تاريخ التشيع في البحرين حوار مع سماحة الشيخ فاضل عبدالجليل الزاكي(1) (حفظه الله)

تاريخ التشيع في البحرين حوار مع سماحة الشيخ فاضل عبدالجليل الزاكي(1) (حفظه الله)

مقدمة

لم يكن التشيع أمراً طارئاً على الإسلام بل هو من صميمه غير منفكّ عنه بل هو الإسلام بعينه، لكن القوى السياسية آنذاك قسّمت المسلمين إلى ما تريد من أقسام وعنونتها بعناوين مختلفة لتبقى قائمة فوق الجميع متسلّطة عليهم، فبقي من تلك العناوين مع مرور الزمن إلى -يومنا هذا- عنوانان رئيسيّان أحدهما التشيع وهو يعبّر عن طائفة كبيرة من المسلمين تولّت ابن عمّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) قبل انتقاله (صلَّى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى مستمرّة في اتباع السلسلة الطاهرة التي نصّ عليها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) نفسه في مواطن كثيرة. معتمدة على بيانات قد صدرت من الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) في حق ابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أنه هو المُتَّبع بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وكذا الأئمة الطاهرون من بعده.

الشيعة في البحرين جزء من هذا الكيان المبارك الممثل للإسلام الأصيل.

ومن هنا أردنا أن نسلّط الضوء على بعض زوايا التشيع في البحرين للتعرف على شيء من جوانبه، فكان لنا هذا الحوار مع فضيلة الشيخ فاضل عبدالجليل الزاكي سلّمه الله، شاكرين له اقتطاع شيء من وقته الثمين لإجراء هذا الحوار.

الشيعة

■ كيف نشأ التشيع؟

● بسم الله الرحمن الرحيم، بداية أشكر إدارة التحرير في مجلة رسالة القلم على حسن ظنّهم بي وطلبهم لإجراء هذا الحوار الذي لا أجدني أفضل خياراته.

حينما نتحدث عن نشوء التشيع كعقيدة فنحن نتحدث عن نشوء الإسلام، ذلك لأن التشيع ليس سوى الإسلام الأصيل الذي جاء به الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) من عند الله (عزَّ وجلَّ)، فليس في التشيع شيء لم يأت به الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، فالرسول (صلَّى الله عليه وآله) هو الذي نص على إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكذا الأئمة من بعده، وهو الذي أتى لنا -من عند الله- بالآيات القرآنية الدالة على عصمتهم، ومراجعة سريعة للأدلة التي يستدل بها الشيعة على عقيدتهم في الإمامة والعصمة تؤكد أنّهم لم يبتدعوا شيئاً من عندهم، وأن عقيدتهم هي تطبيق لما أتى به الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في هذا الأمر، فالصحيح هنا هو إما أن نسأل كيف نشأت المذاهب الأخرى؟ أو أن نسأل كيف نشأ لفظ التشيع كمصطلح في المجتمع الإسلامي لتمييز فئة محددة عن باقي المسلمين؟

والجواب أن الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وإزواء الخلافة عن علي (عليه السلام) أدت إلى تمسك جماعة من الصحابة بأحقية علي (عليه السلام) بالخلافة بمناط النص الصريح، في قبال غيرهم ممن سكت عن هذا الأمر أو تبنّى أحقية غيره بها، وسُمي هؤلاء بـ "شيعة علي".

وقد أدى هذا الانحراف في نهاية المطاف إلى تقسيم المسلمين إلى فئتين الأولى تمسكت بعقيدة الإمامة والعصمة التي أكد عليها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والثانية رفضت هذه العقيدة، ومن ثم انقسموا إلى فئات متعددة.

■ ما هي المبادئ العامة للفكر الشيعي (عقائديا، فقهيا، وأخلاقيا)؟

● كُتب الكثير عن مبادئ التشيع ولكن أهم ما يميز التشيع كمذهب هو الاعتقاد بأن الإمامة منصب إلهي عظيم، وهي ليست إمامة سياسية فقط، بل هي إمامة دينية سياسية لا تكون إلا بالنص الصريح، وليس بالشورى أو التعيين أو الانتخاب أو الغلبة والقهر، وأن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) نص على إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مواطن كثيرة، وأن الإمامة بعده تسير في الأحدَ عشرَ من ولده (عليهم السلام) وخاتمهم القائم المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف).

كما يتميز الشيعة بالاعتقاد بعصمة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) وكذا جميع الأنبياء والرسل، وهي مسألة لها محوريتها وآثارها المهمة في الفكر الشيعي.

ويمكن الإشارة هنا إلى عقيدتهم في تنزيه الله عن الجسمية ومسألة العدل الإلهي والمسائل العقائدية الأخرى ولكنها رغم أهميتها قد تكون مشتركة بينهم وبين بعض المذاهب الاسلامية، كما أنّ هناك مسائل فقهية كثيرة أخذها الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتميزوا بها عن أتباع المذاهب الأخرى، ولكنها تبقى مسائل فقهية ولا ترقى لقيمة المسائل العقائدية التي أسلفنا الحديث عنها.

أصول الشيعة في البحرين

■ يعتبر وجود الشيعة في البحرين قديم جداً وقد صرّح بعض مؤرّخو السنة كابن الجوزي وابن كثير في بعض كتبهم بوجود الشيعة في القرن الثالث الهجري فهل -عندنا نحن الشيعة- أن تاريخ التشيع يعود إلى هذا الزمن أم هو سابق له؟

● إنّ مما لا شك فيه أن جذور التشيع كانت موجودة في البحرين منذ القرن الأول للهجرة، وهناك مؤشرات كثيرة تؤكد انتشار التشيع في قبيلة عبد القيس الذين يشكلون غالبية سكان البحرين آنذاك، ومن هذه المؤشرات بعض ما ورد في خطب صعصعة بن صوحان العبدي في قومه حيث يظهر منها جلياً أنّهم كانوا شيعة لعلي، وقد انتشر التشيع بين أهل البحرين حتى أن صاحب الزنج حينما ثار على العباسيين في حوالي عام 245هـ حاول استمالة أهل البحرين بادعائه النسب العلوي، كما جاءت نصوص المؤرخين لتؤكد انتشار التشيع في البحرين في القرون اللاحقة بالحد الذي لا تكاد تجد فيها أحداً من غير الشيعة كما يؤكد ياقوت الحموي وقد أسهب الباحث عبدالخالق الجنبي في استعراض هذه الأدلة في كتابه "تاريخ التشيع لآل البيت في إقليم البحرين القديم".

لا نملك معلومات دقيقة عن مدى انتشار عقيدة التشيع في البحرين في القرون الأولى، ولكن مما لا شك فيه أن التشيع كان موجوداً بوضوح.

■ هل شارك شيعة البحرين في الحروب التي خاضها أمير المؤمنين (عليه السلام) على فرض تجذّرهم لذلك الزمن؟

● حينما نتحدث عن سكان البحرين في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فنحن نتحدث عن مجموعة من القبائل من أبرزها وأكثرها عدداً قبيلة عبد القيس المنتمية إلى ربيعة العدنانية، والمذكور تاريخياً أن قبائل ربيعة وقبيلة عبد القيس تحديداً كانت في صفوف علي في حروبه الثلاث التي خاضها مع الناكثين والقاسطين والمارقين، وقد أبلوا في هذه الحروب بلاءً حسناً، ويذكر المؤرخون لعبد القيس وبكر بن وائل -وهم أيضا من قبائل البحرين- موقفها المشرف في يوم الجمل، إذ إنّهم وقفوا بوجه طلحة والزبير وجيشهم حينما ورد البصرة وذلك قبل مجيء علي، وكان زعيمهم حكيم بن جبلة العبدي، وناجزوهم القتال حتى استشهد حكيم بن جبلة وجمع كثير ممن معه، فبلغ خبرهم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان حينها في ذي قار، فقال: عبد القيس خير ربيعة، وفي كل ربيعة خير.

وقال:

يا لهف نفسي على ربيعه

  ربيعة السامعة المطيعة

 

قد سبقتني فيهم الوقيعة

  دعا علي دعوة سميعه

 

حلوا بها المنزلة الرفيعة(2).

■ الشيعة في البحرين أهي قبائل تشيّعت أم أنهم شيعة قد استوطنوا البحرين؟

● في دراستنا لتاريخ البحرين يصعب أن نفصل البحرين عن أختيها القطيف والإحساء، فهذه القصبات الثلاث كانت تشكل إقليم البحرين القديم، والذي تؤكده الشواهد التاريخية هو أن غالبية شيعة هذا الإقليم يعودون في جذورهم إلى أصول قبلية محددة، وعمدة القبائل التي ينتمون إليها هي قبيلة عبد القيس، والثابت تاريخياً أن البحرين الكبرى كانت شيعية خالصة في القرن السابع الهجري بحيث لا تكاد تجد فيها أحداً من غير الشيعة إلا أن يكون وافداً عليها كما يؤكد ذلك ياقوت الحموي، ولدينا وثيقة مهمة تعود لتلك الفترة تتحدث عن قبائل وبطون عبد القيس، وهي قصيدة أنشأها الشاعر النسابة الحسين بن ثابت القطيفي، ومؤخراً قام الأخ الباحث الأستاذ عبد الخالق الجنبي بشرح وتحقيق هذه القصيدة مما أعطى لها قيمة إضافية.

ومن الطبيعي أن تحصل بين البحرين وبقية المناطق هجرات متبادلة، إلا أن مقدار هذه الهجرات بقي محدوداً ولم يؤثر على التركيبة الديموغرافية للبحرين آنذاك، فبقيت هذه التركيبة هي السائدة حتى ما قبل قرنين من الزمان حيث بدأت التركيبة الديموغرافية في البحرين تتغير عقيب دخول آل خليفة.

■ هل للتشيع في البحرين علاقة مع القرامطة؟

● لا شك ولا ريب في أنّ القرامطة الذين أعلنوا في بعض الفترات تشيعهم واعتناقهم للمذهب الإسماعيلي كانوا على انحراف واضح سواء في معتقداتهم أو في سلوكهم العملي الذي لا يتوافق حتى مع مذهب الإسماعيلية الذي أعلنوا اعتناقه في بعض الفترات، وقد اتخذوا من إقليم البحرين قاعدة لملكهم ومنطلقاً لهجماتهم على بقية المناطق والتي انتهكوا فيها المحارم كما هو معروف، ورغم كل ذلك إلا أنّ الوقائع تؤكد أنّ أحداً من الناس لم يعانِ من القرامطة بمقدار ما عانى منهم أهل البحرين، فقد ابتلوا بهم وبانحرافهم مدة مديدة، حيث انتهكوا حرمات الناس وهدموا المساجد وفعلوا الأفاعيل بأهل البحرين، ونظراً للخلاف المذهبي بين القرامطة وأهل البحرين -حيث كان غالبية أهل البحرين يعتنقون مذهب الإمامية- فقد كانت هناك عدة محاولات قام بها أهل البحرين للانقلاب على القرامطة وإسقاطهم ولكن دون جدوى، وكان آخر هذه المحاولات ما قام به أحد رجالات قبيلة عبد القيس وهو أبو البهلول العوام بن محمد بن يوسف الزجاج، حيث بذل للقرامطة مالاً كثيراً على أن يسمحوا لأهالي أوال ببناء مسجد جامع لهم يقيموا فيه الجمعة، فسمحوا لهم بذلك، فبنى المسجد الجامع المعروف بـ"المسجد ذي المنارتين" والذي عرف لاحقاً باسم "مسجد الخميس" وأمر أخاه أبا الوليد بالصلاة فيه والتف الناس حولهما وعظم شأنه حتى تمكن من إخراج القرامطة من جزيرة أوال حوالي سنة 450 للهجرة، ولكن حكمهم استمر في بقية إقليم البحرين إلى أن نجح عبد الله بن علي العيوني في إسقاطهم نهائياً سنة 469 للهجرة.

وبالنسبة إلى السؤال المذكور، يمكن أن أوجز الكلام في نقطتين:

1- تشيع أهل البحرين سابق على وجود القرامطة كما نصّ على ذلك المؤرخون، بل إن القرامطة إنما اختاروا البحرين للتحرك منها لأنها كانت معروفة بالتشيع، وهذا ابن الأثير يثبت ذلك في تاريخه ضمن حوادث عام 286 هـ(3).

2- قبل مجيء القرامطة كان أهل البحرين يعتنقون مذهب الإمامية، ورغم السلطة والقهر معهم إلا أن القرامطة لم يتمكنوا من تحويل عامة أهل البحرين عن مذهبهم إلى المذهب الإسماعيلي، فبقي غالبيتهم يدينون بالمذهب الإمامي إلى ما بعد سقوط القرامطة، وهناك شواهد كثيرة على ذلك(4).

■ حبذا لو تذكر لمحة عن صعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان العبدي وسبب دفنهم في البحرين؟

● بالنسبة إلى زيد بن صوحان العبدي، هناك قصة تتداولها بعض المصادر(5) حول مشاركته في معركة حاسمة بين أهل البحرين وجيوش عبد الملك بن مروان، ولكن يمكن التأمل في الكثير مما ورد في هذه القصة، والثابت تاريخياً أن زيد مات شهيداً مع علي (عليه السلام) في معركة الجمل، وحينما سقط جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) فوقف عند رأسه وأبّنه بقوله: «رحمك الله يا زيد، كنت خفيف المؤنة عظيم المعونة» فرفع زيد رأسه وهو يقول: وأنت فجزاك الله خير الجزاء يا أمير المؤمنين فو الله ما علمتك إلا بالله عليماً وفي أمّ الكتاب علياً حكيماً وأنّ الله في صدرك لعظيم. والله ما قاتلت معك على جهالة ولكنّي سمعت أمّ سلمة زوج النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) تقول: وانصر من نصره واخذل من خذله فكرهت والله أن أخذلك فيخذلني الله.(6)

فزيد استشهد يوم الجمل، ولا نجد داعياً لنقل جثمانه إلى البحرين مع هذه المسافة البعيدة، سيما وأنّ هذا الأمر لم يكن متعارفا آنذاك، وبالتالي يمكننا الجزم بأن القبر المعروف في "مسجد الأمير زيد" والموجود في قرية المالكية لا يعود لزيد بن صوحان العبدي.

وأما صعصعة بن صوحان العبدي فهو أيضا ممن ورد اسمه في أحداث القصة المذكورة، ورغم إمكانية التأمل في كثير من أحداث هذه القصة كما أسلفنا إلا أنّه هناك ما يؤكد أن زياد بن أبيه قام بنفي صعصعة إلى البحرين في زمن معاوية كما يؤكد ذلك ابن حجر العسقلاني، ولم يثبت أن صعصعة رجع بعد ذلك إلى الكوفة، كما لم يُعرف له قبر في الكوفة، نعم هناك مسجد يُعرف بمسجد صعصعة، ولكنه ليس فيه أي قبر، ويبدو أن صعصعة كان يتعبد فيه، والأقرب أنه مات في منفاه، خصوصاً وأنّ أغلب أفراد قبيلة عبد القيس رجعوا إلى البحرين في تلك الفترة على إثر قيام معاوية بتولية ابنه يزيد ولاية العهد كما نص على ذلك المؤرخون(7)، علماً بأن المتسالم عليه بين أهل البحرين منذ الأجيال القديمة كون صعصعة مدفوناً في الموقع المعروف في قرية عسكر.

■ من هم البحارنة وما هي خلفيات هذا المصطلح؟

● إنّ أي باحث يقوم بمراجعة سريعة للمصادر القديمة سواء كانت تاريخية أو أدبية أو غيرها يجد أن هذه المصادر مطبقة على إطلاق لفظ "البحراني" على من ينسب إلى منطقة البحرين، وهذه نسبة سماعية على خلاف القاعدة القياسية المقتضية لإضافة ياء النسبة إلى اسم المنطقة، وهذه النسبة السماعية أثبتها اللغويون والعلماء في معاجمهم ومصنفاتهم(8)، واستعملها العرب في محاوراتهم فهي هنا أصح من النسبة القياسية، إذ من المعلوم في قواعد اللغة تقدم السماع على القياس، فالنسبة الصحيحة إلى البحرين هي "البحراني"، والصحيح في جمعها "البحرانيين"، ولكن درج الناس في العصور الأخيرة على استخدام لفظة "البحارنة" في الجمع.

وحيث إنّ الشيعة ولقرون متمادية كانوا يشكلون غالبية أهل البحرين إلا ما شذ، فمن هنا صار هناك تلازم بين لفظي البحراني والشيعي، بحيث متى ما أطلق لفظ البحراني فالمقصود به الشيعي دون سواه، وقد استمرت هذه الحالة بل واستحكمت أكثر في القرون الأخيرة.

ولا زالت كلمة البحراني تطلق على الشيعة في بلدان الخليج.

شيعة البحرين والآخر

■ كيف يتعامل الشيعة مع السنة بلحاظ التاريخ والفكر الشيعي؟

● بحسب الروايات الواردة عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وعن أهل البيت (عليهم السلام) وبحسب ما هو معروف من فتاوى الفقهاء فإنّ المسلم هو من شهد الشهادتين ولم يعتقد بعدها بما يعارضهما بصورة صريحة لا تقبل التأويل، كأن ينكر ضرورياً من ضروريات الدين، ومتى ما حكمنا بإسلام أحد ترتبت على ذلك حقوق كثيرة يجب مراعاتها، منها أنّ دمه وماله وعرضه حرام لا يجوز التعدّي عليها بحال من الأحوال، ففي الرواية عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده،... إلى أن قال: والمسلم حرام على المسلم أن يظلمه أو يخذله أو يدفعه دفعة تعنته»(9).

بل لو دهم واحداً من بلاد المسلمين عدو لكان من اللازم على المسلمين في كل الأقطار القتال دفاعاً عنه، ولا يجوز لمسلم أن يسكت وهو يرى مسلماً يستصرخه لنصرته، فقد ورد في الرواية عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنه قال: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(10).

والذي ينبغي للشيعيّ أن يقتدي بأئمته الذين أمره الله باتباعهم، فيحفظ حق الإخوة لإخوانه من المذاهب الأخرى، فيعود مرضاهم، ويحضر جنائزهم، ويعين محتاجهم، ويرشد جاهلهم، ويصلّي في مساجدهم، وينصح لهم إن استنصحوه، ويشهد لهم بالحق في قضاياهم، ويؤدي لهم أماناتهم، وهو ما أمرنا به أهل البيت (عليهم السلام) في رواياتهم، فمنها ما رواه معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام) أنه سأله: «كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم»(11).

■ هل توجد طوائف أخرى في البحرين غير السنة؟ وكيف كانت علاقة الشيعة معها؟

● إذا استثنينا الأجانب الوافدين لأغراض العمل أو التجارة واستثنينا الذين تم تجنيسهم مؤخراً لأغراض معلومة، فلن تكون في البحرين سوى أعداد محدودة من أتباع الطوائف أو المذاهب الأخرى ممن لا يتبعون المذهب الشيعي أو السني، وهؤلاء بأعدادهم القليلة لا يشكلون نسبة يعتد بها في المجتمع.

ولأسباب متعددة غالباً ما كان هؤلاء الأفراد يعيشون حالة من الانغلاق داخل جماعتهم، فلم ينفتحوا على الشيعة أو السنة إلا بشكل محدود وفي إطار العمل غالباً، ولكن لا يبدو أن المجتمع في البحرين بشيعته وسنته يتحسس من وجود هؤلاء، وباستثناء بعض الحوادث الفردية التي حصلت لبعض اليهود في عام 1948 لم تبرز أية حوادث تشير إلى وجود صدامات أو حالات اعتداء على أتباع تلك الطوائف من قبل بقية أفراد المجتمع.

شيعة البحرين في الحاضر

■ ما هي علاقة التشيع بإيران حيث يُربط بها في كثير من الأحيان؟

● مضافاً إلى ما تشكله إيران من ثقل سياسي واقتصادي على مستوى المنطقة، فإنّها تعدّ اليوم إحدى أكبر الدول التي يتواجد بها الشيعة من حيث نسبتهم ومن حيث الأعداد الكبيرة، كما أنّها مركز لبعض الحوزات العلمية الرئيسية كحوزتي قم ومشهد.

ولكن الأمر لم يكن بهذا المستوى قبل عدة قرون، حيث كانت إيران في غالبيتها تتبع المذهب السني باستثناء مجموعة من المناطق التي عرفت بتشيعها منذ القدم، وبالتالي فيمكن الجزم بأنّ التشيع في البحرين أسبق وجوداً من التشيع في مجمل المناطق الإيرانية، بل إنّ الشواهد الكثيرة تؤكد على أنّه وبعد قيام الدولة الصفوية في إيران وتبنيها للمذهب الشيعي قامت هذه الدولة باستجلاب العلماء من البحرين وجبل عامل لتعليم وإرشاد الناس، وقد تسلم هؤلاء العلماء مناصب دينية عالية في الكثير من المدن والبلدات الإيرانية.

وعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى الشيخ يحيى بن عشيرة السلمابادي البحراني المتوفى حدود سنة 967هـ، والشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي المتوفى سنة 984هـ وابنه الشيخ محمد المعروف بالشيخ البهائي المتوفى سنة 1031هـ والسيد ماجد بن هاشم الجدحفصي البحراني المتوفى سنة 1028هـ والشيخ صالح بن عبد الكريم الكرزكاني البحراني المتوفى سنة 1098هـ.

■ ما هي جدوى دعوات التقارب الشيعي السني في البحرين وما هو المطلوب منها؟

● حينما نتكلم عن التقارب بين السنة والشيعة فليس معنى ذلك أن يتنازل مذهب ما عن خصوصياته المذهبية للمذهب الآخر، أو أن يتخلى أتباعه عن قناعاتهم العقائدية ليعتنقوا المذهب الآخر، فالتقارب لا يعني ذلك مطلقاً، وأقصى ما يهدف إليه دعاة التقارب هو أن يتآخى المسلمون فيما بينهم، ويوحدوا كلمتهم على ما فيه خير وصلاح أمتهم، ويركزوا على ما يجمعهم بدل التركيز على ما يختلفون فيه، وهذا لا يلغي الحق في النقاش العقائدي إذا كان علمياً وجاداً وابتعد عن لغة القذف والتجريح.

إنّ دعوات التقارب هذه طبيعية جداً في أي مكان يتواجد فيه المذهبان الكريمان، خصوصاً وأنّ ما يشترك فيه المذهبان من مساحة أكثر بكثير من مساحة الاختلاف، فهما يتبعان ديناً واحداً.

ولنسأل أنفسنا:

ما هو البديل عن هذه الدعوات؟

هل البديل هو الاقتتال والتناحر؟

وهل يرضى لنا ديننا بذلك؟

البحرين بلد تعيش اختلاطاً كبيراً بين المذهبين، فإما أن نتعلم كيف نتعايش معاً ويحترم بعضنا بعضا، أو ستكون الفتنة التي لا يرضاها الله والتي لا يعلم عواقبها إلا هو، ولن يتقدّم هذا البلد ولن يستقر الحال فيه ما لم يسد جوٌّ من المحبة والتآلف بين أبنائه.

■ هل مبدأ الرجوع إلى الفقهاء في الفكر الشيعي يخرجهم عن وطنيتهم؟ وكيف تفسّرون هذا الارتباط الوثيق المؤطّر بالإطار الديني بين الشيعة في البحرين وقيادات دينية خارج البحرين؟

● تاريخياً وطوال القرون المتمادية كان الفقهاء يمثّلون مرجعية دينية تتعدى الحدود الجغرافية المصطنعة بين البلدان والأقاليم، والرجوع إليهم أمر طبيعي لا غضاضة فيه، بل ولا نجد مسوغاً شرعياً لحصر مرجعية الفقهاء بالبلدان التي يقيمون فيها، والرجوع للمرجعيات الدينية من خارج الحدود الجغرافية للأوطان أمر لا يختص به الشيعة، بل يعم غيرهم من المذاهب الإسلامية بل وحتى أتباع الأديان الأخرى، ولنا أن نشير هنا إلى مرجعية الأزهر للإخوة السنة أو مرجعية الفاتيكان للمسيحيين، حيث لا تختص بالبلدان التي يقعون فيها.

وينبغي أن نشير هنا إلى أن جملة من فقهاء البحرين القدماء ممن اعتلوا سنام المرجعية الدينية في زمانهم قد تمددت مرجعيتهم الدينية خارج الحدود الجغرافية للبحرين، فتعدتها إلى بلدان الخليج بل وإلى بعض المناطق في إيران والعراق.

في الختام نشكر سماحة الشيخ على اقتطاع شيء من وقته الثمين لإجراء هذا الحوار، سائلين المولى جلّ وعلا أن يجعل هذا في ميزان الحسنات له ولنا إنّه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) هو الشيخ فاضل عبدالجليل الزاكي من مواليد عام 1974م في مملكة البحرين. أنهى مقدماته في حوزة العلامة السيد علوي الغريفي ثم توجه إلى مدينة قم المقدّسة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحضر على يد جملة من أساتذتها منهم الشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد شبير الزنجاني وغيرهما. له عدّة مؤلفات منها وقعة الحرّة وله مجموعة من المقالات والتحقيقات نشر بعضها في هذه المجلّة. وهو الآن يدير حوزة الإمام زين العابدين في البحرين.

(2) تاريخ الطبري 3: 496.

(3) الكامل في التاريخ 7: 494.

(4) من بين الشواهد على ذلك:

1- أن أقدم نقش إسلامي موجود في البحرين كتب بعيد سقوط القرامطة، وهو موجود على المنارة الغربية لمسجد الخميس، وقد ذكر فيه أسماء الأئمة الاثني عشر، انظر (حسين محمد حسين، مسجد الخميس الحوزة الأولى وأول مسمار في نعش القرامطة، ص36).

2- كما أنّ أقدم كتاب معروف لعلماء البحرين هو كتاب الشيخ راشد بن إبراهيم البحراني المتوفى سنة 605 للهجرة وهو في تاريخ وسيرة المعصومين الأربعة عشر.

والاعتقاد بعصمة هؤلاء وإمامتهم من مختصات مذهب الإمامية، وهو ما يؤكد انتشار هذا المذهب بين أهل البحرين آنذاك.

(5) انظر كشكول البحراني.

(6) بحار الأنوار 32: 188.

(7) قال ابن عساكر: "لما قُتل علي بن أبي طالب أراد معاوية الناس على بيعة يزيد، فتثاقلت ربيعة ولحقت بعبد القيس بالبحرين، واجتمعت بكر بن وائل إلى خالد بن المعمر، فلما تثاقلت ربيعة تثاقلت العرب أيضا"، انظر (تاريخ دمشق 16: 208).

(8) انظر المصادر التالية:

كتاب العين للخليل الفراهيدي 3: 221؛ الصحاح للجواهري 2: 585؛ لسان العرب 2: 42؛ مجمع البحرين 1:157؛ معجم مقاييس اللغة 1: 203؛ شرح شافية ابن الحاجب 2: 82؛ الوافي بالوفيات للصفدي 1: 44؛ معجم البلدان 2: 263.

(9) الكافي 2: 234.

(10) الكافي 2: 164.

(11) الكافي 2: 636.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا