للمفسرين آراء في هذا المجال أقربها إلی العقل هو:

1ـ أنَّ العلم -وهو سلاح العاقل- يعتبر إشارة إلی الاستدلال العقلي، وهو انکشاف الحقائق للقلب بنور الله.

2ـ أنَّ الهدی مستوی أقلُ من العلم، ويعتبر إشارة إلی إرشاد القادة الربانيين، کمن يمشي في الصحراء تائهاً وإذا به يجد علامة من بعيد تدله علی الوجهة التي يجب عليه أن يتبعها. والفرق بين المستويين (العالم والمهتدي) أنَّ العالم يمتلك خريطة مفصلة يمکنه الاعتماد عليها في مسيره إلی الله، فهو لا يحتاج إلی علامة، أما المهتدي فهو کمن يتبع وميض نور يسير علی هداه.

3ـ أنَّ الکتاب المنير قد لا يصيِّر الإنسان عالماً ولا مهتدياً، فيکون سائراً علی هدی عالِم آخر، کما لو أن جماعة من الناس يسيرون في صحراء خلف دليل، والدليل هو العالِم، وقد يکون الدليل هو الکتاب المنير، فهم يسيرون معه أنَّی اتجه وهو إشارة إلی الکتب السماوية، أي أنها تعني الأدلة الثلاثة المعروفة (الکتاب والسنة والدليل العقلي).

ويحتمل بعض المفسرين أن (الهدی) إشارة إلی الإرشادات المعنوية التي يکتسبها الإنسان في ظل بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه، وبالطبع يمکن ضم هذا المعنی إلی ما تقدم آنفاً. ويمکن أن يکون الجدال العلمي مثمراً إذا استند إلی أحد الأدلة: العقل، أو الکتاب، أو السنًة(2).

قرآننا، وأقسام الفعل الإنساني

قال الله تعالی: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}(3).

ذکر المفسرون تفسيرات متعددة، والتفسير الذي هو أفضل من البقية -کما عند تفسير الأمثل- هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء (عزّ وجلّ)، البعض منها واجب، وهو کل عمل أمرنا الله بفعله ووعدنا بالثواب عليه، کما توعّدنا بالعقاب إذا ترکناه، کالصلاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنکر، والدفاع عن الحق، وإقامة العدل...الخ. والآخر مستحب، وهو کلُّ عمل حثّنا الله سبحانه علی فعله، ووعدنا بالثواب إذا فعلناه، ولکن لا يعاقبنا إذا ترکناه، کالدعاء، وصيام شعبان، وإلقاء التحية، وغُسل الجمعة...الخ. والبعض الآخر مباح، وهو کلّ عمل أعطانا الله فيه حق الفعل والترك، فنحن مخيُّرون فيه، کاختيار نوع السکن، أو العمل، أو أکل الطعام، أو شرب الماء.. الخ، شريطة أن لا نفعل محرماً، أو نحدث ضرراً. والمراد من (أَحْسَنَ) هو انتخاب الواجبات والمستحبات.

وقال ابن عباس: أي من الحلال والحرام، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، فمن أتی بالمأمور به، وترك المنهي عنه، فقد اتبع الأحسن(4).

ويبدو لبعض المفسرين هو أنّ الآية تحتمل ثلاثة معانٍ کلها هامة.

المعنی الأول: هو معرفة الواجبات وتطبيقها علی أفضل وجه، لقوله تعالی: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(5).

ولتقريب الفکرة نقول: إنّ الإنسان الذي يمرض ولده أو شخص عزيز عليه مرضاً خطيراً، فإنه لن يبحث عن أيِّ طبيبٍ لعلاجه، إنما سيبحث عن أفضل طبيبٍ ممکن طمعاً في حصول الشفاء بأسرع وقت وأفضل صورة، والإنسان في حياته العامة يواجه خطراً مصيرياً هو النار، وينبغي له لکي يخلّص نفسه من شرّها أن يتعّرف علی الواجبات والمستحبات ويؤديها علی أفضل وجه، وکيف لا وقد ورد في الحديث: «هلك العالمون إلا العاملون، وهلك العاملون إلا المخلِصون، والمخلِصون على خطرٍ عظيم».

المعنی الثاني: وهو في قوله تعالی: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(6) وهو أن القرآن الکريم کله حسن، ولکن بالنسبة إلی ظروف کل شخص وعصره قد يختلف الأحسن، فعلی سبيل المثال: الصلاة والصيام والحج والجهاد و... و... کل ذلك مفروض علی الناس، ولکن يتأکد علی کل شخصٍ أحد هذه الواجبات أکثر من الآخرين، وأکثر من سائر الواجبات الأخری، فالتاجر ينبغي أن يکون أقرب الناس إلی آيات التجارة والمعاملة وأعرفهم بها، بينما المقاتل يکون الأحسن له معرفته بآيات الجهاد والقتال، أمّا القاضي فالأحسن له المعرفة بأحکام القضاء والحدود وما إلی ذلك، وهکذا بالنسبة للظروف التي تحيط بالشخص فإنها تحدد له الأحسن، فمثلاً للمجاهد في ظروف التقية ليس الإعلان عن نفسه بل الکتمان والسرية، إذن فموقع الإنسان وظروفه المحيطة هما اللذان يحددان الأحسن.

المعنی الثالث: التوحيد المخلص وهو أفضل ما أنزله الله علی خلقه، وأعظم شيء يتجلی فيه التوحيد هو اتباع القيادة الإلهية الحقة ورفض القيادات المنحرفة، وفي الخبر في تفسير الآية: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} قال: «من القرآن وولاية أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)»(7).

ويبين القرآن الکريم بعد نهيه لنا عن اليأس، ودعوته بالإنابة والتسليم لله، وأخيراً تأکيده علی اتباع الأحسن، خلفيات هذه الموعظة وأهميتها بالنسبة للإنسان فيقول: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}(8)، فهذا الإنسان الذي يتوغل في طريق الضلال، ويسرف في اقتحام الذنوب والموبقات، رافضاً الإنابة والتسليم لله، واتباع الأحسن سوف يجرّ علی نفسه العذاب بألوانه، وسيفاجأ به، ليس لانعدام النذر والعلامات الدالة عليه، بل لأنّ کثرة ممارسة الذنوب والإصرار عليها يسلب الإنسان أدنی أسباب المعرفة وهو الشعور، إذ يعيش عمق الغفلة والضلال.

ويتلخص لنا مما مضی: أن مراد الآية الشريفة هو: واتبعوا أحسن ما أُنزل إليکم من ربکم، کإتيان الواجب والمستحب واجتناب الحرام والمکروه، والامتثال للأوامر الداعية إلی الاستغراق في ذکر الله تعالی وإلی حبه وإلی تقواه بحق وإلی إخلاص الدين له، فإن اتباع هذه الأوامر يدخل الإنسان في ولاية الله تعالی، وهي کرامة ليس فوقها کرامة، من قبل أن يجيئکم العذاب فجأة وأنتم لا تشعرون.

قرآننا، وعدم إمكانية أن يكون الظن حجة

إن الله تعالی هو الذي يهدينا، فهو الذي وفّر لنا العقل والسمع والبصر، وزوّد الأحياء بالغرائز التي اهتدوا بها إلی صلاحهم، إذاً فهل من الصحيح التسليم لله أم للشرکاء الذين لا يهتدون إلا بقدر ما يهديهم الله؟ فکيف يحکم المشرکون باتباع من لا يهدي، بل ولا يهتدی إلا بصعوبة؟!

نعم، إنَّ المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الانحرافات هو الأوهام والظنون، فسبب ضلالة هؤلاء وحکمهم الفاسد هو أنهم يتبعون الظن والتصورات النابعة من خيالهم، والظن لا يغني عن الحق شيئاً، والله عليم بما يفعلون، نتيجة اتباعهم للظن من الأعمال السيئة.

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وفي النهاية تخاطب الآية -بأسلوب التهديد- مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يتبعون أي منطق سليم وتقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(9).

من هنا، يعتبر جماعة من علماء الأصول هذه الآية وأمثالها دليلاً علی أن الظن لا يمکن أن يکون حجة وسنداً بأي وجه من الوجوه، وأنَّ الأدلة القطعية هي الوحيدة التي يمکن الاعتماد عليها.

إلا أنّ جماعة أخری يقولون: إننا نلاحظ بين الأدلة الفقهية أدلة ظنية کثيرة، کحجية ظواهر الألفاظ، وشهادة الشاهدين العدلين، أو خبر الواحد الثقة وأمثال ذلك، ولذلك فإنَّ الآية المذکورة دليل علی أنَّ القاعدة الأصلية في مسألة الظن هي عدم حجيته، إلاّ أنّ تثبت حجيته بالدليل القطعي کالأمثلة أعلاه.

إلا أنّ الحق هو أنّ الآية أعلاه تتحدث عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها، کظنون وأوهام عبدة الأصنام فقط، ولا علاقة لها بالظن الذي يمکن الاعتماد عليه والموجود بين العقلاء وبناء علی هذا فإنّ هذه الآية وأمثالها لا يمكن الاستناد إليها بأي وجه في مسألة عدم حجية الظن.

بين الظن والحق

ولأن الشرك والطاعة العمياء للأصنام وکَهَنتها، ورموز السلطة والثروة والرجعية -لأنه يسلب العقل ويلغي دوره- فإن المشرکين يتبعون التصورات والظنون وهي لا تجديهم شيئاً، ذلك لأن الظن يعکس حالة صاحبه النفسية، ولا يعکس الحقيقة الخارجية، والإنسان زوِّد بالعقل من أجل أن ينسِّق بين واقعِه وبين الحقائق الخارجية، ويدرء عن نفسه أخطار هذا الواقع، ومثل هؤلاء کمن يرسم خريطة وهمية عن منطقة ثم يسير عليها دون أن يعتمد علی عينه وأحاسيسه.

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، والسؤال: لماذا يتبع هؤلاء الظن بينما زوِّدوا بالعقل والبصيرة؟

الجواب: إن المشرکين يتبعون أهواءهم، ويجعلون هوی الذات وحب النفس محوراً لتحرکهم، فهم لا يهدفون أبداً الوصول إلی الحق حتی يبحثون عن السبيل الذي يوصلهم إليه، وهو العلم ولذلك فهم يرتکبون الجرائم بعلم وإصرار.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، والله يجازيهم علی أفعالهم، ولکن يذکرهم أيضاً بأن اتّباع الظن هو طريق الخطايا، لکي يتجنب المؤمنون ذلك، ويبحثوا عن المعرفة التي توصل إلی الحقيقة.

قرآننا واتّباع الظن والذي يعني التخلص من مسؤولية الحق والعلم

قال الله تعالی: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}(10).

المراد من الظنون، هي الإفرازات السلبية للذهن البشري حينما تعمل فيه المؤثرات الخاطئة. وواضح أنّ کلمة "الظن" لها معنيان مختلفان: فتارةً تطلق هذه الکلمة علی الأوهام التي لا أساس لها، وطبقاً لتعبير الآيات آنفة الذکر تعني الخرافات والأوهام وما تهوی الأنفس، والمراد من هذه الکلمة في الآية هو هذا المعنی ذاته.

المعنی الآخر، الظن المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويکون مطابقاً للواقع غالباً، وعليه يکون مبنی العمل في اليوم -مرةً أو أکثر- کشهادة الشهود في المحکمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك، فلو أعرضنا عن مثل هذه الأُمور وعوّلنا علی اليقين القطعي لاضطربت الحياة واختلّ نظامها.

وبالتدبر في هذه الآية وما سبقها في قوله تعالی: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}(11). نجد أن القرآن الكريم ينسف أفکار ومعتقدات المشرکين من أساسها نسفاً، وذلك ببيان أنها لا رصيد لها أبداً من الواقع والحق، وأنها لا تقوم إلا علی الأوهام والظنون. {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ} أي: ليست هذه الأصنام الآلهة إلا أسماء {سَمَّيْتُمُوهَا} أي: وضعتموها {أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ} ليس لها مصاديق ومسميات {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا} أي: ما أنزل الله معها أي برهان يستدل به علی ألوهيتها، {مِنْ سُلْطَانٍ} أي: برهان وحجة.

فهي لا واقعية لها، وليس لديکم دليل من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي علی مدّعاکم، وليس لديکم إلا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

فهي إنما مجرّد أسماء ورموز لا مسميات لها، ولعلّ معنی ذلك أن قوة هذه الأصنام نابعةٌ من ظنونکم وأوهامکم، لا من واقعِ حق وراء ذلك، أَوَليس ما يتصوره البشر من صور خيالية قائمة بنفسها، ويکفي لإزالتها مجرد توقف الخيال عن تصورها؟ لهذا لو أوقف المشرك توهمهه لقدسية الأصنام فسوف لا يبقی منها شيء، وکذلك الطغاة وهي الأصنام البشرية، تزول قوتهم وهيبتهم بمجرّد إحساس المستضعفين بواقع أمرهم وانتزاع وهم القدسية عنهم، أليس کذلك؟

ثم إنّ هذه الأسماء لا شرعية لها، لأن الشرعية تأتي من عند الله وحده، وليس هناك دليل علی أنّ الله أمر بعبادتها أو التوسل بها إليه. وإنما قال تعالی: {أَنْتُمْ} وأضاف إليها {وَآَبَاؤُكُمْ} لکي يؤکد مسؤوليتهم عن انحرافهم، وأنه لا يجوز إلقاء مسؤولية الانحراف علی آبائهم وحدهم، ونستوحي من هذه الآية أنّ منهج المشرکين الخاطئ خليطٌ من أمور ثلاثة:

الأول: وراثة الضلالة من الآباء، بينما الشرعية الحقيقية يأخذها الإنسان من ربه لا من آبائه.

الثاني: الظنون، وهي الإفرازات السلبية للذهن البشري حينما تعمل فيه المؤثرات الخاطئة.

الثالث: أهواء النفس، ودورها: التمهيد للظنون أولاً، وترسيخها کما ترسخ ذلك التقديس الخاطئی للآباء، لأنها تلتقي معه ثانياً. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}.

وبالتدبّر في هذه الآية وما سبقها يتضح لنا أن حرکة الإنسان نحو الزيغ تبدأ من أهواء النفس الذي يتحول إلی تمنٍ، إلی ظنٍ (خيال)، ثم تتحول التمنيات إلی عقيدةٍ وفکرة، ثم يؤطر البشر ذلك برموز وأسماء يزعمونها، فالأصنام إذن ليست رموزاً للملائکة ولا القوی الطبيعية، إنما هي تجليات للأهواء النفسية والمصالح المادية، فحينما يحبّ الإنسان الثروة، ويتخيل لهذا الحب رمزاً ومذهباً، ثم حينما يعبده فهو لا يعبد الصنم ولا الثروة، إنما يعبد أهواءه وشهواته، وهکذا الذي يعشق الجمال أو الجنس... ولو قمنا بدراسة تحليلية عن الأوثان والأصنام التي عبدها الجاهلون في شبه الجزيرة العربية، أو تلك التي علّقوها في الکعبة، أو الأخری التي تقدَّس وتعبد هنا وهناك، لخلصنا إلی نتيجة واحدة وهي أنها ترمز إلی قوی اجتماعية واقتصادية وسياسية أو ثقافات وتقاليد وأساطير عند أصحابها، وأنّ عبادتها ليست إلا عبادةً للأوهام والأهواء المتجذرة في نفوسهم.

وهذا الضلال ليس نتيجة انعدام الهدی أو غموضه، فقد جاءهم الهدی من ربهم، وعلی لسان أفضل خلقه وأبلغهم وهم الأنبياء، ولکنهم ترکوا العقل إلی الجهل، والعلم إلی الظن، والهدی إلی الهوی.

ويتلخص لنا من توضيح الآية المبارکة ما يلي: أي: {وَمَا لَهُم بِهِ} أي: بذلك {مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} من الخيالات والأوهام، {وإِنَّ الظَّنَّ} من الأوهام {لا يُغني} أي: لا يجدي {مِنَ الحَقِّ شَئياً} في الوصول إلی الحق.

قرآننا، وقاعدة عدم حجية الظن

لقد أثبت علماء الأصول بجملة {آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(12) قاعدة عدم حجية الظن، وقالوا: إنّ هذا التعبير يوضح أنّه لا يمکن إثبات أي حکم من الأحکام الإلهية بدون القطع واليقين، وإلا فإنه افتراء علی الله وحرام(13).

قرآننا، وآية أخرى على عدم حجية الظن

قال الله تعالی: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}(14).

خلفية الخوف من الجبت والطاغوت هو الشرك بالله، وفي هذه الآية يذکرنا ربنا بحقيقة الشرك الذي ليس هو سوی الظن والوهم (تصورات وخيالات) بينما الله وحده مالك کل من في السماوات والأرض، ومن بينها أولئك: المعبودون من دون الله باسم الشرکاء، وأنظمة الحياة التي تساعد الأحياء علی البقاء، إنها بدورها من الله، فهو الذي جعل الليل ليسکن فيه الأحياء، وجعل النهار مضيئاً، کل ذلك آيات لمن يفتح أذنه للسماع. وليس من قوة في الأرض ولا في السماء إلا وهي خاضعة لله.

وتوضيحاً للآية الشريفة نقول: لا خوف علی المؤمنين بل لهم النصر والعزة، وأن أصحاب السلطة ليسوا في الواقع سوی مملوکين لله، کما أن الملائکة والجن من سکان السماوات الذين يُعبَدون من دون الله، ويزعم البسطاء أن لهم تأثيراً حاسماً علی أحداث الحياة ويعيشون الرعب من تأثيراتهم، کل أولئك مملوکين لله.

{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض} خلقاً وملکاً، {وَمَا يَتَّبِعُ} الکافرون آلهتهم {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} علی أنها {شُرَكَاءَ} لله علی الحقيقة، إذ لا دليل ولا برهان لهم علی کلامهم، فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} والأوهام وليسوا علی يقين مما هم فيه، {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} يخمنون أو يکذبون والخرص هو کل قول أطلق عن ظن وتخمين. ففي الحقيقة هؤلاء ليسوا شرکاء لله، بل عباد مربوبون، کأي شخص أو شيء آخر، وفي الواقع اتباعهم لهؤلاء نابع من التصور والوهم.

فخلفية الشرك بالله العظيم، هي اتباع الخيال والاحتمال، فمن يتبع العقل يتخلص من التصورات النابعة من قوة الخيال، أو من ضغوط الشهوات، لأن العقل يميط بين الخيال النابع من الحب والغضب (الهوی) وبين الرؤية الصافية للحقائق، کما أن من يتبع العلم يتخلص من سلطان الاحتمالات التي لا مرجح لأحدها علی الآخر، أما الجاهلي فإنه يتبع الظن والخرص، وهما يدعوانه إلی الخضوع للشرکاء.

ويتضح إلی هنا ما يلي: أن کلمة (الخرص) وردت في اللغة بمعنی الکذب، وکذلك وردت بمعنی الحدس والتخمين، وفي الأصل -کما قاله الراغب في مفرداته- بمعنی حزر الفواکه، ثمّ تخمينها علی الأشجار، ولما کان الحدس والتخمين، يخطيء أحياناً، فإنّ هذه المادة قد جاءت بمعنی الکذب أيضاً.

وأساساً، فإنّ اتِّباع الظن والحدس الذي لا يستند إلی أساس ثابت يجر الإنسان في النهاية إلی وادي الکذب عادة، والأشخاص الذين جعلوا الأصنام شريکة لله سبحانه وتعالی لم يکن لهم مستند في ذلك إلا الأوهام.. الأوهام التي يصعب علينا اليوم حتی تصورها، إذ کيف يمکن أن يصنع الإنسان تماثيل ومجسمات لا روح لها، ثم يعتبر ما صنعه وخلقه ربّاً له وأنّه هو صاحب إرادته، وأن أمره بيده؟! يضع مقدراته في يده وتحت تصرفه ويطلب منه حل مشاکله؟! أليست هذه الدعوی من أوضح مصاديق الزيف والکذب؟

بل يمکن استفادة هذا من الآية کقانون کلي عام وهو أنّ کل من يتبع الظن والأوهام الباطلة فإنّه سينجر في النهاية إلی الکذب، إنّ الحق والصدق قائم علی أساس القطع واليقين، أمّا الکذب فإنّه يقوم علی أساس التخمينات والظنون والشائعات! ويتلخص لنا مما مضی:

أن الآية المتقدمة تدين الظن والوهم مرّة أخری وتردّه، لکن لما کان الکلام عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها، فإن الظن هنا لا يعني الظن العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد، مثل شهادة الشهود وظاهر الألفاظ والإقرارات والمکاتبات. وبناء علی هذه فإنّ الآية أعلاه لا يمکن أن تکون دليلا علی عدم حجية الظن.

قرآننا، وحجية خبر الواحد

قال الله تعالی: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(15).

قال بعض المفسرين کالطبرسي في مجمع البيان، هنالك قولان في شأن نزول هذه الآية. فقال الطبرسي أن الآية الکريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} نزلت في (الوليد بن عقبة) وذلك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله)  أرسله لجمع الزکاة من قبيلة بني المصطلق فلمّا علم بنو المصطلق أنّ مبعوث الرسول (صلّى الله عليه وآله)  قادم إليهم سّروا کثيراً وهُرعوا لاستقباله، إلا أنّ الوليد حيث کانت له خصومة معهم في زمان الجاهلية شديدة، تصور أنهم يريدون قتله، فرجع إلی النبي (صلّى الله عليه وآله)  ومن دون أن يتحقق في الأمر، وقال: يا رسول الله إنهم امتنعوا عن دفع الزکاة، ونعرف أن عدم دفع الزکاة هو نوع من الوقوف بوجه الحکومة الإسلامية، فغضب النبي (صلّى الله عليه وآله)  لذلك وصمم علی أن يقاتلهم فنزلت الآية آنفة الذکر(16).

وأضاف بعضهم أن النبي (صلّى الله عليه وآله)  حين أخبره الوليد بن عقبة بارتداد قبيلة (بني المصطلق) أمر خالد بن الوليد بن المغيرة أن يمضي نحوها وأن لا يقوم بعمل حتی يتريث ويعرف الحقّ، فمضی خالد ليلاً وصار قريباً من قبيلة بني المصطلق وبعث عيونه ليستقصوا الخبر فعادوا إليه وأخبروه بأنهم مسلمون (أوفياء لدينهم) وسمعوا منهم صوت الآذان والصلاة، فغدا خالد عليهم في الصباح بنفسه فوجد ما قاله أصحابه صدقاً فعاد إلی النبي (صلّى الله عليه وآله)  وأخبره بما رأی فنزلت الآية آنفة الذکر، وعقّب النبي (صلّى الله عليه وآله)  عليها: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان». وذکر بعض المفسرين قولاً آخر في شأن نزول الآية وعوّلوا عليه فحسب، وهو أنّ الآية نزلت في (مارية القبطية) زوج النبي (صلّى الله عليه وآله)  وأم ابراهيم (عليه السلام) لأنه قيل للنبي (صلّى الله عليه وآله)  أن لها ابن عمٍّ يُدعی جريحاً تتردّد إليه أحياناً وبِينهما علاقة غير مشروعة فأرسل النبي (صلّى الله عليه وآله)  خلف علي (عليه السلام) فقال له: يا أخي خذ السيف فإن وجدته عندها فاضرب عنقه... فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) السيف، ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: أكونُ في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة، أمضي لما أمرتني أم الشاهد يری ما لا يری الغائب، فقال (صلّى الله عليه وآله): بل الشاهد يری ما لا يری الغائب، قال علي  (عليه السلام): فأقبلتُ متوشحاً بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلما عرف أني أريده أتى نخلةً فرقى إليها ثمّ رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا أنّه أجبّ امسح ماله مما للرجال قليل ولا كثير، فرجعت فأخبرت النبي  (صلّى الله عليه وآله)  فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت(17). من هنا علی الإنسان أن لا يکترث بأخبار الفاسقين.

کان الکلام في الآيات السابقة علی الآية مورد البحث علی ما ينبغي أن يکون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيهم محمد (صلّى الله عليه وآله)  وقد ورد في الآيات المتقدمة أمران مهمان: الأول: أن لا يقدموا بين يديه. الثاني: هو مراعاة الأدب عند الکلام معه وعدم رفع الصوت فوق صوته.

من هنا، فلکي نحصِّن التجمع الإسلامي من التهافت والتآکل لا بد أن ننمِّي فيه احترام القيادة الشرعية، ونحصِّنه من إشاعات الفاسقين الذين دأبهم تخريب العلاقات، ونجعل قرار الرسول أو من يخلفه هو الحکم الفصل في العلاقات، ونشکر الله بذلك علی إسباغ نعمة الإيمان علينا حين حببه إلی نفوسنا، وکره إلينا الکفر والفسوق، أوَليس ذلك فضل عظيم ونعمة من الله اجتبی لهما الصالحين من عباده بعلم وحکمة؟

والملاحظ أن السياق کرَّس القيادة الإسلامية واحترامها قبل کل شيء، لأنها الضمانة لسائر التعاليم کما أکد علی مسؤولية الأمة تجاه الصلح بين طوائفها ضمانة أخری لذات التعاليم.

في کتاب ربنا الکريم شفاء لأمراض المجتمع المستعصية لو استشفيناه ونفذنا تعاليمه، والصراع أعظم تلك الأمراض الذي يقتلع نهج القرآن الکريم جذوره البعيدة، ألا تری کيف يحصِّن التجمع الإيماني من رياح الفتنة بتذکير المسلمين عن دور الأنباء الکاذبة التي يبثها الفسقة فيفرقون بين الناس، ونهيهم عن الاسترسال معها، لأنها تؤدي إلی معارضة قوم أبرياء.

فتقول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ذلك أن دوافع الفاسق ومنطلقاته شيطانية فقد يکذب أو يمشي بنميم أو ينقل جانباً من الحقيقة ويسکت لنقعَ في أخطاء جسمية، أبرزها إثارة الفتن في المجتمع.

الفاسق الذي تجاوز الحدود الالهية لا يمکنه أن يکون موجِّهاً للأمة، ومجرد الاستماع إلی نبأه دون تحقيق وتثبيت يجعله في مقام التوجيه.

{أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أي لکي لا يورطکم الفاسق في معارضة فئة مؤمنة من دون تحقيق منکم، ثم تندموا بعد فوات الأوان. ونستوحي من الآية المبارکة عدة مفاهيم:

1ـ إن أکثر الصراعات الاجتماعية التي تعصف بالمؤمنين منشؤها الفاسقون الذين لا تروق لهم وحدة المؤمنين فيثيروا الفتنة بينهم وحين نتفکر في واقع المسلمين اليوم نجد أنَّ الذين يهيِّجون نار الصراع بينهم هم في الأغلب أبعد الناس عن القيم، وقد تکون سوابقهم السيئة وأحقادهم ضد الإسلام، وخشيتهم من الفضيحة هو السبب في تطرُّفهم ضد هذه الطائفه أو تلك. وإذا استطاع المؤمنون إبعاد أثر الفسقة عن تجمعاتهم قدروا علی سدّ أکبر ثغرة تهدد کيانهم.

2ـ واليوم حيث يتعرض المسلمون لغزو ثقافي وهجمة إعلامية عبر ألوف المؤسسات الدعائية المتنوعة ترانا أحوج مما مضی إلی تنفيذ هذه الوصية الإلهية أن نتبيَّن عما يقولون؛ لأنهم فسقة لا يتقون الله فيما يقولون، هذه الوکالات الخبرية التي تمولها وتقودها الأنظمة هل تلتزم بالصدق؟ هذه الصحف الصفراء التي تنطق باسم المترفين والطغاة هل ترعی جانب الحق؟ هذه الإذاعات التي تصب في آذاننا وأذهاننا کل يوم سلالاً من المعلومات المختلطة هل نضمن صدقها؟ کلا.. إذاً لا بد من التثبت، ولکن کيف؟ لأن حجم الأفکار والأخبار التي تبث عبر أجهزة الدعاية کبير، فإن قدرة الأفراد علی التثبت منها محدودة، فلا بد إذًا من وجود مؤسسات موثوق بها تقوم بدور المصفاة وتنتقي السمين وتقدمه للمؤمنين.

هذه المؤسسات قد تکون معاهد ومراکز للدراسات والبحوث، وقد تکون تنظيمات دينية، وقد تکون خبراء أکفاء يرجع إليهم المؤمنون في توثيق المعلومات، وقد تکون مؤسسات إعلامية بديلة، إذاعة صادقة، صحيفة ملتزمة أو وکالة للأنباء موثوق بها.

3ـ وأنّی کانت هذه المؤسسات فإنها أعمال اجتماعية لا ينظم أمرها إلا تحت إشراف القيادة الشرعية للأمة، فمن دون القيادة تذهب جهود الأفراد سدی، لأن مثل هذه الأعمال الکبيرة لا ينهض بعبئها آحاد الناس، کما أنه لو لم تکن القيادة شرعية فإنها بذاتها تصبح مبعث الخطر، ولمثل هذا يذکِّر السياق القرآني بنعمة الرسالة والرسول وضرورة العودة إليه.

4ـ إن خبر العادل حجة، قالوا بالرغم من أن الآية لا تدل علی حجية خبر العادل صراحة وبصورة مباشرة، بل بما يسمی لديهم بمفهوم الوصف الذي لا حجية فيه عندهم، إلا أن فائدة بيان الوصف هنا ليست إلا أن الحکم يدور مدار مثل أن نقول: إذا ذهبت لزيارة مريض فتجنب مواکلته، وإذا زرت بلاد الکفر فتزود بالبوصلة لصلاتك.. وما أشبه.

5ـ ماذا يعني التبيّن؟ يبدو أنه يشمل کل أسلوب يؤدي إلی حالة الوضوح عند الإنسان، ولأن الله قد خاطب عامة المؤمنين بهذه الکلمة، فإن مفهوم التبيّن يکون عرفياً أيضاً، بمعنی أن کلما تطمئن إليه نفس الإنسان العادي، حتی لا يبقی فيه شك معقول أو ارتياب يعتني به العقلاء کاف حجة عند الله في الموضوعات.

فسواءً کانت البينة (شهادة عدلين) أو الشياع المفيد للطمأنينة، أو شهادة الخبراء من خلال مجموعة متراکمة من الشواهد والآثار أو خبر العاقل العادل فإنه من التبيّن عند العقلاء، علی أن العقلاء لا يعتمدون علی بعض هذه الأدلة إذا کانت الظروف المحيطه باعثة للشك الحقيقي مثلاً: الشياع الذي يعتقد أن منشأه شائعة مغرضة لا يورث طمأنينة في النفس فهو إذاً ليس بحجة.

کما أن خبر العادل فيما لا يخفی عند غيره يرتاب فيه العقلاء إذا انفرد به کما لو أنبأنا بأن الإذاعة الفلانية نشرت هذا الخبر، علماً بأنها لونشرته لسمع أکثر الناس وتناقلوه، أو أخبر برؤية الهلال في ليلة صافية مما نعلم أنه لورآه هذا العادل لرآه غيره أيضاً، وإذا لم يشهد برؤيته غيره فان العقلاء يشکون في کلامه، کذلك الحوادث الخطيرة لا يعتمد العقلاء عادة علی الخبر الواحد فيها مثل الحروب.

عموماً: حالة التبيّن تختلف عند العقلاء حسب الموضوعات فلا بد من الالتفات إلی ذلك، ولعل الحکمة التي سيقت في خاتمة الآية هي محور الحکم فعلينا أن ندور مداره، ونتفکر کيف نتجنب الوقوع في الجهالة والندم.

وعوداً علی عدم جواز الأخذ بقول الفاسق وذلك لما تبينه الآية من السبب في ذلك، فتقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} أي: بخبر ذي شأن {فَتَبَيَّنُوا} صدقه من کذبه بالبحث والتحقيق {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي: لئلا تصيبوا قوماً وأنتم جاهلون بحالهم {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

نعم يتضح السبب في ذلك من خلال الشرط الثاني من الآية وهي: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. فلو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله)  قد أخذ بقول (الوليد بن عقبة) واعتبر قبيلة بني المصطلق مرتدين أي: أنهم ارتدوا عن الإسلام وقاتلهم لکانت فاجعة ومصيبة عظمی، وسيأتينا توضيح القصة.

ويستفاد من لحن الآية التالية أن جماعة من أصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله)  أصرُّوا علی قتال بني المصطلق، فقال لهم القرآن الکريم إن هذا هو الجهل بعينه وعاقبته الندم.

واستدل جماعة من علماء الأصول علی حجية خبر الواحد بهذه الآية لأنها تقول إن جاءکم فاسق بنبأ فتبينوا... ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبأ فلا يلزم التبيّن ويصح قبول خبره، إلا أنّه أشکل علی هذا الاستدلال بمسائل عديده أهمها مسألتان:

المسأله الأولی: إنّ الاستدلال المتقدم ذِکره متوقف علی قبول (حجية مفهوم الوصف)، والمعروف أنه لا حجية لمفهوم الوصف. طبعاً -وکما تقدم- يتصور بعضهم أن المسألة هنا من قبيل مفهوم الشرط ومفهوم الشرط حجة، في حين أنه لا علاقة هنا بمفهوم الشرط، إضافةً إلی ذلك فإن الجملة الشرطية هنا لبيان الموضوع ونعرف أنه في مثل هذه الموارد لا مفهوم للجملة الشرطية أيضاً فلاحظوا بدقة(18).

المسألة الثانية: إنّ العلة المذکورة في ذيل الآية فيها من السعة ما يشمل خبري العادل والفاسق معاً لأن العمل بالخبر الظني -مهما کان- ففيه احتمال الندم.

لکن هاتين، المسألتين يمکن حلهما، لأن مفهوم الوصف وأي قيد آخر في الموارد التي يراد منها بيان القيد في مقام الاحتراز حجة، وذکر هذا القيد -قيد الفاسق- في الآية المتقدمة طبقاً للظهور العرفي لا فائدة منه تستحق الملاحظة سوی حجية خبر العادل!

وأما في مورد التعليل الوارد في ذيل الآية فالظاهر أنه لا يشمل کل عمل بالأدلة الظنية، بل هو ناظر إلی الموارد التي يکون العمل فيها بجهالة، أي العمل بسفاهة وحمق لأن الآية عولت علی الجهالة، ونعرف أن أغلب الأدلة التي يعوّل عليها العقلاء جميعاً في العالم في المسائل اليومية هي دلائل ظنية (من قبيل ظواهر الألفاظ وقول الشاهد وقول أهل الخبرة، وقول ذي اليد وأمثالها). ومعلوم أنه لا يعدّ أيٌّ منها بأنه جهالة ولو لم يطابق الواقع أحياناً، فلا تتحقق هنا مسألة الندم فيه لأنه طريق عام.

وعلی کل حال فإننا نعتقد بأنّ هذه الآية من الآيات المحکمات التي فيها دلالة علی حجية خبر الواحد حتی في الموضوعات، وهناك بحوث کثيرة في هذا الصدد ليس هنا مجال شرحها.

إضافةً إلی ذلك فإنّه لا يمکن إنکار أن مسألة الاعتماد علی الأخبار الموثقة هي أساس التأريخ والحياة البشرية، بحيث لو حذفنا مسألة حجية خبر العادل أو الموثّق من المجتمعات الإنسانية لبطل کثير من التراث العلمي والمعارف المتعلقة بالمجتمعات البشرية القديمة وحتی کثير من المسائل المعاصرة التي نعمل علی ضوئها اليوم. ولا يرجع الإنسان إلی الوراء فحسب، بل تتوقف عجلة الحياة، لذلك فإنّ العقلاء جميعاً يرون حجيته والشارع المقدس أمضاه أيضاً (قولاً وعملاً).

وبمقدار ما يعطي خبر الواحد (الثقة) الحياة نظامها فإنّ الاعتماد علی الأخبار غير الموثقة خطير للغاية، ومدعاة إلی اضطراب نظام المجتمع، ويجر الوبال والمصائب المتعددة، ويهدد الحيثيات وحقوق الأشخاص بالخطر ويسوق الإنسان إلی الانحراف والضلال وکما عبّر القرآن الکريم تعبيراً طريفاً في الآية محل البحث: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

وهنا لطيفة أود إلفات نظر قارئي الکريم إليها فهي تسترعي الانتباه، وهي أنّ صياغة الأخبار الکاذبة والتعويل علی الأخبار غير الموثقة من الأساليب القديمة التي تتبعها النظم الاستعمارية والديکتاتورية لتخلق جواً کاذباً ينخدع به الجهلة من الناس والمغفلون فتنهب أموالهم وأرصدتهم بهذه الأساليب وما شاکلها. فلو عمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي، الوارد في هذه الآية علی نحو الدقة ولم يأخذوا بأخبار الفاسقين دون تبيّن لکانوا مصونين من هذه البلايا الخطيرة.

والجدير بالذکر أن المسألة المهمة هنا هي الوثوق والاعتماد علی الخبر ذاته، غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الاعتماد علی الشخص المخبر تارة، وتارةً من القرائن الأُخرى الخارجية، ولذلك فإننا قد نطمئن إلی (الخبر) أحياناً وإن کان (المخبِر) فاسقاً.

فعلی هذا الأساس، فإن هذا الوثوق أو الاعتماد کيف ما حصل، سواءً عن طريق العدالة والتقوی وصدق القائل أم عن طريق القرائن الخارجية، فهو معتبر عندنا، وسيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية علی هذا الأساس.

ولذا فإننا نری في الفقه الإسلامي کثيراً من الأخبار ضعيفة السند لکن لأنها جری عليها عمل المشهور ووقُف علی صحة الخبر من خلال قرائن خاصة، فلذلك أصبحت هذه الأخبار -الضعيفة السند- صالحة للعمل وجرت فتاوی الفقهاء علی وفقها.

وعلی العکس من ذلك قد تقع أخبار عندنا قائلها معتبر ولکنّ القرائن الخارجية لا تساعد علی قبولها، فلا سبيل لنا إلا الإعراض عنها وإن کان المخبر عادلاً ومعتبراً. فبناءً علی هذا إنّ المعيار هو الاعتماد علی الخبر نفسه، وإن کان الغالب کون الوسيلة هي عدالة الراوي وصدقه لهذا الاعتماد إلا أن ذلك ليس قانواً کليًّا، فلنلاحظ بدقة.

قرآننا، وبيان كيف تسري وتتموج الفتنة في المجتمع المسلم؟

إنها تبدأ بشائعة تتلقفها الألسن ثم لا تلبث أن تتحول إلی تيار يحرف معه البسطاء، والانتهازيين، والفوضويين آنئذ تطفق الفتنة وأصحابها بالضغط علی القيادة الشرعية التي عليها أن تختار بين الاستسلام لعاصفة الفتنة، أو خسران شريعة إجتماعية، فما هو الحلّ؟

الحل ينحصر في تجلي المجتمع بروح الانضباط وأن يعي الجميع أبعاد نعمة القيادة فيشکروها شکراً عملياً، حقاً إن المجتمع الذي يعي أهميه القيادة الشرعية يتحصن ضد عواصف الفتنة الداخلية بذات الصلابة التي يقاوم بها عواصف التحديات الخارجية، لذلك يأمر القرآن الکريم بأن نعلم دور الرسول فينا، ثم من يخلفه ويرث مقامه بدرجة ما.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أي: ولا تنسوا أن فيکم رسول الله، فهو إذاً مبعوث من عند الله يحمل رسالة الحکمة والمعرفة والبصيرة، وما دام کذلك فلا بد من الرجوع إليه عند الفتن والشبهات، ولا يجوز الضغط أو الإصرار عليه بقبول آرائکم وأهوائکم، لأن ذلك ليس من مصلحتکم.

{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}(19) وکيف لا تصيبهم المشقة والعنت وقد خالفوا العلم إلی الجهل، والحکمة إلی الجهالة؟! والمراد من {لَعَنِتُّمْ} أي: لوَقعتم في العنت، والعنت هو المشقة والوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشق علی الإنسان.

وهذه الآية ونصوص دينية أخری تستهدف فصل الفسقة عن المجتمع الإسلامي نفسياً، وتقليل دورهم في إدارة القضايا الاجتماعية، فإذا امتنع المسلمون عن العمل بأخبار الفاسقين، فقد أبعدوهم عن القضاء والإعلام، والشهادة في المحاکم وعن أعمال أخری.

من هنا نجد المفسر المعروف القرطبي ينقل هنا نصاً عن ابن العربي يحسن بنا الاستماع إليه يقول: "ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق ومن لا يؤتمن علی حبة مال کيف يصبح أن يؤتمن علی قنطار دين، وهذا إنما کان أصله أنّ الولاة الذين کانوا يصلّون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمکن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم، -وأضاف- ثم کان من الناس من إذا صلی معهم تقية أعادوا الصلاة لله، ومنهم من کان يجعلها صلاته، وبوجوب الإعادة أقول فلا ينبغي لأحد إن يترك الصلاة مع من لا يرضی من الأئمة ولکن يعيد سراً في نفسه ولا يؤثر ذلك عند غيره"(20).

قرآننا، وحجية الإجماع

يعتبر الإجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة، وهو بمعنی اتفاق علماء الإسلام حول مسألة فقهية، وذکروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإثبات حجية الإجماع، ومن ضمنها قوله تعالی:

{وَمَنْ يُشَاقِقِ} يشاقق: أي يخالف مع العداوة، {الرَّسُولَ} ولا يطيعه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} أي: اتضح {لَهُ الْهُدَى} أي: الحق، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: ويتبع طريقاً غير طريق المؤمنين وذلك بشق عصا المجتمع الإسلامي القائم علی طاعة الله ورسوله، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي: نترکه وما اختار لنفسه، فنوجهه الوجهة التي ارتضاها لنفسه ونحرمه من التوفيق لتمييز الحق من الباطل، وندفعه في طريق الضلال {وَنُصْلِهِ} أي: وندخله في الآخرة نار {جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(21).

إذ يعتبر بعض فقهاء الإسلام هذه الآية دليلاً علی حجية الإجماع لأنها تقول أنّ من يختار طريقاً غير المؤمنين سيکون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والأخرة. وبناء علی هذه الآية، فإنّ أي طريق يختاره المؤمنون-في أي مسألة کانت- يجب علی الجميع السير في هذا الطريق.

والحقيقة أن هذه الآية لاصلة لها بمسألة حجية الإجماع، لا من قريب ولا من بعيد، وطبيعي أننا نقبل حجية الإجماع الذي يکشف لنا عن قول المعصوم (عليه السلام)، ولکننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلاً لحجية هذا الإجماع، وليس الآية المذکورة.

والسبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية علی حجية الإجماع، هو أنها تعيِّن أولاً: عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النبي (صلّى الله عليه وآله)  صراحة وعن علم وإدراك، ويختارون طريقاً غير طريق المؤمنين، فهذان العنصران يشکلان بأن هذا المصير إنما يتحقق لدی اختيار الشخص العنصرين المذکورين عن علم ودراية، وليس لهذا الموضوع أية صلة بمسألة حجية الإجماع، ولا يدل بوحده علی هذه الحجية.

قرآننا، ومنع القياس في الأحكام

وقبل البحث في هذه المسألة لا بد من مقدمة وهي أنه يبدو أن القرآن الحکيم يذکرنا بالموضوع الأساسي في سورة الأعراف حيث تبين طبيعة الإنسان، وأسباب انحرافه، لقد خلق الله الإنسان وجعل له الأرض مکاناً ومحلاً للرزق، ولکن رد فعله لم يکن الشکر، ولکن لماذا لم يشکر؟

إن هذا يعود إلی قصة الخطيئة الأولی، حيث خلق الله آدم وجعله في أحسن صورة وتقويم وأعطاه الروح، والعلم، والإرادة، وأمر الملائکة بالسجود له، فلم يسجد إبليس له لأنه خُلق من نار بينما خُلق آدم من طين وهذا يعتبر أول قياس وهو قياس الشيطان وهکذا تکبر إبليس فطرد من السماء وأخرج صاغراً، بيد أن إبليس طلب المهلة، فأعطاه الله ما طلب، فأستغل إبليس مهلته في إغواء البشر عن الصراط المستقيم وأقسم أنه سيأتيهم من قدامهم ومن خلفهم، ومن قِبل أيمانهم وشمائلهم، ليحرفهم عن الشکر لله، لذلك أخرج ربنا إبليس کما أخرج الذين يتبعونه، وأوْعدهم النار، وأن يملأ بهم جهنم جميعاً، هکذا کانت جذور الانحراف عند الإنسان.

والآن مع الآيات -مورد البحث- وتوضيحها:

من نعم الله علی الإنسان تمکينه في الأرض، وتذليل الأرض وتسخيرها له، وجعل الله فيها معايش البشر، وما به تستمر حياتهم.

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ} أي: سلَّطناکم أو اسکناکم، أي: ولقد مکَّنَّاکم من التصرف {فِي الأَرْضِ} أو: ولقد أسکناکم في الأرض {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي: أسباب العيش أي: وجعلنا لکم فيها أسباباً متنوعة تعيشون بها، بيد أن البشر لا يفکرون في أسباب النِّعم وعواملها، لذلك لا يشکرون عادة مَن أنعم بها عليه، {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} علی ذلك!

من أين تنشأ عادة الجريمة؟

في قصة آدم وإبليس توضيح لهذا السؤال، لقد خلق الله البشر وصور خلقه جوهراً وصورة وهيئة، وربما المراد من الصورة هي ما أودع الله عند الإنسان من صفات وأخلاق، ومن غرائز وفطرة، وبالتالي العقل والإرادة کما قال سبحانه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(22).

وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(23)، أي: لقد خلقنا الإنسان من حيث الجسم والعقل والروح في أحسن تقويم، فجعلناه صالحاً للعروج إلی الرفيق الأعلی والفوز بحياة سعيدة خالدة عند ربه لا شقاء فيها، وذلك بما جهَّزناه به من العلم النافع ومکَّنَّاه منه من العمل الصالح.

وقال تعالی: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}(24)، لأن هيکل الإنسان وتناسب أعضائه يؤهله لإنجاز ما لا يقوی عليه شيء من سائر الموجودات الحيَّة من صناعة وزراعة وتجارة ورزقکم من الطيبات المتنوعة التي تلائم طبيعة الإنسان من الحبوب والفواکه واللحوم وغيرها، ذلك الله المدبر لأمرکم.

وبعدئذ أمر الله الملائکة بالسجود لآدم، وربما کان السجود رمزاً لکرامة العلم والإرادة عند البشر، ورمزاً لتسخير الحيلة له بفضل العلم والإرادة، بيد أن الهدف من بيان قصة إبليس هنا، يختلف عن ذلك الهدف في سورة البقرة، حيث کان الهدف هناك -حسب الظاهر- هو: بيان تسخير الحياة للإنسان بفضل العلم، أما الهدف منها هنا فهو: بيان واقعة الخطيئة کيف؟ ولماذا وقعت؟ {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} الذي يمثل الإنسانية وينوب عنها {فَسَجَدُوا} خضوعاً له وتکرمة {إِلا إبليس} الذي کان مع الملائکة ولم يکن منهم بل کان من الجن {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}(25).

لماذا عصى إبليس؟

ولکن ما هي الصفة التي کانت في إبليس، فمنعته عن السجود بعد ما جاء الأمر الصريح؟

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(26)، لقد کان جواب إبليس واضحاً، لقد کان سبب عصيانه العنصرية، والزعم بأن عنصره أفضل من عنصر آدم، وعموماً هناك مقياسان للإنسان، إما مقياس الذات، وإما مقياس العمل الصالح، فإذا کان مقياس الشخص هو ذاته، فإنه سوف لا يقف عند حد في جريمته، لأنه لا يری شيئاً أقدس من ذاته أو أعلی من نفسه، ومن هنا فإن جذر کل المشاکل البشرية هو: تقوقع الإنسان في ذاته، واعتقاده بأن ذاته هي المقياس، وما الإقليمية، والقومية، والعشائرية، وکل الحواجز الذاتية ما هي سوی آثار لهذه العنصرية المقيتة.

أول قياس هو قياس الشيطان

القياس في الأحکام والحقائق الدينية مرفوض بشکل قاطع في أحاديث عديدة وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)، ونقرأ في هذه الأحاديث أنّ أول من قاس هو الشيطان، قال الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: «لا تقس، فإن أول من قاس إبليس»(27)، وقد روي هذا المطلب في تفاسير أهل السنة قديماً وحديثاً مثل تفسير الطبري عن ابن عباس وتفسير المنار وابن سيرين والحسن البصري(28).

والمراد من القياس هو أن نقيس موضوعاً علی آخر يتشابهان من بعض الجهات، ونحکم للثاني بنفس الحکم الموجود للموضوع الأول من دون أن نعرف فلسفة الحکم وأسراره کاملة، کأن نقيس بول الإنسان المحکوم بالنجاسة، ووجوب الاجتناب عنه بعرق الإنسان، ونقول: بما أن هذين الشيئين يتشابهان من بعض الجهات وفي بعض الأجزاء، لهذا يسري حکم الأول إلی الثاني فيکون کلاهما نجسين، في حين أنهما حتی لو تشابها من جهات فهما متفاوتان مختلفان من جهات أخری أيضاً، فأحدهما أرق والآخر أغلظ، والاجتناب من أحدهما سهل، ومن الآخر صعب وشاق جداً، هذا مضافاً إلی أنه ليست فلسفة الحکم الأول معلومة لنا بالکامل، فمثل هذا القياس ليس سوی قياس تخميني لا أکثر.

ولهذا السبب منع أئمتنا (عليهم السلام) من القياس بشدة؛ لأنّ فتح باب القياس يتسبب في أنْ يعمد کل أحد بالاعتماد علی دراسته المحدودة وفکره القاصر وبمجرد أن يعتبر موضوعين متساويين من بعض الجهات، أن يعمد إلی إجراء حکم الأول علی الثاني، وبهذا تتعرض قوانين وأحکام الدين إلی الهرج والمرج.

إن بطلان القياس عقلاً ليس مقصوراً علی القوانين الدينية فحسب، فالأطباء هم أيضاً يؤکدون في توصياتهم علی أن لا تعطی وصفة أيّ مريض لمريض آخر مهما تشابها في بعض النواحي، وفلسفة هذا النهي واضحة، لأنه قد يتشابه المريضان في نظرنا من بعض النواحي، ولکن مع ذلك يتفاوتان من جهات عديدة، مثلا من جهة القدرة علی تحمل الدواء، وفئة الدم، ومقدار السکر في الدم، ولا يستطيع الأشخاص العاديون من الناس أن يشخصوا هذه الأمور، بل تشخيصها يختص بالأطباء وذوي الاختصاص في الطب، فلو أعطيت أدوية مريض لآخر دون ملاحظة هذه الخصوصيات، فمضافاً إلی احتمال عدم الانتقاع بها، فإنّها ربّما تکون منشأً لسلسلة من الأخطار غير القابلة للجبران.

والأحکام الإلهية أدق من هذه الجهة، ولهذا جاء في الأحاديث والأخبار أنه لو عُمل بالقياس لمحق الدين، أو کان فساده أکثر من صلاحه(29).

أضف إلی ذلك أن اللجوء إلی القياس لاکتشاف الأحکام ومعرفتها دليل علی قصور الدين، لأنه إذا کان لکل موضوع حکم في الدين لم تکن أيَّة حاجة إلی القياس، ولهذا فإنّ الشيعة حيث أنهم أخذوا جميع احتياجاتهم من الأحکام الدينية من مدرسة أهل البيت وورثة النبي (صلّى الله عليه وآله)  لم يروا حاجة الی اللجوء إلی القياس، ولکن فقهاء السنة حيث إنهم تجاهلوا مدرسة أهل البيت (عليه السلام) الذين هم حسب نص النبي (صلّى الله عليه وآله)  الملجأ الثاني للمسلمين بعد القرآن الکريم لذلك واجهوا نقصاً في مصادر الأحکام الإسلامية وأدلتها، ولم يروا مناصاً من اللجوء إلی القياس.

وأما في مورد الشيطان، فنحن نقرأ في النصوص والروايات أنه کان أول من قاس، والنکتة فيها أنه قاس خلقته -من الناحية المادية- بخلقة آدم، وتمسك بأفضلية النار علی التراب في بعض الجهات، واعتبر ذلك دليلاً علی أفضلية النار من جميع النواحي، من دون أن يلتفت إلی امتيازات التراب، بل ومن دون أن يلتفت إلی امتيازات آدم الروحانية والمعنوية، فحکم علی طريق ما يسمی بقياس الأولوية، ولکن قياساً علی أساس التخمين والظن والدراسة السطحية والمحدودة، بأفضليته علی آدم، بل ودفعه هذا القياس الباطل إلی تجاهل الأمر الإلهي. والملفت للنظر أنه ورد في بعض الروايات المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في مؤلفات الشيعة والسنة معاً أنه قال: «من قاس أمَر الدين برأيه قَرَنَه الله تعالى يوم القيامة بإبليس»(30).

فإنّ قياس موضوع بموضوع آخر من دون علم بجميع أسراره وفلسفته، لا يصح أن يکون دليلاً علی اتحاد حکمهما، ولو أنّ القياس تطرق إلی مسائل الدين وقضايا الشريعة لم تبق للأحکام ضابطة ثابتة، إذ يمکن حينئذ أن يقيس شخصٌ ما موضوعاً بنحو، ويصدر حکماً بحرمته، ويقيس شخص آخر الموضوع نفسه بنحو آخر ويصدر حکماً بحليته.

والمورد الوحيد الذي يمکن استثناؤه من هذا الأمر هو ما إذا ذکر المقنّن أو الطبيبُ نفسه دليل حکمه وفلسفة قانونه، ففي هذه الحالة يجوز لنا إذا رأينا هذا الدليل وهذه الفلسفة في موضوع آخر أن نجري الحکم فيه ونعدّية إليه أيضاً، وهذا هو ما اصطلح عليه بالقياس المنصوص العلة، مثلاً: إذا قال الطبيب للمريض: يجب أن تتجنب تناول الفاکهة الفلانية لأنها حامضة، علم المريض بأنّ الحموضة تضره، وأنه يجب أن يتجنب الحموضة وإن کان في فاکهة أخری.

وهکذا إذا صرّح القرآن الکريم أو صرّحت السنة الشريفة بأن: تجنّبوا الخمر لأنه مسکر، علمنا أن کل مسکر حرام (وإن لم يکن خمراً) ويجب اجتنابه.

إنّ هذا القياس ليس باطلا ولا ممنوعاً، لأنه معلوم الدليل ومنصوص العلة مقطوع بها والقياس الممنوع هو فيما إذا لم يکن بدليل الحکم وفلسفته بصورة القطع ومن جميع الجهات.

علی أن مبحث القياس مبحثٌ واسع الأطراف، وما مضی من البحث ما هو إلا عصارة منه، ولمزيد التوضيح والاطلاع يمكنك-أيها القارىء- مراجعة کتب أصول الفقه وکتب الأخبار في باب القياس، ونحن نختم البحث الحاضر بذکر بعض الأحاديث في هذا المجال:

جاء في کتاب علل الشرائع، دخل أبو حنيفة علی الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس؟ قال: نعم، أنا أقيس. قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النـار عـرف فضـل من بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر(31).(32).

قرآننا، وحجية القياس

إنّ هذه المسألة تطرح عادةً في أصول الفقه، وهي أننا لا نستطيع إثبات الحکم الشرعي عن طريق القياس کقولنا مثلا: (إن المرأة الحائض التي يجب أن تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها کذلك) -أي يجب أن تکون استنتاجاتنا من الکلي إلى الجزئي، وليس العکس- وبالرغم من أنّ علماء أهل السنة قد قبلوا القياس في الغالب کأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، فإنّ قسماً منهم يوافقوننا في مسئلة (نفي حجية القياس).

والظريف هنا أن بعض مؤيدي القياس أرادوا أن يستدلوا بمقصودهم بالآية التالية: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ}(33) أي قيسوا النشأة الأُخری (القيامة) علی النشأة الأولی (الدنيا) إلا أنّ هذا الاستدلال عجيب، لأنه أولاً: إن المذکور في الآية هو استدلال عقلي وقياس منطقي، ذلك أنّ منکري المعاد کانوا يقولون: کيف تکون لله القدرة علی إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الکريم بالمفهوم التالي: إنّ القوة التي کانت لها القدرة علی خلقکم في البداية هي نفسها ستکون لها القدرة لخلقکم مرة ثانية، في الوقت الذي لا يکون القياس الظني بالأحکام الشرعية، بهذه الصورة أبداً، لأننا لا نحيط بمصالح ومفاسد کل الأحکام الشرعية.

وثانياً: إنّ من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية، فمثلا يقول تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}(34) ونفهم بطريق أولى ألا نؤذيهما من الناحية البدنية، والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظني مورد الخلاف والنزاع، لأنه لم يکن شيء من المخلوقات في البداية، والله (عزّ وجلّ) خلق الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب، ولذا فإن إعادة الإنسان إلی الوجود مرة أخری أيسر من خلقه ابتداءً، وتعکس الآية الکريمة التالية هذا المفهوم حيث يقول تعالی: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} من غير سابق مثال {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد إهلاکه {وَهُوَ} أي: الإعادة {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} من البدء، طبعاً بالقياس إلی أصول الإنسان وإلا فهما في السهولة سواء.

يعني بتعبير أجلی: إن الله تعالی يبدؤ الخلق بقدرته، إذاً فهو أهون عليه حين يعيده، وبالنسبة إلی المخلوق فإنّ تقليد شيء مصنوع أسهل من ابتکاره، أمّا بالنسبة إلی الخالق المبدع فإنّ الأمور لا تقاس بالصعوبة أو بالسهولة، لأنّ أمره بين الکاف والنون، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(35) وإنما عبَّر بأنّه أهون لبيان هذه الحقيقة، أنّ إعادة الشيء بعد الخلق بذاتها أهون من ابتداع خلقه (حتی ولو کانا بالنسبة إلی قدرة الله سواءْ) فلماذا نراهم يؤمنون بأول الخلق، ويکفرون برجعته، وهي عند الله يسير؟!

ولأنّ لربنا المثل الأعلی فلا يمکن أن نقيس به شيئاً فهو الأعلی مما نری ومما لا نری في السموات والأرض، ولا يجوز إذاً أن نشبهه بشيء أو نتوهمه أو نتصوره سبحانه، جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية: «الذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهم فذلك المثل الأعلى»(36).

 

* الهوامش:

(1) سورة الحج، الآية8.

(2) تفسير الامثل، ج10، ص203.

(3) سورة الزمر، الآية55.

(4) المجمع، ج8، ص503.

(5) سورة الملك، الآية2.

(6) سورة الزمر، الآية18.

(7) تفسير البرهان، ج4، ص79، للبحراني (قدّس سرّه).

(8) سورة الزمر، الآية55.

(9) سورة يونس، الآية36.

(10) سورة النجم، الآية28.

(11) سورة النعم، الآية23.

(12) سورة يونس، الآية59.

(13) يرجی من قارئي الکريم، مراجعة تقارير البحث الخارج، لأستاذنا آية الله العظمی الشيخ ناصر مکارم الشيرازی دام ظله العالی، لوجود بحوث في هذا الاستدلال ذکرها في مباحث علم الأصول.

(14) سورة يونس، الآية66.

(15) سورة الحجرات، الآية6.

(16) تفسير مجمع البيان، ج9، ص132.

(17) تفسير مجمع البيان، ج9، ص132 بتصرف، کما ورد في تفسير نور الثقلين بصورة مسهبة، ج5، ص81.

(18) من حواشي تفسير الأمثل علی الآية.

(19) سورة الحجرات، الاية 7.

(20) نفس المصدر، ص 213.

(21) سوره النساء، الآية 115.

(22) سورة الحجر، الآية 29.

(23) سورة التين، الآية 4.

(24) سورة غافر، الاية 64.

(25) سورة الاعراف، الآية 11.

(26) نفس السورة، الآية 12.

(27) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 6.

(28) تفسير المنار، ج 8، ص 321، وتفسير الطبري، ج 8 و9، وتفسير القرطبي، ج 4، ص 2067.

(29) وسائل الشيعة، ج 18، باب القياس.

(30) تفسير المنار، ج 8، ص 331، ونور الثقلين ج 2، ص 7.

(31) نور الثقلين، ج 2، ص 6، وعلل الشرائع، ص 86.

(32) تفسير الامثل، ج4، ص 398.

(33) سورة الواقعة، الآية 62.

(34) سورة الاسراء، الآية 23.

(35) سورة يس، الآية 82.

(36) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 180


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا