غرائب المرتاضين وكرامات الأولياء

غرائب المرتاضين وكرامات الأولياء

إن الأمور الخارقة للعادة لها الأثر البالغ في إيجاد الإيمان والاعتقاد الراسخ بصدق دعوى المدعي، وربما يفوق الأثر الذي تتركه الأدلة والبراهين في نفوس عامة الناس، وهنا تكمن أهمية التفريق العلمي الواضح بين الأمور الخارقة للعادة التي تصدر من الأولياء وتدل على صدق دعواهم وأحقيتهم وشدة قربهم من المولى عز وجل، وبين الأمور الغريبة وغير المألوفة التي تصدر من بعض المرتاضين الذين يمارسون المجاهدات غير الشرعية - غالباً - من إهانة مقدسات وكثرة جوع وقلة نوم وما شابه ذلك.

وقبل البدء في بيان الفوارق الجوهرية بين غرائب المرتاضين وكرامات الأولياء، لابد أن نسلط الضوء على مفهوم الأمور الخارقة للعادة، حيث أن هناك من الأمور ما تُعَدُّ خارقةً لنظام العقل ومضادَّةً لأحكامه، كاجتماع النقيضين ووجود المعلول بلا علة، فإن هذه الأمور يحكم العقل باستحالتها ذاتاً وامتناع وقوعها وتحققها(1)، وهناك من الأمور ما تُعَدُّ خارقةً لنظام الطبيعة ومضادةً لقوانينه، وهي محالة في نطاقه، وإن كان العقل يحكم بإمكان تحققها وعدم استحالتها ذاتاً، وعرش بلقيس مثال جلي في المقام، حيث جرت العادة على أن نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر إنما يتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية، وفي فترة زمنية تتلاءم مع ذلك النظام، بيد أن عرش بلقيس قد تم إحضاره من بلاد اليمن إلى بلاد الشام من دون التوسل بشيء من الأجهزة والآلات العصرية المتطورة والمتعارفة، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أَن يرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيْمٌ}(2)، فهذا العمل يكون خارقاً للعادة، ولكنه غير خارق للعقل، باعتبار أن الأمور الخارقة للعادة هي أيضاً تخضع لنظام له علله وأسبابه، إلا أنه نظام يختلف عن نظام الطبيعة وعلله المادية، أي أن الأمور الخارقة للعادة لا تتنافى مع قانون العلية، باعتبارها ظواهر إمكانية يتوقف وجودها على وجود علتها، بيد أن تلك العلة ليست من سنخ العلل المادية(3).

وتتحقق هذه الأمور الخارقة للعادة من خلال توجه نفس الإنسان وروحه، فالنفس كما أنها تمتلك السيطرة على أعضاء البدن فتنقاد لإرادتها وتتحرك قياماً وقعوداً بمشيئتها، فكذلك هي - أي النفس - تسيطر - في ظروف خاصة - على موجودات العالم الخارجي، فتقودها بإرادتها وتخضعها لمشيئتها، فعندها يبطل مفعول العلل المادية في مقام التأثير بطبيعة الحال، فإن كل ذلك إنما يتمُّ من خلال قدرة الله جل جلاله، ولا يمتلك الإنسان - مهما سمت كمالاته وعلت مقاماته - القدرة الاستقلالية الذاتية على الإتيان بتلك الأمور، وذلك لأن الآثار الوجودية التي تصدر من كل فاعل ومؤثر - غير المولى جل شأنه - تكون منوطةً في مرتبتها العليا بالإذن والإرادة التكوينية الإلهية، ومستندةً إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ما أشار إليه السيد الخوئي(قده) في معرض حديثه عن ولاية أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وأزكى التحيات، حيث قال:(لا شبهة في ولايتهم على المخلوقات بأجمعها، كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الإيجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خلق الناس كلهم، وإنما خُلِقوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في الإفاضة، بل لهم الولاية التكوينية لما دون الخالق، فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجادية، وإن كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق)(4). وقد جاء في كتاب بصائر الدرجات وغيره من الكتب، جملة من النصوص تصب في هذا المعنى، منه قوله  (أي الصفار): حدثنا محمد بن الحسين عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم عن سماعة بن مهران قال: قال أبو عبد الله (ع) :(إن الدنيا تمثل للإمام في فلقة الجوز، فما تعرض لشيء منها وإنه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء، فلا يعزب عنه منها شيء)(5).

ومن مصاديق الأمور الخارقة للعادة، المعاجز والكرامات، والمشهور في تعريف المعجزة هي أنها ((أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة ))، وقد فرق بعض بين المعجزة والكرامة من خلال القول باختصاص المعجزة بالأنبياء والكرامة بالأولياء، وفرق بعض آخر بينهما وقال بأن المعجزة هي ما ظهرت على وجه التحدي، والكرامة ما لا تحديَ فيها، وذهب بعض آخر إلى عدم وجود الفرق بين المعجزة والكرامة، ودليله على ذلك هو أن النبي (ص) قد أتى بأمور خارقة للعادة ولم تكن مقرونة بالتحدي، ولم يرد بأنها سميت كرامة، واستقرب هذا البعض وقال بأن كلمة كرامة ليست سوى اصطلاحاً مخترعاً، ولا تفترق عن المعجزة في معناها، ولعلها من مخترعات الصوفية، نحلوها أولياءهم ثم تسربت منهم إلى غيرهم(6).

بعد أن تمت هذه المقدمات، إذن كيف نفسر ما يقوم به بعض المرتاضين من أعمال غريبة ومدهشة، كرفع الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلا عن طريق الآلات، والنوم على المسامير الحادة من دون حصول حالة إدماء، والإخبار عن بعض المغيبات، وغير ذلك من الحوادث، وكأعمال السحرة والمشعوذين، وما يقوم به أساتذة التنويم المغناطيسي؟؟؟؟

في مقام الإجابة عن هذه التساؤلات، لابد لنا من توضيح مجموعة من الضوابط، والتي يمكننا من خلالها أن نفرق بين أعمال المرتاضين وغرائبهم، وكرامات الأولياء والأنبياء ومعاجزهم، وفي ما يلي نشير إلى بعض من تلك الضوابط :

أولاً :

إن أعمال المرتاضين خاضعة لمناهج تعليمية، لها مقرراتها وأساتذتها وتلامذتها، وهي بحاجة إلى ممارسة حثيثة كي ما يصل روادها إلى النتائج المتوخاة، وذلك بخلاف كرامات الأولياء والأنبياء ومعاجزهم، فهم لم يدرسوها على ضوء مناهج محددة، ولم يأخذوها من أستاذ، ولم يتمرنوا على الإتيان بها مراراً وتكراراً، نعم، الوصول إلى هذه المراتب يتوقف على تحصيل كمالات روحية ونفسانية راقية، تختلف باختلاف الأولياء من حيث قربهم إلى الله عز وجل ومعرفتهم به سبحانه.

ثانياً :

إن أعمال المرتاضين بما أنها من نتاج التعليم والتعلم، فلذا يكثر وقوعها والإتيان بمثلها لكل من تلقى تلك الأصول وتمرن عليها، وحينئذ تكون قابلة للمعارضة وإبطال التأثير على يد من تمرن عليها أكثر وأتقن مناهجها وتفاصيلها أكثر، بينما الكرامات والمعاجز ليست كذلك.

ثالثاً :

إن أعمال المرتاضين محدودة من حيث التنوع، أي أنها تدور في فلك واحد، وعلى وتيرة واحدة، بحيث لو طلب منهم شخص أن يأتوا بما لم يتدربوا عليه ولم يمارسوه، لما تمكنوا من ذلك، بينما المعاجز والكرامات تتوفر على جانب كبير من التنوع في الكيفية، كعصا نبي الله موسى(ع) التي تحولت إلى ثعبان، وأصابت الحجر فانفجر منه الماء، وأصابت البحر فانفلق شطرين.

رابعاً :

إن المرتاضين حينما يخبرون عن بعض المغيبات، إنما يتم ذلك في إطار الكشف الصوري غير الحقيقي، أي إطلاع الإنسان على المغيبات المختصة بالخلق، أما الحق، فهم محجوبون عنه، بينما الأولياء حينما يخبرون عن بعض المغيبات، إنما يتم ذلك في إطار الكشف الحقيقي المعنوي، أي بظهور المعاني والحقائق الغيبية، وهذا الإخبار إنما يحصل بسبب تزكية النفس ومجاهدتها بالمجاهدات الشرعية.

خامساً :

إن غاية المرتاضين تتمثل - عادةً - بكسب الشهرة والسمعة بين الناس، وجمع الأموال والثروة، أما الأولياء الحقيقيون فهم - دائماً - أصحاب مبادئ وغايات سامية، يتوسلون من خلال كراماتهم ومعاجزهم لإثبات صدق دعوتهم إلى الله عز وجل وأحقية مبادئهم بما يعود بالنفع والخير على كافة البشر في أمر دنياهم وآخرتهم.

هذه بعض الضوابط التي يمكننا من خلالها أن نميز بين غرائب المرتاضين وكرامات الأولياء، فنكون حينئذ على بصيرة من أمر ديننا ودنيانا، حيث أن العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. والحمد لله رب العالمين.

 

 * الهوامش:

(1)دروس في العقيدة الإسلامية، الشيخ مصباح اليزدي،ص253

(2)سورة النمل، الآية 40

(3)الإلهيات، الشيخ السبحاني،ج3 ص74

(4)مصباح الفقاهة، السيد الخوئي ج 3ص 279

(5)بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار ص 428

(6)سيدة عش آل محمد (ص)، ص113


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا