سماع الدعوى الحسبية

سماع الدعوى الحسبية

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على محمدٍ وآله.

اعتبر علماؤنا (أيّدهم الله) لسماع دعوى المدّعي بأن تكون دعواه لنفسه أو لمن له الدعوى عنه بالولاية أو الوكالة أو الوصاية أو القيمومة، أو كان المورد متعلَّقَ حقٍّ له من رهنٍ مثلاً، أو يكون المدَّعي ذا علاقةٍ بما ادّعاه بنحوٍ من الأنحاء كالأمين من الودعي والحارس والمستعير والملتقط، فلا تُسْمَعُ دعوى غير المالك من دون تعلّقٍ له بماله أو حقّه؛ لأمورٍ أهمها -غير الإجماع في الجملة المدعّى في المستند(1)-أمران:

الأول:انصراف الأدلّة عن سماع دعوى الأجنبي؛ إذ هو حقيقةً ليس طرفاً للمنازعة مع المدّعى عليه، وبعبارةٍ أخرى:في فرض كون الدعوى تبرعيةً بحيث لا يتعلّق بها المدعّي، فلا تدخل واقعتُها في الخصومة والمنازعة التي أُمِرَ أطرافها برفعها إلى العالم بالأحكام، ونهوا عن رفعها إلى قضاة الجور.

بل إنّ الحكم بين الناس في قوله سبحانه {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، وقولِه {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}، وقولِه {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}(2) يستبطن استحكام الخصومة والنزاع سلفاً، ومعه يُطْلَبُ الحكم، وهو الفصل وقطع الخصومة، ولا خصومة بين الأجنبي والمدّعى عليه.

ثانيهما: عدم عُقلائية مثل هذه الدعوى؛ فإنّ العرف يستنكر دعوى الأجنبي المحض(3).

وقد استثنوا من ذلك الدعاوى الحسبية من المحتسبين وإن كانوا أجانب، فتسمع دعوى الأجنبي إيفاءَ الميِّت- الذي له صغارٌ- ديناً يدَّعيه عليه غيره، ويعلم الإيفاء هذا الأجنبي ويعلم شهوده عليه، كما تسمع دعواه إيفاء صديقه أو جاره لدينٍ يدَّعين عليه غيره ليأخذه من ماله، أو دعوى الجار سرقة ثالثٍ مال الجار الغائب ويريد السارق الفرار، أو دعوى الأجنبي تفريط الولي أو الوصي بالمولَّى عليه، إلى مثيل ما ذُكِرَ(4).

ونلفت النظر إلى ضرورة توفّر شرطٍ لسماع الدعوى حسبةً، وهو أن يُخشى فوتُ الحق أو المال أو ضياعه على صاحبه على تقدير عدم رفع المحتسب للدعوة، بأن تأخّر إلى مجيء الغائب أو إدراك الصبي، وينبغي أن يكون هذا الاشتراط واضحاً، إذا ما عرفنا أنّ الحِسبةَ(بالكسر) هي الإتيان بالأمر من باب كونه أمراً قُرْبِيّاً، ويُعْلَمُ أنّ الشارع يُريد إيقاعه والاهتمام به في الخارج، ولا يرضى بتركه وإهماله، ولم يُسْنَد اللازم تجاهه إلى معيََّنٍ.

ثم إنّ مقتضى ما ذُكِرَ ليس جوازَ تصدّي المحتسب لرفع الدعوى وحسب، بل وجوب ذلك كفايةً من باب إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا ما بنينا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (هو الحمل على الطاعة قولاً أو فعلاً) وأن النهي عن المنكر (هو المنع من فعل المعاصي قولاً أو فعلاً)(5)، فإن دعوى المحتسب بموجب هذا التحديد تحول بين المدعى عليه وبين فعل معصيةٍ، وهي أكل مال الغير بلا وجه حقٍّ(6)، وعليه فيكون وجوب رفع الدعوى بشرائط وجوب النهي عن المنكر هذا.

وما سُقناه من أمثلةٍ تتوفّر على الشرط الآنف الذكر، فلا يَحمل عنوان الجار أو الصديق أيّ خصوصيةٍ.

تقريبات سماع دعوى المحتسِب:

وقد عمدوا إلى تقريب سماع دعوى الأجنبي حسبةً -بعد الفراغ من وجوب إقامتها كذلك- بوجوهٍ:

الأول:ما أفاده المحقِّق النراقي(ره)(7) من أنّ المحتسب وإن لم يكن مأذوناً صريحاً أو بالفحوى في الترافع عن صاحب الحق، إلا أنّه مأذونٌ بشاهد الحال.  وهو حسنٌ؛ فما من صاحبِ حقٍّ أو مالٍ إلا ويرضى بحفظ الآخرين ماله وحقّه فيما إذا كان في معرض الفوت أو الضياع.  وأما الصغير والمجنون فإنّهما-كما أفاد في موضعٍ آخر من المستند- وإن لم يصلُحا للإذن، إلا أنّه لا يخلوا أحدهما عن وليٍّ ولو كان الوليَّ العامَّ، وإذنه قائمٌ مقام إذنه قطعاً، فالعلمُ به أو الظن كافٍ(8).

أقول:لا دليل على كفاية الظن بالإذن، فيتجه منع كفايته، اللهم إلا أن يريد به ما هو متاخمٌ للعلم، وهو ما يسمى بالعلم العادي.

الثاني:ما أفاده السيد اليزدي(ره)(9) من عدم انصراف العمومات عن مثله.

ووُجِّهَ ذلك(10) بتوفُّر الدعاوى الحسبية على المعيار في سماع الدعوى، وهو عقلائيتُها، فالعمومات منصرفةٌ عن دعوى الأجنبي المحض لعدم عقلائيتها وليست كذلك فيما إذا كانت دعوى الأجنبي من باب الحِسبة.

ووُجِّهَ منع الانصراف المدّعى أيضاً(11)بكون القضاء من مظاهر ومصاديق إقامة القِسط، فلو أراد أجنبيٌّ استنقاذ حقّ آخر، فلا يوجد من سماع الدعوى بالخصوص فيما إذا كانت للمدّعي بينةٌ.

أقول:ولعلّ ما أفاده المحقّق النراقي بمعيّة ما أوضحناه به هو منشأ منع الانصراف الذي ذكره السيد(ره).

الثالث:ما أفاده أحد أعلام المعاصرين(12)-تبعاً لصاحب الجواهر- من أنّ سماع دعوى المحتسب من باب ولايته، ومعه يكون سماع دعواه لا لأجل الاستثناء من عدم سماع دعوى الأجنبي، بل من جهة كون المحتسب أحد منْ له الدعوى.

وقد وجّه ذلك بأنّه(كما في مورد التصرّف في مال الغير حسبةً يكون للمتصرِّف ولاية ذلك التصرّف، كذلك في مورد لزوم المرافعة يكون للمحتسب ولاية الدعوى في ذلك المال لمالكه القاصر أو الغائب).

وقد يُشْكَلُ في اندراج المحتسب في مَنْ له الولاية بدعوى عموم الولاية لمثله، بأنّه-رغم انعقاد الإجماع على سماع دعوى مَنْ له الولاية- إلا أنّ غير واحدٍ قد صرّح بإرادة الأب والجدِّ من الولي(13).

وأقول:إنّ الأبَ والجد هما القدْر المتيقّن من منعقد الإجماع، فلا يتناول غيرهما، إلا أنّه لا يمنع من سماع دعوى غيرهما كالمحتسب بما تقدم ويأتي من وجوه؛ فإنه ليس للإجماع المدعى عقد سلبٍ وراء عقد الإيجاب.

الرابع:ما ألفت نظري إليه أحد الأساتيذ (سلمه الله) من لغوية لزوم إقامة الدعوى الحسبية المقرر سلفاً إذا لم تسمع.

وكيف كان فهذه الوجوه الأربعة أو بعضها كافٍ لإثبات جواز سماع دعوى المحتسبين، فيحكم الحاكم بما تقتضيه الشريعة من موازين في باب القضاء، وأما ما يلزم الحاكم بعد السماع وما يجوز وما لا يجوز للمحتسب بعد الدعوى فهو أمرٌ آخر؛ إذ تختلف آثار الدعوى في الموارد، فليس للمحتسب الحلف ولا ردُّ اليمين ولا ينفذ إقراره ولا يجوز له أخذ المال على تقدير ثبوته.

والحمد لله أولاً وآخراً وصلّى الله على محمدٍ وآله.

 

* الهوامش:

(1) مستند الشيعة 17: 146.

(2) المائدة: 49، النساء: 105، سورة ص: 26.

(3) ومن هنا قد يستغرب ما ذكره أحد الأعلام(ره) من سماع دعوى ذوي المالك وأقربائه، متعلّلاً بانصراف أدلّة المنع عن مثلها. "كتاب القضاء 82:2 للسيد الكلبايكاني(ره).

(4) لاحظ للمزيد كلمة التقوى 8 :72 م 85، فقه الإمام جعفر الصادق(ع) ج 6: 77.

(5) الروضة البهية 2 :409.

(6) لاحظ للاستزادة تحرير الوسيلة 1: 404 م 2، الأحكام الشرعية :373 م 2178.

(7) مستند الشيعة 17: 146-148.

(8) مستند الشيعة 4: 402.

(9) ملحقات العروة الوثقى: 465-466.

(10) نظام القضاء والشهادة 2 : 50.

(11) مباني القضاء والشهادات: 138.

(12) أُسس القضاء والشهادة: 310-311.

(13) لاحظ جواهر الكلام 40: 377.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا