شيعتنا

شيعتنا

أودُّ بدايةً الإشارة إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}(1)؛ لتوضيح المراد من كلمة: (شيع)؛ لارتباطه بالمعنى الاصطلاحي في بحثنا المتواضع، راجياً من العلي القدير التوفيق والسداد، إنه خير معين.

(شيع): جمع (شيعة)، أي بتعبير آخر: أن المراد من الشيع هو الفرق، وكل فرقة: شيعة. يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات»: باب شيع: (الشياع: الانتشار، والتقوية، يقال: شاع الخبر. أي: كثر، وقوي، وشاع القوم. أي: انتشروا، وكثروا، وشيعت النار بالحطب. قويتها، والشيعة: من يتقوى بهم الإنسان، أي: أنهم الذين يتبعون شخصاً، أو خطاً ما، فيقال لهم: شيعة فلان(2).

وقال الله تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ}(3)، قال المفسرون: إن الضمير في شيعته يعود إلى نوح(عليه السلام)، فيكون المعنى: أن ممن كان في حزب نوح(عليه السلام)، أو ممن سار على درب نوح(عليه السلام) هو إبراهيم(عليه السلام)، أبو الأنبياء، وكان بينهما ألفان وسِتُّمائَةِ سنة تقريباً، وقد كان بينهما هود وصالح. وقال آخرون: إنّه يعود إلى النبيّ محمّد(صلّى الله عليه وآله)، والواقع أن التشيع للحق ومتابعة رسل الله واحد، فسواء نسب إلى نوح(عليه السلام)، أو إلى محمَّد(صلّى الله عليه وآله)، أو إلى أوصيائه الطاهرين(عليهم السلام)، فإنه نهج واحد، وصراط مستقيم.

والقرآن الكريم يُبيّن المعنى الحقيقي للتشيع، الذي هو رفض الجبت الداخلي بالتوحيد الخالص، ورفض الطاغوت الخارجي بمقاومة الانحراف الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، و...، في الواقع القائم، والذي هو صورة ظاهرية للجبت الداخلي، ثم التسليم لله، والتضحية، والاستقامة في سبيله.

بلى، إنَّ إبراهيم(عليه السلام) من شيعة نوح(عليه السلام)، ولكن كيف وصل إلى هذا المقام الرفيع؟! يجيبنا القرآن العظيم على ذلك بـ: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وهو الذي سَلِم من كل الأمراض، كالحسد، والحقد، والجُبن، والخوف، والتي يسميها القرآن الشريف بالأغلال، إذ يحدثنا عن أهداف بعثة الرسول محمّد(صلّى الله عليه وآله)، فيقول: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(4).

والمراد من الإصر هو: الثقل، والبشر يعيش في ذاته ثقل المادة، حيث يحنُّ إلى ما في الحياة من زينةٍ، وينهارُ أمام شهوات النساء، والثروات، والمناصب، ويضغط عليه واقع اليوم دون حقيقة المستقبل، وهكذا يصبح البشر -إن لم يعصمْه الله- جزءاً من الطبيعة، يتحرك حسب عواملها وتغيراتها. ورسالات الله تنقذ الإنسان من أصله، وترفع عنه هذا الثقل المادي بتوجيهه إلى العالم الأعلى، عالم الروحيات، وعالم المستقبل القريب في الدنيا، والمستقبل البعيد عن الآخرة. وكما ترفع الرسالة إصر البشر، ترفع الأغلال الآتية من الإصر، مثل الأغلال الاجتماعية التي يفرضها النظام السياسي، أو الاقتصادي الحاكم على المجتمع، والقوانين المعيقة للتقدم، والكبت، والديكتاتورية، والإرهاب الفكري، الذي يمنع تفجير النشاط، وتفتق المواهب، وإنما سماها القرآن الكريم بالأغلال والإصر تارة، وبالمرض تارة أخرى؛ لأنَّ الأغلال والإصر كما المرض، كلها تُقعد الإنسان، وتكبل عقله وطاقاته الخيرة.

قال علي بن إبراهيم: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: (القلب السليم من الشك)(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «القلب السليم الذي يَلقى ربه، وليس فيه أحد سواه»(6).

وقال الله تعالى في آية أخرى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ..}. أي: حينما خرج موسى(عليه السلام) من قصر فرعون، بعدما تأزمت العلاقة بينهما بسبب كلامه عن توحيد الله، وأراد الدخول إلى المدينة، اتخذ سياسة الكتمان والسرية في ذلك كما في بداية الآية.

من هنا على كل مؤمن واع، ويحمل قضية اجتماعية إسلامية، أن لا يكون ساذجاً، بل حذراً منتبهاً، ويختار الوقت الأنسب الذي يعينه في تحقيق تكليفه الديني، أو الاجتماعي، فيستعين بكتمان أمره قدر الإمكان، وربما كان دخول موسى للمدينة ليلاً، أي: عند دخول الناس للبيوت، فتتعطل الأسواق، وتخلو الشوارع من المارة، أو في أول الصبح، وربما كان في مناسبة انشغل بها أزلام النظام عن الوضع، وكان بداية الآية هو قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}.

وعند دخوله(عليه السلام) للمدينة في الوقت المناسب لها وجد فيها -بعد قيامه(عليه السلام) بنهضته الإلهية- أعمالاً سياسية وثقافية، وربما ميدانية في عملية الصراع بينه وبين فرعون حينذاك، استطاعت أن توجد في المجتمع تياراً مناهضاً للسلطة، بل وأكثر من ذلك، أن ترفع مستوى الصراع بين تيارها والتيار الآخر إلى حدِّ المواجهة المباشرة، ومن أهمِّ مسؤوليات وواجبات النهضة الإسلامية حين تصعد بمستوى جماهيرها في الصراع أن تسيطر على الساحة؛ حتى لا يكون للصراع مردود سلبي على خططها وتحركها.

ويبدو من الآية الكريمة أن موسى(عليه السلام) منذ البداية كوَّن مجموعة، أو شيعة حركية، حيث استطاع أن يجمع شمل أتباعه من بني إسرائيل تحت لوائه، ويتصدى للنظام الطاغوتي المتمثل آنذاك بالأقباط.

وربما يكون معنى: {يَقتتلاَنِ} هو: يتضاربان، ولكن ظاهر الأمر يدلُّ على أن أحدهما يريد قتل الآخر.

{فاستَغَاثَهُ} الإسرائيلي {الَّذي} هو {من شِيعِتِهِ} أي: من أتباع فرقة موسى(عليه السلام) {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}.

لهذا، وأمام هذه الاستغاثة، وجد موسى(عليه السلام) نفسه مضطراً للدفاع عن الذي من شيعته، فبادر لنصرته، ودفع ضرر القبطي عنه، {فَوَكَزَهُ مُوسَى}، أي: فضرب موسى(عليه السلام) هذا العدو، ولكمه بقبضة يده القوية على صدره، {فَقَضَى عَلَيْهِ}، أي: من شدة الضربة هوى إلى الأرض ميتاً في الحال.

لهذا {قَالَ} موسى(عليه السلام) حينما وقع القبطي ميتاً: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، يقصد بذلك العمل الذي دعا هذين -الإسرائيلي والقبطي- للاقتتال، وإذا ضربته فإنما للدفاع عن المظلوم والمستضعف، وقد قال بعض المفسرين: إن سبب الاقتتال هو محاولة القبطي تسخير الإسرائيلي -الذي يقال عنه إنه كان طباخاً في قصر فرعون- ليحمل معه الحطب إلى القصر بلا أجر.

وعندما قتل موسى(عليه السلام) القبطي، ولم يكن يريد قتله، بل ردعه قال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}(7).

وجاء ذكر كلمة (شِيَعة) في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}(8).

المراد من (الشيعةِ) -كما في الأصل- هو: كل مجموعة يشايعون أحداً، ويتبعونه للقيام بعمل ما، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة(9) المردة، والضالين الكافرين، كانوا يتعاونون في طريق الطغيان، ونحن سنحاسب هؤلاء أولاً؛ لأنهم أكثر تمرداً وعصياناً من الجميع، {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}، فَمَن الذين يكونون أولى بدخول نار جهنم؟! إنهم أئمة الضلال، وقادة الأنظمة الفاسدة، فهم أول من يدخلها، ثم يتبعهم شيعتهم، الأقرب، فالأقرب، حسب درجاتهم في الدنيا، واتباعهم للإمام الظالم؛ فإنهم يوم القيامة أيضاً يتبعونه إلى نار جهنم.

ثم تأتي الآية التالية، وهي تشير لمسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس، فتقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا}.

طبعاً يرى أكثر المفسرين أنّ (الورود) هنا بمعنى الدخول، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء -المحسن منهم والمسيء- يدخلون جهنم، إلا أنها ستكون برداً وسلاماً على المحسنين، كحال نار نمرود على إبراهيم(عليه السلام)، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(10)؛ لأنَّ النار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين، فقد تفرُّ منهم، وتبتعد عنهم، إلّا أنها تناسب الجهنميين؛ فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وقد وصلتنا روايات متعددة في تفسير الآية على هذا المعنى، وهو أن المراد من (الورود) هو الدخول، أي: كل واحد منكم سيرد نار جهنم -والعياذ بالله-، ومن جملتها: ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، أنّ رجلاً سأله عن هذه الآية، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه، وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يقول: «الورود الدخول، لايبقى بر وفاجر إلا يدخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار -أو قال: لجهنم- ضجيجاً من بردها، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثياً»(11).

وهنا جواب عن السؤال التالي، وهو: لماذا يجب المرور عبر جهنم للوصول إلى الجنّة؟! أي: ما هي الحكمة من هذا العمل؟! وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذاباً من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال الإشارة إلى حقيقة الصراط ضمن الإجابة على السؤال الأول: يقول المفسرون بأن أهل الدنيا ليس لهم اطلاع مفصل عن الحقائق المتعلقة بيوم القيامة، وعالم ما بعد الموت؛ حيث هو عالم فوق هذا العالم، ولكن هذا الأمر لا يمنع من المعرفة الإجمالية بهذا الموضوع، لهذا نقول:

إن مشاهدة جهنم وعذابها -في الحقيقة- عند مرور أصحاب الجنّة ستكون لذة لهم؛ حيث تنتظرهم الجنة بأعلى مراتب اللذة والنعم؛ لأن أحداً لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة، (وبضدها تتمايز الأشياء)، فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط، وكما قرأنا في الرواية السابقة، فإنَّ النار تصبح برداً وسلاماً على هؤلاء، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أن هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة، بحيث لا يُرى عليهم أدنى أثر، جزاء بما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا، طبْق لوازمها الإيمانية والولائية، كما قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): «إنّ شيعتنا من شايعنا، وتبعنا في أعمالنا». من هنا يستفاد من الروايات المباركة أن الصراط جسر على جهنم في طريق الجنة، ويَرِدُه كلُّ بر وفاجر، فالأبرار يمرون عليه بسرعة، أما الفجار فتزل أقدامهم، ويقعون في نار جهنم.

قال النبيّ محمّد(صلّى الله عليه وآله): «ما ثبّت الله حبَّ عليٍّ في قلب مؤمن فزلت به قدم إلاّ ثبّت الله قدماً يوم القيامة على الصراط»(12).

وجاء في معنى الصراط -كما عن الإمام الصادق(عليه السلام)- أنه قال: «هو الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا، واقتدى بهداه، مرَّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة»(13).

وهناك نكتة مهمة أشارت إليها الروايات، وهي أنه من العسير العبور على هذا الطريق، فقد ورد حديث عن الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله) -وكذلك عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً-: «إنّ على جهنّم جسراً أدقّ من الشّعر، وأحدّ من السّيف»(14).

نعم، هكذا الصراط المستقيم، وحقيقة الولاية، والعدالة في هذه الدنيا، فهو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، وهذا يرجع إلى أن الخط المستقيم خط واحد دقيق لا أكثر، أما الخطوط الأخرى فهي منحرفة نحو اليمين، أو الشمال.

قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في صفة الأئمة(عليهم السلام): «...بِمَنزِلَةِ الأدِلَّةِ(15) فِي الفَلوَاتِ(16)، مَن أَخَذَ القَصدَ(17) حَمِدُوا إلَيهِ طَرِيقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَن أَخَذَ يَميناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إلَيهِ الطَرِيقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الهَلَكَةِ»(18).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وإنّا وشيعتنا هدينا الصراط المستقيم»(19).

ومن الطبيعي أن يكون صراط القيامة هكذا؛ فهو تجسم عيني للصراط الدنيوي، ومع هذا فهناك طائفة تمرُّ على هذا الطريق الخطر سريعة في ظلِّ إيمانها وأعمالها الصالحة.

أي: بتعبير أجلى: كما أن كل إنسان يدخل الدنيا؛ ليمتحن فيها، كذلك كل إنسان يدخل النار في الآخرة، وعليه أن ينقذ نفسه بما قدّم من أعمال صالحة في الدنيا.

بلا شك إن التمسك بالرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) يسهل اجتياز هذا الطريق المخوف، فقد جاء في حديث عن الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله): «أثبتكم قدماً على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي»(20)، وقال(صلّى الله عليه وآله): «إذا كان يوم القيامة، ونصب الصراط على جهنم، لم يجز عليه إلا من كان معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(21).

ولقد ورد نفس هذا المعنى بتعبير آخر يتعلق بفاطمة الزهراء(عليها السلام)، ومن البديهي أن ولاية الإمام علي(عليه السلام) وولاية الزهراء(عليها السلام) هما من ولاية الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله)، ولا يمكن الفصل بين القرآن والإسلام وسائر الأئمة المعصومين، فإذا لم يكن هناك ارتباط إيماني وأخلاقي مع هؤلاء العظام، فلا يمكن الجواز على الصراط، وتوجد في هذا المجال روايات عديدة(22).

وهنا لا بد من الإشارة إلى البعد التربوي للإيمان والاعتقاد بمثل هذا الصراط؛ حيث هو صراط مخوف، مرعب، متزلزل، تشوبه الأخطار، صراط أدق من الشعر، وأحد من السيف، صراط له عدة مواقف، وفي كل موقف يُسأل فيه عن شيء، فأما الأول فيسأل عن الصلاة، وأما الثاني فعن الأمانة، وصلة الرحم، والثالث عن العدالة، وما شابه ذلك، ممر لا يمكن لأحد العبور عليه، واجتيازه إلا إذا كان معه جواز فيه ولاية الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله)، وولاية الإمام علي(عليه السلام)، والتخلق بأخلاقهم، والسير على نهجهم.

جاء في حديث عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يقول: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن؛ فقد أطفأ نورك لهبي»(23).

نعم، اجتازه بقدرة نور الإيمان، والعمل الصالح، ومن لم يقدر على اجتيازه فسيقع حتماً في نار جهنم، ويلقى عذاباً أشد من رؤية هذا المشهد، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النار.

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «قال لي رسول الله(صلّى الله عليه وآله): «أنت وشيعتك في الجنّة»(24)، وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): «إنّ علياً وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(25).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا قسيم الله بين الجنّة والنار»(26)، وقال(عليه السلام): «أنا قسيم النار يوم القيامة»(27).

ويتلخص لنا مما تقدم: أن أصل الشيعة من المشايعة، وهي: المتابعة. يقال: شايع فلانٌ فلاناً على أمره. أي: تابعه عليه، ومنه: شيعة علي(عليه السلام)، وهم الذين تابعوه على أمره، ودانوا بإمامته؛ لوجود النصوص في ذلك.

إضافةً لذلك: وجود صفات اختصَّ بها، ولم تتوفر في غيره، من هنا نعرف أن جوهر التشيع هو الالتزام بإمامة عليٍّ وولدهِ(عليهم السلام)، وتقديمه على غيره، وينتج من ذلك الالتزام أمران:

الأوّل: بما أنّ الإمامة وليدة النصوص، فهي امتداد للنبوة، يترتب عليها ما يترتب على النبوة من لوازم، عدا الوحي؛ فإنَّ نزوله مختصٌّ بالأنبياء.

قال النبيُّ(صلّى الله عليه وآله) مخاطباً للإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيَّ بعدي»(28).

الثاني: أنّ الإمامة لا تتمّ بالانتخاب، والاختيار، وإنما بالتعيين من الله تعالى، فهو الذي ينصُّ على الإمام عن طريق النبي، يختاره؛ لتوفر مؤهلات عنده، لا توجد عند غيره(29).

الشيعة وتهمة تحريف القرآن:

لا شك ولا ريب أن البحث عن سلامة القرآن من التحريف هو بحث في غاية الأهمية والخطورة؛ لأنَّ أدنى شك في سلامة القرآن سوف يهدم الأساس الذي نعتمد عليه في مجمل معتقداتنا الفكرية والتشريعية؛ لأنَّ القرآن الكريم هو المصدر الأول لمجمل معارفنا الإسلامية، فإذا تطرَّق الشك إلى سلامة هذا المصدر فسوف لا يبقى مجالٌ للاعتماد عليه، والاستناد إليه، وقد وجدنا كيف انتهت الرسالتان اليهودية والنصرانية حينما تعرَّضت التوراة والإنجيل إلى الضياع، والتحريف.

فالشواهد التاريخية القطعية تفيد أنَّ نُسَخَ التوراة حرفت مراراً إبان مختلف الحوادث التاريخية، لا سيما حين هجوم نبوخذ نصّر على اليهود، فضاعت أغلب النسخ، وحررت لاحقاً من بعض الأحبار(30).

كما يشهد التأريخ أنَّ الأناجيل الأربعة كتبت بعد سنوات من المسيح(عليه السلام)، فلم يبق أثر للإنجيل الذي نزل ككتاب سماوي على عيسى(عليه السلام)(31).

ولقد تلقَّى المسلمون القرآن الكريم جيلاً بعد جيل بالحفظ، والقراءة، والتفسير، والمدارسة، وبشكل متواتر، لا يعطي مجالاً لأحد أن يخفي، أو يسقط شيئاً منه، كما ليس بوسع أحد أن يضيف إليه؛ لنشوز المضاف، وتميزه عن كلام الله تعالى، ومما يؤكد هذه الحقيقة هو قول الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(32).

نعم، فقد وعد الله تعالى -كما هو ظاهر الآية المباركة- بحفظ القرآن من جميع النواحي من تحريف المبطلين، كمحاولتهم لتغيير النص القرآني، وتبديل كلمة بأخرى.

فقد حفظ الله -تبارك وتعالى- ألفاظ القرآن الكريم بنصر الأمة، ودخول الناس أفواجاً في دين الله، وإقبال الناس على كتاب الله، بحيث لم يبق مجال لتحريف ألفاظه، أو محاولة أعداء الإسلام لتغيير معاني القرآن، وتفسيرها بما يتناسب ومصالح المحرفين وأهوائهم، ولأن كل كتاب ينسخه كتاب، إلا القرآن الذي جاء خاتمة للرسالات؛ فإن الله قد وعد أن يحافظ عليه؛ لكي يتهيأ للأجيال القادمة فرصة للهداية.

فقد قيَّض الله -سبحانه- لهذه الأمة أئمة هدى، وعلماء ربانين، حفظوا معالم الدين عن الاندراس، وأصبحوا بأفعالهم وأقوالهم تفسيراً صحيحاً لنصوص القرآن، ولا يزال العلماء الربانيون -والشباب المجاهدون- ماضين قدماً على نهج أولئك السلف الصالح، في نفي شبهات الضالين، وتحريف المبطلين.

وهكذا فقد حفظ الله -تعالى- القرآن العظيم كذلك من التلف، والاندراس، والضياع، ورغم وجود بعض الآراء الشاذة التي أسقطها العلماء المختصون من الاعتبار، إلا أن المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن(33)، كما أن المشهور بين علماء الشيعة الإمامية ومحققيهم -بل المُتسالم عليه بينهم- هو: القول بسلامة القرآن، وصيانته من التحريف، وقد بيَّن هذا الأمر بوضوح في كتب التفسير، وأصول الفقه، وغيرها من الكتب، وتم إثبات ذلك بالأدلة العقلية، والنقلية.

ومن المفيد أن نورد بعضاً منها:

قال الشيخ الطوسي مدافعاً عن صيانة القرآن من التحريف، ورده على ما يردده البعض: «وأما الكلام في زيادته ونقصانه، فمما لا يليق به أيضاً؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى(قدس سرّه)، وهو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً»(34).

ويوضح العلماء المختصون أن ما ورد من روايات عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تتحدث عن التحريف، إنما هي تعني تحريف معنى القرآن بتفسيره، أو قراءته على غير ما أنزل، مما يغير معناه، ودلالته، وحذف ما ورد عن علي(عليه السلام) من تفسيره، وتأويله الذي تلقاه عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وأثبته على المصحف الذي كتبه بيده.

وليس التحريف هو الحذف من حروفه، وكلماته، وآياته، وسوره، أو الإضافة إليه، وقد وضَّح الشيخ المفيد(قدس سرّه) بقوله: «وقد قال جماعة من أهل الإمامة: إنه لم ينقص من كلمة، ولا من آية، ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) من تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله»(35).

وأفاد العلامة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات): «إن صحة نقل القرآن واضحة وبينة، كمعرفتنا لعواصم العالم، والحوادث المهمة في التأريخ، والكتب الشهيرة».

فهل هناك مَن يشك في وجود مدن كمكّة، والمدينة، أو لندن، وباريس، وإن لم يزرها؟! أو هل هناك مَن ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق، والثورة الفرنسية، والحرب العالمية الأولى، أو الثانية؟! فإن لم يكن هناك من يشك، أو ينكر؛ بسبب تواتر ذكر وجودها، فكذلك آيات القرآن الكريم، وهذا ما بينه محققوا الشيعة.

وإذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن، فغايتهم إشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث: (إن الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير، والزيادة، والنقصان في القرآن)، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا لا بدّ من كلمة: إنْ كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم، ومحققيهم، فليس هناك مَن يعتقد بذلك! وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة، فإنَّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضاً، وهو ما لم يُعتَن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء)، بقوله: (لاريب أنّه -أي: القرآن- محفوظ من النقصان بحفظ المَلك الديان، كما دل عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في كل زمان، ولا عبرة بنادر)(36).

إنّ التاريخ الإسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم؛ لإيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أُمّةً مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

فترى كاتباً معروفاً (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول: (والشيعة هم أبداً أعداء المساجد)!(37).

والحال أننا لو أجرينا إحصاءً لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة القرى والمدن الشيعية، لأخذ منّا الوقت الطويل؛ لكثرتها، لدرجة أنّ بعضاً من الشيعة بات يُشكِل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة، ويستحسن أن يلتفت المحسنون لدور الأيتام، والمستشفيات الخيرية، وما شاكلها بدلا من بناية المساجد؛ لكفاية الموجود، ومع هذا ترى كاتباً معروفاً يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك! وعليه فلا ينبغي الاستغراب لما افتراه الفخر الرازي ضد الشيعة الإمامية.

وقد سلمنا بخاتمية النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وأنّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان الإلهية، وأنّ رسالة القرآن باقية إلى يوم القيامة، فهل يصدق أنّ الله -سبحانه- سوف لا يحفظ دليل دينه، وحجة نبيه الخاتم(صلّى الله عليه وآله)؟! وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإسلام عبر آلاف السنين، ودوامه حتى نهاية العالم؟!

وهناك دليل آخر على أصالة القرآن، وحفظه من أية شائبة، نتلمسه في روايات الثقلين، المروية عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بطرق متعددة معتبرة، فقد روي عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»(38)، فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟! لا شك ولا ريب أن هذا الحديث العظيم يدل بوضوح على أنّ القرآن الكريم -بجانب عترة النبيّ(صلّى الله عليه وآله)- ملجأ آمن لهداية الناس إلى يوم القيامة.

فإذا كان القرآن محرّفاً، فكيف يمكن أن يكون ملجأً آمناً، وهادياً للناس من الضياع والضلال؟!(39)

إننا شيعة نعتقد -بالرغم من كل الدعايات المسمومة، والمغرضة للنيل من الشيعة- بأنّ القرآن الكريم الموجود عندنا وعند جميع المسلمين اليوم، هو عين القرآن الذي نزل على رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، من دون زيادة، أو نقصان، حتى في كلمة واحدة.

حملات كاتب تفسير (المنار) الظالمة على الشيعة:

يعاني كاتب تفسير المنار من سوء ظن بالغ الشدة بالنسبة إلى الشيعة! وبنفس القدر يعاني من الجهل بعقائد الشيعة وتاريخهم! ففي ذيل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(40)، يعقد فصلاً حول الشيعة تحت غطاء الدعوة إلى الاتحاد، ويصفهم بأنهم يفرقون الصفوف، ويخالفون الإسلام، وأنهم ممن يعملون ضد الإسلام، ويقومون بنشاطات سياسية تخريبية تحت غطاء المذهب، والعقيدة الدينية، وكأنّ وجود كلمة (شيعاً) في الآية - والتي ليس لها أي ارتباط بقضية التشيع والشيعة - ذكّره بهذه الأمور التافهة، فاندفع يتهم هذه الجماعة المؤمنة من دون تورّع!

إنّ كتاباته أفضل جواب على أقواله، وخير شاهد على عدم معرفته بعقائد الشيعة، وتاريخهم؛ وذلك لأنّه ربط الشيعة بعبد الله بن سبأ!

يربط بين الشيعة وعبد الله بن سبأ المشكوك في أصل وجوده من وجهة نظر التاريخ، والذي ليس له -على فرض وجوده- أدنى دور في تاريخ التشيع والشيعة! بينما نجده -من جانب آخر- يربط بين الشيعة والباطنية، بل حتى بين الشيعة والفرقة البهائية، التي هي أعدى أعداء الشيعة، على حين تكشف أدنى معرفة بتاريخ الشيعة أنّ هذه الأحاديث والمزاعم ليست سوى مزاعم وأحاديث خيالية وهمية، بل محض افتراء، واتهام، واختلاق.

والأعجب من كل ذلك هو أنّ هذا الكاتب يربط بين جماعة (الغلاة) - وهم الذين يرفعون علياً(عليه السلام) إلى درجة الأُلوهية غلوّاً - وبين الشيعة! في حين أن الفقه الشيعي أفرز فصلاً للغلاة تحت عنوان إحدى الفرق والطوائف المقطوع بكفرها! ويتهم الشيعة بأنهم يعبدون أهل البيت! وغير ذلك من النسب الباطلة الرخيصة.

إن من المسلّم أن كاتب (المنار) لو لم يكن قد تأثر بالأحكام المتسرعة والعصبيات العمياء، وسمح لنفسه بأن يسمع عقائد الشيعة من أفواههم أنفسهم، ويأخذها منهم، ويستقرئها من كتبهم لا من كتب أعدائهم، لعرف جيداً بأنّ ما نسبه إلى الشيعة ليس مجرّد افتراءات وأكاذيب، بل هو مهازل مضحكة.

والأعجب من ذلك كلّه أنّه عزا نشأة التشيع إلى الإيرانيين، مع العلم أنّ التشيع كان فاشياً في العراق، والحجاز، ومصر، قبل أن يتشيع الإيرانيون بقرون مديدة، والوثائق التاريخية شواهد حية على هذه الحقيقة.

ذنب الشيعة:

إنّ ذَنب الشيعة هو أنهم عملوا بما صدر عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) قطعاً، والذي ورد - كذلك- في أوثق المصادر السنية، وهو قوله(صلّى الله عليه وآله): «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»(41).

إنّ ذَنب الشيعة هو أنهم يعتبرون أهل البيت النبوي أدرى وأعرف من غيرهم بدين النبي ورسالته، فجعلوهم الملجأ، والمرجَع في المشاكل الدينية، وأخذوا عنهم حقائق الإسلام.

إنّ ذنب الشيعة هو أنهم فتحوا باب الاجتهاد أخذاً بحكم المنطق، والعقل، والقرآن، والسنة، وبذلك منحوا الفقه الإسلامي فاعلية متحركة، ولم يحصروه بأربعة أشخاص، ولم يجبروا الناس على اتباعهم، أليست خطابات القرآن والسنة موجّهة إلى عموم المؤمنين في جميع الدهور والعصور؟! أم هل كان أصحاب رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يتبعون في فهم الكتاب والسنة أشخاصاً معينين؟! فلماذا انحصر الإسلام في حصار قديم من الجمود باسم: (المذاهب الأربعة)؛ الحنفي، الحنبلي، المالكي، الشافعي؟!

إن ذنب الشيعة هو أنهم سيقولون: إنّ صحابة رسول الله(صلّى الله عليه وآله) مثل سائر المسلمين، يجب أن يقيّموا بمقياس إيمانهم، وفي ضوء أعمالهم، فمن وافق عمله الكتابَ والسنة كان صالحاً، ومن خالف عمله الكتاب والسنة -سواء أكان في عصر النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أم جاء بعده- طُرِدَ، وأُبعد، ولا تكفي مجرد الصحبة ليتستر بها المجرمون والجناة، فلا يجوز أن يقدَّسَ -ويُحترم- رجالٌ كمعاوية الذي داس كلَّ القيم، وتجاهل جميع الضوابط الإسلامية، وخرج على إمام زمانه الذي رضيت به الأُمة الإسلامية، وعلى الأقل في ذلك العصر -ونعني به علياً(عليه السلام)-، وأراق تلك الدماء الكثيرة! لا يجوز تقديس هذا الشخص وأمثاله لمجرد صحبته لرسول الله(صلّى الله عليه وآله).

نعم، هذه ذنوب الشيعة، وهم يعترفون بها، ولكن هل وجدتم في عالمنا هذا من هو أشدّ مظلوميّةً من الشيعة؟! بحيثُ تعتَبَر أفضل نقاط القوة في تاريخها وعقائدها نقاط ضعف، ويكيلون لها سيلا من الاتهامات، والأكاذيب، بل ولا يسمحون لها بأن تنشر معتقداتها في أوساط المسلمين لتعرضها عليهم بحرية، كما يفعل غيرها من الطوائف، بل يأخذون عقائدها من غيرها.

ترى إذا عملت جماعة بأمر نبيهم في حين لا يعمل الآخرون به، فهل يعتبر عمل تلكم الجماعة تفريقاً للصفوف، وشقاً لعصى الأُمة؟! وهل يجب صرفُ هذه الجماعة عن مسارها ليتحقق الاتحاد، أو تقويم من يسلك غير سبيل المؤمنين؟!

الشيعة هم البناة لعلوم الإسلام:

إنَّ تاريخ العلوم الإسلامية يشهد أنّ الشيعة كانوا السباقين في أكثر هذه العلوم والمعارف، إلى درجة أنه اعتُبرَ الشيعة هم البناة المؤسسين لعلوم الإسلام(42).

إنّ الكتب التي ألَّفها علماء الشيعة في مجال التفسير، والتاريخ، والحديث، والفقه، والأُصول، والرجال، والفلسفة الإسلامية، ليست أُموراً يمكن تجاهلها، وإنكارُها، أو إخفاؤها، فهي موجودة في جميع المكتبات، اللهم إلا مكتبات أهل التعصب، والتکفير، وهذه الكتب شواهد حيّة على ما ذكرناه، فهل هؤلاء الذين صنّفوا، وألفوا كل هذه الكتب حول الإسلام وتعاليمه، في سبيل نشرها، وبثها، وتعميقها، - هل هؤلاء - كانوا أعداءً للإسلام؟! وهل عرفتم عدواً يحب الإسلام بهذه الدرجة؟!

هذا، ونقول في ختام حديثنا: إذا أردتم أن نزيل كل هذا الاختلاف والفرقة، تعالوا نعمل شيئاً آخر بدل التراشق بالاتهامات؛ لكي لا نعطي للأعداء ذريعة، ولتعلموا أنكم إذا أردتم الانتقام من الشيعة ومن أتباع أهل البيت(عليهم السلام) من خلال هذا الطريق، بمثل هذه النسب والافتراءات الباطلة، فإنكم سوف تضعفون أساس الإسلام من حيث لا تشعرون، بل وتوجه ضربة قاضية إلى أُسس وتفعيل الوحدة الإسلامية التي دعا إليها الإمام الخميني(قدس سرّه)(43)، امتثالاً للقرآن الكريم في عصرنا الحاضر.

عقيدة الشيعة في مسألة الإمامة:

من الملفت للانتباه أن القارئ الكريم يمكنه ملاحظة ثلاثة تعابير مختلفة في القرآن الكريم فيما يخص الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله):

أ- التعبير الوارد في قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}(44).

هذا التعبير البليغ الرائع الذي يقول: إن الرسول(صلّى الله عليه وآله) ليس وكيلاً عن البشرية في تحمل مسؤولياتهم تجاه العمل بالشريعة الإسلامية، والثورة ضد الطغاة، من الحكام، والمترفين، والمؤسسات الثقافية المضلة، والإنسان هو الذي يلحق الضرر بنفسه عندما يخضع لهم، ويؤيد الشيطان، والكفار، ولولا خضوع البسطاء من الناس، واستسلام أصحاب المصالح، لما قامت للظلم قائمة، دعنا نقرأ معاً حديثاً حكيماً في ذلك:

عن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتّاب بني أميّة، فقال لي: استأذن لي على أبي عبد الله، فاستأذنت له، فلمّا دخل سلّم، وجلس، ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد الله(عليه السلام): «لولا أنَّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً، إلا ما وقع في أيديهم، فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي من مخرج منه؟ قال(عليه السلام): إن قلت لك تفعل؟ قال: أفعل. قال(عليه السلام): اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك -إن فعلت ما أمرتك به- على الله الجنّة. قال: فأطرق الفتى طويلاً، فقال: قد فعلت، جعلت فداك، قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه، حتّى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمنا له قسمة، واشترينا له ثياباً، وبعثنا له بنفقة»(45).

إن من يعبد الطاغوت بخضوعه، يُظاهره، ويعاونه ضد الحق، وإلا فبمن استطاع الطغاة التسلط على رقاب الناس؟!

1- أليس بالصحفيين المأجورين، وأمثالهم، ممن يتسكعون على عتبات القصور من أجل فتات الخبز، وفضالة الطعام، ثم يلمعون أوجه الطغاة القبيحة بمقالاتهم السخيفة؟!

2- أو ليس بالجنود المجندة من الشباب الذين يصرفون طاقاتهم في خدمة الطغاة، بدلاً من أن يكون كل واحد منهم قائداً في مجتمعه؟!

3- أو ليس بالموظفين الذين أذلُّوا أنفسهم في دوائر السلطات الجائرة كي يُشبعوا بطونهم؟!

إذن، فالجريمة ليست من الطغاة وحدهم، بل للشعوب المستسلمة نصيب وافر من المسؤولية أيضاً.

ويتلخص لنا مما سبق أن الرسول ينذر، ويبشر، والناس يتحملون مسؤوليتهم، وإذا ساد الظلام أمة من الناس ينتمون ظاهراً إلى رسالة إلهية، فلا يعني أبداً أن في رسالات الله نقصاً، بل إنهم هم المسؤولون؛ لأنهم تركوا العمل الجاد بها، وتحمل مسؤولية الثورة ضد المستكبرين الجشعين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(46).

إذا تسلط الطاغوت، فإن البعض يحاول أن يلقي باللوم والمسؤولية على كاهل الإسلام، والأمة الإسلامية، ثم ينتظرها تخلصه من هذه الأزمة، كلا، وهذا خطأ، إن الرسل -ومن يمثلهم عبر التاريخ- لا يطالبون الناس أجراً مقابل ما يقدمون لهم من خدمة البشارة والإنذار، هذا فيما يخص الناس، أما فيما يخص الرسول(صلّى الله عليه وآله)، والأئمة الهداة، والعلماء العاملين، فإن واجبهم السير في الطريق رغم الصعاب، بالتوكل على الحي القيوم، دون الالتفات لقلة الأنصار حولهم، أو مدى الطاعة والرفض من قبل الناس.

ب- التعبير الوارد في قوله تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(47)، حيث يبين الله تعالى من خلال هذه الآية المباركة جزاء الصالحين الذين يجتنبون الطاغوت، ويتبعون القيادة الشرعية البديلة، المتمثلة في أقرب الناس إلى الرسول نهجاً ونسباً، ويبشر الربُّ الذين يتيّمون بحبّ آل الرسول بزيادةٍ في الأجر، وبالفضل الكبير، وبجناتٍ فيها كلّ ما نريد، وأكرم به وعداً صادقاً، وقولنا: (الفضل الكبير) نعني به الفضل المقترن بالعمل الكبير؛ وهو المودة في القربى التي جعلت بمثابة أجر على الرسالة.

وبما أن الإسلام هو خاتم الأديان، وأنّه كان بحاجةٍ إلى قيادةٍ شرعيةٍ نابعةٍ من قيمة الربانية، تحافظ عليه من زيغ المترفين، وإلحاد الطغاة، وضلالة الجاهلين، وأنّ الله الذي أحكم تدبيره في خلقه قد اختار لرسالته من يحمل مشعلها من أهل بيت الرسول(صلّى الله عليه وآله)، كما اجتبى من آل إبراهيم، وآل يعقوب من يحمل مشعل الرسالة من بعدها، إذا عرفنا كل ذلك فإننا نهتدي إلى الحكمة البالغة وراء جعل المودة في القربى أجراً للرسالة؛ إذ أنّ الهدف منها ولاء القيادة الشرعية، وهي الإمامة التي هي نور الله الذي أُنزل من السماوات إلى الأرض، إنها من تمام الدِّين، وكماله، ومن دونها لا يكتمل الدِّين، ولا تتمّ الرسالة.

والإمامة مقام إلهي، لا يُعيّن إلّا من قبل الله -تعالى-، تماماً كما هي النبوة، والأئمة الهداة يعيّنون من قبل الله، عن طريق النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، فمن أراد أن يشكر رسول الله(صلّى الله عليه وآله) على الأذى الكبير الذي يتحمّله من أجل تبليغ الرسالة حتى قال: «ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت»، فلا شكر أفضل من محبة أهل بيته(عليهم السلام)، الذين يحملون ذات الرسالة، ويبلغونها للناس، وهكذا يكون أجر الرسالة في مصلحة الناس أنفسهم، ولهذا قال الله:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}(48)؛ أي: إن سألتكم المودة في القربى كأجر على دعوتي، فهذا الأجر في الحقيقة يعود نفعه إليكم.

ج- وهو التعبير الوارد في الآية المباركة التي تم ذكرها في أواخر التعبير (ب)(49).

ومن انضمام هذه التعابير الثلاثة إلى بعضها، تتحصل النتيجة التالية: فيما يخص الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله) إذا عُدَّت المودة في القربى أجر رسالته، فهذه المودة - من جانب- في نفع المؤمنين أنفسهم لا بنفع النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، ومن جانب آخر، فإن هذه المودة وسيلة حصول الهداية على طريق الله -تبارك وتعالى-.

بناء على هذا، فإنّ مجموع هذه الآيات يشير إلى أن المودة في قربى رسول الله(صلّى الله عليه وآله) هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وبعبارة أخرى: لمواصلة طريق النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وهدايته، وقيادته، يجب الارتباط بذوي قرباه، والاعتماد على قيادتهم، هذا هو الأمر الذي يدافع عنه أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في مسألة الإمامة، فإنهم يعتقدون أن امتداد القيادة بعد النبيّ سيستمر إلى الأبد، لا في شكل النبوة، بل في شكل الإمام؛ ليقتسبوا منها نور الهداية في دروب الحياة.

وهنا لا بأس بذكر مواصفات الإمامة كما وردت على لسان أحد الأئمة، وهو الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، إذ قال: «إنّ الإمامة: خلافة الله، وخلافة رسول الله، والإمام أمين الله في أرضه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حريم الله».

«الإمام يحلّ حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله (أحكام الإسلام)، ويذبّ عن دين الله (يدافع عن الإسلام)، ويدعو إلى سبيل الله بالحكمة، والموعظة الحسنة»(50).

استطاعت الشيعة إثبات معتقداتها من خلال مصادر وكتب أهل السنة، يقول أستاذنا سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(حفظه الله): (لا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين أحد علماء أهل السنة، إذ أظهر كلاماً عجيباً عند ذكرنا لبعض مناقب وفضائل أمير المؤمنين؛ الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، حيث قال: في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم -أصولها، وفروعها- من مصادرنا، وكتبنا؛ لأنَّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة، وصحة مذهبهم)(51).

عليٌ وشيعته يعيشون دوماً بعيدون عن أهواء الشياطين، وأطماع الحكام، نعم، كما نستفيد ذلك من مثالٍ للقرآن الكريم، حيث ضرب الله مثلاً؛ ليقرب من خلاله إلى أذهاننا قبح الشركاء، أي اشتراك مجموعة في امتلاك شخص، إذ يقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ}(52)، أي: أن هناك عبداً يمتلكه عدة أشخاص، وهم متشاجرون، متنازعون في استخدامه، قبيحو الأخلاق، وهو موزع بينهم، ولكل منهم عليه تكليف، فهذا يقول له: نفذ العمل الفلاني. والآخر ينهاه عن تنفيذ ذلك العمل، وهو في وسطهم كالتائه الحيران، لا يدري أي أمر ينفّذ، فالأمران متناقضان، أو متضادان، ولا يدري أيّ منهما يرضيه، والأدهى من كل ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأول، فهو لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم أولى بأن يقوم بحوائجه، فهو لهذا السبب في عذاب دائم ما دامت حياته.

وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد، {وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ}، فالرجل الذي يقوده شخصٌ واحدٌ باسم الله، ولا تتداخل فيه شهوات الآخرين، ولا ضغوطهم، ولا مصالحهم، يعيش دائماً في حرية، مستقيماً في طريقٍ واحد، لا تعصف به الاختلافات، ولا تتحكم فيه الفوضى، ولا يواجه مشكلة تعدد الولاءات، وولي أمره معلوم، فلا تردد، ولا حيرة، ولا تضاد، ولا تناقض، وخلاصة المطلب: أنه يعيش بعيداً عن أهواء الشياطين، وأطماع الحكام، وهذا يعني العيش بروح هادئة، والخطى بخطوات مطمئنة، والعمل تحت رعاية فرد يكون داعماً له في كل شيء، وفي كل أمر، وفي كل مكان، فهل أنّ هذين الرجلين متساويان؟! {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}(53)، كما اتضح لنا مما سبق، لا يمكن المساواة بين عبد يملكه أكثر من مالك، وبين عبد يملكه رجل واحد.

جاء في حديث لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «وأنا السَلَم لرسول الله(صلّى الله عليه وآله)، يقول الله: {وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ}»(54). وعن أبي جعفر(عليه السلام) في الآية قال: «{سَلَماً} هو: علي(عليه السلام)، {لِرَجُلٍ} هو: النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، {وَشُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ} أي: مختلفون، وأصحاب علي مجتمعون على ولايته»(55).

وورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «الرجل السلم للرجل حقاً عليٌّ وشيعته»(56).

{الْحَمْدُ للهِ} على عبوديته التي هي خير من عبودية من سواه. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلا يفرقون بين الذي يوحّد الله، ويخضع فقط لأوليائه، وبين من تستعبده قوى السلطة والثروة.

وهكذا ضرب الله لنا مثلاً للتوحيد من واقع الحياة الاجتماعية، والسياسية، وميّز بين نمطين من الحياة، حياة الاستقلال، وحياة العبودية.

أمير المؤمنين(عليه السلام) وشيعته هم السابقون إلى الجنّة:

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}(57)، السابقون ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل الذين يسارعون في أعمال الخيرات، ويبادرون للاستجابة للحق أنّى دُعوا إليه بكل إخلاص، ولهذا السبب فهم من المقربين إلى الله.

جاء في حديثٍ لابن عباس أنه قال: سألت رسول الله(صلّى الله عليه وآله) حول هذه الآية فقال(صلّى الله عليه وآله): «هكذا أخبرني جبرائيل، ذلك علي وشيعته، هم السابقون إلى الجنّة، المقربون من الله؛ لكرامته لهم»(58).

ونقرأ في نص مأثور عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال لبعض أتباعه: «أنتم السابقون الأولون، والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا إلى ولايتنا، وفي الآخرة إلى الجنّة»(59).

إن المراد من: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} هم شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، وهم تلك الثلة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى، كعلامة للفوز، والنصر، والنجاح، ويسلمون من عذاب الله؛ وذلك لتسليمهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فتقول لهم الملائكة - وهي تبشرهم بالأمن، والسلام، والعافية-: أنتم في سلام؛ لأنكم من أصحاب اليمين، أي: يكفيكم من الافتخار والوصف أن تكونوا من الموالين، والمحبين، والذائبين في رسول الله، وأهل بيته(عليهم السلام)؛ لهذا نقرأ في حديث للإمام الباقر(عليه السلام) - في تعقيبه على نهاية قوله تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}(60) - أنّه(عليه السلام) قال: «هم شيعتنا، ومحبّونا»(61).

وليسوا كأصحاب المشأمة(62) الذين يعادون رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وأهل بيته(عليهم السلام)، ويكذّبونهم، وفي روضة الكافي للكليني(رضي الله عنه): قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ(عليه السلام): «هم شيعتك، فَسَلِمَ وِلدُك منهم أن يقتلوهم»(63).

ونقل المفسّر المشهور (القرطبي) -وهو من أهل السنة- تفسير هذه الآية عن الإمام الباقر(عليه السلام)، فقال: «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا - أهل البيت(عليهم السلام)- فهم مرتهنون»(64). وأورد هذا الحديث مفسرون آخرون، منهم صاحب مجمع البيان، ونور الثقلين، و...، في ذيل هذه الآيات.

إنَّ الإمام علياً(عليه السلام) وشيعته خير البرية:

كما هو مراد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(65)، والمراد من خير البرية: هم المؤمنون الذين يجزيهم الله بجنات عدن، ويرضى عنهم، ويرزقهم الرضا عنه؛ كل ذلك لخشيتهم من الله؛ ولأنهم آمنوا بأفضل نبيّ، واتبعوا أكمل منهج، واهتدوا بأبلج نور.

لقد خلق الله كل شيء في الأرض للإنسان، ولكن أي إنسان؟! هل الذي يغتال كرامة نفسه، ويدسها في وحل الجهل والغرور؟! كلا، إنه لا يساوي عند الله شيئاً، بل الذي يؤمن بالله وبرسوله النبي محمّد، وآل بيته الطيبين الطاهرين(عليهم السلام)، ويعمل صالحاً، فيصبح أكرم خلق الله جميعاً.

ثمة روايات كثيرة بطرق أهل السنة في مصادرهم الحديثية المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعية، فسّرت الآية المباركة بأنهم: علي(عليه السلام)، وشيعته.

«الحاكم الحسكاني النيسابوري»، عالم أهل السنة المعروف في القرن الخامس الهجري، نقل هذه الروايات في كتابه المشهور: (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة، ويزيد عدد هذه الروايات على العشرين، نذكر منها - على سبيل المثال - ما يلي:

1ـ جاء في الأثر في تأويل هذه الآية عن ابن عباس قال: (لما نزلت هذه الآية قال النبي(صلّى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): «هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين، مرضيّين، ويأتي عدوك غُضباناً مقمحين»(66).

2ـ وعن أبي برزة قال: حينما تلا رسول الله(صلّى الله عليه وآله) هذه الآية قال: «هم أنت وشيعتك يا علي، وميعاد ما بيني وبينك الحوض»(67).

3ـ وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا جالسين عند النبي جوار الكعبة، فأقدم علينا علي، وحين رآه النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قال: «قد أتاكم أخي». ثمّ التفت إلى الكعبة، وقال: «وربّ هذه البينة، إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة». ثم التفت إلينا، وقال: «أما والله إنّه أوّلكم إيماناً بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأقضاكم بحكم الله، وأقسمكم بالسوية، وأعدلكم في الرعية، وأعظمكم عند الله مزية».

قال جابر: فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، فكان علي(عليه السلام) إذا أقبل قال أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله): قد أتاكم خير البرية بعد رسول الله.»(68).

نزول هذه الآية جوار الكعبة لا يتنافى مع مدنية السورة؛ إذ من الممكن أن تكون من قبيل النزول المجدد، أو التطبيق، أضف إلى ذلك أنّ نزول هذه الآيات لا يستبعد أن يكون خلال أسفار النبي إلى مكة من المدينة، خاصة أنّ الراوي (جابر بن عبد الله الأنصاري) قد التحق بالنبي(صلّى الله عليه وآله) في المدينة.

وبعض هذه الأحاديث رواها ابن حجر في الصواعق، ومحمّد الشبلنجي في نور الأبصار(69).

4ـ وجاء في تفسير الدر المنثور، عن ابن مردويه، عن علي(عليه السلام)، قال: «قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟! أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين»(70).

كثير من علماء السنة -سوى من ذكرنا- نقلوا مثل هذه الروايات في كتبهم، منهم: الخطيب الخوارزمي في (المناقب)، وأبو نعيم الأصفهاني في (كفاية الخصام)، والعلاّمة الطبري في تفسيره، وابن صباغ المالكي في (الفصول المهمة)، والآلوسي في (روح المعاني)، وباختصار، هذا الحديث من الأحاديث المعروفة، المشهورة، المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي وأتباعه.

وهذه الروايات تدل -ضمناً- أنّ كلمة: (الشيعة) -باعتبارها اسماً لأتباع علي(عليه السلام)- كانت قد شاعت منذ عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين المسلمين، على لسان الرّسول نفسه، وأُولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير.

ربّنا، إننا نستمد العون من فضلك، وإحسانك؛ لبلوغ درجة: «خير البرية»، ربّنا، اجعلنا من شيعة ذلك الرجل الصالح، الذي كان أجدر من نال هذه الدرجة، ربّنا، مُنّ علينا بإخلاص يجعلنا متفانين في حبّك، وعبادتك، آمين، يا ربّ العالمين، والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) الحجرات: 10.

(2) المفردات للراغب الأصفهاني، بتصرف.

(3) الصافات: 83.

(4) الأعراف: 157.

(5) تفسير نور الثقلين، ج4، ص406.

(6) ميزان الحكمة، ج8، ص221، ح 16630.

(7) القصص: 15.

(8) مريم: 69.

(9) طبعاً المراد من قوله: (عتياً) هو: العتي، وهو مصدر كالعتو، وهو التمرد، والعصيان.

(10) الأنبياء: 69.

(11) تفسير نور الثقلين، ج3، ص353، والمراد من كلمة (جثياً): الجثي، جمع جاثي، وهو الذي برك على ركبتيه، أي: يحشر الله الناس حول جهنم جاثين على ركبهم؛ ذلك أنهم لا يستطيعون أن يقفوا على أقدامهم من شدة الخوف؛ إذ يمنعهم الزحام الشديد من الاستلقاء، أو اتخاذ جلسة مريحة، ولذلك هم يضطرون إلى اتخاذ جلسة وضع الجثو على ركبهم، وفي ذلك مزيد من العذاب لهم، هذا وقد تقدمت الآية التي تحوي كلمة (جِثيا) على الآية - مورد البحث - بآية واحدة في نفس السورة المباركة.

(12) ميزان الحكمة، ج1، ص202،ح 953.

(13) ميزان الحكمة، ج5، ص346، ح 10174.

(14) ميزان الحكمة، ج5، ص348، ح: 1018 و10181 و10182، ووردت كلمة: (الصراط) في حديث الإمام الصادق(عليه السلام) بدل جملة (إنّ على جهنّم جسراً).

(15) الأدلة: الذين يدلون المسافرين على الطريق.

(16) الفَلَوات، أي: المَفَازات، والقِفار.

(17) أَخذَ القَصدَ، أي: ركب الاعتدال في سلوكه.

(18) نهج البلاغة، خطبة رقم 222.

(19) ميزان الحكمة، ج5، ص348، ح 10183.

(20) ميزان الحكمة، ج5، ص348، ح 10183.

(21) بحار الأنوار، ج8، ص68،ح 11.

(22) وللمزيد من المعلومات راجع كتاب: بحار الأنوار، ج8، وبالأخص هذه الروايات:(12 و13 و14 و15 و16 و17).

(23) تفسير نور الثقلين، ج3، ص354.

(24) ميزان الحكمة، ج1، ص215، ح 1022.

(25) نفس المصدر، ح 1023.

(26) نفس المصدر، ص217، ح 1044.

(27) نفس المصدر، ح 1086.

(28) نفس المصدر، ح 1086.

(29) هوية التشيع، للشيخ الوائلي(قدس سرّه)، بتصرف.

(30) كتاب القاموس المقدس والهدى إلى دين المصطفى.

(31) نفس المصدر.

(32) الحجر: 9.

(33) البيان، السيد الخوئي(قدس سرّه)، صيانة القرآن من التحريف، ص200.

(34) تفسير التبيان، المقدمة، والمعروف عن مؤلفه(قدس سرّه) بشيخ الطائفة (460 هـ ق).

(35) أوائل المقالات، ص94.

(36) تفسير آلاء الرحمن، 35.

(37) الصراع، لعبد الله علي القصيمي، ج2، ص23، على ما نقل عنه العلامة الأميني في الغدير، ج3، ص300.

(38) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، رواه عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) جمع من الصحابة، انظر بحار الأنوار، ج36، ص331.

(39) للمزيد من التوضيح على قارئي الكريم مراجعة كتاب: (أنوار الاْصول)، ج2، ص340 فصاعداً، للأستاذ آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم شيرازي (دام ظله العالي).

(40) الأنعام: 159.

(41) انظر الهامش 38.

(42) للوقوف على أدلة هذا الموضوع راجع كتاب: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام)، وكتاب: (أصل الشيعة وأُصولها).

(43) تفسير الأمثل، ومصادر أخرى، بتصرف.

(44) الفرقان: 57.

(45) بحار الأنوار، ج75، ص375، بتصرف بسيط.

(46) الفرقان: 56.

(47) الشورى: 23.

(48) سبأ: 47.

(49) سبأ: 47.

(50) عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، باب 20، العبارات مستقاة من الحديث رقم 1، وهو حديث مطوّل حول الإمامة والإمام، نقلت بعضه بتصرف بسيط.

(51) تفسير الأمثل، ج5، ص389، بتصرف.

(52) (مُتشَاكِسُونَ): أصلها شكاسة، وتعني: سوء الخلق، والتشاجر، والتنازع، والاختصام، ولهذا يقال: متشاكس. لمن يتخاصم، ويتمانع، ويتنازع بعصبية، وأصله من الشكاسة، وهو: سوء الخلق، والاختصام.

(53) الزمر: 29.

(54) تفسير البرهان، ج4، ص75.

(55) نفس المصدر.

(56) نقله العياشي في تفسيره مجمع البيان، في ذيل الآية.

(57) الواقعة: 10 - 11.

(58) تفسير نور الثقلين، ج5، ص209.

(59) نفس المصدر.

(60) الواقعة: 90 - 91.

(61) تفسير البرهان، ج4، ص285.

(62) قيل إن العرب يسمون الشمال شؤماً؛ لأنهم يعتبرونه نحساً، وتخلفاً.

فالمراد من أصحاب المشأمة - كما في قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}، سورة الواقعة، الآية: 9- هم أصحاب الشقاء، والشؤم، الذين يعطون كتابهم بشمالهم؛ ليكون ذلك علامة على أنهم من أصحاب النار، فما أعظم حزنهم، وحسرتهم.

(63) تفسير نور الثقلين، ج5، ص229.

(64) تفسير القرطبي، ج10، ص6878.

(65) البينة: 7.

(66) شواهد التنزيل، ج2، ص357، بتصرف بسيط.

(67) نفس المصدر، ص359، ح 1130.

(68) نفس المصدر، ص362، الحديث 1139.

(69) الصواعق المحرقة، ص96، ونور الأبصار، ص70 و101.

(70) تفسير الدر المنثور، ج6، ص379.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا