خواص الحق.. ودورهم المصيري والتاريخي

خواص الحق.. ودورهم المصيري والتاريخي

تمهيد:

إن كلَّ موضوع يكتسب من الأهمية بقدر ما يقرب العبد إلى الباري سبحانه، ومن أفضل ما يقرب العبد إلى ساحة قدسه جل شأنه هو خدمة الخلق فإن(أفضل الناس أنفعهم للناس )، أو بتعبير الإمام الخميني (قده) خدمة الخلق من خدمة الحق سبحانه، وكيف ما كان فإن من أشد وأفضل ما ينفع الناس هو التأمل في أحوال الماضين والاعتبار بحيث لا نقع في ما وقعوا فيه من هفوات وأخطاء، وموضوع (خواص الحق ) له ارتباط وثيق بالاعتبار بأحوال الماضيين - سيما ما نحن بصدد تسليط الضوء عليه وهو موقف خواص الحق في واقعة عاشوراء -، بل إن مثل هكذا موضوع لا يتقوم إلا بالاعتبار.

خواص الحق.. ماهيتهم..مواقفهم.. أثر مواقفهم في حركة التاريخ.. وغير ذلك هو ما تناوله سماحة القائد الإمام الخامنئي، حيث ركز حديثه في أيام عاشوراء لمدة ثلاث سنوات متتالية حول هذا الموضوع، وبذلك أكسبه أهمية خاصة، يقول سماحته (لماذا وبعد خمسين سنة على وفاة الرسول  (ص) وصل الأمر بالوطن الإسلامي إلى الحد الذي يجتمع فيه المسلمون أنفسهم، وزراء وأمراء وقادة وعلماء وقضاة وقُرّاء حتى الغرباء والأوباش في الكوفة وكربلاء، يجتمعون ويريقون دم فلذة كبد الرسول (ص) بهذه الطريقة المفجعة؟!... فعلاً إن هذا الأمر يقلق الإنسان. فهل نحن أشد منعة من مجتمع النبي (ص) وأمير المؤمنين(ع)؟ )(1)، أراد سماحته من خلال هذا التساؤل أن يفتح الأذهان والعقول لتتأمل وتتفكر وتصل إلى الأسباب التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه حيث يقول: (ليتقصى - واقعة عاشوراء- جذورها المفكرون والباحثون، وليفكروا في السبل الكفيلة بالحيلولة دون تكرارها )(2) ويتساءل أحدنا بالقول ما الذي يقلق في القضية، وهل استخلاص العبرة بهذا القدر من الأهمية..، هنا يجيب سماحته بقوله: (إذا لم نتصد جميعا للحد من تكرار تلك العوامل، فمن الممكن بعد خمسين سنة أو بعد خمس سنوات أو عشر سنوات أخرى أن نرى مجتمعنا الإسلامي قد وصل إلى نفس ذلك الوضع! لا تستغربوا!! ) (3).

اتَّضَحَ إذن شيء من الأهمية البالغة بل والضرورة الملحة لتسليط الضوء حول هذا الموضوع،وهنا أشير أيضاً إلى أن سماحة القائد أشار إلى أن: (لم يتحدث أحد حول هذا الموضوع - موضوع خذلان الخواص في عاشوراء -، أو أنهم قد تحدثوا حوله ولكن ليس بالشكل الوافي والكافي.... وليتقصى هذه القضية جذورها المفكرون والباحثون )(4)، وبهذا ينفتح باب البحث على أن ما سأتناوله هو مجرد إشارات وإضاءات من خطابات سماحة القائد ليس إلا، راجياً في الآن نفسه أن يتمَّ تلبية نداء سماحته بتناول هذه القضية على يد المحققين والعلماء الباحثين بالقدر الكافي.

الاعتبار وأهميته :

في القرآن : للاعتبار في القرآن الكريم حظ وافر وأهمية كبرى، حيث يضم القرآن بين دفتيه كثيراً من الآيات التي تحث على الاعتبار من أحوال الماضين، بل لا تكاد تخلو سورة من سوره إلا وللحث على الاعتبار فيها محل ومكان، بالإضافة إلى ذلك فإن الاعتبار أحد مقومات وسبل الهداية، والقرآن الكريم كتاب هداية كما نعلم، وهذا يبين مقداراً من أهمية الهداية باعتبارها أحد ركائز الهداية التي اعتمدها القرآن الكريم.

وهنا نورد بعضاً من آياته سبحانه تحث على الاعتبار، حيث يقول جل شأنه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ}(5)، قوله سبحانه في موضع آخر {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} وأيضاً قوله تعالى {تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(6)، وآيات كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرها.

في أقوال أهل البيت : إضافةً لما تقدم فإن أهداف المعصومين (ع) لا تدرك إلا بالتأمل في سيرتهم وقراءة أدوارهم، ومما يذكر ها هنا بأن مما يستدل عليه بعض من الفقهاء على وجوب إقامة الحكومة الإسلامية هو التأمل في مسيرتهم (ع)(7)، وكيف ما كان فإن مما أكد عليه أئمة الهدى هو الاعتبار، وهنا نورد بعضاً من أحاديثهم.

يقول أمير المؤمنين علي (ع) :(الاعتبار يثمر العصمة ) (8)،ويقول أيضاً(ع)  )من كثر اعتباره قل عثاره )(9)، وفي رواية أخرى : (واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها فإن بعضها يشبه بعضاً وآخرها لاحق بأولها)(10) وهذه الرواية تشير بشكل واضح إلى قوله تعالى: {تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(11)..، هذا بعض مما أشار إليه أهل البيت (ع) في بيان أهمية الاعتبار.

عند سماحة القائد : ويحظى الاعتبار سيما من واقعة الطف أهمية قصوى عند سماحته ويجعلها رتبة أهم من دروس عاشوراء التي تفترق عن العبر، يقول سماحته: (هذا شيء - يقصد عبر عاشوراء - يختلف عن موضوع دروس عاشوراء كدرس الشجاعة ودرس الإيثار وما إلى ذلك، الشيء الأهم من دروس عاشوراء هو العبر المستقاة من عاشوراء )(12).وحال المتأمل والمعتبر يصفها هو حيث يقول :  (على الإنسان أن يفكر عميقاً ليعرف لم وقع ذلك - يقصد واقعة عاشوراء - )(13).

ماهية الخواص :

قبل الخوض في ماهية الخواص لا بد أن نشير إلى التقسيم الذي قسمه سماحة القائد الناس والمجتمع بلحاظ معين، وتقسيمه كالتالي:

ينقسم الناس إلى: خواص وعوام، والخواص يقسمون إلى خواص جبهة الحق، وخواص جبهة الباطل، والعوام ينقسمون أيضاً إلى : عوام الحق وعوام الباطل، وأخيراً نفس خواص جبهة الحق ينقسمون إلى : خواص الحق المنتصرين الثابتين في ميدان الصراع، وخواص الحق المنهزمين أمام مغريات الدنيا واللذين أخفقوا في الصراع بين الحق والباطل.

ولعل التقسيم الأولي بهذا اللحاظ يفسر شيئاً من الرواية المعروفة عن علي(ع) حيث يقول: (الناس ثلاثة، فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع يميلون مع كل ناعق..)، فالصنفان الأولان هما من الخواص وأمَّا الصنف الثالث فهو كما هو واضح من العوام.

ولكي نكون أكثر دقة نورد هنا تعريف الخواص وفق ما عرفهم سماحة القائد حيث يقول في تعريفهم: (هم الشريحة التي تتصرف بعد تفكير وإرادة، فتعرف طريقها وتسير عليه - سواءً كانت صالحة أم لا - وهذه هي فئة الخواص ) (14).

ونعرف العوام وفق تعريف سماحته لكي يتضح تعريف الخواص أكثر، حيث يقول في تعريف العوام: (فئة أخرى لا تنظر لترى ما هو الطريق الصحيح، وما هو الموقف الصائب، ولا يهمها أن تفهم وتحلل وتقيس وتدرك، بل تتبع الجو السائد والهوى العام)(15).

إذن العوام يتبعون الخواص، فإن كان خواص الحق يقظين ومنتصرين على مغريات الدنيا ويمتلكون زمام الأمور فسيتبعونهم العوام وستكون الأمة بخير، وإلا فإن العوام سيتبعون خواص الباطل ويكونون بذلك عوام الباطل، وبهذا يتضح شيء من أهمية خواص الحق وموقعيتهم.

وخواص الحق كما يعرفهم سماحته هم: (مجموع الأشخاص المثقفين الواعين العاملين في طريق الحق، فهم ممن عرف الحق وعرف أهله فتحركوا وانطلقوا لأجله، إنهم أهل التشخيص )(16).

وفي مقابلهم يقف خواص جبهة الباطل وهم (مجموعة أعداء الحق والرافضين له، لا يتوقع من أولئك إلا الوقوف في مواجهة الحق ووضع البرامج والخطط للقضاء عليه )(17).

وما يهمنا هنا هو خواص الحق، وقبل أن نتحدث عن مميزات وصفات الخواص لا بد من الإشارة إلى أن ملاك ومعيار تمييز الخواص من العوام ليس مقدار العلم، أو كون الإنسان في عداد أصحاب الدراسات العليا، وهذا ما بينه سماحة القائد بقوله (ما أكثر الذين أنهوا مراحل دراسية عليا لكنهم يحسبون في عداد العوام)(18).

هنا يورد سماحته مثالاً لطيفاً ليبين فيه ضابطة كون الإنسان من العوام أم من الخواص، وأن ذلك مرهون بالدراية والتحليل والبصيرة والانقياد. يقول سماحته(في أيام اندلاع الثورة - وقبل انتصارها - كنت في المنفى في مدينة إيرانشهر، وكان في إحدى المدن القريبة منها عدة أشخاص من بينهم سائق، وكان هؤلاء الأشخاص من ذوي الثقافة والمعرفة، رغم أنهم يصنفون ظاهريا في عداد العوام، إلا أنهم في الحقيقة كانوا من الخواص، كانوا يأتون للقائنا في مدينة إيرانشهر وينقلون لي حوارهم مع عالم الدين في مدينتهم... رووا في إحدى اللقاءات أن عالم مدينتهم سألهم لماذا يصلون على النبي (ص) مرةً واحدةً حينما يذكر اسمه المبارك بينما يكررونها ثلاثاً لدى سماع اسم الإمام الخميني؟ فأجابه سائق الشاحنة بأنهم ربما لن يحتاجوا إلى تكرارها بعد انتصار الثورة الإسلامية واتساع رقعة الإسلام، لكن في الوقت الحالي فهذه الصلوات هي جهاد ومواجهة للحكومة الطاغوتية... لم يع عالم مدينتهم عمق هذا الفعل وكان بذلك من العوام بينما سائق الشاحنة كان بفهمه ووعيه من الخواص... هذا مثال ضربته لتوضيح المعيار في تصنيف الأشخاص... قد يكون واحدهم - أي الخواص - رجلاً أو امرأة، متعلماً أو غير متعلم، غنياً أو فقيراً... )(19).

اتَّضَحَ إذن معنى خواص الحق والملاك الذي يحددهم عن غيرهم من العوام، وهذا يستدعي من المرء أن يقف مع نفسه ليسألها أهي من العوام أم الخواص وخواص الحق تحديداً؟ فإذا ما وجدها من العوام فليسارع إلى انتشالها.

مميزات خواص الحق وأهم صفاتهم :

ما يجب أن يتوافر عليه خواص الحق، أو ما توافر عليه خواص الحق من النماذج التاريخية في صدر الإسلام وبعده وقبله يمكن أن تكون كالتالي :

الميزة الأولى: البصيرة.

وهي من أولى مميزات خواص الحق والركيزة الأولى وأول ما يخطوه الفرد من خواص الحق، ويمكن أن نعرف البصيرة بأنها (وضوح الرؤية والنظرة الثاقبة وانشراح الفؤاد، فالبصر هو العين الظاهرية بينما البصيرة هي عين الفؤاد والقلب).وفقدان البصيرة تعني فيما تعنيه كون الإنسان من العوام، والقرآن الكريم يصف لنا حال هؤلاء بقوله سبحانه {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا}(20)، ويبين لنا أمير المؤمنين (ع) أن فقد البصر يجعلك حائراً لا تعرف الحق حيث يقول : (حيارى عن الحق لا يبصرونه )(21)، وعن علي (ع) في حديث آخر : (فقد البصر أهون من فقد البصيرة )(22).

ملاك البصيرة ومعيارها : أن من أكثر ما يقض مضجع الخواص ويشغل هواجسهم في بداية انطلاقتهم نحو مسير الحق الذي سيكونون وفق هذا المعيار الذي سنذكره من خواصه..، إن من أكثر ما يهمهم ويشغل هواجسهم هو(معرفة الحجة )، فهم يتساءلون من هو الحجة؟ ومن هي القيادة؟ وإلى من يجب أن نسلم أمرنا؟ وما هو موقف القيادة الحجة وذلك لاقتفاء أثره ونهجه.

و ذوو البصائر لا يتخذون غير إمام الحق إماماً وزعيماً في مواقفهم كلها، حيث لا يتحركون عن هوى ومن وحي تصوراتهم، وذلك هو الصراط المستقيم، وذلك ما عبر عنه الإمام الصادق (ع) بالإمام المفترض الطاعة بقوله (وأمَّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة )(23)، إنه طريق الأئمة المعصومين (ع) ونوابهم الخاصين والعامين.

والحجة الآن في زمن غيبة بقية الله الأعظم (عج) تكون للولي الفقيه ومن هم في طوله وامتداده من أقطاب الأمصار وقياداتها الدينية.

فمعرفة الحجة هي معيار البصيرة، فلا يمكن للبصير وذوي البصائر إلا أن يعرفوا الحجة بينهم وبين الله تعالى ليلتزموا بعد ذلك به وينقادوا إليه، ونورد هنا رواية وهي (أن عبد الله بن أبي يعفور - وكان من خواص الصادق (ع) - قال للإمام: والله لو أنك قسّمت رمانة واحدة إلى نصفين وقلت : هذا النصف حلال وذاك حرام فإني مُسَلِّمٌ لك، فدعا له الإمام قائلاً: رحمك الله، رحمك الله )، وقد أوضح الإمام (ع) السر الذي يكمن وراء تكريمه له حين قال: (إنه يقبل وصيتي ويطيع أمري )(24)،يتبين مما تقدم أهمية الانقياد، سواء كانت هذه الحجة بالأصالة كما هو حال من عاصر المعصوم في غيبته، أو بالتبع والنيابة العامة، أو لمن يمثل الامتداد الشرعي لمقام الولاية والنيابة العامة.

ولا يعذر فرد أو فئة أو أمة لا تستقيم على خط الله، ولا تتحرك وفق قيادة شرعية ترتضيها بعد رضا الله سبحانه، وتسلّم أمرها في المنعطفات الخطيرة لها، وتصبر على الرأي الذي يأتي منها على خلاف رأيها وترتضيه فـ(من الخسارة الفادحة، والمغامرة السفهية جداً أن تسلّم الأمة في أمر صغير كان أو كبير لقيادة لا تؤمن بها في الأزمات وفي المنعطفات الخطيرة )(25).

الميزة الثانية : الدفاع عن الحق.

ويعني ذلك الملازمة للحق ومجانبة الباطل، فبعد أن يشخّص خواص الحق جبهة الحق التي من أبرز مصاديقها بل محورها هو القيادة وقيادة الحق تحديداً لتكون هي المحور.

فحال خواص الحق إذن هو الاستماتة في الدفاع عن الحق بعد معرفته ومعرفة مصاديقه وإن استجلب ذلك الضرر على الإنسان، فقد روي عن الإمام الصادق(ع) فقوله:(إن حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرك على الباطل وإن نفعك)(26)، وهذا فعلاً ما قد يواجه كثيراً من الخواص في المنعطفات حيث تتهدد بعض المصالح وإن خفيت، فالمال مصلحة ظاهرية والركون إليه ذنب مكشوف، إلا أن الجاه والمنزلة الاجتماعية وتحول الشهرة إلى مقت اجتماعي بسبب موقف حق وعدم الصبر على وحشة الطريق... كل ذلك يهدد الخواص ويجعلهم يعرضون في أحيان كثيرة لينزلقوا بعدها من حيث يشعرون أولاً يشعرون ويكبّدوا التاريخ خسارة يتحملون هم يوم الحساب وفي دار الدنيا وزرها ووزر من يأتي بعدهم من الأجيال ممن يقتفي مواقفهم الانهزامية.

في رواية عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: (قال علي (ع) : أوحى الله إلى شعيب(ع) أني مهلك من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم، فقال (ع) : هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال عز وجل : داهَنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي )(27).

فالسكوت حال تجلي الحق هو ما يجب أن يحترز منه خواص الحق كي لا ينزلقوا إلى مستنقع خواص الحق المنهزمين أمام مغريات الدنيا ليكونوا بذلك ساكتين متخاذلين وربما آل بهم الأمر إلى أن ينقلبوا إلى جبهة خواص الباطل.

ولا بد من التنويه هنا أن أوجه نصرة الحق تختلف باختلاف الظروف والمواقع، فنصرة الحق في الميادين العسكرية واضحة جلية لا تحتاج إلى كثير بيان، إلا أن هناك من أوجه نصرة الحق ما قد يفوق النصرة في الميادين العسكرية، كنصرة الحق في الميادين الثقافية سيما فيما يرتبط برد الشبهات الخافي أثرها المقيت والقاتل على الأمة، وهذا ربما ما يفسّر إجلال الإمام الخميني(قده) للشهيد مطهري بحيث ما بكى وأسف (قده)على أحد بقدر ما بكى على الشهيد مطهري لخسارة الإسلام الكبرى طبعاً، إضافة إلى أن الإمام (قده) لم يعط شهادة تأييد وتزكية لأحد فيما يرتبط بمؤلفاته قط بقدر ما أعطى للشهيد مطهري(ره).

ومثاله الواضح حاليا هو آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، والذي شمر عن ساعديه ودفع عن الإسلام الكثير من الشبهات التي خفيت على الكثير، أولاً أقل استهان بها الكثير، سيما وأن هذه الشبهات قد صدرت ممن تلبّس بلباس الدين وزين أفكاره بذلك(28)

الميزة الثالثة: الثبات على الحق :

فبعد معرفة الحق والدفاع عنه ونصرته لا بد أن يستديم خواص الحق بالثبات على ذلك على طول الخط، فلا معنى لتبدل الزمان أو المكان أوكليهما عندهم، وقد عبر القرآن الكريم عن هؤلاء بتعبير لطيف وهو(رِبيّون) أي المرتبطون بالله تعالى ارتباطاً وثيقاً لا ينفك، حيث قال سبحانه {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِيْ سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(29).

والآية القرآنية تشير بشكل واضح إلى أن أنصار الحق وخواصه قد يصيبهم الضعف والاستكانة في وسط الطريق إلا أنهم ينتصرون ويثبتون، فالثبات على الحق يعد ضرورة، ولذلك تمَّ التأكيد كثيراً في روايات أهل البيت (ع) على دعاء العديلة (30)، كما أن ديدن العرفاء هو الحث على دعاء: (اللهم ارزقني حسن الخاتمة)، بل البعض منهم يوصي بأن يجعل قراءة هذا الدعاء من أولويات العبادة في ليلة القدر، وهذا الدعاء لا يخفى أنه يتضمن بل أصله هو طلب الاستدامة والثبات على طريق الحق.

شخصيات انزلقت :

لا بأس هنا بذكر بعض النماذج التاريخية من اللذين كانوا على طريق الحق وانزلقوا فيما بعد ونورد هنا بعضا منهم على سبيل الإيجاز والمثال :

أ- الشيطان : الذي ورد في بعض الروايات أنه عَبَدَ اللهَ تعالى ستة آلاف سنة(31).

ب- طلحة والزبير : اللذان كانا من صحابة النبي (ص) الأجلاء ومن أصحاب أمير المؤمنين (ع)يوم السقيفة، إلا أن حب الدنيا طغى على قلبيهما إلى أن كانت عاقبتهما السوء بمجابهتهما أمير المؤمنين (ع).

ج- كما أن الثورة الإسلامية المباركة في إيران شهدت البعض ممن انزلقوا بعدما كانوا ملازمين للحق ومناصرين للإمام أثناء ثورته أو في بدايتها.

ويوجد الكثير الكثير من خواص الحق المنهزمين أمام مغريات الدنيا على مر التاريخ بل في كل حقبة وكل زمان ومكان سواء خفيت هذه المغريات أو ظهرت واضحة، والمتأمّل المعتبر يجدهم في كل قطر وبلد وفي كل مدينة وقرية وحيّ.

العوام يقتفون أثر الخواص :

اتَّضَحَ مما سبق ماهية الخواص وصفاتهم وبعض أدوارهم من خلال ميزاتهم التي ذكرناها، ويبقى أن نتناول بشيء من الاقتضاب أثرهم التاريخي والمصيري من خلال التأمل في بعض مواقفهم عند واقعة عاشوراء وفق ما أورده سماحة القائد، كما وسنبين ذلك من خلال بعض الأمثلة من التاريخ المعاصر.

وقبل ذلك لا بد أن نذكر بأن خواص الحق ينقسمون إلى قسمين :

الأول: هم اللذين يتغلبون في الصراع مع مغريات الدنيا والحياة من الجاه والشهوة والمال واللذة والرفاه.

والثاني: هم اللذين يخفقون في هذا الصراع(32)

والمجتمع - أي مجتمع - مرهون بطبيعة موقف الخواص بحيث لا يكونوا من خواص الحق المنهزمين أمام الدنيا أو خواص الباطل.

إن واقعة عاشوراء ربما ما كانت لتحدث لولا موقف خواص الحق المنهزم، وسماحة القائد يعبّر عن ذلك بقوله:(لو تحلى الخواص في تلك الفترة بالبصيرة، وساندوا الحق لما شهدنا حادثة مريرة كالتي وقعت في عاشوراء )(33)، وقد يتساءل البعض كيف يكون المجتمع رهن بموقف الخواص؟!، وجواب ذلك أن عوام الناس يسيرون وفق ما يسير الخواص، فإذا انحرف خواص الحق وتخاذلوا تبعهم العوام في ذلك، والشواهد التاريخية خير دليل على ذلك، كما أن قليلاً من التأمّل في أي مجتمع يوضح ذلك، وهنا نورد مثالاً من واقعة الطف وهو مثال مسلم بن عقيل حينما دخل الكوفة بعد أن أرسل أهلها الرسائل تلو الرسائل تطلب من الإمام الحسين (ع) القدوم لنصرته، لكن ما الذي حدث؟ وما الذي جعل الناس تتفرق عن مسلم بعد أن كانوا ثلاثين ألفاً على بعض الروايات؟!

إنه موقف الخواص لا محالة، وخواص الحق تحديداً اللذين انهزموا أمام مغريات الدنيا، على المرء أن لا يمرّ على هذا الأمر مرور العابر، أو أن يرجع تفرق الناس إلى أسباب عامة وكفى..، أو أن يحلّل الأمر بسطحية عابرة، لو لا انهزام الخواص لربما لم يحدث ما حدث من فاجعة هزت التاريخ حيث قتل الحسين (ع) أبشع قتلة، وسبيت نساؤه كما تسبى نساء الخوارج.

أثر خواص الحق المنهزمين في واقعة عاشوراء:

إن هؤلاء يعرفون الحق ويعرفون واجبهم والحجة التي يجب عليهم اتباعها، لكن حب الدنيا بصوره المتعددة جعل خاتمة حياتهم إلى سوء، ومثال ذلك شريح القاضي الذي صرعته الدنيا حينما أمره ابن زياد بطمأنة عشيرة هانئ بن عروة،- وكان هانئ (ره) مجروحا ومُعياً في داخل السجن- فلما دخل شريح على هانئ في السجن صاح هانئ بصوت مرتفع: يا للمسلمين إن دخل عليّ عشرة أنقذوني!، ولمّا بلغ شريح بعد ذلك عشيرة هانئ بن عروة والناس اللذين معهم ممن أحاطوا بالقصر همّ شريح أن يخبرهم بمقالة هانئ- استغاثته - لكنه خاف شرطياً كان بجنبه من شرطة ابن زياد!(34)

هنا يعقّب سماحة القائد على هذا الموقف بقوله: (لو قام شريح بهذا العمل الواحد- إعلام استغاثة هانئ - لتبدّل التاريخ... كان بإمكانهم - عشيرة هانئ والناس اللذين معهم - أن يحيطوا بأطراف دار العمارة من كل صوب وأن يعتقلوا عبيد الله بن زياد أو يقتلوه أو يبعدوه، فتصير الكوفة بيد الحسين(ع)، بل إن حادثة كربلاء ما كانت - ربما - لتحدث أصلاً، ولو أنها لم تقع لكان الإمام الحسين (ع) قد تسلّم الحكومة،وهذه الحكومة لو عاشت لمدة ستة شهور فقط لجلبت للتاريخ بركات كثيرة..، فالقيام بحركة غير مناسبة ناشئة من الخوف والضعف وطلب الدنيا.. يؤدي أحياناً إلى إدخال التاريخ في كارثة وضلال )(35).

هذا هو الدور التاريخي والمصيري الذي نقصده، والذي قد يغيّر مجرى التاريخ، موقف واحد فقط قد يغيّر مجرى التاريخ!، وهكذا هو الحال أيضاً في أيّ مكان وأيّ زمان، موقف واحد فقط قد يغيّر وضع بلد أو مدينة أو قرية على الأقل، ومن منّا يضمن أن لا يكون في موقف شريح في يوم من الأيام؟!، ولو على مستوى قرية أو مدينة أو عشرات أفراد مع الالتفات إلى أن وجوه الدنيا متنوعة، فشريح صرعه الخوف على نفسه، وغيره قد لا يخاف على نفسه، بل قد يصرعه وجه آخر خفي من وجوه الدنيا كخوفه على المنزلة الاجتماعية والشهرة أو عدم الصبر على وحشة الطريق.

خواص الحق واللحظات المصيرية:

قد ينصر الخواص الحق في معركته ضد الباطل، سواء كانت هذه المعركة عسكرية أم سياسية أم ثقافية أم غيرها، لكن هذه النصرة قد تأتي متأخرة فتخسر الكثير من قيمتها، ذلك أن التخلف في أول الطريق ليكون بعدها اللحاق بالركب والتكفير عن ما تخلف عنه بداية، يكشف عن انهزام وتردد وضعف إيمان في مرحلة معيّنة من مراحل الصراع، وهذا ما حدث بالضبط لأكثر من اشتركوا في ثورة التوابين، فلئن كان بعضهم في السجن وصار معذوراً بذلك، فما عذر اللذين شهدوا واقعة عاشوراء وتخلّفوا عن تكليفهم؟.

لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة من استشهد في كربلاء مع من استشهد في ثورة التوابين، كلا من استشهدوا الواقعتين شهيد، لكن أيمكن يا ترى-بغض النظر عن مرتبة الشهيد في حضور المعصوم وقول الحسين (ع): ما رأيت أصحاباً أبّر من أصحابي - المقارنة بين شهيد كربلاء وشهيد ثورة التوابين؟!، من الطبيعي أنه لا يمكن، ذلك أن الحق يحتاجك متى شاء لا متى شئت.

يقول سماحة القائد في هذا الشأن: (شهداء كربلاء قُتِلوا في أحد الأيام، وكذلك التوابين قُتِلوا كلهم في يوم مماثل، لكن إن نظرتم إلى الأثر الذي خلّفه التوابون في التاريخ ترونه لا يساوي واحداً بالألف من الأثر الذي خلّفه شهداء كربلاء)(36)، فما هو السبب يا ترى (السبب يرجع إلى أنهم لم يرجعوا عن اشتباههم في الوقت المطلوب، ولم يقوموا بالعمل في اللحظة المناسبة تأخروا في التصميم وفي التشخيص )(37).

وهكذا هو الحال على الدوام، فإنك تجد في قطر أو بلد أو قرية أو مدينة من الخواص من يتأخر عن أداء واجبه تجاه الحق في لحظة مصيرية معينة، ولوفي أمثلة صغيرة أو مصغّرة، فالعاقل من يطبّق صغريات الأمور على كبرياتها، فلا ينتظر المرء أن يمتحنه الله تعالى كما امتحن الأولين طبق الأصل أو في موقف مماثل، ومن لم ينجح في امتحان إلهي صغير، فكيف يضمن نفسه في المواقف الكبرى؟!

أمثلة في أثر الخواص من التاريخ المعاصر:

اعتقال الإمام الخميني(قده): عند اعتقال الإمام (قده) من قبل الشاه المقبور، خيف على الإمام أن يمس بسوء من قبل الشاه، ولأن الدستور الإيراني آنذاك يحرّم مس المرجع بسوء أو إعدامه، فقد اجتمع جمع من العلماء والفقهاء ليصدروا بياناً يحمل توقيعاتهم مفاده أن الإمام مرجع ديني، وأنهم يطالبون بالإفراج عنه، وآنذاك لم يكن بعد قد عُرِفَ الإمام بمقام المرجعية، وبذلك على أي حال جنب هؤلاء العلماء ووفق السنن الطبيعية البلاد الإسلامية ما كان سيقدم عليه الشاه وبيل الاحتمال من تعذيب أو إعدام أو طول مكث في السجن، وإن كان المدد الإلهي وهيبة الإمام سيمنعانه من ذلك، لكن وفق السنن الطبيعية فإن العلماء المجتمعين جنبوا البلاد والعباد كارثة محتملة الحدوث وهي فقد الإمام، ولو تأخروا قليلاً لخسر الإسلام والمسلمين الكثير الكثير(38)

نتيجة البحث: وأوردها في نقاط:

1- على المرء أن يقف مع نفسه وقفةً صريحةً ويسألها، أهي من العوام أم من الخواص؟، وإذا كانت من الخواص فهل مدّعى أم حقيقة؟ أي أن الفرد منا يتميّز بميزات الخواص؟ فإذا كان من العوام فليسارع في انتشال نفسه ما أمكنه ذلك.

2- ثم بعد ذلك فليحدد هل هو من خواص الحق المنتصرين أم خواص الحق المنهزمين أمام مغريات الدنيا؟

3- وأخيراً لا يكفي أن يكون المرء منّا أحد خواص الحق المنتصرين وفقط، بل لابد أن يكون ممن ينصر الحق عند اللحظات المصيرية والحسّاسة، وبعبارة أخرى لا بد من نصرة الحق في لحظات الشدة والابتلاء الإلهي لا في أوقات الرخاء وفقط.

4- كما على المرء أن يعتبر بما جرى في التاريخ، وما يجري أمامه في تاريخه المعاصر، وأن يدرك أهمية وموقعية الخواص من كل ذلك.

إلى هنا تمَّ هذا البحث المقتضب، ولا بد لي أن أشير في الختام إلى أنني استفدت من كتابين بشكل أساسي وهما : الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع) لمؤلفه الإمام الخامنئي، ورسالة الخواص للسيد أحمد خاتمي.

أسأل الله تعالى لي وللمؤمنين أن يجعلنا ممن ينتصر به، وأن يخرج حب الدنيا من قلوبنا، وأن يجنبنا ما وقع فيه غيرنا ممن عرف الحق ولكنه تأخر في نصرته، فلا عاصم إلا هو، والحمد لله.. أولاً و آخراً.

 

* الهوامش:

(1)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع)، الإمام الخامنئي، ص36-37.

(2)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص105

(3)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع)، الإمام الخامنئي، ص38.

(4)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص105.

(5)سورة الأنعام، الآية 11.

(6)سورة الحشر، الآية 2.

(7)الحكومة الإسلامية.

(8)غرر الحكم: رقم 929.

(9)غرر الحكم: رقم 411.

(10)نهج البلاغة: الرسائل: الكتاب:69.

(11)سورة الحشر، الآية 2.

(12)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص104.

(13)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت(ع)، الإمام الخامنئي، ص36.

(14)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت(ع)، الإمام الخامنئي، ص39.

(15)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص105.

(16)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت(ع)، الإمام الخامنئي، ص41.

(17)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت(ع)، الإمام الخامنئي، ص41.

(18)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص111.

(19)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص108، الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت(ع)، الإمام الخامنئي، ص39-40.

(20)سورة الأعراف، الآية 179.

(21)نهج البلاغة: الخطبة 125.

(22)غرر الحكم: رقم 9.

(23)معاني الأخبار، ص32.

(24)معجم رجال الحديث: ج11، ص105.

(25)معجم رجال الحديث:ج11:ص104.

(26)آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، مكتب البيان للمراجعات الدينية، خطبة الجمعة رقم151، ص26، بتصرف بسيط يناسب السياق.

(27)نقلته عن كتاب رسالة الخواص، وهو نقله عن: الخصال،ج1، ص53.

(28)مستدرك الوسائل:ج12، 199.

(29)مصباح دوستان لمؤلفه رضا صنعتي.

(30)سورة آل عمران، الآية 146.

(31)مفاتيح الجنان ص128.

(32)نهج البلاغة: الخطبة192.

(33)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي، ص112.

(34)رسالة الخواص، السيد أحمد خاتمي.

(35)مقتل الحسين(ع)، ص157.

(36)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع)، الإمام الخامنئي، ص55.

(37)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع)، الإمام الخامنئي، ص57.

(38)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع)، الإمام الخامنئي، ص57.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا