قانون الأحكام الأسرية (من خطبة الجمعة 1426هـ لآية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم -حفظه الله-)

قانون الأحكام الأسرية (من خطبة الجمعة 1426هـ لآية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم -حفظه الله-)

قال سماحة العلامة الشيخ عيسى أحمد قاسم في خطبة الجمعة الثامنة عشر بعد المئتين الموافقة لليوم الأول من شوال لسنة 1426هـ :

نقرأ بين يدي الحديث في هذا الموضوع هذه الآيات الكريمة:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً}(1).

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(2).

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(3).

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(4).

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(5).

وأسأل: هل أحكام الأسرة مما قضى الله ورسوله فيها أمراً أم لا؟.

وهل أحكام الأسرة مما حكم به ما أنزل الله أو مما لم يحكم به ما أنزل الله على رسوله(ص)؟

ثم أليس «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»؟

لماذا القانون؟

طرح دعاة القانون بلا ضمانات ـ أو بضمانات غير كافية ـ الأسباب الإعلامية التالية:

1) صعوبة الرجوع إلى الرسائل العملية وكتب الاستدلال لاستخراج الأحكام القضائية.

2) عدم اعتماد مصدر محدد في الأحكام والانفتاح على أكثر من رسالة عملية وكتاب استدلالي يربك موقف المدّعي، المدّعى عليه والمحامي، ويحرمهم الوضوح الكافي والاطلاع الكافي في القضايا التي هي محل التداعي والاهتمام.

3) تكثُّر الحكم في الواقعة الواحدة بتكثُّر الفتاوى التي يتفاوت القضاة في الرجوع إليها.

هذه هي الأسباب الإعلامية. وهذه كلّها لو صدقت لعالجها قانون تحميه الضمانات العلمائية من التلاعب الذي يحرفه عن الشريعة.

أما ما هي الخلفية الحقيقية للإصرار على هذا القانون؟ فهناك مطالبةٌ تاريخيةٌ تمتد زمناً كانت تركز على قانون للأحوال الشخصية تتمتع من خلاله المرأة بالحقوق التي تمتعت بها المرأة في الغرب كما يدّعون، وتقترب بالحياة التشريعية في هذا البلد إلى النمط التشريعي في البلاد الغربية.

ونقرأ في صحيفة الأيام (2/11/2005م):

وهي ـ أي الضمانات المشترطة من قبل العلماء ـ كما نلاحظ مطالب وشروط واشتراطات تتنافى وتتعارض مع مفاهيم الديموقراطية التي نريد إشاعتها».

فمطلوب أن يشيع التصويت الديموقراطي بالنسبة للأحكام الشرعية(6)

ويقول أيضاً:

«بينما تأتي جماعات وجمعيات لتطالب بمنع التعديل على القوانين وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين تشترط ضمانة دستورية تمنع التعديل وتحظره حاضراً ومستقبلاً وهو ما لم يحدث في التجارب الديموقراطية السابقة واللاحقة»!!

فالمطلوب من القانون هو أن يكون قانوناً قابلاً للتغيير إن لم يمكن الانحراف به عن خط الشريعة اليوم صار ذلك ممكناً غداً، وخوفهم من الضمانات أنها تقف في وجه هذه التعديلات والتغييرات، وهذا ما يعطيه ظاهر العبارة بكل وضوح.

أما صحيفة الوسط (الثلاثاء 1 /نوفمبر /2005م) فقد جاء فيه عن حوار أجراه مساعد وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى (سكوت كاربنتر) عبر الأقمار الصناعية من مقرّه في واشنطن إلى مقر السفارة الأمريكية في الزنج (المنامة):

«وفي شأن تمكين المرأة قال كاربنتر: (إن منتدى المستقبل يدفع باتجاه تمكين المرأة من خلال تحسين القوانين في المنطقة مما يرفع دورها في الشأن العام كاشفاً أن البحرين هي واحدةٌ من الدول المدرجة ضمن قائمة البلدان الشرق أوسطية التي تتقدم في تعزيز دور المرأة؛ ولذلك فإن البحرين ستحتضن مؤتمراً إقليمياً عن القوانين الأسرية في الشرق الأوسط الموسّع وشمال أفريقيا مطلع العام المقبل للتحاور مع مختلف الأطراف بشأن هذا الموضوع الاستراتيجي».

أي تحسين لوضع المرأة؟! هو تحسين على الطريقة الأمريكية، ومن منطلق النظرة الأمريكية وبما ينقل الساحة كل الساحة إلى الرؤية الأمريكية، يبدو أن المرأة المسلمة محظوظةٌ جداً دون أخيها الرجل في السياسة الأمريكية. أتصدّقون؟! أتطمئن المرأة لأمريكا التي تستولي على أرض العراق؟! وتستولي على أرض أفغانستان، وتقف مع إسرائيل، وتحكم الطوق على البلاد الإسلامية، وتفرض هيمنة حكومات عميلة كثيرة على أرض الإسلام، أتطمئن المرأة المسلمة أن أمريكا تقف معها في خندق واحد ضد أخيها الرجل المسلم، ضد زوجها المسلم، وضد ابنها المسلم حرصاً على مصلحتها؟!

إنَّ قانون الأحكام الأسرية كما يريدونه ـ لا كما نريده بضمانات كافية ـ يعني تأهلاً للمؤتمر القادم، ويعني طلب تزكية من أمريكا، وطلب شهادة شرف، وشهادة تقدُّم؛ لأننا سنكون قد سبقنا البلدان الأخرى في الأخذ بالمرأة في الاتجاه الغربي، وسبقنا البلاد الأخرى على خط التشريعات الغربية، وطرد القرآن من المساحة المتبقية في حياة المسلمين.

الضمانات المطلوبة ليست أكثر من ثلاث ضمانات:

1) ينشأ القانون شرعياً ويبقى شرعياً.

2) شرعيته بموافقة المرجعية الدينية العليا ـ واخترنا أن تكون المرجعية في النجف الأشرف ـ عليه ابتداءً وعند أي تغيير ولو طفيف لا بموافقة المؤسسة التشريعية الوضعية. فإن موافقة المؤسسة التشريعية الوضعية على أي تغيير واضحٌ جداً أنها لاتمثل حكم الله، وأي مجلس وطني لايمثل مرجعية دينية لأي فرد مسلم، وترك مصير القانون بيد أي مؤسسة وضعية معناه توقيعٌ منّا على مجافاة الإسلام، على مجانبة الإسلام، على إدارة الظهر للإسلام.

3) لابد من مادة دستورية ضامنة لمؤدّى البندين السابقين، وغير قابلة للتغيير.

الضمانات والموقف العقلائي:

كل العقود والعهود والمواثيق تقوم على طلب الأطراف الداخلة فيها كل الضمانات التي تكفل لها مصلحتها. ما من عقد ولا عهد ولا ميثاق إلا ويحاسب الأطراف فيه على مستوى الكلمة، والحرف الواحد من أجل ضمان مصلحة هذا الطرف، وضمان مصلحة ذلك الطرف.

عقد إيجار بيت تحترز فيه ما أمكنك، وتأخذ من القيود كل ماتستطيع من أجل ضمان مصلحتك. هذه هي سيرة العقلاء، هذه هي سيرة التاريخ، هذه هي سيرة العالم اليوم كله، ولكم مثال في الدستور العراقي، وكم تحرص الأطراف هناك على أن تكون حظوظها وافرة، وأن تكون حقوقها مكفولة.

وماذا فعلت حكومتنا في البحرين هنا على مستوى الميثاق والدستور وهي طرف قوي؟!

إن قوتها لم تكفها عن تضمين الميثاق، وعن تضمين الدستور سنة 73 وعن الدستور المُعتمد أخيراً عند الدولة عن إدراج في كل من الميثاق والدستور تضمن بقاء الحكم الوراثي، وينص فيها على أنها غير قابلة للتغيير.

فليس بدعاً أن يشترط المؤمنون لأنفسهم مايضمن بقاء دينهم وسلامة أعراضهم وأنسابهم حاضراً ومستقبلاً، على أن ليس كل تعويلنا على المادة الدستورية، وإنما الموقف الشعبي المؤمن هو الضمانة الكبرى بعد الاتكال على الله عزّ وجل، ولكن هذا لايعفينا أبداً أبداً أبداً عن طلب ضمانة دستورية تضمن لنا البقاء على خط الإسلام ولو في هذه المساحة المحدودة.

مع المسيرة:

تقرر عند المجلس الإسلامي العلمائي أن تكون مسيرة علمائية جماهيرية حاشدة إن شاء الله يوم الأربعاء القادم الساعة الثالثة والنصف تبتدأ من دوار كرباباد(7).

وإن موقف المؤمنين من القانون يمكن أن يكون أحد ثلاثة على مستوى الأرض: أن يكون موقفاً مؤيداً لقانون بلا ضمانات وفيه استرخاص للدين، واستهانة بالأعراض، ومفارقة لكتاب الله وسنة رسوله(ص)، ولا أظن بمؤمن أن يرتكب مثل هذا الأمر.

موقف التفرّج، أن يقف المؤمنون من القانون موقف المتفرج، وموقف الصمت، وهو موقف لم نتعوّده من مسلم غيور، ولا يأذن به كتاب ولاسُنّة، وهو موقف يوصف بأنه موقف الشيطان الأخرس.

لم يبق للمؤمن إلا موقف المعارض.

لماذا المسيرة؟

1) لقد ملأوا الدنيا إعلاماً وجعلوا من القانون الذي يريدونه بلا ضمانات أو بضمانات مهلهلة غير ملزمة منقذاً وخلاصاً وضرورة لابد منها.

حاولوا أن يستثيروا الهمم، وأن يحشّدوا الجماهير، وأن يسرقوا الرأي العام، وأن يستغفلوا الكثيرين بحملة إعلامية سُخّرت لها الملايين. فلابد من مقابلة الحملة الإعلامية بصوت واضح جاهر صريح.

2) صوروا وعلى المستوى الإعلامي أن غالبية الشعب مع قانون بلا ضمانات.

وعلى الشعب أن يرد، وعلى الغالبية أن تُفصح عن رأيها(8).

3) سكوت الجماهير المؤمنة المعارضة سيحمل على تأييد القانون بلا ضمانات وسيعتبر ضوءاً أخضرَ لتمريره(9).

4) إذا تأخر يوم المعارضة الصارخة الجماهيرية الواسعة بعض الشيء سقطت قيمة المعارضة(10).

5) هذا القانون لو مرر فلا عودة عنه إلا بالدماء، وقد لاتفيد الدماء الغزيرة كذلك، ولكم في العراق مثال(11). حاولت الحكومة الانتقالية في العراق وقتها أن تعيد كل أهل مذهب إلى مذهبهم في الأحكام الأسرية إلا أن أمريكا والعلمانيين أحدثوا ضجةً كبرى اضطرت الحكومة العراقية وقت ذاك أن تعود إلى قانون الأحوال الشخصية الذي سنّه صدام.

على أننا لانريد أن تصل البلد إلى أن تبذل أي قطرة دم وخاصة بين أبنائها.

6) الواجب الشرعي الحتمي المتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحماية الشريعة والذي لانملك وسيلة لأدائه أنسب من هذا الأسلوب السلمي الهادئ.

7) كون أحكام الأسرة من أحكام أحد الأمور الثلاثة الاحتياطية جداً وهي: الدماء والأعراض والأموال، ولقيمة الأعراض فإن الأموال والدماء يُضحّى بها في الإسلام من أجلها.

لأهمية الأعراض تبذل دمك ومالك في سبيل حفظ عرضك، هذه هي أهمية الأعراض في الإسلام(12).

بعد هذا كُلِّه أجزم أنّ من واجبي شخصياً أن أدعو إلى هذه المسيرة المباركة وأن أخرج فيها وحتى لا أكون شيطاناً أخرس(13).

وهي مسيرة لكل الأعمار، لكل المستويات، للرجل والمرأة، وأخص لتفحم بموقفها الرسالي الصريح المعلن الذي تخندق مع الإسلام كل الأصوات المفترية على المرأة المسلمة والتي تريد أن تستغفلها وتستخفها وتظن أنها قابلة للاستخفاف.

نريد من المرأة موقفاً صريحاً ومكثّفاً وأن تكون كثافة تواجدها وحضورها في المسيرة أكثر من كثافة وتواجد الرجل.

والمسيرة لاتعني حرباً مفتوحةً مع الحكومة، ولسنا على خط المواجهة الساخنة، ولكنه الواجب الحتمي الذي لا مفرّ منه، والذي نسترخص في سبيله أي شيء.

والمسيرات الحقوقية الدينية والدنيوية في نظرنا ضرورة، وليست هواية، وهذه واحدة من المسيرات الضرورية.

وأنا أسأل: كيف صارت ساحتنا ساخنةً كثيراً؟ لماذا ساحتنا ساخنةٌ في الكثير؟ إنه موقف الحكومة الذي يدفع في هذا الاتجاه.

المشكلة بعد المشكلة، وكل يوم تفتح حرباً، وكل يوم تُدخل البلد في مضيق، فمن مسألة الدستور، إلى مسألة التمييز، إلى مسألة التجنيس، إلى مسألة البطالة...

وتأتي الآن القوانين الجهنمية الظالمة وآخرها هذه المحاولة وليست الأخيرة، هذا الموقف الحكومي هو الذي يوقد ويشعل الساحة، ويستغرب المرء كثيراً لبلد يريد أن يهدأ، لساحة تريد أن تهدأ، لانعطافة حدثت وبشّرت بحالة استقرار وأمن وإخاء ومحبة كيف يعقبها هذا الزلزال المتواصل؟! وهذه التحديات المتوالية التي لن تترك للحكومة صديقاً على هذه الأرض إلا من قَلَّ.

نصيحتي للحكومة أن تصالح شعبها لا من خلال الكلمة فقط، وإنما من خلال الموقف، وإن الشعب لأسرع في الاستجابة إلى الخير من الحكومة لو جرّبت.

 

* الهوامش:

(1) سورة الأحزاب، الآية:36.

(2) سورة المائدة، الآية:44.

(3) سورة المائدة، الآية:45.

(4) سورة المائدة، الآية:47.

(5) سورة الحاقة، الآيتان:44 ـ 46.

(6) وإذا دخل التصويت دائرة الأحكام الشرعية في موضوع الأنساب والأعراض، لم يبعد دخوله دائرة الحج والصوم والصلاة.

(7) هتاف جموع المصلين بـ (معكم معكم ياعلماء).

(8) هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).

(9) هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).

(10) هتاف جموع المصلين بـ (بالروح بالدم نفديك يا إسلام).

(11) هتاف جموع المصلين بـ(الله أكبر) و(النصر للإسلام).

(12) هتاف جموع المصلين بـ(بالروح بالدم نفديك يا إسلام).

(13) هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا