حجّيّة العامّ بعد التّخصيص

حجّيّة العامّ بعد التّخصيص

الملخّص:

تم تسليط الضوء من قبل الكاتب على مسألة حجيّة العامّ بعد التخصيص بوصفها واحدة من أهم المسائل الأصولية وأكثرها عراقة على بساط البحث، وذلك عبر النظر في السيرة والمرتكزات العقلائيّة من خلال ما يتواءم معها من تكييفات وصياغات فنية للقول بالحجيّة على مستوى اتصال المخصص وانفصاله مع تغاير حالاته من الإجمال والتبيين وغيرهما.

المقدّمة

لا يخفى أنّ العامّ بعد ورود المخصّص عليه حجّة في باقي أفراده، غير ما أخرج بالتّخصيص عن حكمه، والشّاهد عليه من نهج العقلاء ومشيهم أمران، الأوّل: صحّة مؤاخذة المولى للعبد حال تخلّفه عن العمل به فيما لو كان إلزاميّاً، والآخر: صحّة اعتذار العبد حال التّمسّك به فيما لو كان ترخيصيّاً. 
والملاك في ذلك على الإجمال لديهم، هو إفادة هذا العموم -الّذي هو من صغريات حجّيّة الظّهور و تطبيقاتها- للظّنّ النّوعيّ وكاشفيّته عن المراد الجدّيّ، حتّى قيل: العبارات أمارات الإرادات.
هذا، وانعقاد السّيرة عليه أخذاً بالعموم الّذي هو في معرض التّخصيص - كسائر ما يخرج من جهة الولاية والحكم- أوضح، كيف لا؟ ويقتضيه تدرّجهم في التّشريع، وسنّ القوانين على ما تفرضه الطّبيعة البشريّة، القائمة على التّجارب والتّعلّم من الأخطاء، في سيرها نحو انتخاب ما يصلحها، من نظام به قوامها ودوام معاشها.
والشّارع المقدّس انسجاماً منه مع هذه الطّبيعة، ورعاية لها طفق يتدرّج في بيانه للأحكام، يضرب القاعدة العامّة أوّلاً، ويردفها ببيان آخر متمّم ومخصّص لها ثانياً.
يشهد على هذا محاولاته لاجتثاث جذور المنكر، وخلع ترسّبات الجاهليّة وأدرانها عن المسلمين الأوائل، قضيّة الخمر المعروفة وقصّة تحريمها؛ وعلى هذا المنوال يسير حتّى أنّه قد قيل: ما من عامّ إلّا وقد خصّ.
بل ذهب بعض الأعلام إلى أنّ آي الأحكام كلّها أو جلّها، ما نزلت إلّا لبيان أصل التّشريع، موكلة التّتميم لبيانات النّبوة والإمامة.
ومهما كان من شيء فبعد الفراغ من أصالة الظّهور وحجّيّتها، إمّا لتماميّة المقتضي: من بناء العقلاء وقيام مجتمعهم عليه، وإمّا لعدم تماميّة المانع: لعدم صلاحيّة الآيات - النّاهية عن العمل بالظّنّ- للرّدع؛ يقع البحث في مقامين الأوّل: في حجّيّة العامّ بعد طروّ المخصّص عليه، والثّاني: في حجّيّته قبل الفحص عن المخصّص، أي قبل الفحص عن المزاحم له في الحجّيّة.
والمبرر لمثل هذا البحث: تشخيص موارد الظّهور أوّلاً، والتّكييف الفنّيّ لبناء العقلاء على الأخذ بهذا الظّهور ثانيّاً، عبر تجزئة وتفكيك السّيرة تحليلاً واستقصاءً لها، في محاولة لاستكشاف ما عليه قام بناؤها، من ركائز ونكات يصحّ الاستناد لها، في الموارد الّتي لا شاهد على قيام السّيرة فيها، وهذا إنّما يتمّ على رأي المشهور، من أنّ إمضاء المعصوم لسيرة العقلاء إقرار لهم على مرتكزاتهم، وأمّا على القول بأنّ الإمضاء دليل صامت، لا يمكن التّوصّل منه لإمضاء ارتكاز العقلاء، فيبدو أنّ البحث هنا لا يجاوز تأريخ المسألة.
ويكفي البحثَ أهمّيّةً انسدادُ الباب على تقدير القول بعدم الحجّيّة؛ وذلك لاعتماد المعصوم على القرائن المنفصلة، كما ادُّعي وضياع كثير منها.

الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة

المبحث الأوّل: في تعريف العامّ والخاصّ: 

العامّ: اسم فاعل من عمّ، يعمّ، فهو عامم أدغمت اللّام مع العين؛ لمكان التّجانس، ومصدره الّذي اشتقّ منه العموم؛ وهو لغة بمعنى الشّامل والمستوعب، ومنه قولهم: خصب عامّ، ومطر عامّ، والبليّة إذا عمّت طابت، ويراد بالعموم اصطلاحاً: شمول الحكم لجميع أفراد موضوعه.
ويقابله لغة الخاصّ: اسم فاعل من الخصوص الّذي هو بمعنى الانفراد وعدم الاشتراك، ويراد بالتّخصيص اصطلاحاً: قصر الحكم على بعض الأفراد.

وهل هو وصف للّفظ أو للمعنى؟

ذهب جمهور المتقدّمين إلى الأوّل، غير أنّ الصّحيح وفاقاً لأغلب المتأخّرين الثّاني، ولا يتّصف اللفظ به إلّا بالعرض وعلى سبيل التّجوّز؛ وذلك لشدّة ملاصقته للمعنى من حيث دلالته عليه، أي لكونه بحالة يلزم من تصوّره تصوّر المعنى.
نعم، لا يبعد أنّه على الأوّل اصطلاح خاصّ في بابه، ولا مسرح لأصالة عدم النّقل فيه مع كونه ظاهر عباراتهم، من أنّ العامّ في الألفاظ نسبته إلى ما يدلّ عليه، نسبة الكلّيّ في المفاهيم لما ينطبق عليه، وكيف كان فالأمر سهل، لا يترتّب عليه كثير ثمرة لولا تعرّض بعض الأعلام له.

المبحث الثّاني: في أقسام العامّ وأنواعه:

وينقسم العامّ إلى أنواع عديدة، هي كالآتي:
الأوّل: العامّ الأفراديّ
مثاله: أكرم كلّ عالم، أكرم جميع العلماء.
ويسمّى بالعامّ الاستغراقيّ؛ لدلالته على انحلال الحكم بعدد الأفراد، انحلالاً استقلاليّاً يترتّب على كلّ منها امتثال وعصيان.
الثّاني: العامّ الأجزائيّ
مثاله: اقرأ كلّ الكتاب، أكرم مجموع العلماء.
ويسمّى بالعامّ المجموعيّ؛ لدلالته على انحلال الحكم بعدد الأجزاء انحلالاً ضمنيّاً مشروطاً، يترتّب على امتثال الكلّ امتثال واحد، وعلى مخالفة الجزء مخالفة المجموع وهو المركّب.
الثّالث: العامّ الأنواعيّ
مثاله: أكرم أيّ عالم.
ويسمّى بالعامّ البدليّ؛ لدلالته على انحلال الحكم بعدد الأفراد والأنواع، انحلالاً بدليّاً؛ للتّساوي فيما بينها.
الرّابع: العامّ الأحواليّ
مثاله: أكرم زيداً أيّاً يكن زيد.
الخامس: العامّ الزّمانيّ
مثاله: أكرم العالم أبداً.
وقد نوقش هذا التّقسيم باعتراضات ثلاثة:

الاعتراض الأوّل:

كبرويّ، وحاصله: إنّ ثبوت ما ذكر للعموم من أقسام كالاستغراقيّ والمجموعيّ والبدليّ، إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به ولاحق له، وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به، تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم، وأخرى يكون الجميع موضوعاً واحداً، وثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل.
ويرد عليه أوّلاً: إنّ العموم ليس هو شمول المفهوم لما ينطبق عليه؛ ضرورة عدم شمول هذا التّعريف لمثل أداتَي كلّ وأيّ وما شابه.
وثانياً: عدم صلاحيّة اسم الجنس، سوى إراءة الماهيّة من حيث هي هي، ولا صلاحيّة لها لإراءة شيء آخر كالأفراد، إلّا بضميمة مفهوم آخر يفتقر لما يدلّ عليه، كتنوين التّنكير في إفادته لتضييق المفهوم ودلالته على الوحدة، وما يتراءى من السّعة لجميع الأفراد كما هو في الإطلاق الشّموليّ، إنّما هو بلحاظ مرحلة المجعول، من جهة الانطباق على جميع الأفراد، بلحاظ التّحليل العقليّ؛ إذ الأحكام الشّرعيّة قضايا شرطيّة، وإن تلبّست بلبوس القضيّة الحمليّة، ومفادها وجود الحكم بوجود موضوعه، فالتّكثّر بلحاظ مرتبة المجعول لا مرتبة الجعل، الّتي يكون بحسبها التّطابق بين مرحلتي الإثبات والثّبوت.
فالصّحيح أنّ العامّ هو ما يصلح للدّلالة على استيعاب جميع أفراد مدخوله، وهو بهذا له الصّلاحيّة في إعطاء تصوّرات مختلفة باختلافه، كجميع العلماء، وأحد العلماء، ومجموع العلماء.

الاعتراض الثّاني:

صغرويّ، مفاده: إنّ العامّ لا يفيد سوى استيعاب جميع الأفراد، على نحو الشّموليّة والاستغراقيّة، وعدّ البدليّ من أقسامه تسامحيّ؛ باعتبار دلالته على عموم البدليّة دون الأفراد.
ويرد عليه أوّلاً: إنّ لحاظ الأفراد عرضيّ ينقسم إلى قسمين، بدليّ مفاده أكرم هذا أو ذاك أو ذلك، كما هو حاصل في مثل: أكرم أيّ عالم؛ والقسم الآخر شموليّ ينقسم بدوره إلى قسمين، الأوّل: يلحظ فيه جميع الأفراد على نحو الاستقلال، كما هو في مثل: أكرم جميع العلماء، والثّاني يلحظ فيه جميع الأفراد شيئاً واحداً، على نحو المجموع، كما في مثل: أكرم مجموع العلماء.
وثانياً: مفاد أداة "أي" التّسوية بين جميع الأفراد والأنواع على حدّ سواء، فكما تدل على شمول الطّبيعة لجميع الأفراد، تدلّ على شمول جميع حصص الطّبيعيّ، الّذي هو مصبّ الحكم على نحو الاستغراق.

الاعتراض الثّالث:

صغرويّ أيضاً، ومفاده: إنّ عدّ المجموعيّ من أقسام العامّ تسامحيّ؛ لأنّ ما أُخذ في موضوع الحكم بلحاظ مرتبة الجعل، ليس سوى أمراً واحداً هو المركّب، والتّكثّر إنّما هو بلحاظ مرحلة المجعول، وانحلال الحكم إلى أحكام ضمنيّة عديدة.
وفيه: ما عرفت من أداة العموم (كلّ) لا تفيد سوى الاستيعاب والشّمول، ويتوقّف كونه أجزائيّاً على لحاظ الأفراد شيئاً واحداً، وهو بحاجة إلى مؤنة زائدة تدلّ عليه.

المبحث الثّالث: في الفرق بين الإطلاق والعموم:

ذُكرت في مقام التّفريق بين بابَي العموم والإطلاق جملةُ وجوه، أبرزها الآتي:

الأوّل: إنّ مصبّ الحكم في العموم الأفراد، ومصبّ الحكم في المطلقات الطّبيعة

ويرد عليه: إنّ من المطلق ما يكون مصبّ الحكم فيه الأفراد، ومثاله: أكرم علماء البلد، أو أكرم العلماء، على القول بأنّ إفادة الجمع المحلّى باللّام للعموم من باب الإطلاق لا الوضع، والقرينة في المثالين على تعلّق الحكم بالأفراد، هيئة الجمع؛ فإنّ الطّبيعة بما هي هي لا تكثّر فيها، وحيثما فرضت الكثرة في الطبيعة فللتّسامح، من باب تكثّر الأفراد والأنواع.

الثّاني: توقّف المطلق في إفادته للشّمول والاستيعاب على تماميّة مقدّمات الحكمة، دون العام

وهذا يرد عليه: عدم تماميّته إلّا على مباني بعض، دون بعض آخر كالآخوند والميرزا، على ما تشي به عبارة الأوّل في الكفاية، حيث قال: "لا ينافي دلالة مثل لفظ كلّ، على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله؛ ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة"، وعلى ما يظهر من الثّاني في بعض تقريرات أبحاثه حيث يقول: "لا تستعمل أبداً [الأداة] إلّا في معناها الموضوع له، أعني به تعميم الحكم، لجميع أفراد ما أريد من مدخولها".

الثّالث: دلالة العامّ على الاستيعاب بالوضع، وفي مرحلة المدلول التّصوريّ، بينما دلالة المطلق عليه بقرينة الحكمة، وفي مرحلة المدلول التّصديقيّ

ويرد عليه أيضاً: عدم تماميّته إلّا على مبنى متأخّري الأصوليّين؛ حيث ذهبوا إلى أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة المطلقة، دون أسلافهم من المتقدّمين على سلطان العلماء؛ حيث ذهبوا إلى أنّ اسم الجنس موضوع للماهية المطلقة، السّارية في جميع الأفراد.
غير أنّ الصّحيح عدم تماميّة الإيرادين الثّاني والثّالث؛ لعدم تماميّة المبنيين.
أمّا الثّالث؛ فلبداهة أنّ استعمال اسم الجنس في المقيّد -على تقدير الوضع للمطلق- تجوّزٌ، وهو مصادم للوجدان؛ من كون استعمال الجنس في المطلق والمقيد على حدّ واحد من دون عناية تبذل؛ على أنّ في صحّة النّسبة للمتقدّمين تأمّلاً كبيراً؛ لعدم وجود شاهد عليه، بل الشاهد على خلافه.
وأمّا الثّاني؛ فللزوم اللغْويّة من وضع الأداة لإفادة العموم، على تقدير توقّف دلالتها على تماميّة مقدّمات الحكمة وفي طولها، ولا يرفع اللغْويّة إفادتها للتّأكيد؛ بداهة أنّه لا يتحقق إلّا فيما كانت دلالته على نحو الاستقلال لا التّبع.
ويدفع هذا الإشكال بأنّ غاية ما يفيده الإطلاق الاستيعاب والشّمول، دون تعيين مصبّ الحكم، بخلاف الأداة؛ فإنّها تتولّى تعيين أنّ مصبّ الحكم هو الأفراد لا الطّبيعة، وثانياً دلالته على الشّموليّة، في عرض دلالة الأداة لا في طولها فيتمّ التّأكيد.
إلّا أنّ تبعيّة الدّلالة للإرادة، يفترض فيه عدم تحقّقها في موارد انعدام الإرادة، وهو مصادم للوجدان.

المبحث الرّابع: في أدوات العموم: 

ذهب جمع إلى أنّ العامّ ليس له ألفاظ تخصّه، وإنّما هي له وللخصوص على سبيل الاشتراك اللفظيّ، أو للقدر المتيقّن المشترك بينهما -على سبيل الاشتراك المعنويّ- وهو أدنى مراتب الجمع، أو للخاصّ وحده؛ إذ ما من عامّ إلّا وقد خصّ، أي ما من لفظ ادّعي دلالته على العموم إلّا وأريد منه الخاصّ، وهذا بطبيعته مستلزم للتّجوّز، وحيث إنّ الأصل عدمه، يثبت عدم اختصاصها به؛ حذراً من كثرة وقوع التّجوّز فيه.
وهنا وقع بين الأعلام بحثان، أحدهما كبرويّ ثبوتيّ يتناول معالجة الشّبهة، والآخر صغرويّ إثباتيّ، يتناول بالتّحقيق ما ادّعي دلالته على العموم، وأنّها على أيّ وجه، هل هي بالوضع وفي مرحلة المدلول التّصوريّ، أم بالإطلاق ومقدّمات الحكمة وفي مرحلة المدلول التّصديقيّ؟

البحث الثّبوتيّ:

لا شكّ في دلالة جملة من الألفاظ على الاستيعاب والشّمول، في مرحلة المدلول التّصوريّ، كما لو صدرت من غير ذي شعور كالنّائم والببّغاء، ولا مجال للتّمسك بأصالة الحقيقة، إثباتاً للتّجوّز مع عدم الشّكّ في المراد الاستعماليّ، وإن كان ثمّة شكّ في كيفيّة دلالته، وأنّها على سبيل الحقيقة أم المجاز، فإنّه ممّا لا يترتب عليه أثر عمليّ.

البحث الإثباتيّ:

في أسماء العدد كالتّسعة والعشرة:
كما في قولك: أكرم هؤلاء العشرة؛ فإنّ دلالته على استيعاب الحكم لجميع الآحاد، وهي أجزاء العشرة ممّا لا يخفى.
وقد قيل: إنّ في عدّ أسماء العدد ضمن أدوات العموم إشكالاً؛ من جهة أنّها إنّما تدلّ على الاستيعاب الأجزائيّ، دون الأفراديّ كما هو الأمر في باب العموم، غير أنّ الصّحيح -كما عرفت- أنّ الاستيعاب الأجزائيّ، داخل في باب العموم ولا وجه لقصره بالعموم الأفراديّ.
نعم، الصّحيح هو أن يقال: بأنّ عدّ أسماء العدد ضمن أدوات العموم، يتوقّف على البناء بمذهب الآخوند: من أنّ العموم هو استيعاب المفهوم لجميع أفراده، أي لجميع ما ينطبق عليه، وأمّا على القول بمقالة المحقّق العراقيّ: من أنّ العموم هو استيعاب مفهوم لجميع أفراد مدخوله، كما هو الصّحيح؛ لما عرفت من أنّ الطّبيعة لا تري الأفراد، إلّا بضميمة مفهوم وتصوّر ذهنيّ آخر، لا يتّجه الإشكال كما هو واضح.
على أنّه حتّى على القول الأوّل، لا يتّجه الإشكال أيضاً؛ لأنّ الواحد ليس منطبقاً لمفهوم العشرة.

النّكرة في سياق النّهي أو النّفي:

فإنّها ممّا ادّعي دلالته على الاستيعاب والشّمول، خلافاً للنّكرة الواقعة في سياق الإثبات، ولا شكّ في ذلك. 
إنّما الكلام في وجه إفادتها للاستيعاب والشّمول، وأنّه بالوضع أم لا؟ والصّحيح -وفاقاً لأغلب المحقّقين- أنّ الدّلالة مرتبطة بمرحلة المدلول التّصديقيّ؛ لتوقّفها على القرينة العقليّة القائلة: بأنّ انعدام الطّبيعة بانعدام جميع أفرادها، وأنّه لا خصوصيّة للنّكرة بل الخصوصيّة للمورد وهو سياق النّفي أو النّهي؛ فإنّ اسم الجنس المحلّى باللّام تجري فيه هذه النّكتة أيضاً، وأنّه لا بدّ من جريان مقدّمات الحكمة؛ لإثبات أنّ ما يراد إعدامه هو الطّبيعة المطلقة لا المقيّدة.
وقد أشكل البعض بعدم تماميّة القرينة العقليّة، إلّا على مذهب الرّجل الهمدانيّ: من أنّ نسبة الطّبيعيّ للأفراد هي نسبة الأب الواحد إلى الأبناء، مع أنّ الصّحيح هو أنّ نسبة الطّبيعيّ للأفراد هي نسبة الآباء للأبناء، فيكون انعدام الطّبيعيّ بانعدام فرده الخاصّ به؛ وفيه: أنّه خلط بين المسألة الفلسفيّة الّتي موضوعها الكلّيّ الطّبيعيّ، وبين المسألة الأصوليّة الّتي موضوعها العناوين والصّور الذّهنيّة؛ فإنّها منحفظة بانحفاظ محلّ انطباقها، وتنعدم بانعدام محلّ انطباقها.

الجمع المحلّى باللّام:

في دلالة الجمع المحلّى باللّام للاستيعاب والشّمول، وأنّه بالوضع فيدخل في أدوات العموم، أم هو بالإطلاق فيتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة؟ قولان أقواهما الأخير.
وبيان ذلك يتوقّف على تحديد الأنحاء المتصوّرة لإفادة الجمع المحلّى باللّام للاستيعاب والشّمول ثبوتاً، ومن ثمّ تحديد المتعيّن منها إثباتاً:

البحث الثبوتي:

ويقع تارة على وفق نظريّة الآخوند في باب العموم، وأنّه استيعاب المفهوم لأفراد نفسه، أي لجميع ما يصلح للانطباق عليه، وأخرى على وفق نظريّة المحقّق العراقيّ: من أنّ العموم هواستيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر.
وعلى النّظريّة الأولى حيث يتّحد المفهوم المستوعِب مع المفهوم المستوعَب، نفترضه في هيئة الجمع بناء على أنّ مدلولها معنى اسميّ، وهذا الفرض له أربع صور، وأخرى نفرضه في مادّة الجمع، بناء على أنّ مدلول هيئته معنى حرفيّ، وهذا الفرض صوره ثلاث.
الفرض الأوّل: المستوعِب والمستوعَب هو هيئة الجمع، بناء على وضعها للجامع بين مراتب الجمع والمستوعب لها:
الصّورة الأولى: استيعاب هيئة الجمع لأفراد الطّبيعيّ فرداً فرداً، ويرد على هذه الصّورة أنّ الفرد ليس منطبقاً ومصداقاً لهيئة الجمع.
الصّورة الثّانية: استيعاب الهيئة لجميع مصاديق المرتبة الدّنيا من الجمع، أي كلّ ثلاثة ثلاثة.
ويرد عليها: عدم اختصاص الهيئة بهذه المرتبة، وانطباقها على مراتب أخرى من الجمع.
الصّورة الثّالثة: اختصاص الهيئة للمرتبة العليا من الجمع.
وهذه الصّورة يرد عليها مضافاً لما يرد على سابقتها، عدم كونها من صور الاستيعاب والشّمول حقيقة، وإن كانت نتيجتهما واحدة.
الصّورة الرّابعة: أن يقال باستيعاب هيئة الجمع لجميع مراتبه ومصاديقها، مع حذف المكرر منها؛ لوجود قرينة ارتكازيّة بالتّداخل، ولا يرد على هذا النّحو شيء ممّا تقدّم.
الفرض الثّاني: المستوعِب والمستوعَب مادّة الجمع، بناء على أنّ مدلول كلّ من اللّام والهيئة معنى حرفيّ:
النّحو الأوّل: دلالة كلّ من اللّام والهيئة على الاستيعاب والشّمول في عرض واحد بشكل استقلاليّ.
ويرد عليه: عدم تعدّد الصّورة الذّهنيّة للاستيعاب وجداناً.
النّحو الثّاني: دلالة كلّ منهما على الاستيعاب والشّمول، بشكل عرضيّ بنحو انضماميّ.
ويرد عليه: لزوم القول بتعدّد الوضع في الهيئة، بين تجرّدها عن اللّام وبين دخول اللّام عليها، بحيث يكون الوضع الأوّل للمفرد، والوضع الثّاني للمركّب.
النّحو الثّالث: دلالة كلّ منهما على الاستيعاب والشّمول بشكل طوليّ.
ويرد عليه وعلى جميع ما تقدّم، بطلان المبنى وفساده؛ إذ إنّ العنوان لا يُرى فانياً في أفراده، إلّا بضميمة مفهوم آخر وصورة ذهنيّة أخرى.
فالمتعيّن أنّ دلالة الجمع المحلّى باللّام على الاستيعاب والشّمول، هو من باب استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر، على وفق النّظريّة الثّانية في باب العموم، وأنّه يتحقّق بواسطة ثلاث دوال اللّام، هيئة الجمع بناء على كونها تفيد معنى اسميّاً ومادّة الجمع.

البحث الإثباتيّ:

في وجه إفادة اللّام للاستيعاب والشّمول، وقد ذُكر في المقام تقريبان:
التّقريب الأوّل: وحاصله أحد وجهين، إمّا القول: بأنّ اللّام قد وضعت ابتداء لإفادة العموم، وهذا يرد عليه: لزوم القول بالاشتراك اللفظيّ؛ بداهة أنّ من معانيها العهد والتّعيين ولا جامع بينهما، والأصل على خلافه؛ وإمّا أن يقال: بوضعها للمركّب منها ومن هيئة الجمع لإفادة العموم، وهذا يرد عليه إشكال اللغْويّة؛ بداهة عدم الحاجة لاستئناف وضع جديد للمركّبات، بإزاء الوضع للمفردات.
على أنّه يرد على هذا التّقريب، النّقض بموارد الجمع المضاف إلى معرفة، كقولك: أكرم علماء البلد؛ فإنّ دلالته على الاستيعاب والشّمول ممّا لا يخفى، والشّاهد عليه صحّة الاستثناء منه، وهو إخراج ما لولاه -الاستثناء-لدخل في المستثنى منه.
التّقريب الثّاني: وحاصله -بعد الفراغ من أنّ اللّام قد وضعت لجامع العهد والتّعيين الذّكري والذّهنيّ والخارجيّ، وقيام القرينة على إرادة خصوص الأخير -الخارجيّ- منها- أحد وجهين:
الأوّل، أن يقال: إنّ مصبّ التّعيين هو هيئة الجمع، وحيث إنّه لا تعيّن خارجيّ سوى للمرتبة العليا منه، نستفيد الاستيعاب والشّمول لجميع الأفراد، ولا يضرّ به التّعيين الماهويّ الذّهنيّ لكلّ مرتبة من مراتب الجمع؛ لعدم القرينة عليه وقيامها على إرادة التّعيين الخارجيّ للأفراد، بحسب المرتكز العرفيّ لهيئة الجمع.
الثّاني، أن يقال: إنّ مصبّ التّعيين هو مادّة الجمع، وأمّا هيئة الجمع فهي قرينة على أنّ التّعيين للأفراد لا الطّبيعة، وهذا الوجه يفسّر لنا ما نحسّه وجدانا، من انحلاليّة الحكم على نحو الاستغراق، دون سابقه فإن غاية ما يفيد الاستيعاب المجموعيّ للحكم. كما أنّه يؤيّد هذا التّقريب ويقوّيه على الأوّل، ما نحسّ به وجداناً من الإجمال في موارد العهد الذّكريّ.

الفصل الثّاني: في حجّيّة العامّ بعد التّخصيص

المبحث الأوّل: في حجّيّة العامّ بعد التّخصيص بالمبيّن:

ربما قيل بالمنع من حجّيّة العامّ بعد التّخصيص في الباقي؛ لكونه تجوّزاً، وحيث لا معيّن لإحدى مراتبه على الأخرى إلّا بالكمّ فيلزم الإجمال، والأنس الحاصل من الزّيادة في الكمّ لا يكون حجّة، ما لم يبلغ مرحلة الظّهور.

حجّيّة العامّ بعد التّخصيص بالمتّصل:

ومن الواضح أنّ هذا الإشكال، على تقدير اتّصال المخصّص مندفع لا موقع له، فإنّ التّجوّز إمّا يفرض في طرف الأداة، ومن الواضح أنّها لم توضع إلّا لاستيعاب جميع أفراد المدخول، الأعمّ من كونه الطّبيعة المطلقة أو المقيّدة، وإمّا أن يفرض التّجوّز في طرف المدخول، وهو اسم الجنس، ومن الواضح أنّه لم يوضع إلّا للطّبيعة المهملة، وذكر القيد متّصلاً لا يكون منافياً ومصادماً لها.

حجّيّة العامّ بعد التّخصيص بالمنفصل:

نعم، على تقدير انفصال المخصّص يتّجه إشكال التّجوّز؛ لانعقاد الظهور في العامّ، ولأنّه حينئذ يكون من استعمال العامّ وإرادة الخاصّ به.
وقد برزت ثلاث محاولات في معالجة هذا الإشكال:
المحاولة الأولى: ومفادها أنّ العامّ المخصّص بالمنفصل، وزانه وزان العامّ المخصّص بالمتّصل؛ وذلك أنّه لا ينعقد للعامّ ظهور من أوّل الأمر، يتصادم مع انفصال القيد؛ إمّا لأنّ من مقدّمات الحكمة عدم ذكر القيد ولو منفصلاً، كما هو مبنى الميرزا النّائينيّ خلافاً للمشهور، وإمّا لأنّ الأداة وضعت لجميع ما لم يستثنَ، ويرد على هذين الوجهين: لزوم الإجمال وعدم انعقاد ظهور للعموم أو الإطلاق؛ لكونه متوقّفاً على ما يترقّب، وهو مخالف للوجدان.
أو أن يقال بانعقاد الظّهور للعموم أو الإطلاق، كما هو حاصل وجداناً -خلافاً لما التزم به الميرزا النّائينيّ من مبنى- غير أنّ الأداة موضوعة لإفادة استيعاب جميع أفراد المراد الواقعيّ، فيكون مجيء القرينة المنفصلة كاشفاً عن ضيقه من أوّل الأمر، وهذا يرد عليه وعلى ما تقدّم عليه: التّوقّف على الرّبط بين المدلول التّصوريّ وبين المدلول التّصديقيّ، بحيث يكون الأوّل متوقّفاً على الثّاني وفي طوله، وهو غير معقول.
المحاولة الثّانية: للآخوند الخراسانيّ، وتقوم على افتراض أنّ للكلام ظهورين تصديقيّين، الأوّل: ظهور استعماليّ يتمثّل بإرادة إخطار المعنى في ذهن السّامع ويعرف بأصالة الحقيقة، والثّاني: ظهور تصديقيّ، يتمثّل بكون المتكلّم في مقام الجدّ لا الهزل، ويعرف بأصالة التّطابق بين مقامي الثّبوت والإثبات.
وفي موارد التّخصيص ينخرم خصوص الظّهور التّصديقيّ الثّاني ذاتاً، كما في المتّصل أو حجّيّة كما في المنفصل، مع انحفاظ الظّهور التّصديقيّ الأوّل وعدم انخرامه، وبهذا تعالج مشكلة الإجمال؛ لعدم التّجوّز الّذي هو من شؤون الظّهور التّصديقيّ الأوّل الّذي لم ينخرم، مع الالتزام بالانحلاليّة في مرحلة الظّهور التّصديقيّ الثّاني إلى ظهورات عديدة، والتّبعيض بينها في الحجّيّة، بالمقدار الّذي لا تهدمه القرينة المنفصلة.
المحاولة الثّالثة: للشّيخ الأعظم ومفادها أنّ العامّ في مرحلة الظّهور الاستعماليّ منخرم غير أنّه انحلاليّ، أي أنّه ينحلّ إلى ظهورات عديدة بعدد أفراده الّتي يراد إخطارها في الذّهن، ومجيء المخصّص لا يوجب إلّا انخرام بعض بمقدار ما يستلزمه التّخصيص، وأمّا باقي الظّهورات فهي على الحجّيّة لعدم الانخراط.
وقد أشكل تلميذه الآخوند على هذه المحاولة: بأنّ الظّهور الاستعماليّ ظهور وحدانيّ لا انحلاليّة فيه؛ لأنّه ليس سوى إرادة إخطار المعنى في الذّهن، وحيث إنّ المعنى واحد، فإنّه لا يتبعّض إلى مداليل تضمّنيّة بعدد أجزائه، وعليه تسقط الدّلالة التّضمنيّة عن الحجّيّة، تبعاً لسقوطها عن المطابقيّة.
وقد أجاب الشّهيد الصّدر عن هذا الإشكال، بعدم تماميّته إلّا على القول بأنّ الدّلالة الاستعمالية دلالة وضعيّة كما هو مسلك التّعهّد؛ فإنّه لاستلزامه الاشتراك اللفظيّ الباطل بالوجدان، لا يصحّ افتراض الانحلاليّة فيه؛ لأنّه إنّما يتعهّد بإتيان لفظ ما لإخطار معنى واحد، لا لإخطار معان متعدّدة؛ وأمّا لو قيل: بأنّ الدّلالة الاستعماليّة دلالة تصديقيّة محضة، فإنّه لا يتمّ هذا الإشكال؛ لعدم استلزامه للاشتراك، وإن شئت قلت: بأنّ الظّهور الاستعماليّ ينحلّ إلى ظهورين، الأوّل: إرادة إخطار المعنى الحقيقيّ، والثّاني: إرادة إخطار المعنى الحقيقيّ بتمامه، وهذا الثّاني هو الّذي ينحلّ إلى ظهورات عديدة بعدد أجزاء المعنى الّتي يراد إخطارها؛ والظّهور الأوّل ينخرم بمجاز المشابهة، والظّهور الثّاني ينخرم بمجاز استعمال الكلّ في الجزء.

المبحث الثّاني: في حجّيّة العامّ بعد التّخصيص بالمجمل مفهوماً:

وهذا البحث متمّم لسابقه؛ فحيث يفرغ من حجّيّة العامّ في باقي أفراده، يقع البحث في أنّ العامّ هل هو حجّة في تمام الباقي؟، علم بعدم خروجه عن العامّ ودخوله في المخصّص أم لم يعلم، أو هو حجّة في خصوص ما علم بدخوله في العامّ. وللمسألة أربعة فروع -إذ إنّ المخصّص إمّا متّصل وإمّا منفصل، وعلى التّقديرين إمّا أن يدور بين المتباينين، وإما أن يدور بين الأقلّ والأكثر-، يقع الكلام بينها تباعاً.

الفرع الأوّل: 

والكلام في أنّ العامّ بعد ورود المخصّص المتّصل عليه، المجمل الدّائر بين الأقلّ والأكثر مفهوماً، ومثاله: أكرم العلماء إلّا الفسّاق -الدّائر أمرهم بين مطلق مرتكب الذّنب وهو الأكثر، وبين خصوص مرتكب الكبيرة وهو الأقلّ- هل هو حجّة؛ لعدم سريان الإجمال إليه وتماميّته ظهوراً، فيصحّ التّمسّك به موردَ الشّكّ وهو مرتكب الصّغيرة، أم ليس بحجّة لسريان إجمال المخصّص إليه؟
والصّحيح وفاقاً للأغلب أنّ الحجّيّة فرع انعقاد الظّهور في العامّ، والقرينة المتّصلة مانعة من انعقاده، فيكون ذو القرينة مجملاً لإجمال القرينة.
لا يقال: إنّ كون المتكلّم في مقام الجدّ، يقتضي عدم اتّكائه على المجمل من الكلام؛ كونه مخلًّا بغرضه وهو خلاف الحكمة، فنمنع من سريان الإجمال.
فإنّه يقال: إنّ الإجمال النّاشئ من الجهل بأوضاع اللغة، لا يتنافى مع كون المتكلّم في مقام الجدّ، مع كونه يجري على وفق نظام المحاورة العامّ؛ إذ ما أكثر الجاهلين باللغة.
كما لا يقال: إنّا نتمسّك بأصالة عدم القرينة؛ لتنقيح موضوع الحجّة وهو الظّهور.
فإنّه يقال: إنّ المراد من أصالة عدم القرينة أحد أمرين، الأوّل: أصل تعبّديّ وهو استصحاب عدم القرينة، ومن الواضح عدم صحّة جريانه؛ لكونه مثبتاً إذ إنّ الظّهور أثر تكوينيّ ليس بشرعيّ.
والثّاني: أصل عقلائيّ، ومن الواضح عدم جريانه إلّا في مورد تتمّ فيه نكتة الكاشفيّة، ولا تنعدم كما في المقام، مثلما لو شكّ في القرينة المتّصلة؛ لاحتمال الغفلة عنها فإنّها تنفى؛ لأصالة عدم الغفلة، أو شككنا في القرينة المنفصلة فإنّها تنفى؛ لظهور حال المتكلّم في مقام تمام مرامه بشخص كلامه.

الفرع الثّاني:

الكلام في أنّ العامّ بعد ورود المخصّص المتّصل عليه، المجمل الدّائر بين المتباينين مفهوماً، ومثاله: أكرم العلماء غير المولى -الدّائر أمره بين السّيّد والعبد- هل هو حجّة؛ لعدم سريان الإجمال إليه، وتماميّته ظهوراً، فيصحّ التّمسّك به في مورد الشّكّ، أم ليس بحجّة لسريان الإجمال إليه؟
والمعروف بين الأعلام عدم صحّة التّمسّك بالعامّ، في مورد كلّ من المحتملين؛ لعين ما تقدّم في الفرع الأوّل: من أنّ القرينة على تقدير الاتّصال هادمة لأصل الظهور، ولا أقلّ من كونها هادمة لخصوص الحجّيّة ولا تكون أسوأ من المنفصلة، وحيث إنّه يعلم بسقوط أحد المحتملين عن الحجّيّة، لا يصحّ التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة؛ للاشتباه بين الحجّة واللاحجّة.
نعم، فرق هذا الفرع عن سابقه، أنّه في الأوّل تجري أصالة البراءة في مورد الشّكّ، وفي الثّاني تجري أصالة الاشتغال؛ لمكان العلم الإجماليّ بتعلّق حكم العامّ بأحد المحتملين، اللذَين لم يعلم بخروج أحدهما عنه واقعاً.

الفرع الثّالث:

الكلام في أنّ العامّ بعد ورود المخصّص المتّصل عليه، المجمل الدّائر بين الأقلّ والأكثر مفهوماً، هل هو حجّة؛ لعدم سريان الإجمال إليه، وتماميّته ظهوراً، فيصحّ التّمسّك به مورد الشّكّ وهو مرتكب الصّغيرة؟، أم ليس بحجّة؛ لسريان إجمال المخصّص إليه حاله حال المتّصل؟
والمتعيّن في هذا الفرع، وفاقاً للأغلب صحّة التّمسك بالعامّ في مورد الشّكّ، وهو مرتكب الصّغيرة في مثال الفاسق؛ لتماميّة الظهور فيه، والقرينة المنفصلة لا تكون هادمة له، لأنّ الشّيء لا ينقلب عمّا وقع عليه؛ دون التّمسّك بالخاصّ، لكونه مجملاً لم ينعقد فيه ظهور إلّا بالقدر المتيقّن، أي الأقلّ وهو مرتكب الكبيرة، فلا يكون مانعاً من التّمسّك بظهور العامّ؛ إذ إنّ ما فيه اقتضاء الحجّيّة لا يزاحم ما ليس فيه اقتضاء الحجّيّة.
إلّا أن يقال: بمسلك الميرزا النّائينيّ: من أنّ استفادة العموم في طول جريان مقدّمات الحكمة، الّتي من جملتها عدم البيان ولو منفصلاً؛ فإنّ العامّ يبتلى حينئذ بالإجمال. غير أنّ الصّحيح عدم تماميّة هذا المسلك؛ لوضوح بناء العقلاء على الظّهور، المنعقد من العموم والإطلاق المحسوس وجداناً لدينا.

الفرع الرّابع: 

الكلام في أنّ العامّ بعد ورود المخصّص المتّصل المجمل عليه، الدّائر بين المتباينين مفهوماً، هل هو حجّة؛ لعدم سريان الإجمال إليه، وتماميّته ظهوراً، فيصحّ التّمسّك به في مورد الشّكّ، أم ليس بحجّة؛ لسريان الإجمال إليه، كما هو الحال في المتّصل؟
وهذا الفرع يشبه الثّاني في النّتيجة، غاية الأمر أنّ المجمل حال الاتّصال يهدم أصل الظهور، وعلى تقدير الانفصال يهدم الحجّيّة؛ فلا يصحّ التّمسّك بالعامّ في مورد الشّكّ، وهو المولى كما في المثال، بلحاظ كلّ من المحتملين معاً؛ للعلم الإجماليّ بسقوط أحدهما عن الحجّيّة، ولا يصحّ التّمسّك بالظهور بلحاظ أحدهما غير المعيّن؛ لكونه ترجيحاً بلا مرجّح، إلّا في حالة واحدة، وهي ما لو علم بخروج أحد الفردين عن حكم العامّ؛ لمكان مجيء مخصّص آخر غير المجمل، فإنّه يصحّ التّمسّك بالعامّ، بلحاظ الفرد الآخر؛ لارتفاع محذور التّرجيح بلا مرجّح، فيما يمكن أن يجعل فارقاً عمليّاً، بين الفرع الثّاني والرّابع مضافاً للفارق النّظريّ.

المبحث الثّالث: في حجّيّة العامّ بعد التّخصيص بالمجمل مصداقاً:

بعد الفراغ من جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المفهوميّة، حال انفصال المخصّص ودورانه بين الأقلّ والأكثر، يقع الكلام عن جواز التّمسّك به في الشّبهة المصداقيّة على هذا الفرض، والأعلام في جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة حال انفصال المخصّص على أقوال، ثالثها: التّفصيل بين القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة، ورابعها: التّفصيل بين المخصّص اللفظيّ والمخصّص اللبّيّ.
وما يمكن أن يقال في تقريب وجه الجواز والمنع: هو أنّ العامّ ظاهر في انحلاليّة الخطاب بعدد الأفراد في مرحلة الجعل، وهذا الظّهور المنطبق على مورد الشّكّ - وهو مرتكب الصّغيرة في مثال الفاسق- فيه اقتضاء الحجّيّة، وما فيه اقتضاء الحجّيّة لا يزاحم بما ليس فيه الاقتضاء، وهو المخصّص الّذي لم ينعقد فيه الظّهور، إلّا بمقدار الأقلّ - وهو مرتكب الكبيرة في المثال- فمرتكب الصّغيرة العالم كان منطبقاً لظهور العامّ، وبعد مجيء المخصّص المنفصل، لا يزاحم ظهور الأوّل بظهور الثّاني.
وتماميّة هذا التّقريب مبتنية على أنّ الخاصّ غير موجب لتعنون العامّ؛ لكون الخروج بالتّخصيص من باب موت الأفراد، كما هو مبنى المحقّق العراقيّ. 
وأمّا لو قيل كما هو الصّحيح وفاقاً للميرزا النّائينيّ: من أنّ الخاصّ موجب لتعنون العامّ؛ لأنّه كاشف عن الضّيق في المراد الواقعيّ، فإنّ التّقريب لا يتمّ؛ لعدم إحراز انطباق العامّ على المشتبه مصداقاً، وقياس الضّيق النّاشئ بالتّخصيص، والضّيق النّاشئ بموت الأفراد، خلط بين مرحلتي الجعل والمجعول.
وحيث إنّ المحقّق العراقيّ من القائلين بالمنع، ذكر تقريباً آخر للجواز، ينسجم مع ما يتبنّاه من عدم عنونة الخاصّ للعامّ، ومفاده: أنّ جواز التّمسّك بالعامّ، متوقّف على ظهور حال المتكلّم في التّصدّي لإحراز أفراد الموضوع، فينحلّ العامّ إلى ظهورين، الأوّل: إنشاء الحكم، والثّاني: الإخبار عن أفراد موضوعه؛ وحيث إنّ المولى العرفيّ كثيراً ما يشتبه في تحديد مصاديق الحكم، والمولى الحقيقيّ يتعامل معاملة المولى العرفيّ لا بكونه كشّاف الغيوب، فإنّه يترك مهمّة الإحراز للمخاطب، لينحصر الظّهور في الأوّل وهو إنشاء الحكم، دون الثّاني وهو الإخبار عن أفراد موضوعه.

التّفصيل بين القضيّة الحقيقيّة وبين القضيّة الخارجيّة:

ثمّ إنّ ما ذكره المحقّق العراقيّ: من تقريب للقول بالمنع من التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة، يختصّ بالقضيّة الحقيقيّة - الّتي يجعل الحكم فيها على الموضوع الكلّي مقدّر الوجود- دون القضيّة الخارجيّة - الّتي يجعل الحكم فيها على الموضوع الشّخصيّ- ، فإنّها ظاهرة في التّصدّي لإحراز موضوع الحكم، فيصحّ حينئذ التّمسّك بالعامّ في مورد الشّكّ.
إلّا أن يقال: بأنّ التّخصيص قرينة عرفيّة على ترك المولى التّصدي لإحراز الموضوع والاتّكال في ذلك على المكلّف.

التّفصيل بين المخصّص اللفظيّ والمخصّص اللبّيّ:

وهذا التّفصيل يمكن أن يجعل متمّماً للتّفصيل السابق حيث قيل: إنّ تماميّة التّمسّك بالعامّ في القضيّة الخارجيّة، يتوقّف على عدم قرينيّة التّخصيص؛ لترك المولى التّصدي لإحراز موضوع الحكم، وهذا إنّما يتناسب مع المخصّص اللفظيّ، أمّا المخصّص اللبّيّ النّظريّ غير البديهي - الّذي هو بمثابة اللفظيّ المنفصل- لا يشكّل قرينة لدى العرف لعدم صلاحيّة الاتّكاء عليه في مقام التّخاطب والبيان.

المبحث الرّابع: في جواز التّمسّك بالعامّ لإثبات التّخصص:

يقع البحث فيما إذا علم بخروج فرد عن حكم العامّ ودار الأمر بين التّخصّص والتّخصيص، فهل يصحّ التّمسّك بأصالة العموم؛ لإثبات التّخصّص أم لا؟ والأثر العمليّ المترتّب على الأصل نفي بقيّة الآثار الثّابتة لموضوع العامّ بأدلّة أخرى عن الفرد؛ ومن التّطبيقات الفقهيّة لهذا البحث، ما ورد في الاستدلال الفقهيّ، من عدم نجاسة ماء الاستنجاء لعدم الحكم بنجاسة ملاقيه.
ومشهور العلماء على جواز التّمسّك بالعامّ؛ لإثبات التّخصّص، وأحسن ما يمكن أن يقال في تقريب وجه الجواز، بعد الفراغ من حجّيّة مثبتات الأمارات والأصول اللفظيّة: هو أنّ العامّ كقضيّة حمليّة حقيقيّة هي لبّاً قضيّة شرطيّة مفادها ثبوت الحكم عند ثبوت الموضوع، فتنعكس بعكس النّقيض: إلى أنّ ما لم يثبت له الحكم غير داخل في أفراد الموضوع، فقولك: كلّ نجس ينْجس ملاقيه، ينعكس إلى أنّ: ما لا ينْجس ملاقيه ليس بنجس، وهذه النّكتة كما ترى، لا تختصّ بباب العامّ بل هي أيضاً جارية في باب المطلق لو تمّت، فيتمسّك فيه بأصالة الإطلاق؛ لإثبات عدم التّقييد، كما أنّ هذا التّقريب يختصّ بالقضيّة الحقيقيّة دون الخارجيّة، إذ إنّ الحكم في الأخيرة مجعول على الموضوع الشّخصيّ المحقّق الوجود، وإن كان أمراً مستقبليّاً، لا أنّه مجعول على الموضوع الكلّيّ المقدّر وجوداً كما في الحقيقيّة، فترجع لبّاً حينئذ إلى قضيّة شرطيّة، المقدّم فيها ثبوت الموضوع والتّالي فيها ثبوت المحمول.
وذهب جمع من الأعلام إلى القول بالمنع؛ وذلك لأنّ القدر المتيقّن من الدّليل اللبّيّ - الّذي لا لسان له فلا إطلاق له يتمسّك به وهو السّيرة العقلائيّة- جريان الأصل؛ لتشخيص المراد لا لتعيين نحو المراد؛ ولذا منع الأغلب من التّمسّك بأصالة الحقيقة لتشخيص الوضع خلافاً للسّيّد المرتضى، فيقال هنا: بأنّه بعد الفراغ من الخروج الحكميّ للفرد عن موضوع العامّ، لا يصحّ التّمسّك بأصالة العموم؛ لإثبات أنّه من الخروج الموضوعيّ الحقيقيّ؛ إذ يكون حينئذ من التّمسّك بالأصل في تشخيص نحو المراد.
إلّا أنّ من الواضح عدم تماميّة هذه الدّعوى، إلّا في مثل الإجماع والسّيرة المتشرّعيّة من الدّليل اللبّيّ، دون السّيرة العقلائيّة؛ فإنّها غير قائمة على محض التّعبّد، بل هي تحكيم للمرتكزات العقلائيّة، ومن الواضح أيضا أن بناءهم على حجّيّة الأمارات، إنّما هو لنكتة الكاشفيّة والطّريقيّة، وهذا النّكتة موجودة في كلّ من المدلول المطابقيّ و المدلول الإلزاميّ على حدّ سواء.
ولذا ذكر المحقّق العراقيّ وجهاً آخر للمنع من التّمسّك بأصالة العموم لإثبات التّخصّص، وبيان الفرق بين المدلول المطابقيّ للعامّ والمدلول الإلزاميّ له وهو عكس النّقيض، بأنّ الشّكّ في المقام من قبيل الشّبهة الموضوعيّة، ولا يجوز التّمسّك فيها بأصالة العموم؛ لأنّ رفعها ليس من شؤون المولى، بخلاف الشّبهة الحكميّة؛ فلأنّها من شؤون المولى يجوز التّمسّك فيها بالعامّ.

الفصل الثّالث: في جواز التّمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

المبحث الأوّل: في وجه وجوب الفحص عن المخصّص:

المشهور شهرة عظيمة أنّ أصالة العموم والإطلاق من الأصول اللفظيّة، حالها حال الأصول العمليّة، من عدم جواز التّمسّك بها وضعاً، ولزوم الفحص عن المخصّص والمقيّد؛ بل ادّعي الإجماع عليه، غير أنّ المحصّل منه ليس بحاصل والمنقول لا حجيّة له، على أنّه محتمل المدركيّة فينقل الكلام إلى ما يمكن أن يشكّل براهين له، وهي كالتّالي:

الأوّل: الآيات والرّوايات

والّتي استدلّ بها على وجوب التّفقّه والتّعلّم ووجوب الفحص في الشّبهة الحكميّة، كقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل/43)، وقولهg وقد سئل عن قول اللهa: {فَلِلهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام/ 149)، فقال: «إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟ فيخصمه وذلك الحجّة البالغة».
وفيه: إنّ التّمسّك بها أشبه بالمصادرة على المطلوب بل هو دوريّ؛ إذ إنّ الجواز المبحوث عنه في المقام هو الجواز الوضعيّ بمعنى الحجّة، الّذي لا يكون معه ترك الفحص تركاً للتّعلّم والسّؤال، فإنّه على القول بالحجّيّة للعبد أن يقول: بأنّي تعلّمت، فتكون الحجّة معه لا مع المولى.

الثّاني: إنّ العبرة في العمومات بحصول الظّنّ بمراد المولى، وهو متوقّف على الفحص عن المخصّص

وفيه أوّلاً: إنّه أخصّ من المدعى؛ إذ كثيراً ما يحصل الظّنّ بمراد المولى، من دون توقفه على الفحص عن المخصّص، أو العكس من عدم حصول الظّنّ حتّى مع الفحص عنه، وثانياً: أنّ العبرة في حجّيّة الأمارات بالظّنّ النّوعيّ دون الشّخصيّ كما هو الظّاهر من هذا الوجه، فلا يشترط تحقّق الظّنّ الشّخصيّ بالعامّ.

الثّالث: معرضيّة العمومات للتّخصيص؛ لمكان اعتماد الشّارع الأقدس على القرائن المنفصلة في بيانه للأحكام، خلافاً لطريقة العرف في مقام التّخاطب والتّحاور

وفيه: إنّه لم يثبت اعتماد الشّارع على طريق آخر، في مقام التّحاور والتّخاطب غير طريقة العرف، من بيان تمام مرامه بنوع كلامه لا بشخص كلامه، واعتماده على القرائن المنفصلة، وتفسير ما نشاهد من ظاهرة راجع إلى التّقطيع في الرّوايات، ويمكن أن يجعل هذا وجه آخر لإثبات وجوب الفحص، ولا بأس فيه.

الرّابع: العلم الإجماليّ بوجود المخصّص، والمقيّد بنحو يؤدّي ترك الفحص عنه إلى الوقوع في المخالفة

وهذا الوجه تامّ، إلّا أنّه قد يرد عليه القول بلزوم القطع بعدم المخصّص ما دام العلم الإجماليّ باقياً، فلا يحقّق النّتيجة المرجوّة من حجّيّة العامّ بعد الفحص؛ والصّحيح أنّ العلم الإجماليّ الكبير بوجود المخصّص في الواقع، ينحلّ إلى علم إجماليّ صغير بوجود المخصّص في الكتب الأربعة مثلاً، بنحو يؤدّي الفحص فيها عادة إلى القطع بالعدم، بعد الظّفر بالموجود فيها.

المبحث الثّاني: في مقدار الفحص سعة وضيقاً:

وهو يختلف باختلاف المدرك، فعلى القول بالوجوب من باب الآيات والرّوايات يجب بنحو لايؤدّي عدمه إلى ترك التّعلّم والسّؤال، وعلى الثّاني يجب الفحص بنحو يحصل معه الظّنّ الشّخصيّ بمراد المولى، وعلى الثّالث والرّابع والخامس يجب الفحص بنحو، تنتفي معه معرضيّة التّخصيص بحيث يحصل الاطمئنان.

الفصل الرّابع: في بعض التّطبيقات

المبحث الأوّل: فيما إذا تعقّب الاستثناء جملاً متعدّدة:

إذا تعقّب الاستثناء جملاً متعدّدة، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (النور/٤-٥)؛ فهل يرجع الاستثناء إلى جميع الجمل؟ أم إلى خصوص الأخيرة منها مع التّمسّك بإطلاق ما عداها؟ أم إجمال ما عدا الأخيرة لابتلائها بما يصلح للقرينيّة؟ علماً أنّ رجوع الاستثناء إلى غير الجملة الأخيرة - الّذي هو القدر المتيقّن-، مضافاً إلى أنّه خلاف نظام التّحاور يحتاج إلى القرينة. 
وقد ذهب العلماء إلى التّفصيل، بين ما كان في قوّة الجملة الواحدة، كما في صورتي اتّحاد الموضوع أو اتّحاد المحمول، كقولك: أكرم العلماء وقلدهم إلّا الفساق، أو كقولك: أكرم العلماء والشّعراء إلّا الفسّاق، فيرجع الاستثناء إلى جميع الجمل؛ وبينما لم يك في قوّة الجملة الواحدة، كما لو تكرّر الموضوع أو المحمول أو اختلفا ولم يتكرّر واحد منهما، كقولك: أكرم العلماء وقلّد العلماء إلّا الفسّاق، أو كقولك: أكرم العلماء وأكرم الشّعراء إلّا الفسّاق، أو كقولك: أكرم العلماء وجالس الفقراء إلّا الفسّاق، فيحتمل فيه كلا الأمرين: من رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل، أو اختصاصه بالأخيرة منها فقط.
ومن الواضح أنّه إذا كان الاستثناء بأداة «إلّا»، يتعيّن الرّجوع إلى خصوص الجملة الأخيرة؛ّ لأنّها كسائر الحروف من باب الوضع العامّ والموضوع له النّسبة الخاصّة، المتقوّمة بطرفيها كما عليه المشهور، وأمّا لو قيل بمبنى الآخوند: من أنّ الحروف كالأسماء من قسم الوضع العامّ والموضوع له عامّ، جاز رجوع الاستثناء لجميع الجمل؛ لأنّه لا يكون حينئذ من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، الّذي يكمن فيه أحد محذورين: من كونه خلاف الظّاهر، أو كونه ممتنعاً ثبوتاً.
وأمّا لو كان الاستثناء بالاسم (غير) أو بالفعل (أستثني)، فكما يجوز اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة يجوز الرّجوع إلى جميعها، والظّاهر أنّ تكرار عقد الوضع أو عقد الحمل في الجملة الأخيرة قرينة عرفيّة على اختصاصها بالاستثناء؛ إذ إنّ مقتضى الأصل التّأسيس لبيان حكم جديد، يستثنى منه، لا التّأكيد الّذي هو خلاف الظّاهر، دون ما إذا اختلف كلّ من عقدي الوضع والحمل في الجمل؛ فإنها تبتلى بالإجمال لاحتمال القرينيّة.

المبحث الثّاني: فيما إذا تعقّب العامّ ضميرٌ يرجع إلى بعض أفراده:

إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع إلى بعض أفراده، كما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة/ ٢٢٨)؛ وكنّا نعلم بأنّ الحكم الثّاني مختصّ بالرّجعيّات فقط؛ لعود الضّمير عليهنّ دون غيرهنّ، فهل يكون ذلك موجباً لاختصاص الحكم الأوّل -وهو وجوب الاعتداد بهن-، أم يعمّ جميع المطلّقات حتّى البائن؟
وفي المسألة أقوال ثلاثة لدوران الأمر بين التّخصيص والاستخدام: من أنّ الجاري في المورد، هل هو أصالة العموم النّاشئ من التّطابق بين المدلولين التّصوّريّ والاستعماليّ فينفى به التّخصيص، أم أنّ الجاري في المورد هو أصالة عدم الاستخدام، النّاشئ من ظهور التّطابق بين الضّمير والمرجع، فينفى به الاستخدام الّذي هو نحو تجوّز، أم أنّه لا مرجّح لأحد الظّهورين على الآخر، بنحو يفضي إلى تساقط كلّ منهما وإجمال المورد، فيقتصر على القدر المتيقّن فيه وتكون نتيجته نتيجة الثّاني؟
وما يمكن أن يقال في تقريب القول الأوّل: هو أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري، إلّا في تحديد المراد الاستعماليّ للمتكلّم، دون تحديد نحو الاستعمال وكيفيّته: من أنّه حقيقة أم مجاز؛ وذلك لعدم تترتّب ثمرة عمليّة عليه.
غير أنّ هذا الوجه يرد عليه: بأنّ علمنا بالمراد من الضّمير، لا يغني عن العلم بالمرجع وهو المطلّقات، فنجري أصالة عدم الاستخدام بلحاظه لتحديد المراد منه.
وأمّا القول الثّاني؛ فلأنّ استعمال العامّ مع إرادة الخاصّ تجوّز منفيّ بأصالة الحقيقة؛ فإنّ الّذي دلّ على اختصاص الحكم الثّاني بالرّجعيّة، إنّما هو عقد الحمل على شاكلة تعدّد الدّالّ والمدلول؛ لعدم قابليّة البائن للرّدّ، وإلّا فإنّه لم يستعمل سوى في العامّ.
وهذا يمكن أن يقال في دفعه: بأنّ الظّهور في العموم مدلول سياقيّ للكلام، ومع احتفافه بما يصلح للقرينيّة يسقط عن الحجّيّة للإجمال، وعدم انعقاد الظّهور.
وقد يقال في دفعه بمقالة الميرزا النّائينيّ: من أنّ قرينيّة الضّمير على الاختصاص، إنّما هي بملاك صحة اتّكال المولى الحكيم في مقام البيان عليها، وحيث إنّ إيراد ما يدّعى قرينيّته في الجملة الثّانية مخلّ بالبيان، ننفي قرينيّته؛ لأصالة عدم الخطأ في المتكلّم، وظهور حاله في اتّباع طريقة العرف في محاوراته. 
غير أنّ هذا يمكن دفعه: بأنّ الملاك في إجمال الخطاب، هو التّزاحم بين الظّهور في التّخصيص والظّهور في الاستخدام، لا أنّ الملاك في كون الخطاب مجملاً هو احتمال قرينيّة الموجود؛ لينفى بظهور المتكلّم، في كونه بمقام البيان لا الإجمال؛ حتّى لا يخلّ بغرضه بما لا يصحّ الاتّكال عليه.
نعم، على تقدير انفصال القرينة الموجبة للاختصاص، كما هو الصّحيح في الآية الكريمة خلافاً لدعوى الميرزا، يصحّ التّمسك بظهور العامّ في مورد الحكم الأوّل لانعقاده، والقرينة المنفصلة لا توجب سوى انخرام الظّهور الجدّيّ، بلحاظ الحكم الثّاني للعلم بضيق المراد الواقعيّ، ولا يخفى بأنّ الظّهور الاستعماليّ محفوظ، حتّى في موارد الهزل واتّصال القرينة فكيف بانفصالها.

الخاتمة: في نتائج البحث

إنّ دلالة العامّ على الاستيعاب والشّمول بالوضع، وأنّه عبارة عن استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر، لا أنّه استيعاب المفهوم لجميع أفراده وما ينطبق عليه؛ لأنّ الطّبيعة يستحيل أن ترى فانية في الأفراد.
إنّ منشأ أقسام العموم سابق على لحاظ كيفية تعلّق الحكم بالموضوع، وراجع إلى أدوات العموم.
دلالة أدوات العموم على الاستيعاب والشّمول، في مرحلة المدلول التّصوّريّ، ويستحيل أن تتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة.
إنّ كلّاً من أسماء العدد والجمع المحلّى باللام، والنّكرة في سياق النّفي أو النّهي ليست من أدوات العموم.
إنّ تخصيص العامّ بالمتّصل من باب «ضيّق فم الرّكيّة» خارج عن باب التّخصيص موضوعاً.
إنّ العامّ بعد التّخصيص بالمنفصل حقيقة في الباقي وحجّة؛ لأنّ غاية ما ينخرم بالقرينة المنفصلة الحجّيّة دون الظّهور.
لا يجوز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المفهوميّة؛ لسريان الإجمال من المخصّص إلى العامّ حقيقة كما لو كان متّصلاً أو حكماً كما لو كان منفصلاً، إلّا فيما لو كان المنفصل دائراً بين الأقلّ والأكثر، فيجوز التمسك بالعام فيه.
عدم جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة، إلّا فيما إذا كان العامّ نحو قضيّة خارجيّة، والمخصّص لبّيّاً نظريّاً في قوة المنفصل، لا يصحّ الاتّكاء عليه في مقام البيان.
عدم جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة الموضوعيّة لإثبات التّخصّص، إلّا فيما إذا كان نحو قضيّة خارجيّة.
عدم جواز التّمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص؛ وذلك للعلم الإجماليّ بطروّ المخصّص عليه، ولو لنشوئه من التّقطيع في الرّوايات.
يجب الفحص عن المخصّص بنحو ينتفي معه احتمال المعرضيّة.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا