شعاع الشهادة الحمراء ما زال يسري يا حسين

شعاع الشهادة الحمراء ما زال يسري يا حسين

تمهيد:

لا شك ولا ريب -لقارئي الكريم- أن الحرب والسلم من حوادث ومظاهر عالم الطبيعة؛ أي أن حالة الحرب والنزاع لا يمكن أن تنفك عن الإنسان في دار الدنيا باعتبار أنه يحمل بعدا ماديا، ويعيش في عالم الطبيعة الذي هو عالم الحركة والتنقل.

حيث إن عالم الطبيعة يحتوي على الحرب والهجوم من ناحية، والهرب أو الدفاع من ناحية أخرى، كما أن ظهور الشر وعروض الضرر منحصر في هذا العالم فقط، من هنا نحن اليوم في ساحة مواجهة وصراع وتحدٍّ.

وهذه الثقافة -التي ورثناها من الحسين(ع) وورثها الحسين(ع) من الأنبياء(ع)- هي أهم ما يجب أن نفعله في حياتنا العملية، فالحرب بما أنها ملازمة لحياة الإنسان في الدنيا تكون تارة بعنوان الهجوم، وأخرى بعنوان الدفاع، ونستفيد من هذا أنه لا يوجد فرق في أصل وقوع الحرب بين الأنبياء الإلهيين الذين هم معلمو البشرية وبين الحكام والأمراء المستبدين، فالغاية الكبرى التي يسعى لتحقيقها الكاملون من الناس كالأنبياء(ع) هي عبارة عن عملية السير بالفرد والمجتمع في طريق الكمال، وأما الغاية التي تقف خلف أعمال الملوك وأمراء الجور والطغيان فهي عبارة عن إفساد الفرد والمجتمع، وإهلاك الحرث والنسل وتخريب المدن والقرى كما يقول الله تعالى بشأن ذلك: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}(1)، حيث ترى أن عمله هو الفساد لا الصلاح، فهو لا يحب أحدا ولا يحب أن يمتلك أحد شيئا، ولذلك فأمنيته الكامنة هي أن لا يعيش أحد ولا يبقى شيء سليما، وإذا أوتي القوة استخدمها في إبادة الحياة والزراعة والإنتاج والناس أجمعين، ويقول تعالى: { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(2).

لا ريب في أن جوهر رسالة الله يختلف عن واقع الثقافة الأرضية؛ حيث إن سلوكيات الرسل وشخصياتهم تختلف عن سلوكيات وشخصيات أصحاب الثقافة الأرضية التي تستمد قيمها من عقل الإنسان حينا، وشهواته في الأغلب، أما الثقافة الإلهية فإنها تستمد قيمها من الوحي.

فمع أن سليمان(ع) كان ملكا ومن عادة الملوك الاستعلاء والفساد استجابة لإغراءات الملك إلا أنه كان ملكا صالحا مترفعا عن كل الرذائل، وهكذا يكون الملك حين يتصل بالرسالة الإلهية مثالا ساميا للسلوك الفاضل، ويضرب لنا الله مثلا بسليمان(ع).

لقد عامل سليمان(ع) الهدهد -وهو طائر يعمل في خدمته- معاملة كريمة حيث لم يعاقبه بل منحه فرصة كي يكتشف مدى صحة ما جاء به، فكتب رسالة وسلمها له وأخذها الهدهد وألقاها على عرش ملكة سبأ، فلما بصرت بها امتلكها العجب، فشهرة سليمان(ع) كانت قد سبقت رسالته إليها، وكانت بلقيس على علم بما يجري في البلاد الأخرى، وهي تدري بأن بلاد فلسطين وبلاد الشام يحكمها ملك كريم، وعلى أثر استلامها كتاب سليمان جمعت أعضاء مجلسها الاستشاري ـ والذي كان حسب قول بعض المفسرين يضم 313 رجلاـ وأخبرتهم بأنها استلمت رسالة كريمة مختومة بخاتم سليمان وفي داخلها أوامر حكيمة ورشيدة، فيها دعوة للخضوع لملكه وسيطرته، ولكنه لا يفعل ذلك من أجل فرض سيطرته وهيمنته، ومن أجل ضم ملكها إلى ملكه، وإنما لنشر راية الحق والعدالة الإلهية، ثم طلبت بلقيس من مجلسها أن يشير عليها بما يجب أن تفعله في أمر خطير كهذا، فترك المجلس المسألة إليها وأبدوا استعدادا لتنفيذ كل ما تقرره وتأمر به، فكان القرار النهائي لبلقيس الاستسلام لسليمان؛ لأنها عرفت أنه أكثر نفوذا وقوة منها، وأنها لم تشتر استقلال بلادها بالتعاون مع سليمان، فإنه وجنوده سيدخلونها عنوة ويؤدي ذلك إلى خرابها ودمارها.

والقرآن الحكيم لا يبين لنا الأحداث التاريخية لمجرد العلم أو التسلية بها، وإنما يبينها للاعتبار والاتعاظ، كما أنه لا يحتوي على لغو وعبث، إذن فعلى كل جيل أن يستفيد منه بما يتناسب وقدرته للاستيعاب، ونستفيد من القصة أن أفضل حكومة تقوم بين الناس هي الحكومة التي تجمع بين المشورة في الرأي وعدم الانفراد به، والحزم في تنفيذ القرارات؛ ذلك لأن الذي يحرك العالم أمران: العلم، والإرادة.

فيجب على المرء أن يعرف الطريق ثم يقرر المضي فيه؛ إذ قد يكون القرار خاطئا ومهلكا بدون علم، والقرار الذي لا إرادة معه سيكون هشا، والسلطة يجب أن تكون مجسدة لهذين العاملين الأساسيين لحركة التاريخ.

إن الحكومات النيابية التي يضيع فيها القرار بسبب اختلاف الأفراد لا تفرز قرارات حازمة، وأما الحكومات المستبدة فالحزم موجود في قراراتها، إلا أنه ينقصها الرأي الصائب أو القرار العلمي؛ لأن الفكر الواحد لا يمكنه استيعاب المزيد من المعارف والتجارب، وأما الحكومات التي تبقى فيها القرارات لأعلى سلطة -أي للفرد الذي يمسك زمام الأمور بيده، ولكنه لا يتخذ القرارات إلا بعد أن يستشير مجموعة من الناس سواء كانت هذه المجموعة من الخبراء أو المستشارين أو النواب- فإنها تكون أقرب إلى الصواب؛ لأن هذا النوع من الحكومات يجمع بين علم المشورة وحزم القرار، ويتضح هذا النوع من الحكومات في الآية الكريمة التي تقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(3).

ونستوحي سلامة هذا النوع من الحكم من خلال قصة بلقيس؛ حيث شاورت الملأ من قومها واستشارتهم بقولها: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}، ففعلوا ولكنهم -بدورهم- خولوها حق القرار النهائي، وهذه نقطة مهمة في الحكم، أن بلقيس لم تكن لتفرض عليهم سيطرتها، بل هم الذين خولوها حق القرار، ومن طرائف الحكم الإسلامي ولطائفه أن الناس بأنفسهم وبملء إرادتهم وكامل حريتهم يخولون شخصا حق القرار النهائي وذلك عبر ولاية الفقيه، فالفقيه الحاكم والقاضي ولي أمرهم بإذن الله وهو منتخب من قبل الناس بطريقة الانتخابات الإسلامية ويخول حق اتخاذ القرار فيسلم له الناس نفسيا قبل أن يتبعوه عمليا.

وبالرغم من أن حكومة بلقيس كانت من أفضل أنواع السلطة إلا أنها حيث كانت بعيدة عن روح الإيمان وهدى الرسالة فقد كانت منحرفة فاسدة، فسلامة القوانين وصحة الأنظمة -وحتى سلامة تطبيقها- لا تدل على أن البشرية تصل بها إلى شاطئ السعادة والسلام، إنما القوانين بمثابة جسد يحتاج إلى روح، وروحها هدى الله، فعلى الرغم من أن مدينة العرب في مملكة سبأ كانت جيدة وقوتهم كبيرة إلا أنهم فقدوا الصلة بالله فعبدوا الشمس من دونه، ولأنهم فقدوا روح الإيمان اضطروا للخضوع إلى سلطان يملك تلك الروح الإيمانية.

والفرق بين بلقيس وسليمان لم يكن سلامة الأنظمة أو عدم سلامتها، وصحة القوانين أو عدم صحتها، إنما كان في الجانب الغيبي وهو الإيمان بالله، وحينما كانت بلقيس خلْواً من هذا الجانب اضطرت للخضوع لسليمان، وهذا هو قانون الحياة، فلو كان هناك حاكم يملك الجانب الإيماني للقوة -وهي التوكل على الله- وآخر لا يملكه وكانا متساويين في سائر الأمور فإن الأول هو الذي سينتصر بإذن الله.

إذن نحن بحاجة من بعد المشورة والعزم إلى قوة أخرى لإنشاء حكومة مثالية، وهي قوة التوكل على الله سبحانه وتعالى.

فالأفراد الكاملون والمتقون يسيرون وفقا للتخطيط الإلهي المتقن والقوانين الهندسية المحكمة التي تشكل البناء المعماري المتناسق الذي رسمت خطوطه الكلية وأضلاعه الجانبية على أساس الرحمة واللطف الإلهي، من هنا كان منطق الأنبياء(ع) هو:{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(4)، فمن أبرز تجليات الاستقامة في حياة رسول الإسلام وحدة وجهته في أبعاد حياته كما يتضح ذلك من الآية، فلم تكن صلاته وذبائحه لغير الله حسب ما كانت عليه الجاهلية، أو صلاته لله عبر عبادته للأصنام.

كلا، ولم تكن حياته لقيصر ومماته لله، فاقتصاده وسياسته وأخلاقه واجتماعه وتربيته وبناء بيته وحتى حركاته وسكناته كلها كانت لله وباتجاه مرضاته ولتحقيق قيمه سبحانه، وفي خطه كما كان مماته لله، فكان يختار الشهادة في الله إذا دعت الضرورة الإسلامية لذلك.

وهذه الغايات التكاملية السامية لا تختص ببعض الأنبياء دون البعض الآخر مطلقا، باعتبار أن كل نبي عندما يأتي يؤيد سيرة وسنة الأنبياء المبعوثين من قبله، ويتفق معهم في الخطوط الرئيسية العامة للدين، من قبيل العقائد والأخلاق والحقوق والفقه، ويسير الجميع باتجاه تحقيق هذه الغايات المشتركة، غاية ما في الأمر أنه قد يكون لبعض الأنبياء أحكام خاصة تتميز عن أحكام الأنبياء الآخرين في بعض الموارد والأمور الجزئية.

ومن الطبيعي أن ظاهرة السعي للسير بالإنسان في طريق الكمال والجهاد والاجتهاد في سبيل تكامل الفرد والمجتمع كانت ولا زالت من السنن والمظاهر المشتركة بين جميع الأنبياء(ع)، ونجد أن سورة الحديد التي تتكفل ببيان البرنامج العام للنبوة تصرح بأن جميع الأنبياء قد بعثوا بالصلاح والسلاح معا، فببركة الوحي -وعن طريق تعاليم الكتاب السماوي- يسقون الفطرة البشرية حتى تتفتح وتزدهر، وببريق السيوف يدافعون عن حريم الوحي ويذبون عن المستضعفين ضد المستكبرين في الأرض، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}(5).

وقد تبين من خلال هذا أن الناس جميعا يعيشون الحرب والسلم في حياتهم الطبيعية ويتساوى في هذا الأمر القائد والمقود، وكذلك من يسير في طريق الحق ومن يسير في طريق الباطل.

ومن هنا يتحتم علينا إقامة العدالة وفق القيم الإلهية؛ فإن ذلك أحد أهم وأبرز الأهداف التي نزلت من أجلها رسالات الله وسعى إليها الأنبياء والرسل، كما ينبغي أن يسعى إليها كل مؤمن بل كل إنسان، ولا يجوز أن ينتظر رسولا يبعثه الله ليتحملها، فإذا لم يحدث ذلك اعتزل الواقع وبالغ في الترهب انتظارا للمنقذ كما فعل الكثير من أهل الكتاب، فإن ذلك يصير بهم إلى الظلم والتخلف في الدنيا والعذاب والغضب الإلهيين في الآخرة.

وإذا رفع راية العدالة شخص أو تجمع فإن على سائر الناس أن ينصروه إن وثقوا منه ومن أهدافه، ولا يدعوه وحده في مواجهة الظالمين. والحركة الصادقة هي التي تسعى إلى ذلك بالكلمة الصادقة أو بالقوة والسلاح، وهي التي يجب على الناس تبنيها ومساعدتها والانتماء إلى صفوفها؛ لأنها تجاهد للحق ومن أجل سعادتهم؛ ولأنها المحك والامتحان في نصرتهم لله ولمسيرة الأنبياء والمرسلين.

وما وصلنا من واقعة كربلاء من خلال المواجهة بين جيش سيد الشهداء(ع) والجيش الأموي يعتبر سندا ناطقا لسنة المعصومين(ع) بأن من الضروري الدعوة إلى الحق وإتمام الحجة وتحليل مسائل الإسلام الحقيقي قبل شروع الحرب، ومن هذا القبيل سلوك أصحاب الإمام الحسين(ع) قبل الجهاد في الاجتهاد البليغ لإرشاد الطرف المقابل تارة بالشعر، وتارة بالنثر، وأخرى بالموعظة والنصيحة والدعوة له إلى قبول ولاية وقيادة سيد الشهداء(ع)، بل على الأقل التمكن من تحييدهم ومنعهم من نصرة الحكومة الأموية الظالمة، كما كان حال النبي(ص) وأهل بيته(ع) في سلوكهم الحربي، حيث كانوا يستخدمون الأساليب السلمية ـ كما يصطلح عليها في زمانناـ من سلاح التبليغ باللسان قبل اللجوء إلى سلاح الحرب، كما أنهم قبل تشكيل غرفة العمليات للحرب يستخدمون سلاح القلم مثل كتابة اللافتات والبيانات والشعارات الجدارية ـ كما في عصرنا مثلاـ وإرسال الكتب والرسائل -كالبرقيات- إلى الطرف المقابل.

وبما أن نبوة الرسول الكريم(ص) عندما كانت بعنوان الرحمة الشاملة للعالم أجمع كما يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(6)، فيجب أيضا أن تكون جميع شؤون الرسالة المحمدية مظهر رحمة لله تعالى، ولذلك فالرحمة يجب أن تصبح من مميزات الحرب في الإسلام التي تعتبر من أهم البرامج الدينية، ولذلك يبين القرآن الكريم المحاور الأصلية للجهاد وكلها قد رسمت متطابقة ومتجانسة مع الرحمة والمغفرة والحسنة، فمثلا يتحدث القرآن الكريم تارة عن مصير المجاهدين الذي هو معلوم لديهم بنحو الإجمال -وإن كان مجهولا على نحو التفصيل- فيقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}(7)؛ أي: أن الخسارة التي تسببها ساحات المعارك هل تعتبر كلها خسائر؟ أم أنها أقدار كتبها الله عليهم لحكمة بالغة؟

طبعا لا ريب في أن دماء الشهداء تكرس في المجتمع القيم الإنسانية، وإذا لم يقتل الشهداء فإنهم لا يخلدون في الحياة بل كانوا يموتون بسبب أو بآخر، ولكن حين استشهدوا وأريقت دماؤهم من أجل الرسالة جرت تلك الدماء الزكية في عروق الآخرين لتتحول إلى عزيمة راسخة وصلابة واستقامة.

وهكذا الخسائر المادية، فإنها تعتبر زكاة لأموال المسلمين والجهود المبذولة زكاة لأبدانهم تطهرهم وتؤهلهم لمسؤولياتهم المهمة في المجتمع؛ لذلك قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}، فلا حزن مما كتب الله وقدره لنا في سابق علمه وأثبته في اللوح المحفوظ، فهو وحده متولي أمرنا، لا أنفسنا ولا شيء من هذه الأسباب الظاهرة، وإذا كان كذلك فعلينا امتثال أوامره والسعي لإحياء أمره والجهاد في سبيله، وأن نتوكل عليه ونرجع الأمر إليه من غير أن نختار لأنفسنا شيئا من الحسنة والسيئة، فلو أصابتنا حسنة كان المن له سبحانه، وإن أصابتنا سيئة كانت المشيئة والخيرة له، فالله الذي قدر علينا المصيبة هو صاحب النعمة التي سلبها، فليس علينا أن نناقش ربنا فيما يكتبه ويقدره، ولا حزن ولا مساءة تطرأ على قلوبنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون، لذلك فهم لا ينهزمون نفسيا مما يقدّر الله عليهم من الهزائم، بل يعلمون أن الهزيمة إنما تعني: كونها خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الأمام بإذن الله تعالى وبفضل التوكل عليه، وبتعبير آخر: بما أن الله سبحانه وتعالى هو العالم والعادل والقادر والولي فإنه دائما يراعي منفعة المولى عليه.

من هنا فإن جميع ما يقع ويحدث لنا -حتى لو كان على شكل مصيبة- فهو من الأمور التي ساقها مولانا سبحانه وتعالى لمصلحتنا وليس فيه ضرر علينا؛ أي أنه لنا لا علينا.

إذن فإن أسوأ الاحتمالات عند الطغاة يعتبر عند المؤمنين أحسن الاحتمالات، أو ليس الموت أو مفارقة الحياة آخر ما يخشاه المستكبرون الظلمة؟ ولكنه أفضل ما يتمناه المؤمنون، أما النصر فهو أمل الجميع وقد يبلغه المؤمنون {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، وهما النصر أو الشهادة في سبيل الله، ومن هذا يتضح أن المجاهدين العاملين في الساحات وميادين القتال ليس أمامهم سوى طريقين لا ثالث لهما، أحدهم الانتصار وقتل الأعداء، والآخر الاستشهاد والتخلص من نشأة الطبيعة، ولا يوجد -مطلقا- طريق ثالث باسم المصالحة أو التسليم أو الأسر وأمثال ذلك.

وإذا ما وقع مجاهد في الأسر فلا يعني هذا أنه انتخب طريق الأسر، بل من باب الاضطرار وانتهاء وسائل الدفاع، أو البقاء وحيدا وأمثال ذلك، فأخذه العدو أسيرا، لا أنه انتخب هذا الطريق الثالث باختياره، والدليل على أن الجهاد ليس له سوى طريقين قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}(8)، ولا يوجد طريق غير هذين الطريقين، أحدهما أن يقتل أعداء الإسلام، والآخر أن يقتل ويكون شهيدا، ومن هنا سوف ينصب بحثنا المتواضع في القسم الآخر، أي الشهادة في سبيل الله وذلك من خلال طرح الأسئلة ثم الإجابة عليها راجيا من العلي القدير التوفيق والسداد(9)، وهنا أود ذكر الشعر الغزلي للإمام الخميني(قده) -ويذكره بعنوان حسن الختام-:

 

خذ يا إلهي ذا العدم تحت العدم

                        وأعطني يا خالقي حسن الختام

 

يقول: خذ المنصب والمقام والاسم والرسم، وأعطني ذاتك بدلها، لقد سار الإمام(رض) في طريق سار فيه مولاه الحسين بن علي(ص)، فيجب علينا جميعا أن نحيي عاشوراء بهذه الصورة والكيفية الموجودة.

* ما هو اشتقاق كلمة «الشهيد»؟ وما هو المراد منها؟

طبعا يعتبر معنى الشاهد والشهيد واحدا تقريبا، فإن الشاهد اسم الفاعل من هذه الكلمة، والشهيد فعيل بمعنى الفاعل كالنصير والناصر، وعندما نقف عند اشتقاق كلمة «الشهيد» سوف نرى أن أصل الاشتقاق في هذه الكلمة هو الشهود والشهادة وهما بمعنى الحضور، يقال مثلا: شهد المعركة أي حضرها، وفي المصطلح الشرعي تستعمل الشهادة في معنيين:

تحمل الشهادة بمعنى الحضور والرؤية، فإن الشخص الذي يحضر واقعة ويراها عن قرب رؤية حسية واضحة يتحمل مسؤولية هذا الحضور والرؤية، فإذا حضر جريمة وشهدها تحمل حينئذ مسؤولية هذه الرؤية والشهادة، وكأنما تحمله هذه الشهادة مسؤولية شرعية يجب عليه أن يبرئ ذمته منها.

أداء الشهادة: وهذا المعنى شائع أيضا في استعمالات الشهادة، فإذا بلغ الشاهد ما شهده أدى ما تحمله من مسؤولية الشهادة، ولا يتحلل الشاهد من مسؤولية الشهادة حتى يؤديها ويبلغها، والشهادة بهذا المعنى هي معيار وملاك الحكم للقاضي إذا كان الشاهد عدلا، ففي كل واقعة يختلف فيها الأطراف قد يجنح فيها بعض الأطراف أو كل الأطراف عن الحق، فيأخذ القاضي بشهادة الشاهد، فإن أمانة الأداء تتطلب منه أن يؤدي ما رآه بالحس من الواقعة، ويعتبر القاضي هذه الشهادة ملاكا للقضاء ويحكم بموجبها إذا تمت الشهادة بالموازين الشرعية، فيكون الشاهد بهذا المعنى ملاكا للحكم ودليلا عليه.

ويحتمل أن تكون تسمية الشهيد بالشهيد متأثرة بالمعنى الثاني وهو أداء الشهادة، فإن الشاهد والشهيد يستعملان بمعنى الدليل والميزان والمعيار والمقياس الذي نزن به الأحكام والأمور كثيرا، وهو معنى قريب من المعنى الثاني للشهادة الذي أشرنا إليه قريبا، والقرآن الكريم وإن كان لم يستعمل هذه الكلمة في معناها المصطلح إلا أنه استعمل هذه الكلمة في هذا السياق بالذات، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(10)، طبعا المراد من الوسط في قوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي أن الله سبحانه وتعالى هداكم إلى صراط مستقيم وهو الصراط الوسط الذي توسط بين شيئين، ما أجمل التعبير القرآني عن الأمة المسلمة بالأمة الوسط.

الوسط: أي المعتدلة في العقيدة، لا تسلك طريق الغلو ولا طريق التقصير والشرك، لا تنحو منحى الجبر ولا التفويض، ولا تؤمن بالتشبيه في صفات الله ولا بالتعطيل، معتدلة في القيم المادية والمعنوية، لا تغط في عالم المادة وتنسى المعنويات، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات، ليست كمعظم اليهود لا يفهمون سوى المادة، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماما، معتدلة في الجانب العلمي، لا ترفض الحقائق العلمية، ولا تقبل كل نعرة ترتفع باسم العلم، معتدلة في الروابط الاجتماعية، لا تضرب حولها حصارا يعزلها عن العالم، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك كما نرى الذائبين في الشرق أو الغرب اليوم، معتدلة في الجانب الأخلاقي، في عباداتها، في تفكيرها، وفي جميع أبعاد حياتها.

المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقا أن يكون إنسانا ذا بعد واحد، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة، مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع، فعال، ذو سماح.

عبارة «الأمة الوسط» توضح من جانب مسألة شهادة الأمة الإسلامية؛ لأن من يقف على خط الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الانحرافية المتجهة نحو اليمين أو اليسار، ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول: إنما كنتم شهداء على الناس لأنكم معتدلون؛ ولأنكم أمة وسط، والحقيقة لو اجتمعت الصفات التي ذكرناها للأمة الوسط في أمة فهذه الأمة دون شك رائدة للحق وشاهدة على الحقيقة؛ لأن منهاجها يشكل الميزان والمعيار لتمييز الحق عن الباطل، ورد عن أئمة أهل البيت(ع) قولهم: «نحن الأمة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه... نحن الشهداء على الناس... إلينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصر)(11).

طبعا مثل هذه الروايات -كما ذكر في محله- لا تحدد المفهوم الواسع للآية، بل تبين المصداق الأمثل للأمة الوسط وتعطي نموذجا متكاملا لها(12)، فإذن نعرف من الآية السابقة أنها تصرح بأن الأمة المؤمنة بالله -المعتدلة- شهيدة على الناس، والرسول شهيد على هذه الأمة، فماذا يمكن أن يكون معنى الشهيد في هذه الآية الكريمة في الشهادتين جميعا: شهادة الأمة المؤمنة على الناس، وشهادة رسول الله(ص) على الأمة؟ وبأي ملاك تكون هذه الأمة شهيدة على الناس جميعا ويكون الرسول(ص) شهيدا عليها؟

أعتقد أن الإجابة على التساؤل الثاني تفتح الطريق للإجابة على السؤال الأول، إن الملاك الذي جعل هذه الأمة شهيدة على سائر الناس هو الاعتدال والوسطية وعدم الجنوح إلى اليمين واليسار، وهذا الاعتدال والوسطية يؤهلها لتكون شهيدة على الناس، ونفس الملاك -بالتأكيد وبدلالة السياق- هو السبب في شهادة الرسول(ص) على الأمة، وهذا التوضيح واضح من متن الآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، إذن سر الشهادة كامن في حالة الاعتدال والوسطية بالذات، وهذه الحالة هي التي تؤهل الأمة لكي تكون شهيدة على الناس.

أما ماذا يعني الشهداء على الناس؟

لعله -والله العالم- يعني أن تكونوا موجهين لهم نحو مبادئ الإسلام بمثل ما يكون الرسول شهيدا عليكم، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، فذات المسؤولية التي يتحملها الرسول تجاهكم يجب عليكم أن تتحملوها تجاه الأمم الأخرى، وفي مناسبات أخرى تحدث القرآن الكريم عن مسؤوليات الرسول تجاه أمته وعلينا مراجعتها لنعرف مسؤولياتنا تجاه الأمم الأخرى.

إن الناس يجنحون لليمين واليسار في الأكثر، وترى هذه الكتل البشرية تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وتتلاعب بهم أمواج الفتن والشهوات والأهواء والانفعالات النفسية والمصالح والعواطف في اتجاهات شتى، ولا بد لهذه الكتل البشرية التائهة والضائعة في هذا الخضم البشري الواسع من معالم محسوسة وملموسة في الطريق تستهدي بها وتميز بها الصحيح من السقيم، والاستقامة من الاعوجاج والهدى من الضلال -كما لا بد لها من كتاب ووحي وشريعة وتعاليم، ولا يغني أحدهما عن الآخر- لا بد لها من تعاليم ودروس وتوجيهات، ولا بد لها كذلك من معالم ملموسة وقائمة على الطريق، والخاصية المطلوبة في هذه المعالم أن تكون معتدلة ومتوسطة وعلى الطريق تماما، ليس على اليمين ولا على اليسار، ولا تجنح إلى يمين أو يسار، وعند ذلك يمكن أن تكون معالم على الطريق يهتدي الناس بمواقعهم ومواقفهم قبل أن يهتدوا بكلامهم وتوجيهاتهم، فمن الناس من يكون موقفه وموقعه حجة على الآخرين فيهتدي الناس بمواقفه ومواقعه وأعماله كما يهتدون بكلامه ورأيه وتوجيهه، وهؤلاء هم القدوة والأسوة في حياة الناس ومعالم الطريق على الطريق، وهؤلاء سكوتهم وكلامهم وحركتهم وسكونهم وغضبهم وثورتهم وقيامهم وقعودهم قدوة وأسوة للآخرين وحجة عليهم، وهؤلاء هم الشهداء؛ لأنهم مقاييس للآخرين ومعالم على الطريق، ومعايير للحكم وللحق كما يكون الشاهد معيارا للقاضي في معرفة الحق من الباطل وتمييز الصحيح من السقيم وفرز الرديء من الجيد.

والذي يؤهل هذه الأمة لهذا الموقع - لأن تكون المقياس الذي يقيس به الناس أنفسهم ويصححون به أعمالهم وتحركاتهم- هو الاعتدال والتوسط في التفكير والعمل كما تقدم قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}، فكما أن الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الأمة أن يكون لها موقع السيادة والقيادة والحاكمية على وجه الأرض وعلى الناس كذلك أراد الله تعالى لهذه الأمة أن يكون لها موقع القدوة والريادة على وجه الأرض وبين الناس.

وبنفس الملاك فإن الرسول(ص) يحتل موقع القدوة والريادة من هذه الأمة، فهو(ص) شاهد عليها {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فالمؤمنون يتبعون رسول الله(ص) ويستجيبون لقيادته؛ فهو أسوة حسنة لهم في حياتهم؛ لأنه(ص) كان السبب الأمثل في كل حقل، فهو الأشجع والمقدام في الحروب، حتى كان الإمام علي(ع) المعروف بشجاعته وإقدامه يقول عنه(ص): (كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله(ص) فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه)، فكان الرسول(ص) هو السباق إلى الخيرات كما كان القمة الشامخة في كل فضيلة ومكرمة، فهو الذي يجب التأسي والاقتداء به.

ولكن هل يتمكن من الاقتداء بالرسول كل أحد؟

كلا، بل الذي ارتفع بإرادته وروحه وسلوكه عن حطام الدنيا وتطلع إلى الآخرة {لمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}(13)، أما الذي يكون هدفه شهواته أو زينة الدنيا فإنه لا يستطيع الاقتداء بالرسول(ص) الذي أخلص نفسه ووجهه لله وزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، كما كان الرسول(ص) يحتل موقع القيادة والإمامة والحاكمية من حياة هذه الأمة {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(14)، فالقرآن الكريم يركز هنا على فكرة حساسة وذات أهمية بالنسبة للمجتمع الإسلامي في أبعاد حياته المتعددة؛ حيث يبين بأن القانون الإسلامي يقتضي أن تكون القيادة الإسلامية مقدمة على كل شيء، أما الأسرة فهي تأتي في المرتبة الثانية، فإذا ما تعارض قرار القيادة مع قرار الأسرة فالواجب اتباع القيادة؛ لأنها أقرب إلى كل فرد فرد من أبناء المجتمع، بل هي أقرب إلى الفرد من نفسه، وفي مجمع البيان أن النبي(ص) لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالخروج، قال قوم: نستأذن أبناءنا وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية.

وبالإضافة لما تقدم حول كون الرسول(ص) شاهدا على الأمة فإنه(ص) يحتل كذلك موقع التبليغ والرسالة، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(15)، ومن هذا يتضح أن القرآن الكريم أوجب التسليم التام للقيادة الشرعية المتمثلة بقيادة الرسول(ص) لأنه مفوض بذلك من قبل الله الأعرف بأحكامه في كل شيء، ولا فرق -من حيث الإلزام- بين أمر الله وأمر رسوله والقيادة الشرعية التي تخلفه.

وعودا على بدء، إن مصطلح الشهيد ضمن هذه الصورة القرآنية يعتبر مقياسا في حياة الأمة يقيسون به أنفسهم، وأساسا لمعرفة الحق والباطل ولتمييز الرديء عن الجيد، إن الشهيد تبلور للصدق والعطاء والوعي والبصيرة يقيس الناس به أنفسهم وعطاءهم ووعيهم وصدقهم وبصيرتهم واستقامتهم...

والشهيد المثل الأعلى دائما في حياة الناس، وهو القمة في كل ذلك؛ فالشهيد قدوة صالحة في طريق العاملين، وهذه حقيقة لا غبار عليها؛ فإن الشهيد عندما يتحول إلى قدوة للعمل الصالح وللعطاء والتضحية في حياة الناس يستطيع أن ينقل القيم الإسلامية من جيل إلى جيل، فلا يتصور البعض أن الشهادة تفقد الأمة النخبة الصالحة من أبنائها وما تحمل هذه النخبة من قيم ومزايا إيمانية وأخلاقية وجهادية، والأمر على العكس تماما، فإن الشهادة لا تعتبر خسارة مهما كانت قيمة الشهيد وحجم الشهداء وعددهم، بل هي ربح ونمو وبركة في حياة الأمة وحتى في الحسابات المادية.

ولا يخفى على قارئي الكريم أن لدم الشهيد جذورا تاريخية ضاربة في عمق التاريخ وأهدافا وغايات إسلامية يرتبط بها الدم، أما الغايات والأهداف التي يحققها دم الشهيد فهي تحكيم شريعة الله وإرادته تعالى على وجه الأرض، ومجاهدة الهوى والطاغوت، وتعميق خط الإسلام في الأرض وفي حياة الناس، وإنقاذ الإنسان من شرك الهوى والطاغوت، من هنا فالشهيد يبذل لله تعالى كل ما يملك ولا يدخر لنفسه شيئا، فحقيق أن يرزقه الله كل ما يتمنى من رحمته، وهنا أذكر لقارئي الكريم قصةً ذكرها لنا العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي(حفظه الله)، حيث قال متفضلا أثناء محاضراته الحسينية:

ما أروع ما نقل عن السيد مهدي بحر العلوم(ره) حيث لفت نظره كثرة ما يروى من الثواب لمن زار الحسين(ع) فسأل أستاذه عن سر ذلك، فقال له: إن الحسين(ع) عبد فقير من عباد الله، أعطى كل ما يملك لله من غير تردد، وحقيق بالله وهو الغني المطلق الذي لا حدود لخزائن رحمته أن يعطيه من خزائن رحمته من غير حساب وفوق حساب الحاسبين.

إن التضحية تعتبر أعلى درجات التفاعل النفسي والعاطفي مع الإيمان؛ أي أن إيمان الشهداء يعتبر عملة ذات وجهين: وجه للعقل، ووجه آخر للعاطفة والحب والشوق والولاء والحب والعطاء والإيثار والفعل والانفعال.

ترُقّ العاطفة حتى تكون حبا، ويسمو البذل حتى يكون تضحية، وما أجمل كلام هذا الشاعر الذي يحدثنا على لسان الحسين (ع) في مناجاة مع الله تعالى يوم عاشوراء على مسرح الحب والشهادة:

تركت الخلق طرا في هواكا

                        وأيتمت العيال لكي أراكا

 

فلو قطعتني في الحب إربا

                        لما مال الفؤاد إلى سواكا

 

فالشهادة: عقيدة، وإيمان، وحب، وعطاء، وتضحية، وإيثار في سبيل الله، وإخلاص، وإقدام، وشجاعة، وحياة جديدة، وحاشا أن تكون الشهادة عقيمة أو تكون موتا كما يفهم الناس الموت.

وإشارة لما تقدم من أن الشهادة تعتبر ربحا حتى في الحسابات المادية، أي: لا خسارة في دم الشهيد إطلاقا، حتى بالمعنى المادي من الخسارة، بل الدم ربح دائما حتى بالمعنى التجاري للربح؛ ذلك أن الشهيد وإن كان يرحل عنا ونخسر به عنصرا فاعلا مخلصا، إلا أن تضحية وإيثار شهيد واحد يخلق روح الإيثار والتضحية، ويبعث القوة والفاعلية والإخلاص في نفوسهم، فالشهادة رحيل إلى الله والفوز برضوان الله بعد فراقه لهذه الدنيا، ففراقه يعتبر فراقا لفرد واحد، وولادة لأمة، ومثل هذا الفراق مربح ولن يعد خسارة حتى في الحسابات التجارية من الربح والخسارة.

إذن لا خوف على الشهيد، وقد علمنا الدين أن ننتظر الشهادة بفارغ الصبر، وأن يقول أحدنا للشهداء: «يا ليتني كنت معكم فأفوز معكم في الجنان مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا»(16)، وفي المقابل يقولون: يا ليتكم تأتون وترون.

من هنا يقول الإمام زين العابدين(ع) -والذي يقول عنه الإمام الخميني(رض): نحن نفتخر أن الصحيفة السجادية هي من بركات إمامنا-: «حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه، ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه إن ولي حميد»(17).

والله أدرى كيف سحقت الخيل صدر الحسين(ع)! والله أعلم كيف جاءت زينب الكبرى إلى بدن الحسين وقلبته على ظهره وقالت: اللهم تقبل منا هذا القربان!

 

* الهوامش:

(1) البقرة: 205.

(2) النمل: 34.

(3) آل عمران: 159، والمراد من {عَزمْتَ} العزم: عقد القلب على الشيء الذي تريد أن تفعله، {فَتَوَكَّلْ} أي فوض الأمر إلى الله وثق بحسن تدبيره.

(4) الأنعام: 162.

(5) الحديد: 25.

(6) الأنبياء: 107.

(7) التوبة: 51- 52.

(8) التوبة: 111.

(9) استفدنا ما تقدم من أبحاث العلمين الشيخ الجوادي الآملي والشيخ الآصفي (حفظهما الله)، ومن خلال أبحاث التفسير المختلفة مع التصرف بالنقل.

(10) البقرة: 143.

(11) نور الثقلين: 1: 134.

(12) من تفسير الأمثل بتصرف: 1: 291.

(13) الأحزاب: 21.

(14) الأحزاب: 6.

(15) الحشر: 7.

(16) مفاتيح الجنان، زيارة الإمام الحسين(ع) يوم عرفة.

(17) الصحيفة السجادية: الدعاء الأول، هذا وقد اعتمدنا في بحثنا المتواضع المتقدم على أبحاث الأساتذة العلماء الشيخ الجوادي الآملي(حفظه الله) والشيخ الآصفي(حفظه الله)، وعلى أبحاث العلامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(حفظه الله)، لا سيما على تفسيره العظيم الأمثل، والحقيقة مع تصرف قلمي القاصر.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا