فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) موجودة في أرض قم (القسم الأول)

فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) موجودة في أرض قم (القسم الأول)

المقدمة

باسمه تعالى، لا يمكن لأي فرد حينما يريد أن يستفيد من فيض جود إنسان، أو يريد أن يجعله الواسطة له والشفيع من أجل الوصول إلى الغاية المرجوة، إلا بعد أن يعرف مَن يكون ذلك الشخص، وماذا يحمل من مكانة وقدرات ومقامات، لكي يتمكّن من احترام مقامه أولاً، ثم الدخول إليه من الجانب الذي يمكن أن يستجلب منه رضاه، وقبول مناه ومبتغاه.

وقد أردت من هذه الكتابة أن أبيّن إحدى خصائص وفضائل ومقامات كـريمة أهـل البيت (عليها السلام) -التي نحظى بشـرف مجاورتها، ونقتاد

على مائدة جودها بدون انقطاع، فهي الظل الظليل والعشّ الذي تهوي إليه أفئدة العاشقين للعلم والهداية فتشملهم بعناياتها الشاملة، وألطافها المنتشرة فتدفئهم بنور الولاية- ألا وهو مقام شباهتها بجدتها سيدة الوجود فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبيان بعض صور العلاقة بينهما، فإن هناك خصائصَ فريدة بين هاتين السيدتين العظيمتين ومشتركات وأسرار قد اكتسبتها سيدة قم من أمها سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ومن الصعب على قاصر قليل الجهد اكتشافها والغور في سبار معرفتها، إلا أنني أحاول بقدر ما توصلت إليه بعد بحث متواضع سريع أن أكتب بعض المشتركات الموجودة بينهما، فإن السيدة المعصومة حازت واستجمعت العديد من كمالات الزهراء (عليها السلام) والتي من أهمها عصمتها التي وإن كانت بمستوى دون العصمة الكاملة وكمالاتها دون كمال أمها الزهراء (عليها السلام) -سيدة الوجود- إلا أن ذلك في حدّ ذاته ينبئ عن خصوصية وشأن رفيع لها لم تحزه الكثيرات من قريناتها، بل كان من شرفها العالي أن خُصّت ببعض الأوسمة التي لم تُجعل لأحد دونها، كخصيصة تجلّي قبر أمها الزهراء (عليها السلام) في قبرها، كما هو منقول ومشهور على لسان أحد الفقهاء -والذي سيأتي بيانه-: "...جعل الله قبر السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) موضعاً يتجلّى فيه قبر الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وإن ما قدّر لقبر الصديقة الزهراء (عليها السلام) من الجلال والعظمة والشأن -لو كان معلوماً ظاهراً- جعله الله تعالى لقبر السيدة المعصومة"(1).

ولا عجب في ذلك فإن البنت مرآة أمها، وهي شبيهة الزهراء وابنتها من طرف ابنيها معاً الحسن والحسين، هذا الأمر الذي أكده الإمام الرضا (عليه السلام) في زيارتها (عليها السلام) حين قال: «...السلام عليكِ يا بنت الحسن والحسين...»، فالمعلوم أن المعصومة (عليها السلام) تنحدر من سلالة الحسين (عليه السلام)، إلا أنه يظهر معنى كونها بنت الحسن بالرجوع إلى نسب الإمام الباقر (عليه السلام) من جهة أمّه (عليها السلام)، وهي فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، فتكون هذه جدة للإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، وبذلك تكون السيدة المعصومة (عليها السلام) بنتاً للإمام الحسن (عليه السلام) أيضاً من طرف الأم.

وهو ما يوضح لنا النزر اليسير من مقاماتها، ومن الجهل أن نتصورها -السيدة المعصومة (عليها السلام)- بما هي امرأة عادية ابنة للإمام كما هو حال أولاد الأئمة وهم كثيرون وهي إحداهن، وأن لا نبدي لها ذلك الاحترام لشأنها ونقصّر في زيارتها، الأمر الذي يكشف عن الحرمان، وسلب التوفيق، والتقصير في معرفة مقامات الأولياء والصالحين والصالحات من أهل البيت (عليهم السلام).

ألم يقل الإمام المعصوم في حقها: «فإن لكِ شأناً من الشأن»؟ ألم يقل (عليه السلام) في صحيحة السند: «من زارها فله الجنة»؟ فضلاً عن الكثير مما ورد عنها...

وإن كون هذه العظيمة امرأة لا يقعد بها ذلك عن بلوغ أرفع الدرجات، ويجعلها من فضليات البشر، فشأنها في الفضل والمنزلة لا يدانيه أكثر الرجال، وهي من التاليات للمعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) في الشأن والمنزلة عند الله تعالى وعند الأئمة (عليهم السلام).

أسأل الله أن يبصّر قلوبنا لمعرفة الوسائل وطرق الوصول إليه، ويعفو عن زللنا وتقصيرنا، وأسأله العفو والمغفرة عن أي زلة أو فهم خاطئ واشتباه صدر مني في سطور هذه الكتابة، فإنه المبصّر المسدد للصواب وهو على كل شيء قدير.

الشباهة الأولى: البيت الرفيع

امتازت السيدتان العظيمتان بكونهما قد ترعرعتا في ما اتصل بمنبع واحد، في بيت واحد، وأيّ بيت كان ذلك الذي هو من أسمى البيوت التي رفع الله قدرها وأعلى ذكرها، وأشاد بها في كتابه ومدحها.

لقد أجاب بذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لما سُئل بعد قراءة الآية: «{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ...}، أي البيوت هذه؟ فقال (صلَّى الله عليه وآله): هي بيوت الأنبياء، فقام رجل فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ -وكان يقصد بيت علي وفاطمة (صلَّى الله عليه وآله)- فأجابه الرسول (صلَّى الله عليه وآله): نعم من أفاضلها»(2).

وفي حديث الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: «{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ...} قال: «هي بيوت الأنبياء (عليهم السلام) وبيت علي (عليه السلام) منها»(3).

وجاء في كلام الإمام موسى بن جعفر عن أبيه (صلَّى الله عليه وآله) في الآية المتقدمة، قوله (عليه السلام): «هي بيوت آل محمد (صلَّى الله عليه وآله)، بيت علي وفاطمة والحسن والحسين وحمزة وجعفر (عليهم السلام)»(4).

نعم، فإن تلك البيوت التي وُصِفت بالرفعة والعزّة والعظمة، والشرف والكرامة، والتي نزل فيها القرآن الكريم، وهبطت فيها الملائكة هي بيوت محمد (صلَّى الله عليه وآله) وآل محمد (عليهم السلام) الطاهرين المكرمين، وفي تلك البقعة التي نشأت فيها فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفاضت أنفاسها الطاهرة عليها في المدينة المنورة ولدت فيها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ونشأت وترعرعت في أوساطها، وتلقت علومها وفقهها فيها من قِبل أساطينها، وأخذت الأخلاق والآداب من أركانها من أبيها الإمام موسى ابن جعفر (عليه السلام) ومن شقيقها وخليصها الإمام الرضا (عليه السلام)، حتى صارت من أفاضل نساء زمانها.

ويؤيد ذلك كله بل يدل عليه ما ورد عن المعصوم في زيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) من تأكيد إلى نسبة السيدة المعصومة إلى بيت النبوة أولاً مبتدئاً فيه بآدم عندما يقول: «السلام على آدم صفوة الله، السلام على نوح نبي الله...الخ» وصولاً في ذلك إلى بيت الإمامة بيت فاطمة وعلي فيخاطبها الإمام الرضا (عليه السلام) ليعلّمنا كيف نزورها ويبين نسبتها لتلك البيوت وللزهراء (عليها السلام) قائلاً: «السلام عليكِ يا بنت رسول الله، السلام عليكِ يا بنت فاطمة وخديجة، السلام عليكِ يا بنت أمير المؤمنين، السلام عليكِ يا بنت الحسن والحسين، السلام عليكِ يا بنت ولي الله، السلام عليكِ يا أخت ولي الله، السلام عليكِ يا عمة ولي الله، السلام عليكِ يا بنت موسى بن جعفر، ورحمة الله وبركاته»(5).

الشباهة الثانية: الإخبار قبل الولادة

إن اخبار المعصومين (عليهم السلام) بقدوم شخصية محمودة لهذا العالم الدنيوي يبيّن لنا اهتمامهم بذلك الأمر، وتعظيمهم لها والتبشير بمقدمها لهو مما يزيد في خصائص تلك الشخصية ويرفعها الأمر الذي لم يحصل إلا للقلة القليلة من البشر، فكما كانت الأخبار متعددة في الإخبار عن قدوم السيدة الزهراء (عليها السلام) للدنيا فقد امتازت حفيدتها السيدة المعصومة (عليها السلام) بذلك دون الكثير من أولاد و بنات المعصومين (عليهم السلام).

فقد جاء في الأخبار أن جبرئيل بشّر النبي (صلَّى الله عليه وآله) بولادة الزهراء (عليها السلام) قبل انعقاد نطفتها في أثناء عروجه للعالم العلوي، فجاء في رواية التفاحة عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) لما فلقها فرأى فيها نوراً أذهله: «قال جبرئيل: يا محمد! ما لك لا تأكل؟ كلها ولا تخف فإن ذلك النور للمنصورة في السماء وهي في الأرض فاطمة، قلت: حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة؟ قال: سميت في الأرض فاطمة لأنها فَطمت شيعتها من النار وفُطم أعداؤها عن حبها وهي في السماء المنصورة وذلك قول الله عزّ وجلّ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}(6) يعني نصر فاطمة لمحبيها»(7).

ومنها تبشير النبي (صلَّى الله عليه وآله) خديجة (عليها السلام) بقدوم الزهراء (عليها السلام) حيث روي عن المفضل ابن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه (صلَّى الله عليه وآله) قال لخديجة (عليها السلام) في ولادة الزهراء (عليها السلام): «...يا خديجة! هذا جبرئيل يخبرني -أو قال: يبشرني- أنها أنثى وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفائه في أرضه بعد انقضاء وحيه...»(8) إلى آخر ما ورد.

وأما ما بشر به المعصوم (عليه السلام) الناس في قدوم السيدة المعصومة (عليها السلام) والذي كان قبل ولادتها بأكثر من نصف قرن تقريباً ليعد رتبة وشأناً من شؤونها الخاصة المرموقة، وما هو إلا إخبار من جبرائيل من الله وصل إليه المعصوم من أسرار خزانات الإمامة، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ضمن حديث قال: «وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى: فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة، يقول راوي الحديث: وكان هذا الكلام من الإمام الصادق (عليه السلام) قبل أن يولد الإمام الكاظم (عليه السلام)»(9).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً في ضمن حديث آخر أنه قال: «ألا إن لله حرماً وهو مكة، ألا إن لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا إن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم وِلدي بعدي قم، ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها: فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم»(10).

الشباهة الثالثة: خصوصية الاسم

لقد خص الله تعالى ابنة حبيبه باسم كان من أفضل الأسماء وأشرفها علواً ومنزلة والذي كان انتخابه إلهياً، لما للاسم من أهمية في تكوين الإنسان وتأثيره على روحه، ففي المروي عن ابن المسيّب عن أبيه: «أن أباه جاء إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله)، فقال: ما اسمك؟ قال: حَزَن. قال (صلَّى الله عليه وآله): أنت سهل. قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي. قال ابن المسيّب: فما زالت الحزونة فينا بعد»(11).

وفي الرواية عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم: محمد، أو أحمد، أو علي، أو الحسن، أو الحسين، أو جعفر، أو طالب، أو عبدالله، أو فاطمة من النساء»(12).

واسم فاطمة في اللغة: من فطم العود فطماً: قطعه، وفطم الصبي يفطمه فطماً فهو فطيم: فصله من الرضاع، وغلام فطيم ومفطوم وفطمته أمّه، تفطمه: فصلته من رضاعها، وتسمى المرأة فاطمة وفطاماً وفطيمة(13). وعن علة ذلك الاسم روي عن ابن عباس أنه قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «ابنتي فاطمة، حوراء آدمية، لم تحض ولم تطمث، وإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها من النار»(14)، أي منعها ومنع شيعتها من النار.

وكم لهذا الاسم من شأن وخصوصية عند الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم، وكم كان الأئمة (عليهم السلام) يولون لهذا الاسم أهمية فائقة، لا نجدها في سائر الأسماء عندهم. يقول السكوني: «دخلت على أبي عبد الله-جعفر الصادق- (عليه السلام) وأنا مغموم مكروب، فقال لي: يا سكوني ما غمك؟ فقلت: ولدت لي ابنة، فقال: يا سكوني على الأرض ثقلها، وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك، وتأكل من غير رزقك، فسرى والله عني(15)، فقال: ما سميتها؟ قلت: فاطمة، قال (عليه السلام): آه، آه، آه، ثم وضع يده على جبهته... -ثم قال-: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها، ولا تلعنها، ولا تضربها»(16).

إن لهذا الاسم قدسية في نفوس أهل البيت (عليهم السلام)، ولذا ذكر بعض الباحثين أن جميع الأئمة (عليهم السلام) كانت لهم بنات بهذا الاسم، حتى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان اسم أمّه فاطمة واسم زوجته فاطمة، كان له بنت اسمها فاطمة، فيا ترى ما هو الوجه في ذلك؟ إن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يدركون تماماً خصوصية هذا الاهتمام وأبعاده ومغزاه، فإن المسمّيات بفاطمة من النساء كثير، إلا أنه ما إن يطلق هذا الاسم ويتناهى إلى الأسماع حتى تتبادر الأذهان إلى فاطمة بضعة النبي (صلَّى الله عليه وآله) التي كانت واسطة العقد وملتقى النورين ومنشأ السلالة النبوية الشريفة والذرية الطاهرة، وتذكر ذلك يرجع النفوس إلى ما جرى على فاطمة (عليها السلام) من الخطوب والمآسي، ويحيي مصائبها وذلك ما يرمي إليه المعصومون (عليهم السلام)(17).

ومن خصائص السيدة فاطمة المعصومة، هو شباهة اسمها باسم جدتها الزهراء النوراني، واختيار السماء لها اسماً كريماً وهو (فاطمة) وارتضاؤه لها وهو الاسمُ الذي انتخب لجدتها سيدة نساء العالمين، فالمعصومة فاطمة زمانها إن صح التعبير، وهو ما يدل على علو مقامها، ورفعة شأنها، وتميزها من بين بعض أخواتها: بنات الإمام الكاظم (عليه السلام) البالغ عددهن قرابة العشرين بنتاً (على رواية) أو أقل من ذلك باسم فاطمة، فهي أكبر الفواطم الأربع من بنات موسى بن جعفر (عليه السلام)، وأولى من حازت ذلك الاسم.

ولعل لسائل يسأل: كيف يكون الله هو الذي اختار للسيدة المعصومة (عليها السلام) اسم فاطمة، مع أن خبر السماء لا يصل إلى الأرض إلا عن طريق الوحي وبواسطة جبرائيل الذي انقطعت أخباره بعد استشهاد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)؟

والجواب: هو أن الوحي قد نزل على النبي الخاتم (صلَّى الله عليه وآله) بما نزل، وهبط عليه جبرائيل بما هبط، ومن جملة ما هبط به و نزل عليه هو اسم فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (صلَّى الله عليه وآله)، وقد أودع النبي (صلَّى الله عليه وآله) كل علمه وخزانة أسرار الوحي وبما فيه اسم السيدة إلى وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأودع أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك إلى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وهكذا حتى وصلت تلك الخزائن والعلوم إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فسماها به لما ولدت (عليها السلام) له(18)، فكان اسم فاطمة قد أهداه لها الباري ومنحها إياه، وفي ذلك أسرار وحكم.

الشباهة الرابعة: الألقاب

امتازت السيدة المعصومة بعدّة ألقاب عالية الشأن تظهر مكانتها وعلو شأنها وتبيّن خصائصها التي شابهت فيها جدتها الزهراء (عليها السلام) وورثت منها طباعها، فإن معظم تلك الألقاب ما هي إلا ألقاب جدتها في الأصل، وقد ذكر العلامة المتتبع الشيخ علي أكبر مهدي پور(19) أن لفاطمة المعصومة (عليها السلام) عدّة أسماء وألقاب غير الألقاب المشهورة لها -الفاطمة والمعصومة وكريمة أهل البيت (عليهم السلام)- وردت في عدّة من المصادر، وهذه الألقاب هي: 1- الطاهرة، 2- الحميدة، 3- البرّة، 4- الرشيدة، 5- التقية، 6- النقية، 7- الرضية، 8- المرضية، 9- السيدة، 10- أخت الرضا، 11- الصديقة، 12- سيدة نساء العالمين.

وسواء ثبتت تلك الألقاب أم لم تثبت فإن من الواضح انطباق ما تضمنته هذه الألقاب من معان ودلالات على هذه السيدة الجليلة إذا قارنا ذلك بما نزل في شأنها من فضل ومكانة عالية. وسوف نتعرض هنا إلى بعض تلك الألقاب بشكل موجز لنبيّن وجه الشبه منها بجدتها الزهراء (عليها السلام):

أ- الصدّيقة:

الصدّيقة: لقب شريف عظيم مدح الله تبارك وتعالى به مريم (عليها السلام) في القرآن المجيد فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(20)، ولَقّب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فاطمة الطاهرة بـ"الصديقة الكبرى" فقال (صلَّى الله عليه وآله): «وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»(21) وهذا مما ميّزها على مريم. والصدّيق على وزن فعّيل من أبنية المبالغة كما يقال: وهو كثير الصدق، والصدق نقيض الكذب، ومنه قوله تعالى: {واجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ}(22)(23).

ومن خصائص السيدة المعصومة (عليها السلام) فوزها بلقب الصدّيقة الذي جاء التصريح به في الزيارة الثالثة التي تزار بها وقد جائت الزيارة في كتاب زبدة التصانيف(24). فهي الصدّيقة في أقوالها وأفعالها وجهادها وعبادتها وتضحياتها.

ب- المحدِّثة:

من خصائص السيدة المعصومة (عليها السلام) هي كونها محدِّثة -بتشديد الدال وكسرها- عالمة، وراوية معتبرة للحديث، وحديثها -من حيث تقسيم الحديث في علم الدراية والرجال إلى الصحيح والموثق، والضعيف والحسن- يمتاز بالدرجة الأولى من الصحة وفي أعلى مراتبها، ولذلك اعتمد عليها العامة والخاصة، ورووها في كتبهم الحديثية.

والراوي الصادق جليل عند الله وعند أوليائه، عظيم النفع للعباد والبلاد، كما أن رواية الحديث بالأمانة والصدق لهو شرف كبير ومقام رفيع لا يناله إلا ذو حظ عظيم، وجاه عريض.

ومما نالها شرفاً أنها تنقل وتروي أحاديث جدتها الزهراء (عليها السلام)، وأوصلتها لأجيال الشيعة عبر الفواطم العلويات من بنات الزهراء، وفي ما يلي بعض النماذج على ذلك:

حديث الغدير: جاء في كتاب (الغدير) للعلامة الأميني تحت عنوان: (احتجاج الصديقة فاطمة عليها السلام) حديث مسلسل عن كتاب (أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام)) للمقرئ الشافعي، وقد جاء فيه:

1- حدثتنا (فاطمة-أي المعصومة-) وزينب وأم كلثوم بنات موسى بن جعفر (عليهم السلام).

2- قلن: حدثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).

3- قالت حدثتني فاطمة بنت محمد بن علي (عليه السلام).

4- قالت: حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين (عليه السلام).

5- قالت: حدثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي (عليه السلام).

6- عن أم كلثوم بنت فاطمة بنت النبي (صلَّى الله عليه وآله).

7- عن فاطمة بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قالت: «أنسيتم قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ وقوله (صلَّى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى»(25).

ويسمى هذا الحديث مسلسلاً، لأن كل واحدة من الفواطم تروي عن فاطمة أُخرى، وكل واحدة منهن ابنة أخ تروي عن عمتها.

حديث شهادة المحبين: وجاء في موسوعة عوالم العلوم للشيخ المتبحر عبد الله نور الدين البحراني (المدفون بأصفهان) حديث مسلسل في بيان بعض فضائل مودة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبتهم، ومما جاء فيه:

عن فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليه السلام) عن فاطمة بنت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن فاطمة بنت الباقر محمد بن علي (عليه السلام)، عن فاطمة بنت السجاد علي بن الحسين (عليه السلام)، عن فاطمة بنت أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)، عن زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن فاطمة بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قالت: «قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً»(26).

نعم هي المحدِّثة والناقلة لحديث جدتها الزهراء سلام الله عليها، فتكون الاثنتان محدِّثتان(27) ناقلتان لحديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وما أعظم ذلك من منزلة.

ج- سيدة نساء العالمين:

واختصت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بتأهلها لحمل الوسام العظيم واللقب الكريم لقب سيدة نساء العالمين وذلك بحسب ما جاء في زيارتها في الزيارة الثالثة التي تزار بها بناء على ثبوتها وصحّتها، وقد ذكرها المولى حيدر الخوانساري في زبدة التصانيف(28) مما ينبئ عن عظيم منزلتها.

فلقد حملت هذا اللقب العظيم السيدة مريم قبلها، وكانت سيدة نساء عالمها، وحملته هي ولعله لكونها سيدة نساء عالمها وزمانها فلم يكن في زمانها أفضل منها من النساء وهي كبرى أخواتها، وحملته جدتها الصديقة الكبرى والمعصومة العظمى السيدة الزهراء (عليها السلام) وكانت سيدة نساء العالمين (عليها السلام) من الأولين والآخرين وأعظم نساء أهل العالم على الإطلاق ففي الحديث عن المفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبدالله -جعفر الصادق (عليه السلام)- أخبرني عن قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في فاطمة (عليها السلام): إنها سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال الإمام (عليه السلام): ذاك لمريم (عليها السلام) كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة (عليها السلام) سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»(29).

د- التقيّة:

التقيّة: هو من أشرف ألقاب أم الأئمة الأطهار السيدة الزهراء (عليها السلام)، مشتق من وقى يقي وتقوى وتقاة وتقية، والمعنى وقاية، قال الطبرسي (قدِّس سرُّه): "المتقي من أطاع الله ولم يعصه، وشكر نعمته ولم يكفرها، وذكر الله ولم ينسه، وهو المروي عن الصادق (عليه السلام)"(30). وذكر المفسرون وعلماء الأخلاق معان ومراتب للتقوى لا تنتهي بمقام إلا بما قاله النبي (صلَّى الله عليه وآله): «اللهم اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة»، وقد ذكرت تمام مراتب التقوى في قوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(31).

ومن اتصف بهذه الصفات فهو تقي إن كان رجلا، وتقية إن كانت امرأة، والمعنى واحد فيهما، ومنه يلاحظ القارئ المتأمل أن الزهراء لم تلقب بالتقية النقية لمجرد التلقيب والاشتهار بهذا اللقب، وإنما كانت هي كلمة التقوى، وليس في نساء العالمين امرأة مثلها في الخوف والخشية والطاعة والامتثال، وأهل الحق والأولياء يزورونها بهذه الصفة ويعرفون أنها حقيقة التقوى وتمامها(32).

وامتازت السيدة المعصومة (عليها السلام) بكونها تقية ورعة، وهي التي وصلت إلى التقوى بسيرها على منهاج جدتها الزهراء (عليها السلام) سيدة التقوى، وهو الذي جاء في فقرة من فقرات زيارتها الثانية المروية بإسناد صحيح وفي كتب معتبرة حسب ادعاء العلامة الشيخ محمد علي بن حسن كاتوزيان في كتابه أنوار المشعشعين(33).

فكانت أخت الرضا (عليه السلام) هي التقية المتّقية الورعة وسيدة المتقيات في زمانها، وهو ما جعلها ذات شأن من الشأن كما بيّن الإمام والذي لا يصل إليه فعلاً إلا المتقون.

هـ- النقية:

النقية: من النقاء والنقاوة، أفضل ما انتقيت من الشيء، تقول: نقي الشيء ينقى نقاوة ونقاءً فهو نقي: أي نظيف، وانتقاء الشيء أي اختياره. وكانت السيدة المعصومة هي النقية كما جاء في زيارتها الثانية التي تزار بها، فهي التي انتقاها الله من بين خلقه وفضّلها على نساء زمانها بعد أن فضّل الله أمها الزهراء (عليها السلام) ونقّاها على كل النساء بدءاً وختماً، فكانت الأم سيدة نساء أهل العالم من أولهم إلى آخرهم، وكانت البنت سيدة لنساء عالمها وزمانها التي عاشت فيه.

و- الرضيّة المرضيّة:

وهي من ألقاب السيدة الزهراء (عليها السلام) المذكورة على لسان العلماء في بعض زياراتها(34)، والتي تنبئ عن رضا الله بها ورضاه عنها، وهذا اللقب غاية في تمجيد فاطمة الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، التي ظهرت فيها صفة الرضا ونزل في رضاها قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.

ذكر في بعض كتب اللغة في تأويل قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا} إن الله رضي عنهم أفعالهم ورضوا عنه ما أجازهم به وأرضاه أي أعطاه ما يرضى به، وترضّاه أي طلب رضاه.

ونالت ذلك الوسام سيدتنا المعصومة كما جاء ذكره في الزيارة الثانية التي تزار بها. فهي الرضية الخالصة من السخط والتي رضي الله عنها أفعالها، ورضيت عنه ما أجازها به، وهي التي أرضاها الله بما وهبها من محاسن ومكارم، وهي التي ترضّاها الله أي طلب رضاها في منحها مقام الشفاعة.

ز- السيدة:

السيدة من الألقاب المباركة للسيدة الصديقة الكبرى (عليها السلام)، وهو لقب جامع للمكارم والمحامد الحميدة والمعاني العديدة. والسيد: يعني الرب والمالك والشريف والقاضي والكريم، الحليم، الرئيس، المقدم، المطاع في قومه، الصابر، المتحمل أذية القوم، وهو مشتق من (ساد يسود سيادة وأسادِد وسيايد من غير قياس) ووصف يحيى (عليه السلام): {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}(35) أي مطاعاً ومقدماً على الناس، وروي عن الصادق (عليه السلام): «السيد من كان مع الحق صدقاً، وباين الخلق وصفاً».

وكانت فاطمة (عليها السلام) مالكة، شريفة، فاضلة، كريمة، صابرة، حليمة، مطاعة، مقدسة، سيدة نساء الأولين والآخرين، وبهذه الصفات سادت وفاقت الجميع. ونالت شرف هذا الوسام المبارك بحق مرآتها في قم المقدسة السيدة المعصومة (عليها السلام)، والذي جاء في زيارتها الثانية التي تزار بها.

التصريح بذلك اللقب في حقها، مما ينبئ عن عظيم مكانتها العالية، فهي التي فاقت الكثير في العلم والمعرفة التي أوصلتها للعصمة،  وهي السخية الكريمة (كريمة أهل البيت (عليهم السلام)) الملكة الرئيسة الشريفة الرفيعة، وهي التي أنفقت مالها في سبيل زيارة شقيقها الرضا (عليه السلام) وعانت من أجل ذلك، وهي المقهورة من قبل المأمون العباسي وعملائه، المليئة بحلمها التي لم تجابه أعدائها بالمثل.

ح- الطاهرة

الطاهرة من الأسماء الجميلة التي تدل على معنى يصبو إليه كل مؤمن هو الطهارة الباطنية والظاهرية، حيث سُميّت به فاطمة (عليها السلام) كما صرّح به العلماء، وقد دلت عدة روايات مهمة في هذا الباب على مقدار طهارتها (عليها السلام) هذا بالإضافة إلى الشواهد الأخرى التي أيدت هذه المسألة لها (عليها السلام) من طرق من أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، بل هي المحور الذي يدور عليه أهل البيت (عليهم السلام)، وأفضل دليل على طهارتها هو آية التطهير، فهي (عليها السلام) مطهّرة نقية مبرّأة من كل الأرجاس الظاهرية والباطنية وإليك بعض الأحاديث والشواهد التي تدل على أنها طاهرة سواء الطهارة الظاهرية أو الباطنية.

فلقد ورد عن أبي جعفر-الإمام الباقر (عليه السلام)-، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «إنما سميت فاطمة بنت محمد (صلَّى الله عليه وآله) "الطاهرة" لطهارتها من كل دنس، وطهارتها من كل رفث، وما رأت قط يوماً حمرة ولا نفاساً»(36). وعن الصادق (عليه السلام) قال: «إن الله حرّم النساء على علي (عليه السلام) ما دامت فاطمة (عليها السلام) حية، لأنها طاهرة لا تحيض»(37)(38) ومع ملاحظة ما جاء في وصيتها (عليها السلام) قبل الوفاة وعدم لزوم تغسيلها، يتضح جلياً بأنها كانت طاهرة ميمونة في حياتها وبعد مماتها، ولم يحدث الموت فيها رجاسة ولا دناسة.

والسيدة المعصومة (عليها السلام) بسمو روحها وصفاء سريرتها وشدّة حصنها وتقواها نالت هذا اللقب متأسية بأمّها الزهراء سلام الله عليها وذلك كما جاء في فصول زيارتها الثانية التي تزار بها.

الشباهة الخامسة: التشابه الخَلقي

عُقدت نطفة الزهراء من تفاحة أكلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من تفاح الجنة لما عُرج به إلى السماء، فكانت بصورة خُلُقِية وخَلْقيّة في غاية الجمال، وعليه كان التشابه الخلقي والجمال والهيبة بائناً ومذكوراً في بعض أبناءها من بني هاشم.

فكانت الزهراء (عليها السلام) -مثلاً- تشابه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في الصفة والشكل والمحيا، جاء عن أنس بن مالك، قال: «قلت لأمي: صفي لي فاطمة (عليها السلام). فقالت: كانت أشبه الناس برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود يتغفر(39) لها، كأنها القمر ليلة البدر، وكأنها شمس قرنت(40)غماماً»(41).

وروي عن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} إنه قال: «صوّر اللهُ عزّ وجلّ علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى»(42).

وذكر أن علي الأكبر ابن الحسين (عليه السلام) أشبه الناس بصورة جده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والقائم المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) أشبههم برسول الله، يقول الإمام العسكري (عليه السلام) في ابنه: «...الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً..».(43).

ويذكر البعض بأن السيدة المعصومة شابهت الزهراء (عليها السلام) ليس في الخُلق وحده، بل في الخَلْق والمحيّا أيضاً، وليس ذلك من الغريب المستبعد احتماله، فإن الكثير من أبناء هذه السلالة كان التشابه الخلقي موجوداً على محيّاهم، ولكون السيدة المعصومة (عليها السلام) تنتسب لجدتها من طرف ابنيها معاً كما تقدم، فإن قيل إنه يوجد بعدٌ نسبي  بين الزهراء والمعصومة بتعدد الوسائط فهناك بعض الهواشم هم بعيدوا الوسائط ذكروا بشباهتهم بالرسول (صلَّى الله عليه وآله) مثلاً كالإمام الحجة وإسحاق بن الصادق (عليه السلام) وغيره، إضافة إلى تحقق هذه المسألة اليوم على أرض الواقع.

ومما قاله آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي (قدِّس سرُّه) متحدثاً عن بعض خواطره السالفة هو ما يلي: "في الأيام الأولى من هجرتي إلى قم المقدسة واستقراري فيها -وكان ذلك في أوائل شبابي ومستقبل عمري-، أصبحت في ضائقة من المال، وصعوبة من العيش، حيث لم أستطع من القيام بأمور المعاش، ولا من تهيئة جهاز عرس ابنتي التي كانت على مشارف الزفاف، حتى أبعثها إلى بيت زوجها. على أثر ذلك توجهت إلى روضة عمتي السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وشكوت الله حالي، وما أعانيه في جوارها من ضيق المعاش، وعدم تمكّني من تهيئة جهاز ابنتي المخطوبة وإرسالها الى بيت زوجها، ثم رجعت منكسر القلب إلى البيت.

وما إن وصلت إليه وحاولت الاستراحة فيه إلا وأصبحت في حالة مكاشفة وصرت أسمع طرق الباب، فأسرعت نحو الباب وفتحته فإذا برجل يقول: إن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) تدعوك، فاتجهت مسرعاً نحو الروضة المباركة، فلما وصلت إلى الصحن القديم رأيت عدة جواري يشتغلن بنظافة إيوان الذهب، فسألتهن قائلاً: ما الخبر؟ فقلن: السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) على وشك المجيء إلى هذا المكان، ونحن نستعد لاستقبالها والتشرّف بخدمتها.

فوقفت وانتظرت قليلاً، فإذا بالسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) قد أقبلت وأنارت المكان بنور وجهها المبارك، فنظرت إليها فرأيت عمتي السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وهي تشبه في محياها جدتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي قد تشرفت ثلاث مرات بزيارتها (عليها السلام) في الرؤيا. عندها أسرعت نحو عمتي السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وقبلت يدها وقبل أن أقول لها شيئاً قالت لي مبتدئة: «يا شهاب متى نسينا ذكرك ولم نكن مهتمين بأمرك، حتى أصبحت تشتكي ذلك إلينا، فإنك بأعيننا وفي همّنا منذ اللحظة الأولى التي قدمت فيها إلى قم وأصبحت مجاوراً لنا» يقول السيد المرعشي: وهنا خرجت من حالة المكاشفة، وعدت إلى حالتي الأُولى، وندمت على ما كان مني، ولذلك التجأت فوراً إلى روضة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) المباركة، واعتذرت عما صدر مني تجاهها سلام الله عليها، ثم إنه تحسّنت بعد ذلك حالتي المعيشية، وارتفع الضيق والضنك عني، والحمد لله رب العالمين"(44).

الشباهة السادسة: كفاءة الزوج

لما كانت ابنة حبيبة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد وصلت لمقام عال في العصمة وإلى أعلى مراتب الكمال فإنها لا يمكنها أن تتزوج من أي شخص لا يملك خصائصها، لأن الرجال قوّامون على النساء ولا يمكن أن يلي قوامة المعصومة إلا معصوم مثلها، لذا اختصت الصديقة الزهراء (عليها السلام) من دون سائر النساء بعدم وجود الكفؤ لها من الرجال وانحصاره في المعصوم وهو علي (عليه السلام)، حتى بعد أن عوتب النبي (صلَّى الله عليه وآله) في أمر تزويج فاطمة أفصح المكتوم وقال: «لو لم يخلق الله علي بن أبي طالب ما كان لفاطمة كفؤ»(45) وقال (صلَّى الله عليه وآله): «إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم إلا فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء».

وتلك الخصيصة كانت للزهراء وحدها دون جميع نساء العالم، إلا أن بعض أبناء الذرية الطاهرة لأهل البيت (عليهم السلام) لم يتزوجن وليس ذلك لعدم وجود الكفؤ في أهل زمانهن مطلقاً كالزهراء (عليها السلام) وانحصاره في أطراف معينة، بل لأن الظروف العصيبة التي مرت عليهن اقتضت ذلك، ومن أبرز تلك الشريفات ابنة الزهراء السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، والتي قيل في أحد الأوجه القويّة في عدم زواجها: أنها وللخصائص والمميزات الحائزة عليها لم يتوفر المكافئ والمناسب إليها في زمانها ولذا لم يزوجها أخوها الإمام الرضا (عليه السلام) بأحد من أهل زمانه، فقد جاء أنه أوصى الإمام موسى ابن جعفر الكاظم (عليه السلام) في ضمن وصيته أن يكون أمر زواج بناته بيد ابنه الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال في ضمن الوصية: «... وإلى عليٍ أمر نسائي دونهم -أي دون بقية أخوته-... و إن أراد رجل منهم -أي من إخوة الإمام الرضا (عليه السلام)- أن يزّوج أخته فليس له أن يزوّجها إلا بإذنه وأمره، وأي سلطان كشفه عن شيء أو حال بينه وشيء مما ذكرت في كتابي فقد برئ من الله تعالى ومن رسوله والله ورسوله منه بريئان وعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة المقربين والنبيين والمرسلين أجمعين وجماعة المؤمنين...» ثم يؤكد على الأمر في نفس الوصية في موضع آخر فيقول: «...ولا يُزوّج بناتي أحد من أخواتهن من أمهاتهن ولا سلطان ولا عمّ، إلا برأيه ومشورته -الإمام الرضا (عليه السلام)- فإن فعلوا غير ذلك -أي قاموا بتزويجهن- فقد خالفوا الله تعالى ورسوله، وجاهدوه في ملكه، وهو -الإمام الرضا (عليه السلام)- أعرف بمناكح قومه إن أراد أن يزوج زَوّج، وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهم بمثل ما ذكرت في صدر كتابي هذا وأُشهد الله عليهم، وليس لأحد أن يكشف وصيتي ولا ينشرها وهي على ما ذكرت وسمّيت فمن أساء فعليه ومن أحسن فلنفسه وما ربك بظلام للعبيد»(46).

وللعلم فإن بنات الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يتزوجن أجمع فإن الإمام الرضا (عليه السلام) رحل إلى خراسان عام مائتين للهجرة، أي بعد وفاة أبيه بسبعة عشر عاماً ولم يذكر التاريخ أن إحداهن تزوجت سوى واحدة منهن.

ويعلَّل ذلك لأوجه عديدة منها الوضع الأمني الذي كان يعانيه الإمام من السلطة العباسية فقد يكون زواج أحد الشيعة بإحدى بناته كفيل بإزهاق روحه لذا أوكل الأمر إلى ابنه الإمام المعصوم، ومنها ولعله الأمر المهم والأبرز في المسألة؛ أن الإمام الرضا (عليه السلام) لم يزوج أخواته (ومنهم سيدتنا المعصومة) لعدم وجود الكفؤ لهن، فإنهن ودائع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وكريماته، فينبغي ألا يتزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ويقدّر منزلتهن فالرسول (صلَّى الله عليه وآله) يقول: «انكحوا الأكْفَاء وانكحوا فيهم واختاروا لنطفكم»(47)، فلو زوجهن من غير الأكْفَاء لما عرفت مكانتهن، وهدرت حقوقهن، وما في ذلك من المهانة والإذلال لودائع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وحاشا للإمام أن يفعل ذلك، وقد يكون تزويج بنات الإمام من غير الأكفاء عامل ضغط على الإمام تمارسه الحكومة العباسية من أجل الضغط عليه (عليه السلام) وتقييد حريته. ولذا أوكل (عليه السلام) الأمر على ابنه معللاً ذلك لكونه أعرف بمناكح قومه.

الشباهة السابعة: فداها أبوها

وكلمة «فداها أبوها» عندما تصدر من معصوم تكون لها دلالات واستنتاجات ومعنى خاص، فهو يفدّي ابنته نفسه وروحه -وروح المعصوم أغلى ما في الوجود-، لما رأى منها من عظيم خصالها، وعلو درجتها. وقد جاء أن الإمام الكاظم (عليه السلام) قد قال هذه الكلمة في حق ابنته المعصومة (عليه السلام) في القصة المذكورة التي رواها الشيخ صالح ابن العرندس في لآلئه، والتي يصرّح فيها الإمام قائلاً ثلاث مرات: «فداها أبوها»، وهي كالتالي: "أقبل في يوم من الأيام جماعة من الشيعة إلى المدينة المنورة، ليحظوا أولاً بزيارة إمامهم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وليسألوه ثانياً عن مسائل شرعية كانت لهم، ولكنهم لما أقبلوا إلى دار الإمام (عليه السلام) وجدوا أن الامام (عليه السلام) مسافرا، فكتبوا مسائلهم الشرعية في كتاب وسلّموه إلى السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وفي اليوم الثاني أقبلوا إلى دار الإمام (عليه السلام) ولكنهم للمرة الثانية لم يلتقوا الإمام (عليه السلام) لأنه لم يكن قدم من السفر، وحيث إنهم كانوا عازمين على الرحيل طالبوا السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بالكتاب، حتى يقدّموه للإمام (عليه السلام) في سفرة ثانية. وهنا لما رأت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بأنهم قد أحسّوا بخيبة مساعيهم وآمالهم، فكّرت في إسعافهم وتطييب خاطرهم، فكتبت في الرسالة أجوبة مسائلهم الشرعية وقدّمت الكتاب لهم، فلما رأوا أن مسائلهم الشرعية قد أُجيب عليها فرحوا بذلك وودّعوها شاكرين لها سعيها، ورجعوا عائدين إلى بلادهم، وفي الطريق التقوا بالإمام (عليه السلام) وهو عائد إلى المدينة فسلّموا عليه وقصّوا له قصتهم، وأخبروه عن أجوبة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) على مسائلهم الشرعية، فطلب الإمام (عليه السلام) منهم أن يعرضوا عليه كتابهم، ليرى الأسئلة ويطّلع على الأجوبة التي أجابت بها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) على مسائلهم، فلما رأى (عليه السلام) الأسئلة الشرعية ووقف على صحة ما أجابت به السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) على تلك المسائل أعجبه ذلك، فقال تأييداً لها وإكراماً بها: «فداها أبوها» وهو يكررها ثلاث مرات"(48).

فإن صحّت تلك الحكاية فإنها بالإضافة إلى ما تبيّنه لنا من مستواها العلمي منذ صغر سنها فإنها تبيّن كلمة عظيمة تصدر من معصوم في حقها لا يمكن أن تصدر من قبل معصوم لأي أحد من الناس عامة.

والملفت في الأمر أن نفس تلك الكلمة هي التي كان يكررها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حق ابنته الزهراء (عليها السلام)، فقد روي عن محمد بن قيس: «كان النبي (صلَّى الله عليه وآله) إذا قدم من سفر بدأ بفاطمة فدخل عليها فأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفره، فصنعت فاطمة مسكتين من ورق وقلادة وقرطين، وستراً لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها (صلَّى الله عليه وآله)، فلما قدم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) دخل عليها فوقف أصحابه على الباب لا يدرون يقفون أو ينصرفون لطول مكثه عندها، فخرج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقد عرف الغضب في وجهه، حتى جلس عند المنبر، فظنت فاطمة أنه إنما فعل ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لما رأى من المسكتين والقلادة والقرطين والستر، فنزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها. ونزعت الستر فبعثت به إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام وتقول اجعل هذا في سبيل الله. فلما أتاه قال (صلَّى الله عليه وآله): فعلت، فداها أبوها ثلاث مرات، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، ثم قام فدخل عليها»(49).

فاختصت هاتان الفاطمتان بتلك الكلمة العظيمة من قبل المعصوم التي فيها ما فيها من المعاني والأسرار، وتذكرنا القصة الواردة في السيدة المعصومة عندما أجابت مسائل الشيعة كذلك بجدتها الزهراء (عليها السلام) في سيرتها، والتي كانت تجيب على مسائل نساء أهل المدينة، فكانت المعصومة تسير على خطى جدتها المعصومة الكبرى (عليها السلام) في نهجها ومعاملاتها.

الشباهة الثامنة: العصمة

بلغت السيدة الزهراء (عليها السلام) الدرجة العالية من العصمة مالم تبلغها امرأة لا قبلها ولا بعدها، فإن عصمة الزهراء (عليها السلام) من الأمور المقطوع بها عند الإمامية لما لها من الأدلة والبراهين العديدة الدامغة الناصّة عليها كحديث فاطمة بضعة مني، وغيره. ويكفينا في المقام أن نذكر حديثاً واحداً يدل على عصمتها وطهارتها من الرجس، وهو الذي رواه أعلام الأئمة الحفاظ وصححوه مما لا مجال للطعن فيه عن السيدة أم سلمة التي على يدها دار الحديث، وفي بيتها نزلت آية التطهير فقد أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: «في بيتي نزلت :{إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وفي البيت: فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجللهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(50). وفي حديث آخر رواه بعض الرواة المذكورين: «قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي-الرسول (صلَّى الله عليه وآله)- وقال: إنك على خير»(51).

وجاءت السيدة المعصومة (عليها السلام) لتشابه الزهراء (عليها السلام) في تلك العظمة أيضاً، فكما كانت الزهراء (عليها السلام) هي المعصومة الكبرى اقترن اسم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر بالعصمة، فيقال في الأعم الأغلب: فاطمة المعصومة، كما يقال ذلك عند ذكر أمها الكبرى: فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وجاء هذا اللقب في رواية الرضا (عليه السلام) حيث قال: «من زار المعصومة بقم كمن زراني»(52).

ولتسمية هذه السيدة بخصوص ذلك الاسم من الدلالة ما لا تخفى على أحد من أن السيدة فاطمة بنت موسى (عليها السلام) قد بلغت من الكمال والنزاهة والفضل مرتبة شامخة حتى اسماها الإمام (عليه السلام) بالمعصومة، والعصمة تعني الحفظ والوقاية، والمعصوم هو الممتنع عن جميع محارم الله تعالى، وهي لا تنافي الاختيار، فتكون مرتبة من الكمال لا تهمّ النفسُ معها بارتكاب المعصية فضلاً عن الإتيان بها مع القدرة عليها عمداً أو سهواً أو نسياناً، ولا يكون معها إخلال بواجب من الواجبات، بل ولا مخالفة الأولى كما في بعض المعصومين (عليهم السلام)، وليست أمراً ظاهراً وإنما هي حالة خفية من حالات النفس، وقد اتفق علماؤنا على عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والملائكة وبعض الأولياء، فإنهم بلغوا تلك الدرجة، وبعد ذلك ويتلوهم في ذلك الأمثل فالأمثل بمقتضى تفاوت المراتب والمقامات، وبناءً عليه يمكن القول بأن السيدة فاطمة المعصومة هي إحدى المعصومات وإن لم تبلغ درجة الصديقة الزهراء (عليهم السلام)، أو أحد الأئمة (عليهم السلام).

وقد بحث المتتبع الشيخ علي أكبر مهدي پور، في كتابه كريمة أهل البيت (عليهم السلام) حول عصمتها باستيعاب، فأوجد عدة قرائن يمكن الاهتداء بها على عصمة السيدة المعصومة (عليها السلام) ومعناها سننقل منها هنا ما يلي مع بعض التصرّف:

أولاً: ما ورد في الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) من أنه قال: «من زار المعصومة بقم كمن زارني». ومن المعلوم أن الإمام (عليه السلام) لا يلقي الكلام جزافاً، ولا يمكن أن تصدر منه مبالغة في القول في حق شخص من الأشخاص على خلاف ذلك الحق. ولم يكن اسم المعصومة يطلق على السيدة فاطمة في حياتها ليكون التعبير بالمعصومة عنواناً مشيراً، بل إن هذا التعبير منه (عليه السلام) صدر عنه بعد وفاتها (عليها السلام) وهو يدل على إثبات العصمة لهذه السيدة الجليلة لأنه بناء على أساس القاعدة المعروفة من أن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية، يصبح معنى الحديث هكذا: من زار المعصومة بقم كمن زارني لأنها معصومة. فإذا ثبت أن هذا الحديث صادر عنه (عليه السلام) فلا إشكال في دلالته على عصمتها (عليها السلام).

وثانياً: بما ورد من الأحاديث الصحيحة المستفيضة الواردة في وجوب الجنة لمن زار قبر هذه السيدة الجليلة. وإن كان لا ملازمة بين العصمة ووجوب الجنة، ولكن لم يعهد في شأن غير المعصوم ذلك، حتى أن ثلاثة من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يؤكدون على زيارتها -وسيأتي الحديث عن ذلك-.

وثالثاً: بشفاعتها الشاملة لجميع شيعة أهل البيت (عليهم السلام). نعم ذكرت الشفاعة في شأن العالم والشهيد ونحوهما، ولكن لم يرد شمول الشفاعة وسعتها بحيث تشمل الجميع إلا في حقها وحق آبائها المعصومين (عليهم السلام)، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم».

رابعاً: الروايات المتواترة الواردة في فضل قم وقداسة أرضها ببركة قدوم هذه السيدة الجليلة، ومن الطبيعي أن قداسة هذه المدينة إنما هي من أجل هذه السيدة الجليلة.

خامساً: التعبير عن قم بأنها حرم أهل البيت، وعش آل محمد (صلَّى الله عليه وآله)، وغيرها من التعابير العالية التي لم يرد لها مثيل إلا في مواطن ومشاهد الأئمة (عليهم السلام).

سادساً: الكرامات الباهرة لهذه السيدة الجليلة التي كانت تُرى على مر القرون والأزمان، والتي تميّزت بها بنحوٍ سافر وواضح للجميع.

سابعاً: التعبيرات العالية الواردة في زيارتها مثل: «فإن لك عند الله شأناً من الشأن» وحيث إن هذه الزيارة مروية عن الإمام الرضا (عليه السلام)، فإن هذه التعبيرات العالية الشأن لا تتناسب مع غير المعصوم.

ثامناً: إخبار الإمام الصادق (عليهم السلام) عن تشرف هذه البقعة -مدينة قم- ببضعة من ولده موسى (عليه السلام)، وكان إخباره بذلك قبل ولادة موسى بن جعفر (عليه السلام)، وهو يدل على مقامها العظيم، ومع هذا يؤكد (عليه السلام) على أن جميع الشيعة يدخلون الجنة بشفاعتها، وذلك علامة على جلالة قدرها، الأمر الذي لم نقف عليه في شأن غير المعصوم.

وعاشراً: مجيء الإمامين الرضا والجواد  (صلَّى الله عليه وآله) لتجهيز ودفن هذه السيدة الجليلة دليل واضح على عصمتها، وذلك لأن من معتقدات الشيعة أن جنازة المعصوم لا يتولى دفنها إلا المعصوم، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي تولى تجهيز فاطمة (عليها السلام) مع حضور أسماء، حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) رأى أن ذلك ثقل على المفضل -الذي كان يحدثه- فقال له (عليه السلام): «لا تضيقن فإنها صدّيقة، ولم يكن يغسلها إلا صدّيق، أما علمت أن مريم لم يغسلّها إلا عيسى»(53). فقد ورد في أحكام غسل الميت أن الزوج أحق بتغسيل زوجته، و إن وجد المماثل، وأما الولد فلا يمكنه أن يغسل أمه في حال الاختيار مع وجود المماثل، ولكن لما كانت مريم (عليها السلام) معصومة فلم يكن مناص إلا أن يتولى ولدها عيسى (عليه السلام) تغسيلها. ومن قوله (عليه السلام): «صدّيقة» يستفاد عصمة مريم (عليها السلام)، وقد ورد في القرآن الكريم التعبير عنها بذلك، وهكذا تولى الإمام الرضا (عليه السلام) تغسيل أبيه، كما أن الإمام الجواد (عليه السلام) جاء من المدينة إلى خراسان، والإمام الهادي جاء من المدينة إلى بغداد، ومن قبلهما جاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) من السجن لتجهيز والده في كربلاء. والملفت للنظر أن الإمام زين العابدين (عليه السلام)  لما أراد أن يدفن أباه الحسين (عليه السلام)، وعلي الأكبر (عليه السلام)، وأبا الفضل العباس (عليه السلام)، لم يطلب العون من بني أسد، بل قام بذلك بنفسه، ولكن لما أراد أن يدفن الشهداء طلب منهم أن يحفروا حفرتين وأمرهم بدفن شهداء بني هاشم في واحدة، ودفن سائر الشهداء في الأخرى. وهذا بنفسه علامة على علو مرتبة وشأن علي الأكبر وأبي الفضل العباس (صلَّى الله عليه وآله) في مدارج الكمال. وهكذا في تجهيز السيدة فاطمة (عليها السلام)، فإن حضور الإمامين الرضا والجواد (صلَّى الله عليه وآله) له معنى كبير، وهو شاهد حي على عصمة هذه السيدة الجليلة.

ومع الالتفات إلى هذه الأمور إذا ادعى شخص أن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) نالت مرتبة من العصمة فليس فيه انحراف في القول أو مجازفة في المقال، نعم هذه المرتبة من العصمة دون مرتبة المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، فإن أولي العزم من الأنبياء لم يبلغوا تلك المرتبة. وهناك تفاوت آخر، وهو أن العصمة في الأنبياء والأئمة أمر لازم لا بد منه، وأما العصمة في هذه الشخصيات العالية فليست بلازمة(54).

فإن لم تكن السيدة (عليها السلام) معصومة بالمعنى الخاص أمكننا القول بعصمتها بالمعنى العام، فإن التعبير عنها بالمعصومة لهو إشعار ببلوغها مرتبة عالية من الطهارة والعفة والنزاهة والقداسة، فإنها من سلالة بيت العصمة وتربت على يد المعصوم، وكانت ابنة معصوم وأخت معصوم وعمة معصوم.

 

* الهوامش:

(1) الفاطمة المعصومة للمحقق المعلم ص 176.

(2) مجمع البيان ج7 ص253.

(3) تفسير القمي ج2ص103.

(4) بحار الأنوار ج23 ص326.

(5) البحار ج99 ص266 ح4.

(6) سورة الروم: 4- 5.

(7) بحار الأنوار، ج 43 ص 4- 5.

(8) أمالي الصدوق ص475 ح 1 مجلس 87، عنه البحار ج43 ص2  ح 1، والعوالم ج11 ص55 ح 1، وروضة الواعظين ص143 والخرائج ج2 ص524 ح 1، والثاقب في المناقب ص286 ح 245، والعدد القوية ص222 ح 15، ودلائل الإمامة ص76 ح 17، وقطعة منه في المناقب لابن شهر آشوب ج3 ص340.

(9) بحار الأنوار ج57 ص216 ح41.

(10) بحار الأنوار ج57 ص228 ح59.

(11) صحيح البخاري ج7 ص117.

(12) الوسائل، أبواب أحكام الأولاد، الباب 26، ح1.

(13) لسان العرب ج10 ص289، مادة فطم.

(14) عوالم العلوم، ج1 ص68 ح2.

(15) هذا من كلام السكوني أي كشف أبو عبد الله (عليه السلام) الغم عني.

(16) الفروع من الكافي ج 6 -كتاب العقيقة- باب حق الأولاد ص 48 ح6.

(17) الفاطمة المعصومة ص62-63.

(18) خصائص المعصومة ص36.

(19) كريمة أهل البيت ص 47 - 48.

(20) المائدة: 75.

(21) البحار ج43 ص105 ح 19 باب 5.

(22) الشعراء:84.

(23) الخصائص الفاطمية للكجوري، ج 1 ص 218-219.

(24) وترجمه صاحب الذريعه بالآتي: "زبدة التصانيف: فارسي في العقائد والفروع كتابا وسنة والقصص والتواريخ للمولى حيدر بن محمد الخوانساري أستاذ المحقق الآقا حسين الخوانساري كتبه باسم الشاه عباس الثاني الصفوي المتوفى ١٠٧٨..."، انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الآغا بزرك الطهراني، ج12، ص22.

(25) الغدير ج1 ص196-197.

(26) عوالم العلوم ج21ص354.

(27) يحسن التنوية هنا أن اللقب المشهور والمعروف للزهراء (عليها السلام) هو المحدَّثة بفتح الدال، وما ذكر هنا هو بناء على كونها محدِّثة بكسر الدال.

(28) زبدة التصانيف ج6 ص159، نقلاً من خصائص المعصومة.

(29) معاني الأخبار، ص107 نقلاً من خصائص المعصومة.

(30) مجمع البحرين 6 / 448.

(31) النور: 52.

(32) الخصائص الفاطمية للكجوري ج 1 ص 185 -187.

(33) أنوار المشعشعين ج1 ص211.

(34) يقول صاحب الحدائق (قدِّس سرُّه): "وأما ما وجدت أصحابنا يذكرونه من القول عند زيارتها (عليها السلام) فهو أن تقف على أحد الموضعين اللذين ذكرناهما [عند منزلها وفي الروضة]، وتقول: السلام عليكِ يا بنت رسول الله... السلام عليكِ أيتها الرضية المرضية، السلام عليكِ أيتها التقية النقية..."الحدائق الناضرة للبحراني ج 17  ص 428 – 429.

(35) سورة آل عمران: 39.

(36) البحار ج43 ص 16- 19.  مصباح الأنوار على ما في العوالم: ص222 مخطوط.

(37) المناقب ج 3 ص110. التهذيب ج7 ص475. بشارة المصطفى ص 306.

(38) الأسرار الفاطمية، الشيخ المسعودي ص 406 – 407.

(39) يتغفر: أي كان كالغفرة لها، وهو ما يغطى به الشيء، انظر " لسان العرب - غفر -ج 5 ص26.

(40) قرنت: أي كأن الشمس قارنت الغمام وصاحبته، انظر " لسان العرب - قرن - ج13 ص336.

(41) دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري ص 150 - 151.

(42) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج 3  ص170.

(43) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص 408 - 409.

(44) عن كتاب السيدة المعصومة فرع الكوثر النابع ص76 - 77.

(45) بحار الأنوار، ج 43  ص 107.

(46) أصول الكافي ج1 ص316-317 وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1- ص33.

(47) الكافي ج5 ص232.

(48) عن كشف اللئالي للشيخ صالح بن العرندس المتوفى عام840هـ.، وقد نقلها العلامة الشيخ علي أكبر مهدي پور حكاية عن أحد الفضلاء عن المرحوم السيد أحمد المستنبط صاحب كتاب القطرة، عن كتاب كشف اللئالي لابن العرندس الحلي. وذكر انه وجدها آية الله العلامة الميرجهاني في نسخة خطية في مكتبة آية الله السماوي (صاحب كتاب ابصار العين في أنصار الحسين) في النجف الأشرف.

(49) حلية الأبرار -السيد هاشم البحراني- ج 1 - ص 207 - 208.

(50) الدر المنثور ج5 ص 198.

(51) الدر المنثور ج5 ص 198.

(52) رياحين الشريعة ج 5 ص 35.

(53) الأصول من الكافي ج 1 -كتاب الحجة- باب مولد الزهراء فاطمة (عليه السلام) الحديث 4 ص 459.

(54) كريمة أهل البيت (عليهم السلام) ص 36 - 42.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا