حادثة الصلح في كلمات الإمام الحسن(ع)

حادثة الصلح في كلمات الإمام الحسن(ع)

لا زالت حادثة الصلح التي جرت بين الإمام الحسن(ع) وبين معاوية بن أبي سفيان-رغم كثرة ما كتب حولها وما قيل فيها - من المواضيع المهمة والغامضة عند أكثر الناس، الأمر الذي يكشف عن جانب كبير من المظلومية التي ألمت بالإمام الحسن(ع) في حياته وبعد مماته، ولهذا رأيتُ أن أدخل إلى ظروف الصلح بنظرة تحليلية تعتمد كلمات الإمام الحسن(ع) على أن أعضدها ببعض النصوص التاريخية.

قبل البدء:

قبل الشروع في المقصود أرى ضرورة التذكير بأمرين مهمين:

1- نعتقد نحن الشيعة بعصمة الإمام الحسن(ع) وغيره من الأئمة(ع) وذلك استناداً للكثير من النصوص الواردة، وبالتالي لا نجد مشكلة في تفسير ما قد يصدر منهم(ع)  من أفعال سواء تمكنّا من فهم أسبابها أم لا، فإن خفاء السبب لا يعني انتفائه، فلكل معلول علة، وعصمة الإمام تدفع كل الاحتمالات والأسباب التي تتنافى مع العصمة كالخوف أو الركون إلى الدعة.

2- كان التاريخ منذ القدم وما زال حتى الآن في غالبه يُكتب بأقلام مأجورة تقتات من خلال ما تكتب، فتزوِّر الحقائق أو تخفيها تقرّباً وتزلّفاً من هذا الظالم أو ذاك، ولهذا يجد الباحث صعوبة في تلمس طريقه وسط هذا الكم الهائل من الدّس والتشويه الذي كُتب على هوى السلطان.

ومن هذا المنطلق فنحن نعتقد بأن الظلم الذي حاق بأهل البيت(ع) قد حجب عنّا الكثير من الحقائق، فصرنا نجهل حقيقة الأسباب التي دفعتهم لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك، وسواء علمنا بالأسباب التفصيلية أم لا فإن ذلك لا يغير من حقيقة تلك الأسباب، ونحن سنسعى لتلمس طريقنا في تحليل حادثة الصلح وسط هذا الظلام والغموض الذي أحيطت به، وذلك بالرجوع إلى ما وصلنا من كلمات قليلة عن الإمام الحسن(ع).

دعايات أموية:

يسعى البعض لتصوير الإمام الحسن(ع) على أنه شخص ميال للراحة، يحب حياة الدعة ويهرب من الجهاد والقتال، ولهذا سعى لعقد الصلح مع معاوية مع ما فيه من ذلة ظاهرة، فهو على العكس من أخيه الحسين(ع) الذي يؤمن بالجهاد كوسيلة لاسترداد الحقوق ولا يتوانى عن التضحية بأسرته وبنفسه في سبيل هذا الهدف، وهذه الدعايات تم استخدامها بأساليب مختلفة، ولكن الغاية منها أحد إلى أمرين:

الأول: تشويه صورة الإمام الحسن(ع) بوصمه بقصر الهمة والجبن، وبحبه لحياة الدّعة وبالتالي فهو غير مؤهل لإدارة شؤون الأمة.

الثاني: تشويه صورة الإمام الحسين(ع) ببيان وجه المفارقة بين موقفه الجريء الطامح للسلطة الدنيوية دون مبالاة منه بما قد يؤدي إليه ذلك من سفك لدماء المسلمين، في قبال موقف أخيه الحسن(ع) الذي كان حريصاً كل الحرص على تجنّب سفك الدماء حتّى وإن أفقده ذلك منصب الخلافة وأوجب له صغاراً عند الناس.

ولكن النصوص والمعطيات التاريخية تؤكد أن هذه مجرد دعايات تدخل في ضمن الظلم الذي حاق بأهل البيت(ع)، إذ أنهم –بأجمعهم- تعاطوا مع مسألة الخلافة بمنطق واضح لا لبس فيه، فالخلافة بالنسبة لهم تكليف لا تشريف، ووسيلة لا غاية، فهو تكليف طالما أحسّوا بثقل مسؤوليته الملقاة على عواتقهم، وهو الوسيلة لمحو الظلم وإقامة حكم الله في الأرض، ولم تكن تحرّكاتهم للوصول للخلافة تحمل في طياتها أية أهداف شخصية على الإطلاق، ولذا نجد في كلماتهم(ع)  الكثير من الشواهد على ذلك، سيما ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) في الخطبة الشقشقية حيث قال: «أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيتُ حبلَها على غاربها، ولسقيتُ آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(1)، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس(رض) أنه قال: «دخلتُ على أمير المؤمنين(ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلتُ: لا قيمه لها. قال: والله لهي أحبّ إليّ من أمرتكم، الاّ أن أقيم حقّا أو ادفع باطلا»(2).

ورغم حرص الأئمة(ع)  على حفظ دماء المسلمين وتجنب سفكها، إلا أن علمهم بأن إقامة حكم الله في الأرض لا يتأتى من دون وجود المعصوم على سدة الحكم في الدولة الإسلامية، جعلهم يتحركون لأداء هذا التكليف وتنفيذ هذا الهدف، رغم ما قد يترتب على ذلك من سفك للدماء أحياناً، إذ أنه هدف تسخوا أنفسهم بالغالي والرخيص في سبيله أمتثالاً لأمر الله، فالأئمة(ع)  لم يشكّوا قط في مشروعية القتال من أجل إقامة حكم الله في الأرض، أو من أجل حفظ الدولة الإسلامية وردع الفئات الخارجة على الإمام الشرعي، وهذه النقطة كانت واضحة جدا في ما دونه لنا التاريخ من كلمات الإمام الحسن(ع)، والذي كان يعتبر أن معاوية وأهل الشام فئة باغية يجب قتالها بحكم الشرع، {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}(3)، ونستشهد هنا ببعض تلك النصوص التي تدل على عزم الإمام(ع) على قتال معاوية وأهل الشام:

الإمام يهدد معاوية بالقتال:

نقلت المصادر بعض ما جرى بين الإمام الحسن(ع) وبين معاوية من مراسلات، وكان من ضمنها:

أ- ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين، من أن معاوية أرسل بعض الجواسيس للتجسس على الكوفة والبصرة فعرف الحسن(ع) بذلك فأمر بقتلهم، وكتب إلى معاوية:

«أما بعد فإنك دسستَ إليّ الرجال كأنك تحبُّ اللقاء، لا أشكُّ في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله...»(4).

ب- ومنها رسالة أخرى طويلة أوردها أبو الفرج الأصفهاني أيضا في كتاب (مقاتل الطالبيين) جاء في آخرها:

«فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلمُ أني أحقُ بهذا الأمرِ منكَ عند الله وعند كلِ أواب حفيظ، ومن له قلبٌ منيب، واتقِ الله ودعِ البغي واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خيرٌ في أن تلقى اللهَ من دمائهم بأكثرِ مما أنتَ لاقيه به، وادخُل في السلمِ والطاعةِ، ولا تنازعِ الأمرَ أهلَه ومن هو أحقُ به منك ليطفئ اللهُ النائرةَ بذلك، ويجمعُ الكلمةَ ويُصلِح ُذاتَ البينِ، وإن أنتَ أبيتَ إلا التمادي في غيّكَ سرتُ إليكَ بالمسلمينَ فحاكمتُك، حتى يحكمَ اللهُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين»(5).

من خلال هذا النص نجد أن الإمام الحسن(ع) يطرح عدة أمور:

1- يلقي الحجة على معاوية بدعوته إلى الحق كما فعل جدّه رسول الله(ص) وأبوه أمير المؤمنين(ع) في حروبهما وكما هو مقتضى التعاليم الإسلامية، حيث ورد في الآية الكريمة{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(6).

2- يؤكد الإمام(ع) أن الحق له دون معاوية، وأن أحقيته بأمر الخلافة ليست وليدة ادعاءات كاذبة، وإنما هو حق ثابت له من الله بل نجد في كلام الإمام(ع) ما يؤكد علم معاوية التام بأحقية الإمام بمنصب الخلافة، فنراه(ع) يقول: «فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ»، ويضيف(ع) قائلا: «ولا تنازعِ الأمرَ أهلَه ومن هو أحقُ به منك».

3- يوضح الإمام(ع) بأن موقفه من معاوية هو مقاتلته ما لم يدخل في الطاعة ويدع البغي، فلم يكن موقف الإمام يحمل سوى الإصرار والعزيمة على القتال، ولم يبد منه ما يوحي بشيء من التهاون أو الميل إلى الدعة كما يروج البعض.

الإمام يدعو الناس إلى القتال:

ونقل أبو الفرج الأصفهاني أيضاً بان الإمام الحسن(ع) دعا الناس للصلاة:

 «فخرجَ الحسن(ع) وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن الله كتبَ الجهادَ على خلقهِ وسماه كُرها، ثم قال لأهلِ الجهادِ من المؤمنين {اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فلستم أيها الناسُ نائلين ما تُحبون إلا بالصبرِ على ما تكرهون، بلغني أن معاويةَ بلغهُ أنّا كنّا أزمعنا على المسيرِ إليه فتحرك لذلك، اخرجوا رحِمكم الله إلى معسكرِكم بالنخيلة، حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا».

قال: وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له، قال: فسكتوا فما تكلّم منهم أحدٌ ولا أجابه بحرف، فقام عدي بن حاتم وعدة أفراد آخرين فلاموا أهل الكوفة على تخاذلهم(7).

يتضح من خلال هذا النص أمور:

1- أن خروج معاوية كان بهدف استباق الأوضاع حيث علم بان الحسن(ع) سيخرج لقتاله فتحرك لذلك،«بلغني أن معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك» فلم يكن لدى الإمام أي خوف أو تردد في مواجهة معاوية، ولهذا نراه يبادر بالتحرك لمواجهة معاوية، ولكن معاوية يعلم بالأمر فيسارع للخروج قبل أهل الكوفة.

2- أن موقف الإمام الحسن(ع) كان واضحاً من معاوية ابتداءً وبقاءً، فما إن علم بتحرك معاوية حتى أمر الناس بالخروج لقتاله، ولم يحمل هذا الموقف في طياته أدنى تردد أو تلكؤ من جانب الإمام(ع).

3- أن الإمام(ع) رغم عزيمته على قتال معاوية إلا أنه كان يعلم بنفوس أهل الكوفة، فكان يتخوف خذلانهم له بعد ما رأى من مؤشرات، وقد صدقت مخاوفه تلك، فلم يُظهر أهلُ الكوفة التجاوب المطلوب في مواجهة هذا الخطر الداهم.

وبذلك تتضح لنا حقيقة موقف الإمام(ع) من قتال معاوية بشكل جلي، ولكن يبقى السؤال المهم عن تلك الأسباب التي دفعت الإمام(ع) للصلح مع معاوية رغم أنه يعتبره باغٍ وخارج عليه؟.

وفي مقام الجواب نستعرض عدة نصوص تنفع في المقام:

أسباب الصلح:

نقل الديلمي في كتاب أعلام الدين قال:

«خطب الحسن بن علي(ع) بعد وفاة أبيه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلةٌ ولا قلة، ولكن كنّا نُقاتِلُهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامةُ بالعداوةِ والصبرُ بالجزع، وكنتُم تتوجهون معنا ودينُكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا وقد صِرتُم اليوم علينا، ثم أصبحتم تصدّون قتيلين، قتيلا بصفين تبكون عليهم، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأما الباكي فخاذل، وأما الطالبُ فثائر، وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزٌ ولا نَصَفَة، فإن أردتُم الحياةَ قبلناه منه وأغضضنا على القذى، وإن أردتُم الموتَ بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله.

فنادى القومُ بأجمعهم: بل البقية والحياة»(8)

في هذا المقطع يوضح الإمام لنا أهم أسباب الصلح، وهي:

أ- أن القوم قدموا الدنيا على الدين، إذ كان أهلُ الكوفة في زمن أمير المؤمنين(ع) يملكون الحدّ الأدنى من التوحّد والالتفاف حول القيادة والتسليم لأوامرها، ولكن نفوسهم تغيرت بعد ذلك فتفرّقت كلمتهم وجاهروا بعداوتهم للقيادة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فمعلوم أن الحروب تحتاج إلى قلوب شجاعة، كما أنها عادة ما تترافق مع البلايا والمحن التي لابد من الصبر عليها، وكان أهل الكوفة يتمتعون ببعض الشجاعة والصبر الأمر الذي مكّنهم من الصمود طوال فترة حرب صفين رغم طول أمدها وكثرة من قتل فيها(9)، وهذه الأمور لم تكن لتحصل لولا أنهم قدموا دينهم على دنياهم، ولكن نفوس الكوفيين ما لبثت أن تبدلت فخلطت الشجاعة والصبر بالجبن والجزع، ذلك أنهم قدموا دنياهم أمام دينهم، لهذا يخاطبهم الإمام(ع) قائلا: «كنّا نُقاتِلُهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامةُ بالعداوةِ والصبرُ بالجزع» و«وكنتُم تتوجهون معنا ودينُكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم» و«وكنا لكم وكنتم لنا وقد صِرتُم اليوم علينا».

ب- كان المجتمع الكوفي عدة فئات، نجملها فيما يلي:

1- الفئة المنحرفة عن آل البيت(ع)  وهذه الفئة عثمانية الهوى، تحمِّل أهل البيت(ع)  مسئولية مقتل عثمان، وهذه الفئة كانت موجودة منذ زمن أمير المؤمنين(ع) وقد امتنعوا عن نصرته، وكانوا يطعنون في قتاله لمعاوية يوم صفين كما ذكر المؤرخون(10)، ورغم أن هذه الفئة لم تكن كبيرة جداً بالقياس إلى الفئات الأخرى، إلا أنها مع ذلك كانت تمثل ثقلا مهما في المجتمع الكوفي.

2- الفئة التي تخاف معاوية، (تبكي قتلى صفين)، (أما الباكي فخاذل)، وهذه الفئة لم تكن قليلة بل هي الفئة الأكبر، وعلى عكس ما هو المتوقع فبدلا من الحماس نجد التخاذل.

3- الفئة التي تحقد عليه وعلى أبيه‘ وتريد قتله، طلبا لثأر قتلى النهروان، وهذه الفئة أقل من سابقتها ولكنها ليست قليلة أيضا.

4- وهناك فئة رابعة أشار إليها الإمام الحسن(ع) في بعض خطبه، وهي الفئة التي كانت ترجوا أن تنال من دنيا معاوية، حيث أنها يئست من المكاسب الدنيوية مع الإمام، فكانت هذه الفئة تكاتب معاوية وتعده بقتل الحسن(ع) في مقابل بعض الوعود الكاذبة التي يوزعها معاوية، وفي هذا الصدد يقول الإمام الحسن(ع) مخاطبا إياهم:

«ويلكم! والله إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي..... ولكن كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يُسقون ولا يُطعمون، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»(11)

5- وهناك فئة خامسة مهمة –رغم قلتها- وهي الفئة التي ترى ضرورة حرب معاوية ومواجهته وعدم التنازل له مهما كلف ذلك من ثمن، وهذه الفئة رغم إخلاصها وتفانيها إلا أنها ليست على مستوى واحد، فعدد كبير من أفراد هذه الفئة لا يعتقد بإمامة الإمام(ع) وعصمته بالمعنى الذي نعتقده نحن في الإمام، وبالتالي فهم يضعون تصرفات الإمام تحت المجهر لدراستها وتقييمها، ويعطون لأنفسهم الحق في إبداء النظر إزاء ما يقوم به الإمام(ع)، ويمكن استجلاء ذلك بشكل واضح من خلال بعض المحاورات التي جرت بين بعضهم وبين الإمام(ع) بعد عقد الصلح حيث خاطبه بعضهم بـ(مذل المؤمنين).

والنتيجة:

أن الإمام كان سيخوض حربا معلومة النتائج مسبقا، بل كان من المتوقع أن يقوموا بالغدر به وتسليمه إلى معاوية من دون قتال، والنتيجة أن هذه المواجهة لا يرجى من ورائها أي نفع.

ولهذا نرى الإمام الحسن (ع) يقول:

«والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما، فو الله لإن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت»(12).

كما نرى الإمام الحسن (ع) يجيب أحد الأشخاص قائلا:

«يا أبا سعيد إذا كنتُ إماما من قبل الله تعالى ذكرهُ لم يجب أن يُسفّه رأيي فيما أتيتُه من مهادنةٍ أو محاربةٍ، وإن كان وجهُ الحكمةِ فيما أتيته ملتبسا، ألا ترى الخضر (ع) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (ع) فعلَه لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولو لا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلا قُتل»(13)

تساؤل مهم:

إذا كان الإمام الحسن(ع) يعرف بحقيقة المجتمع الكوفي من أول الأمر فلماذا لم يبادر إلى الصلح واستمر في المماطلة قرابة الستة اشهر؟ ألم يكن من الأفضل أن يسلم الحكم إلى معاوية من أول الأمر؟

والجواب:

1- لم يكن الإمام الحسن (ع) شاكاً في عدم أهلية معاوية لتسلم الخلافة، إذ أن الخلافة الشرعية منصب إلهي يختص الله به من يشاء من عباده بالنص، ولا تكون بالغلبة والقهر، ولهذا نجده يخاطب معاوية قائلاً: «فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله»، ولكن الإمام أرغم على التنازل لمعاوية نتيجة الظروف القائمة آنذاك، ولهذا فكان الإمام يسعى لتأخير ذلك قدر الإمكان.

2- كان الإمام الحسن(ع) يسعى لإلقاء الحجة على الناس وذلك بدعوتهم لقتال معاوية، وقد استنفذ وقتاً ثميناً في هذه المحاولة، إذ أن الأسباب كانت تتكشف يوما بعد يوم.

3- بذل الإمام(ع) جهده في دعوة الناس لحرب معاوية وأهل الشام، وذلك ليبين للناس أنه يرى في أهل الشام فرقة باغية يجب قتالها، ولو اعتمد الإمام على علمه الغيبي وسلم الأمر إلى معاوية من أول الأمر لكان معنى ذلك إعطاء الشرعية لحكومة معاوية.

4- كان الإمام يسعى من خلال تأخير الصلح مع معاوية إلى فرض بعض الشروط على معاوية رغم علمه بأن معاوية لا يفي بتلك الشروط، إلا أنه بذلك كشف زيف الادعاءات الأموية، ومن أهم تلك الشروط التي فرضها الإمام على معاوية أن يكون أمر الخلافة بعد معاوية إلى الإمام الحسن، وبعده إلى الإمام الحسين(ع)(14).

 

* الهوامش:

(1) نهج البلاغة 1: 36، الخطبة3 بعد انصرافه من صفين(الخطبة الشقشقية).

(2) نهج البلاغة 1: 81، الخطبة33 عند خروجه لقتال أهل البصرة.

(3) سورة الحجرات: 9.

(4) مقاتل الطالبيين: 33.

(5) مقاتل الطالبيين: 56.

(6) سورة الحجرات: 9.

(7) مقاتل الطالبيين: 39، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 38.

(8) أعلام الدين: 292.

(9) ذكرت بعض المصادر بأن عدد قتلى صفين من الفريقين بلغ ستين ألفاً (تاريخ بغداد 9: 120) وقيل كانوا سبعين ألفاً (تاريخ خليفة بن خياط: 147)، وذكر نصر بن مزاحم المنقري بأنه قتل من أهل الشام خمسة وأر بعين ألفاً ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً (واقعة صفين:558).

(10) الكامل في التاريح 3: 325.

(11) تاريخ الطبري 4/ 122، علل الشرائع 1: 221.

(12) الاحتجاج 2: 10.

(13) علل الشرائع 1: 211.

(14) عمدة الطالب: 67.

ونقل ابن أعثم في تاريخه أن عبد الله بن الزبير سأل الحسين(ع) بعد هلاك معاوية عمّا سيفعله وهل سيبايع يزيد؟ فأجابه الإمام الحسين(ع) في كلام طويل: «أني لا أبايع له أبدا، لأن الأمر إنما كان لي من بعد أخي الحسن، فصنع معاويةُ ما صنع وحلف لأخي الحسن أنه لا يجعل الخلافة لأحد من بعده من ولده، وأن يردّها إليّ إن كنتُ حيّا».

أنظر: كتاب الفتوح لابن أعثم 5: 12.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا