حداد المرأة المعتدَّة عدَّة الوفاة

حداد المرأة المعتدَّة عدَّة الوفاة

الملخّص:

تعرّض الكاتب لبعض أحكام حداد المرأة المتوفى عنها زوجها، مع مقارنة المدّة بين الإسلام وسواه، ثمّ تعرّض إلى حكم الحداد ومعناه، وأنّه لا خلاف في وجوبه، وركّز بعد ذلك على مسألة خروج المعتدّة من منزلها حيث اختلفت الأقوال تبعاً لاختلاف الروايات الشريفة، وخلص في الجمع بين الروايات إلى أنّه لا يجوز الخروج إلّا عند الضرورة أو لأجل عمل راجح شرعاً.

قال عزَّ من قائل في كتابه المبين:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ و يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(البقرة: 324).
المقدّمة

تعرّضت المرأة المتوفى عنها زوجها -في الأمم السَّابقة قبل الإسلام- إلى صنوفٍ عدَّةٍ من الممارسات العنيفة التي تتعامل مع هذه المرأة المكلومة، من منطلقات جاهلية بعيدة كلِّ البعد عن قيم الإنسانية.
فبعض الأمم قامت بإحراق الزَّوجة الحيَّة مع زوجها الميت، أو إلحادها وإقبارها معه، وبعضها قضى بعدم زواجها بعد موت زوجها إلى آخر عمرها كما هو عند النّصارى، وبعضها أوجب عليها الاعتزال عن الرِّجال إلى سنةٍ كعرب الجاهلية، وكان عليها -عند بعض القبائل- أن تَنصِب لها خيمة سوداء عند قبر زوجها، وتبقى عند قبره في تلك الخيمة شطراً من الزّمن.
إلى أن جاء الإسلام وألغى تلك الخرافات مع الإقرار بقدسيّة الحياة الزّوجية حتى بعد وفاة الزَّوج من خلال تشريع العدَّة والحِداد على المرأة المتوفى عنها زوجها.
فضرب لها أجلاً للعِّدة يقارب ثلث السنة، وهو أربعة أشهر وعشرة أيام، وأوجب عليها -مضافاً لذلك- الحداد إلى أن تنقضي عدَّتُها.
ووجوبه تكليفيٌّ، لا ربط له بالعدّة، فهي غير مشروطة به، فلو أخلَّت المعتدّة عدّة الوفاة بالحداد ولو عمداً إلى أن انقضت العدّة حلَّت لها الأزواج، وإن كانت آثمة من جهة تركها للحداد.

وجوب الحداد

الحدادُ واجبٌ على المرأة الحرَّة المتوفَى عنها زوجها، بلا خلاف -نصّاً وفتوى- وادعى في الجواهر الإجماع على ذلك بقسميه، وفي الحدائق عدم الخلاف فيه بين كافَّة أهل العلم من الخاصَّة والعامَّة.
والأخبار المعتبرة -وفيها الصحاح- به مستفيضة بل متواترة:
منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفرg قال: «إن مات عنها -يعني وهو غائب- فقامت البيّنة على موته، فعدُّتها من يوم يأتيها الخبر أربعة أشهرٍ وعشراً، لأنَّ عليها أن تحدَّ عليه في الموت أربعة أشهر وعشراً، فتمسك الكُحْل والطِّيب والأَصباغ».
ومنها: ما روي عن زرارة عن أبي جعفرg قال: «إنَّ الأَمَة والحرَّة كلتيهما إذا مات عنهما زوجهما سواء في العِدّة، إلا أنَّ الحرّة تُحِدُّ والأَمَة لا تُحِدُّ».
ومنها: خبر أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللهg قال: «يُحِدُّ الحميمُ على حميمه ثلاثاً، والمرأة على زوجها أربعة أشهرٍ وعشْراً».
ما هو الحداد؟

قال في المصباح: "حدت المرأة على زوجها تحِدّ، وتحِدّ حِداداً (بالكسر) فهي حادٌّ بغير هاء، وأحَدّت إحداداً فهي محِدّ، ومحِدّة، إذا تركت الزينة لموته، وأنكر الأصمعي الثلاثي واقتصر على الرباعي".
وقال في الصحاح: "أحدّت المرأة، أي: امتنعت من الزِّينة والخضاب بعد وفاة الزَّوج".
وقال في القاموس: "والحادّة المحدّة تاركة الزّينة للعدّة".
فالحداد هو عبارة عن ترك الزّينة في الثياب والبدن، وعلى ذلك اتفقت كلمة الفقهاء وأهل اللغة.
ومن الأخبار الواردة في المقام صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللهg قال: سألته عن المتوفى عنها زوجها، فقال: «لا تكتحل للزينة، ولا تطيّب، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، ولا تبيت عن بيتها، وتقضي الحقوق، وتمتشط بغسلة، وتحج وإن كانت في عدتها». 
وصحيحة زرارة عن أبي جعفرg في حديثٍ قال فيه: «فتمسك عن الكحل والطِّيب والأصباغ».
وصحيحته الأخرى عن أبي عبد اللهg قال: «المتوفى عنها زوجها ليس لها أن تطيب ولا تزين حتى تنقضي عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام». 
وما ورد من جواز الاكتحال والخضاب والصبغ في بعض الأخبار، كموثّقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللهg أنَّه سأله عن المرأة يموت زوجها، هل يحلّ لها أن تخرج من منزلها في عدّتها؟ قال: «نعم، وتختضب وتدهن وتكتحل وتمتشط وتصبغ وتلبس المصبغ، وتصنع ما شاءت بغير زينة لزوج». فهو محمول على الضرورة لغير الزّينة، أما التدهّن والامتشاط فهما خارجان عن عنوان الزّينة.
فالمتحصّل من النُّصوص: إنَّ المنهي عنه هو تزيين نفسها بالكُحل، أو الخضاب، أو الصبغ، أو الطيب، ولباسها، بلبس الأثواب المصبوغة بصبغ يعدّ زينة في اللباس. 
فيجب عليها أن تترك الكُحل، والطيب، والخضاب، والحمرة، والخطاط، ونحوها، واجتناب لبس المصوغات الذّهبيّة، والفضية، وغيرها من أنواع الحليّ، وكذا اللباس الأحمر، والأصفر ونحوهما من الألوان التي تعدّ زينةً عند العرف، وربَّما يكون اللباس الأسود كذلك إمّا لكيفية تفصيله، أو لبعض الخصوصيات المشتمل عليها مثل كونه مخطّطاً.
وبالجملة، عليها أن تترك في فترة العدّة كلَّ ما يعدُّ زينة للمرأة بحسب العرف الاجتماعي الذي تعيشه، ومن المعلوم اختلافه بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والتقاليد. أمَّا ما لا يُعدُّ زينةً لها؛ مثل تنظيف البدن، واللباس، وتقليم الأظفار، والاستحمام، وتمشيط الشعر، والافتراش بالفراش الفاخر، والسكنى في المساكن المزيّنة، وتزيين أولادها؛ فلا بأس به.
 

خروج المعتدّةُ عدّة الوفاةِ من بيتها
 

الروايات في خروج المعتدّة عدّة الوفاة من بيتها، وبياتها في غيره على طائفتين:

الطائفة الأولى: ما دلَّ على المنع -وهو أكثرها- بآكد وجه

منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللهg قال: سألته عن المرأة يتوفى عنها زوجها وتكون في عدّتها، أتخرج في حقّ؟ فقال: «إنَّ بعض نساء النبيe سأَلَتْهُ فقالت: إنَّ فلانة توفى عنها زوجها، فتخرج في حقٍّ ينوبها؟ فقال لها رسول الله e: «أفٍّ لكنَّ، قد كنتن من قبل أن أبعث فيكنَّ، وأنَّ المرأة منكنَّ إذا توفى عنها زوجها أخذت بعْرَةٍ فرَمَتْ بها خلف ظهرها، ثم قالت: لا أمتشط ولا أكتحل ولا أختضب حولا ً كاملاً، وإنَّما أمرتكنَّ بأربعةِ أشهر وعشراً ثمَّ لا تصبرن، لا تمتشط ولا تكتحل ولا تختضب ولا تخرج من بيتها نهاراً، ولا تبيت عن بيتها»، فقالت: يا رسول الله، فكيف تصنع إن عرض لها حقّ؟ فقال: «تخرج بعد زوال الليل وترجع عند المساء، فتكون لم تبت عن بيتها»، قلت له: فتحجَّ؟ قال: «نعم». 
ومنها: ما رواه محمد بن مسلم قال: جاءت امرأة إلى أبي عبد اللهgتستفتيه في المبيت في غير بيتها وقد مات زوجها، فقال: «إنَّ أهل الجاهليّة كان إذا مات زوج المرأة أحدَّت عليه امرأتُه اثني عشر شهراً، فلمَّا بعث الله محمداًe رحم ضعفهنَّ فجعل عدّتهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً، وأنتن لا تصبرن على هذا!!». 
ومنها: خبر أبي العباس قال: قلت لأبي عبد اللهg: المتوفى عنها زوجها قال: «لا تكتحل للزينة، ولا تطيب، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، ولا تخرج نهاراً، ولا تبيت عن بيتها». قلت: أرأيت إن أرادت أن تخرج إلى حقٍّ كيف تصنع؟ قال: «تخرج بعد نصف الليل وترجع عشاء». 

الطائفة الثانية: ما دلّ على الجواز مطلقاً

منها: ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عمار الساباطي في الموثَّق عن أبي عبد اللهg أنَّه سئل عن المرأة يموت زوجها، هل يحلُّ لها أن تخرج من منزلها في عدّتها؟ قال: «نعم، وتختضب وتدهن وتكتحل وتمتشط وتصبغ وتلبس المصبغ، وتصنع ما شاء بغير زينةٍ لزوج». 
ومنها: وما عن ابن بكير في الموثَّق قال: سألت أبا عبد اللهg عن التي توفى عنها زوجها، أتحجّ؟ قال: «نعم، وتخرج وتنتقل من منزل»ورواه في الفقيه مرسلاً مقطوعاً. 
ومنها: وما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللهg قال: سألته عن المتوفى عنها زوجها أتخرج من بيت زوجها؟ قال: «تخرج من بيت زوجها وتحجّ وتنتقل من منزل إلى منزل». 
وقد عمل الشيخ الطوسي ومن تبعه بهذه الأخبار، فقالوا بجواز ترك البيات في المنزل وجواز الخروج حيث شاءت، وحملوا أخبار النَّهي على الكراهة.
وفيه: أنَّ ظاهر الأخبار المانعة -بآكد منع- لا يساعد عليه.
والصحيح ما استظهره صاحبُ الحدائق من الجمع بينها بما تضمّنته صحيحة الصفّار إلى العسكريّg: في امرأة مات عنها زوجها وهي محتاجة لا تجد من ينفق عليها، وهي تعمل للنَّاس، هل يجوز أن تخرج وتعمل وتبيت عن منزلها في عدَّتها؟ فوقّعg: «لا بأس بذلك إن شاء الله» من إلجاء الحاجة إلى ذلك والضرورة، فتخرج نهاراً، وتبيتُ في غيرِه ليلاً. 
أو يكون خروجها لأمور راجحةٍ كالحجِّ والزِّيارة وعيادة المريض وزيارة الأرحام وما أشبه ذلك كلّه، لما عن الصادقg في صحيح الحلبيّ عن أبي عبد اللهg قال: «سئل عن المرأة يموت عنها زوجها، أيصلح لها أن تحجّ أو تعودَ مريضاً؟ قال: «نعم، تخرجُ في سبيل الله، ولا تكتحل ولا تطيّب»». وهو شامل لكلِّ قربة.
ويؤيّد ذلك ما رواه أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسيّ في الاحتجاج، والشيخ في كتاب الغيبة عن صاحب الزّمانg ممَّا كتب في أجوبة مسائل محمد بن عبد الله بن جعفر الحميريّ حيث سأله عن: 
المرأة يموت زوجها، هل يجوز لها أن تخرج في جنازته أم لا؟ 
التوقيع: «تخرج في جنازته». 
وهل يجوز لها وهي في عدّتها أن تزور قبر زوجها؟ 
التوقيع: «تزور قبر زوجها ولا تبيت عن بيتها». 
وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حقٍّ يلزمها أم لا تخرج من بيتها في عدّتها؟ 
التوقيع: «إذا كان حقٌّ خرجت فيه وقضته، وإن كان لها حاجة ولم يكن لها من ينظر فيها خرجت لها حتى تقضيها، ولا تبيت إلا في منزلها». 
فالمتحصَّل: أنَّه مع الضَّرورة إلى الخروج فلا إشكال في جواز الخروج، وإن استلزم البيات في غير بيتها، ومع عدم الضرورة فإنَّه يرخّص لها الخروج لقضاء الحقوق التي يلزمها من عيادة مريض أو حضور تعزية ونحو ذلك من الحقوق التي يقوم بها النساء بعضهن لبعض، ونحو ذلك من الأمور المستحبّة، لكن لا تبيت إلا في بيتها، ولا ينافي ذلك الأخبار الدّالة على جواز الانتقال من منزل إلى آخر.
وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِه الطَّيبين الطَّاهرين


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا