حكم زيادة الركعة سهواً

حكم زيادة الركعة سهواً

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..

من مسائل كتاب الخلل في الصلاة مسألة زيادة ركعة سهواً، وهذه مسألةٌ جديرة بأن يعاد بحثها والنظر فيها ويعاد؛ نظراً لخصوبة مادَّتها وعدم المفروغية من نتيجةٍ واحدة لها.

فأقول: وقع الخلاف بين علمائنا الأعلام (أيدهم الله) في إطلاق بطلان الصلاة لزيادة ركعة سهواً -بعد الاتفاقِ على بطلانها لزيادتها عمداً، والاتفاقِِ الذي حكاه جماعة منهم الفاضلان والشهيد وصاحب الذخيرة(1) على بطلانها إذا لم يجلس على رأس الرابعة بقدر التشهد- فالمشهور بطلان الصلاة بزيادتها مطلقاً جلس المصلي عقيب الرابعة أو لم يجلس. وذهب جماعةٌ منهم الشيخ في التهذيب والمحقق في المعتبر والعلامة في جملةٍ من كتبه(2) والشهيد الأول في الألفيَّة وثاني الشهيدين في جملة من كتبه(3) إلى صحة الصلاة فيما إذا جلس بمقدار التشهد، وهو المحكي عن الإسكافي من قدماء علمائنا(4)، بل نسبه في المسالك إلى اختيار المتأخرين(5)، كما ذهب ثلَّةٌ من علمائنا منهم الشيخ في الاستبصار إلى صحة الصلاة فيما إذا جلس متشهداً عقيب الركعة الرابعة، ومال إليه ابن إدريس في السرائر(6) بعد أن نسب مختاره إلى الشيخ في الاستبصار(7).

هذا وظاهر صاحب الوسائل اختيار صحة الصلاة حتى في صورة الشك في الجلوس عقيب الرابعة بقدر التشهد، فضلاً عما لو تشهَّد أو جلس بمقداره، حيث عنوَن الباب 19 من أبواب الخلل بـ "باب بطلان الفريضة بزيادة ركعة ولو سهواً إلا أن يجلس عقيب الرابعة بقدر التشهد أو يشك جلس أم لا".

وعلى أيِّ تقديرٍ وفرض فيقع الكلام أولاً فيما تقتضيه القاعدة المستفادة من حديث "لا تعاد"، وثانياً بملاحظة نصوص المسألة. فمقتضى القاعدة -على ما في بعض الكلمات(8)- صحة الصلاة من غير فرق بين صورة الجلوس عقيب الرابعة بمقدار التشهد وصورة عدم الجلوس، فضلاً عن صورة التشهد الملازم عادةً للجلوس بمقداره، بل حتى لو نسي سجدة الأخيرة أيضاً، ففي جميع هذه الصور لو زاد ركعةً قبل الإتيان بالسجدة وبالتشهد والسلام فالصلاة محكومة بالصحة؛ وذلك لأنَّ مقتضى حديث "لا تعاد" الحاكم على الأدلة الأولية نفي جزئيَّة كل من السجدة والتشهُّد والسلام في ظرف النسيان، فزيادة الركعة سهواً قبل الإتيان بشيءٍ منها زيادةٌ واقعة خارج الصلاة لا في أثنائها كي تستوجب البطلان؛ لأن وقوعها في الأثناء موقوف على جزئيَّة هذه الأمور في ظرف النسيان، والحديث نافٍ للجزئيَّة آنئذ؛ لعدم قصورٍ في شموله لها بعد أن لم تكن من الأركان.

وقد يقال: -كما في كلمات المحقِّق العراقي(قده)- بأن عدم جزئية هذه الواجبات بـ "لا تعاد" متأخر رتبةً عن زيادة الركوع؛ إذ لو لم يزد الركوع لكان بإمكانه التدارك، فلا تجري "لا تعاد"، فجريانها فرع الزيادة، ففي مرتبة الزيادة كانت الواجبات جزءاً من الصلاة، فوقعت الزيادة الركنيَّة في أثناء الصلاة، فهي مبطلة(9).

ولكن يتوجَّه عليه بأنه لا دليل على اعتبار الرتب العقليَّة في موضوعات الأحكام الشرعيَّة، كي يترتَّب اللازم المذكور، فمقتضى إطلاق "لا تعاد" سقوط جزئيّة كلٍّ من السجدة والتشهُّد والتسليم عند وقوع المنافي، فلا يرد المحذور، إذن فموضوع "لا تعاد" هو كلّ جزء أو شرط لزم من بقاء جزئيَّته أو شرطيَّته فساد الصلاة فإن جزئيَّته أو شرطيَّته منفيَّة بـ "لا تعاد".

والمتحصل أن حديث "لا تعاد" يصحِّح الصلاة من جهة نقصان الأجزاء المنسيَّة، فلو كنَّا والحديث لكانت النتيجة صحة الصلاة حتى لو قلنا بشمول عقد الاستثناء من الحديث لزيادة الخمسة الممكن زيادتها مثل الركوع والسجود(10).

وأما بملاحظة نصوص المسألة فمقتضى إطلاق جملة منها هو البطلان كموثقة أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(ع): «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»(11)، ومقتضاه بطلان الأجزاء السابقة على المنسيَّة بزيادة الركعة التي هي القدر المتيقن من الزيادة الموجبة للبطلان والإعادة، هذا بقطع النظر عن حديث "لا تعاد" وإلا فمقتضاه صحة الصلاة -كما تقدَّم-؛ إذ هو يرفع موضوع الموثَّقة، وهو الزيادة في الصلاة. هذا ونسبة الحديث إلى الموثَّقة وسائر الأدلَّة الأوليَّة نسبة الحاكم إلى المحكوم.

ومن نصوص المسألة صحيحة زرارة عن أبي جعفر(ع): «إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة (ركعة) لم يعتدَّ بها، واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان قد استيقن يقيناً»(12)، ومورد هذه الصحيحة خصوص السهو بقرينة التعبير بالاستيقان.

هذا وقد رواها الشيخ الكليني مرَّةً مشتملة على كلمة (ركعة) في باب السهو في الركوع، وأخرى بدونها في باب من سها في الأربع والخمس ولم يدر زاد أو نقص أو استيقن أنه زاد(13)، ولما كان من البعيد جداً أن تكونا روايتين مستقلتين مع اتحادهما سنداً ومتناً، بل المطمأن به قوياً أنهما رواية واحدة مرددة بين المشتملة عليها وغير المشتملة، فلم يعلم ما هو الصادر عن المعصوم(ع).

ولكن ذلك لا يمنع كما قيل من الاستدلال بالصحيحة حتى على التقدير الثاني؛ لأنَّ القدر المتيقن معه زيادة الركعة وإن لم تذكر فيها.

ولا يضير بالاستدلال احتمال إرادة الركوع من مفردة الركعة كما فهمه الشيخ الكليني حيث أورد الرواية مشتملةً على زيادة كلمة (ركعة) في "باب السهو في الركوع"؛ وذلك لأن الرواية إن كانت مشتملةً على الزيادة فمقتضى إطلاقها شمولها لمحل الكلام، حتى لو أُريد من الركعة الركوع، وإن لم تشتمل عليها فالقدر المتيقن زيادة الركعة -كما مرَّ-، ثمَّ إنَّ احتمالَ إرادة زيادة ركوع في ركعة واحدة دون ما إذا زاد ركوعاً على ركعات الصلاة منفيٌّ بالإطلاق.

ومنها صحيحتا منصور بن حازم وعبيد بن زرارة الواردتان في من زاد سجدة في صلاته المشتملتان على أنه "لا يعيد صلاة (صلاته) من سجدة، ويعيدها من ركعة(14)، إلا أن احتمال إرادة الركوع منهما لا الركعة الاصطلاحية واردٌ، ويشهد لذلك مقابلتها بالسجدة، وقد فهم صاحب الوسائل ذلك منهما حيث أدرج هاتين الصحيحتين في "باب بطلان الصلاة بزيادة الركوع"، مع استعمالها فيه في بعض الروايات كرواية محمد بن مسلم الآتية، ولكن يمكن التمسُّك بإطلاقه لمحل الكلام.

وأمَّا ما رواه زيد الشحام قال: «سألته عن الرجل صلَّى العصر ست ركعات أو خمس؟ قال: إن استيقن أنه صلى خمساً أو ستاً فليُعد..»(15)، فهو وإن كان واضح الدلالة على بطلان الصلاة مطلقا مع زيادة الركعة، إلا أنه ضعيف سنداً؛ لاشتماله على أبي جميلة، وهو المفضَّل بن صالح، فإنه وإن كان من مشايخ ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى والبزنطي الذين لا يروون إلا عن ثقة، فيكون بمقتضى هذه الكلية ثقةً على الأظهر، إلا أن هذا التوثيق العام معارض بتضعيف خاصٍّ به نَقَلَه في حقِّه النجاشي في ترجمته لجابر بن يزيد حيث قال: "روى عنه (يعني جابراً) جماعةٌ غُمِزَ فيهم وضُعِّفوا، منهم عمرو بن شمر والمفضل بن صالح إلى آخر ما ذكره"، فهذا التعبير وإن لم نفهم منه التسالم على ضعف الرجل، خلافاً للسيِّد الخوئي(قده)(16)، بل ولا تضعيف النجاشي إياه، إلا أنه لا يمكن العمل بإطلاق الكليَّة المتقدِّمة؛ لمانعية هذا النقل من إحراز الإطلاق.

والمتحصل-أنه رغم المناقشة في بعض الروايات سنداً- تمامية بعضٍ آخر سنداً وكذا دلالةً على بطلان الصلاة من مطلق الزيادة، وقدرها المتيقن زيادة الركعة كالصحاح الثلاث المتقدمة.

إلا أن في مقابلها روايات أخر تفيد التفصيل بين ما إذا جلس في الرابعة أو جلس فيها بمقدار التشهد على اختلافها وبين ما إذا لم يجلس فيها مطلقاً أو بذلك المقدار فتحكم بالصحة في الفرض الأول دون الثاني، بل تكتفي بعضها بالشك في الجلوس في الرابعة في الحكم بالصحة.

فمن الروايات المفصِّلة صحيحة زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: «سألته عن رجل صلى خمساً؟ فقال: إن كان قد جلس في الرابعة قدر التشهد فقد تمت صلاته»(17)، وهي واضحة في كفاية الجلوس بمقدار التشهد وإن لم يتشهد، فلا حاجة لتمحُّل إرادة الإتيان بالتشهد منها.

ومثلها صحيحة جميل بن دراج(18).

ومنها رواية محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر(ع) عن رجل استيقن بعدما صلَّى الظهر أنه صلى خمساً؟ قال: وكيف استيقن؟ قلت: علم، قال: إن كان علم أنه جلس في الرابعة فصلاة الظهر تامة، فليقم فليضف إلى الركعة الخامسة ركعة وسجدتين فتكونان ركعتين نافلةً ولا شيء عليه»(19)، وهي أما دلالةً فيحتمل فيها التفصيل بين نفس الجلوس عقيب الرابعة فتصح الصلاة وبين عدمه كذلك فلا تصح، فتعود مضموناً كصحيحة زرارة المتقدمة(20)، ويحتمل أن يراد من الجلوس فيها التشهد وأنه كنَّى به عنه، ويشهد لهذا الاستعمال بعض الروايات مثل صحيحة سليمان بن خالد قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن رجل نسي أن يجلس في الركعتين الأولتين؟ فقال: إن ذكر قبل أن يركع فليجلس»(21)، ومع هذا الاحتمال تعود الرواية مجملة؛ إذ لا قرينة على إرادة الثاني، وإن كان المتيقَّن منها الصحَّة في فرض التشهُّد، ثمَّ إن الرواية ضعيفة السند بمحمد بن عبدالله بن هلال؛ فإنه مجهول، وإن كان من رجال كامل الزيارات؛ لعدم ثبوت كبرى وثاقة رجال أسانيد الكامل.

ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(ع) قال: «سألته عن رجل صلى الظهر خمساً؟ قال: إن كان لا يدري جلس في الرابعة أم لم يجلس فليجعل أربع ركعات منها الظهر ويجلس ويتشهد ثم يصلي وهو جالس ركعتين وأربع سجدات ويضيفها إلى الخامسة فتكون نافلة»(22).

وهي مستند صاحب الوسائل في إلحاق الشك في الجلوس بالعلم به في الصحة.

إذا عرفتَ حال هذه الروايات فتعال نحاكم جملة روايات المسألة، إذ مقتضى إطلاق موثقة أبي بصير التامّة دلالةً بطلان الصلاة بزيادة الركعة سهواً، وإن جلس عقيب الرابعة بمقدار التشهد، بينما مقتضى روايات الطائفة الثانية الصحة فيما إذا جلس بمقدار التشهد عقيب الرابعة، وإسناد الطائفتين تام. والنسبة بينهما هي العموم المطلق.

فالمناسب الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد الذي نتيجته بطلان الصحة بزيادة الركعة سهواً إلا إذا جلس عقيب الرابعة بمقدار التشهد.

ومنه تعلم الخدشة في وجه الجمع بينهما بحمل الطائفة الثانية على التقية لموافقتها لمذهب الثوري وأبي حنيفة وأتباعه(23)‏؛ وذلك لأنّ الترجيح بالمرجح الجهتي فرع استقرار المعارضة، ومع وجود الجمع العرفي بحمل المطلق على المقيد لا تصل النوبة إلى ملاحظة المرجحات. ومن الواضح أنّ مجرّد الموافقة مع مذهب العامة لا يستدعي الحمل على التقية إلا أن تستقر المعارضة.

نعم قد لا يصار إلى حمل المطلق على المقيِّد فيما لو كان الإطلاق معلوماً، كما لو قام التسالم عليه، أو كان هو المشهور وكانت الرواية المقيِّدة رواية شاذَّة من حيث الرواية، ولكن ما نحن فيه ليس كذلك؛ فإن الرواية المقيِّدة ليست شاذَّة، كيف وقد أخرجها كلٌ من الصدوق والشيخ(رضوان الله عليهما).

وما عن أحد الأعاظم من حمل أخبار الطائفة الثانية على التقية لا لموافقتها لمذهب الثوري وأبي حنيفة أو العامة بل لكونها صادرة كذلك؛ إذ في نفس هذه الأخبار ما يستشم منه رائحة التقية(24)، كما يومئ إلى ذلك قوله(ع) في خبر محمد بن مسلم المتقدم «وكيف استيقن»، حيث إنّ فيه إشعاراً بالطفرة عن الجواب، وإلا فالتيقُّن أمر غير خفي ليتحاج إلى التفتيش والسؤال(25)، وعليه فهي غير حجة ولو مع قطع النظر عن المعارض.

فيرد عليه بأنّه على فرض صحة ما ذكر من أمر استشمام رائحة التقية فهو في رواية واحدة وخارجة عن بحثنا؛ لضعفها سنداً كما مرّ، على أنّ استعلام الإمام(ع) بقوله «وكيف استيقن» كما يحتمل فيه ما ذكر، يحتمل فيه أن الداعي له محاولة الإمام(ع) جعله من موارد الصحَّة لا الفساد امتناناً عليه, أو أن السؤال عن نحو اليقين وإنّه تسامحي أو بالدرجة المطلوبة، ويشهد لهذا الاحتمال صحيحة زرارة المتقدمة، حيث كرّر الإمام(ع) كلمة «استيقن» مرتين وعقَّب الثانية بكلمة (يقيناً)، ومعه يكون أمر صدورها تقية محتملاً فلا يزيد على وجه الجمع بالجهة المتقدم بطلانه.

ثم إنه قد أورد أحد الأعلام ثلاثة مبعِّدات لصدور هذه الرواية على جهة التقية:

أولها: تعرُّض صحيحة ابن مسلم المتقدمة للتفصيل بين صورة الشك في الجلوس عقيب الرابعة فتصح الصلاة، وصورة العلم بعدمه كذلك فلا تصح، وهو مما لا تقتضيه التقية لعدم قائل من العامَّة به.

الثاني: تأدِّي التقية بالحكم بالإعادة مطلقاً؛ لإمكان تنزيله على صورة عدم القعود بقدر التشهد كما هو الغالب.

الثالث: إنّ التقية لا تقتضي أن يحكم الإمام(ع) بالعدول بالخامسة إلى النافلة؛ إذ لم يعلم أنّ أبا حنيفة أفتى بذلك على وجه الوجوب بل ظاهره الاستحباب(26) وما عن جملة من الأكابر من أنّ الجمع الدلالي بين الطائفتين بحمل المطلق على المقيّد فرع العمل بالمقيد وعدم الإعراض عنه، والحال أن روايات الطائفة الثانية رغم صحتها واعتبارها في نفسها وأخصِّيتها من الطائفة الأولى المطلقة محل إعراض علمائنا أو المشهور لقلة المفتي بها أو القدماء(27).

فيلاحظ على الدعويين الأولى والثالثة بأنها ممنوعة، كيف وقد أفتى على وفق هذه الروايات الإسكافي من قدماء علمائنا والشيخ في التهذيب، بل صرّح الشيخ في المبسوط بوجود قائل بمضمونها قائلاً "من زاد في الصلاة ركعة أعاد، وفي أصحابنا من قال: إن كانت الصلاة رباعية وجلس في الرابعة مقدار التشهد فلا إعادة عليه والأول هو الصحيح؛ لأن هذا قول من يقول: إنّ الذكر في التشهد غير واجب"(28)، ونحوه قال في الخلاف(29).

ويلاحظ على الدعاوى الثلاث أجمع أنّ الإعراض إنّما يقدح في المُعْرَض عنه فيما إذا كان راجعاً إلى أصل الصدور، أما إذا كان منشؤه مثل توهّم صدوره تقية لمجرّد موافقة مضمونه للعامة أو بعضهم فلا يقدح في مورد الإعراض، وما نحن فيه كذلك، قال الشيخ في الخلاف:

"وأيضاً فإنّ هذه الأخبار قد تضمنت الجلوس مقدار التشهد من غير ذكر التشهد، وعندنا أنّه لا بد من التشهد، ولا يكفي الجلوس بمقداره، وإنّما يعتبر ذلك أبو حنيفة، فلأجل ذلك تركناها"(30).

ويلاحظ على الدعوى الثانية بالخصوص أنّ صغراه وإن كانت مسلّمة وأنّ إعراض المشهور عنها محقّقٌ وحاصل، إلا أنّ كبراه ممنوعة؛ لما أفاده المحقّق الخراساني(قده) من عدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره كالحاصل من إعراض المشهور، وتبعه عليه السيد الخوئي(قده)(31)، على أنّ الإعراض المزبور غير راجع لأصل الصدور كما تقدّم.

إلى هنا يتّضح أنَّ الأنسب الجمع بين طائفتي الأخبار بارتكاب تقييد أولى الطائفتين بالثانية، ومحصَّله بطلان الصلاة بزيادة ركعة سهواً إلا إذا تعقَّب الرابعة جلوس بمقدار التشهّد.

وما قيل: من أنّ الطائفة الثانية من الروايات مبتلاة في موردها بمعارض وهي الروايات الدالّة على أنّ من صلّى تماماً نسياناً في موضع القصر فصلاته باطلة(32)، بدعوى أنّ مورد هذه الطائفة وإن كانت صلاة الظهر تماماً إلا أنّه لا يحتمل اختصاصها بالظهر كذلك، بل تعم القصر أيضاً إذا زاد ركعة أو ركعتين سهواً. وبعد استقرار المعارضة فعلاجها حمل الطائفة الثانية على التقية لموافقتها مذهب العامة كما تقدّم، فيرجَّح معارضها الموافق لإطلاق الطائفة الأولى المتضمنة للبطلان(33).

ففيه أولاً: ما قيل: من أنّ التعدي عن موردها وهو الصلاة تماماً إلى مورد هذه الروايات وهو الصلاة قصراً، ومن زيادة ركعة إلى زيادة ركعتين بحاجةٍ إلى قرينة، باعتبار أنّ الحكم على خلاف القاعدة المستفادة من الطائفة الأولى، ولا قرينة على التعدي لا في نفس هذه الطائفة من عموم أو تعليل ولا من الخارج، وأما دعوى القطع بعدم الفرق فلا تخلو من مجازفة على أساس عدم إمكان ادعاء ذلك إلا بإحراز ملاك الحكم وأنّه مشترك بين الموردين، وبما أنّه لا طريق إلى إحرازه فلا يمكن مثل هذا الإدعاء(34).

وثانياً: إنّ عمدة الروايات وهي صحيحة زرارة موردها الصلاة الرباعية لا خصوص الظهر، فلا يتعدى منها إلى الثانية؛ فإنّ مورد روايات الصلاة قصراً غير مورد الصحيحة.

وثالثاً: إنّ روايات الصلاة قصراً المدّعى معارضتها للطائفة الثانية تلتقي مرةً مع روايات الطائفة الثانية وذلك فيما إذا تذكّر بعد خروج وقت الصلاة فتصح. فتعارض الطائفة الأولى، بل أنّها قد تخالف الطائفتين الأولى والثانية، وذلك فيما إذا صلّى تماماً في موضع القصر ولم يجلس على رأس الثانية ولم يتذكر إلا بعد مضي الوقت، فإنّ مقتضى روايات الصلاة قصراً صحّتها، بينما مقتضى كل من الطائفتين فسادها.

ورابعاً: إنّ بطلان الصلاة بزيادة ركعتين سهواً كما هو مفاد روايات قصر الصلاة ليس حكماً عقلياً فينسحب ويمتد إلى غير موضع قصر الصلاة، وعليه فأي مشاحّة في اختصاص موضع القصر بالبطلان لدى زيادة ركعتين فلا يشمل ما إذا زاد على الرباعية ركعة سهواً فتصح فيما إذا جلس بمقدار التشهد عقيب الرابعة. كيف لا والعباديات محض اعتبارات لا يمكن ضبطها بخلاف مثل المعاملات المنضبطة نوعاً ببعض النكات العقلائية(35).

وقد يرجع هذا إلى أول الإيرادات، -كما هو غير بعيد- فليكن معه موضِّحاً له.

وأما ما قيل كإيرادٍ خامسٍ من أنّ نسبة الطائفة الثانية إلى روايات قصر الصلاة نسبة المقيّد إلى المطلق، وأنّها (يعني روايات القصر) تدل على بطلان الصلاة بزيادة ركعة أو ركعتين مطلقاً حتى في فرض جلوس المصلي بعد الرابعة في الصلاة تماماً وبعد الثانية في الصلاة قصراً، وأما روايات تلك الطائفة فهي تدل على الصحّة في صورةٍ خاصّة وهي صورة جلوس المصلّي بعد الرابعة أو الثانية، فاللازم أن يُقيّد بها إطلاق تلك الروايات(36).

ففيه أن النسبة بينهما هي نسبة العموم من وجه كما علم من الإيراد الثالث.

بعد كل هذا يظهر أنّ الجمع بين طائفتي الروايات بحمل المطلق على المقيّد المنتج لصحة الصلاة مع زيادة الركعة سهواً فيما إذا جلس عقيب الرابعة بقدر التشهّد هو الصحيح لخلوِّه من أي شائبة.

وما احتمل من أنّ المستفاد من الطائفة الثانية أنّه مع الجلوس مقدار التشهد يتحقّق الفصل بين الصلاة وبين الركعة الزائدة فلا تكون الركعة زيادة في الصلاة لتحقق الفصل وهو يوجب كون الزائد أمراً مستقلاً غير مرتبط بالصلاة، ففيما لو جلس في الأخيرة بذلك القدر لم يتحقّق زيادةُ ركعةٍ أصلاً، فمورد الطائفة الأولى زيادة الركعة مع عدم الجلوس بمقدار التشهد عقيب الرابعة بمقتضى الطائفة الثانية، ومرجع هذا الاحتمال إلى التفصيل بين الصورتين من حيث صدق عنوان الزيادة، بينما مرجع ما ذكرناه إلى التفصيل من حيث الحكم بين صورتي الزيادة؛ فالأول تقييد وتخصيص والثاني تقيد وتخصص(37)، فإنّه وإن كان جميلاً في نفسه، إلا أنّ روايات الطائفة الثانية قاصرةٌ عن إفادته، وأنّ إرادته بحاجةٍ إلى بيان متجشَّم، وهو مفقود، فالصحيح الجمع بالتقييد. هذا وتظهر الثمرة بين هذا الاحتمال وبين المختار في زيادة الركعة سهواً في الصلاة غير الرباعية فعلى الاحتمال المذكور تصحّ، ولا تصحّ على ما اخترناه، إلا إذا ألغى العرف خصوصيَّة الأربع.

بقيت نقطتان:

نقطة تتعلّق بخصوص الطائفة الثانية -بعدما كان البحث السابق معقوداً للنظر في الطائفتين معاً-، وهي أنّ بعض روايات الطائفة قد أخذت الجلوس قدر التشهد صراحةً في صحة الصلاة لدى زيادة ركعة سهواً كصحيحتي زرارة وجميل، وبعضاً آخر قد أخـذ مطلق الجلوس في صحّتها كذلك كرواية محمد بن مسلم وكذا صحيحته، وهي إما ظاهرةٌ في التشهد فعبّرت بالجلوس كنايةً عن التشهد، وإما ظاهرةٌ في نفس الجلوس، وإما مجملةٌ تحتمل المعنيين، فعلى الأول يتقدم القبيل الأول؛ لصراحته في عدم اعتبار التشهد، وعلى الثاني يرتكب تقييد القبيل الثاني بالأول، وعلى الثالث فالقبيل الثاني لا اقتضاء فيه لشيء، والأول فيه اقتضاءٌ فيؤخذ ما فيه ذلك.

ونقطة تتعلّق بمعالجة النسبة بين ما دلَّت عليه صحيحة ابن مسلم من كفاية الشك في الجلوس (كفايته) في صحة الصلاة عند زيادة ركعة فيها، وبين ما دلَّت عليه صحيحتا زرارة وجميل من اعتبار الجلوس بقدر التشهُّد، فالقبيلان يصححان الصلاة على تقدير الجلوس بقدر التشهُّد كما هو واضحٌ، كما أن كلاً منهما يبطل الصلاة على تقدير إحراز عدم الجلوس بمفهوميهما، ولكن مفهوم ما دلَّ على الصحَّة في فرض الجلوس يفيد -بناءً على حجيَّة مفهوم الشرط- بطلان الصلاة حتى فيما إذا شكَّ في الجلوس، فضلاً عمَّا لو أحرز عدم الجلوس، بينما منطوق صحيحة ابن مسلم واضحٌ في صحتها في فرض الشك، ولمّا كانت النسبة بين مفهوم القبيل الأول ومنطوق الثاني هي نسبة العامّ إلى الخاصّ، فلا محالة يحمل العام على الخاص، هذا ولكن لا عامل بصحيحة ابن مسلم في كفاية الشك في الجلوس لصحة الصلاة، فتسقط عن الحجية بإعراض الطائفة عنها حتى بناءً على كون موضوع حجية الخبر هو الوثاقة؛ فإن إعراضها مورثٌ للاطمئنان بابتلائها بخللٍ صدوريٍ، نعم قد يقال بعمل الصدوق(قده) من القدماء بها؛ إذ قد رواها في الفقيه.

والمحصَّلة هي عدم صحة الصلاة المزيدة ركعةً إلا إذا أحرز عدم الجلوس بعد الرابعة بقدر التشهُّد، دونما إذا شك في الجلوس وعدمه فتصحّ، فضلاً عما لو أحرز الجلوس كذلك.

والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلّى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.

 

 * الهوامش:

(1) الكافي: ج1 ص35..

(2) التهذيب 2: 194، المعتبر 2: 380، المختلف 2: 394، التحرير 1: 49.

(3) الألفية، الروض والمسالك والروضة (الزبدة الفقهية 2: 257، 397).

(4) المبسوط 1: 121، الخلاف 1: 451 م 196، المختلف 2: 393، فتاوى ابن الجنيد للاشتهاردي: 78 م 6.

(5) المسالك 1: 286.

(6) السرائر 1: 246.

(7) وقد استظهر هذا من المعاصرين الشيخ الفيَّاض في كتابه تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى 4: 74، وهو مختار العلامة الدرازي في سداد العباد 1: 280 والفرحة الإنسية 2: 228 - 229.

(8) السرائر 1: 246.

(9) لاحظ روائع الأمالي: 9.

(10) هذا ولكنَّ منصرفَ عقد الاستثناء في حديث "لا تعاد" نقيصةُ المستثنيات، وأنّ الصلاة مع نقيصتها تعاد دون زيادتها، ومنشأ الانصراف عدم تصوُّر زيادة بعض الخمسة.

(11) الوسائل 8: 231 ب 19 من أبواب الخلل خ 2.

(12) الوسائل 6: 319 ب 14 من أبواب الركوع خ 1، الوسائل 8: 231 ب 19 من أبواب الخلل خ 1.

(13) الكافي 3: 348 خ 2، 3: 354 خ 2، مرآة العقول 15: 187، 200.

(14) الوسائل 6: 319 ب 14 من أبواب الركوع خ 3,2.

(15) الوسائل 8: 232 ب 19 من أبواب الخلل خ 3.

(16) معجم رجال الحديث 19: 312.

(17) الوسائل 8: 232 ب 19 من أبواب الخلل خ 4.

(18) الوسائل 8: 232 ب 19 من أبواب الخلل خ 6.

(19) الوسائل 8: 233 ب19 من أبواب الخلل خ 7.

(20) مع فارقٍ سيأتي الحديث عنه لاحقاً.

(21) الوسائل 6: 402 ب 7 من أبواب التشهّد خ 3.

(22) الوسائل 8: 233 ب19 من أبواب الخلل خ5.

(23) المغني لابن قدامة 2: 684.

(24) كتاب الصلاة تقرير بحث الميرزا النائيني بقلم الشيخ الكاظمي 2: 210- 211.

(25) كتاب الصلاة تقرير بحث الميرزا النائيني بقلم الشيخ الآملي 3: 24.

(26) كتاب خلل الصلاة وأحكامها : 75-76.

(27) كتاب الصلاة للميرزا النائيني، كتاب الخلل في الصلاة للإمام الخميني: 228، كتاب خلل الصلاة وأحكامها للشيخ مرتضى الحائري(قده): 74، مستمسك العروة الوثقى 7: 392، نهاية التقرير للسيد البروجردي بقلم الفاضل اللنكراني 2: 434.

(28) المبسوط 1: 121.

(29) الخلاف 1: 451، 452 م 196.

(30) ن م.

(31) مصباح الأصول 2: 241.

(32) الوسائل 8 : 505 ب 17 من أبواب صلاة المسافر خ 1،2.

(33) مستند العروة الوثقى = موسوعة الإمام الخوئي 18: 43-44.

(34) تعاليق مبسوطة 4: 73.

(35) وهذا بابٌ واسع، فيعلم بعد فتحه النظر في بعض الانتقالات والاستنتاجات في جملةٍ من الموارد وإليك مثالين:

فهمُ عدم وجوب السورة في المكتوبة ممّا دلّ على سقوطها عن المأموم إذا لم يمهله الإمام، والحال أنّ السقوط قد يكون حكماً لخصوص المأموم.

فهم عدم وجوب التشهد مما دل على سقوطه عن المأموم إذا لم يمهله الإمام كما هو مدلول بعض الروايات، والحال أنّ السقوط أيضاً قد يكون خاصّاً بالمأموم.

(36) تعاليق مبسوطة 4: 73.

(37) نهاية التقرير 2: 431-432


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا