بحوث موضوعية في العقيدة الإسلامية - شرح تفصيلي لشرح الباب الحادي عشر بصيغة سؤال وجواب (القسم الثاني)

بحوث موضوعية في العقيدة الإسلامية - شرح تفصيلي لشرح الباب الحادي عشر بصيغة سؤال وجواب (القسم الثاني)

س 21: إذا كانت العبادة لا تتحقق إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى، فماذا يجب على العارف بتلك الحقيقة تجاه مَنْ لم تحصل له تلك المعرفة اليقينية؟

ج: طبعاً - كما قال السيوري - وجب على كل عارفٍ مكلّفٍ تنبيه الغافلين، وحيث أن مصنف هذا الكتاب والسيوري عرفا هذه الحقيقة وهو أن الله سبحانه وتعالى أوجب عبادته أولاً، وعرفا أن العبادة لا تتمُّ إلا بالمعرفة اليقينية ثانياً، إذن يجب عليهم أن ينبهوا الآخرين الذين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، فلهذا قال: وجب على كل عارفٍ يعني على كل من عرف هذه الحقيقة وهي أن الله سبحانه دعا الإنس والجِن إلى العبادة، وأن العبادة تتوقف على المعرفة اليقينية، فَمَن عَرِفَ هذا،  يجب عليه أن ينبه الآخرين على أنه كيف الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى؟

طبعاً ليس المراد من العارف هنا هو المعنى الاصطلاحي يعني العرفاء، وإنما المراد من العارف - هنا - يعني مَن عرف هذه الحقيقة وهي أنه لا عبادة إلا بمعرفة،فوجب على كل عارفٍ مكلفٍ لأنه إذا لم يكن مكلفاً فلا يمكن أن يقال أنه يجب عليه تنبيه الآخرين.

س 22: لماذا قيد العارف هنا بكونه مكلفاً؟

ج: باعتبار أن الملائكة أيضاً تعرف هذه الحقيقة، ولكن هل هناك أيضاً وجوبٌ شرعي عليها بأن تنبه الغافلين؟ لا يوجد عليها ذلك، فلهذا قيد العارف بإضافة شيءٍ جديد له، قال: عارف ومكلف، بتنبيه الغافلين وإرشاد الضالين.

س 23: كيف يقوم العارف المكلف بتنبيه الغافلين وإرشاد الضالين؟

ج: قال السيوري: وذلك بتقرير مقدمات، أي: لابد أن يبين هذا المطلب ببيان مقدمات، بشكل تكون هذه المقدمات، ذوات إفْهامٍ وتبيين، أي: هذه المقدمات لا بد أن تفهم الغافل وتبين له أن الطريق إلى المعرفة اليقينية هذا.

س 24: اذكر لنا مقدمة من تلك المقدمات لمعرفة الحقِّ سبحانه؟

ج: قال المقداد السيوري مع التوضيح لبعض العبائر بعد جعلها بين قوسين.

(فمن تلك المقدمات) هي (المقدّمة الموسومة بالباب الحادي عشر) إذن إحدى المقدمات لمعرفة الحق التي يتوقف عليها عبادة الحق سبحانه وتعالى هو أن يدرس الإنسان الباب الحادي عشر باعتباره يمثل مقدمة الطريق، ومَنْ أراد أن يتعمق أو يتوسع فالطريق مفتوح أما لو ترك التعرف حتى على هذا المقدار فالطريق مسدود، أي: لا يمكن أن يعبد الله حق العبادة، فمن تلك المقدمات هي المقدمة المسماة بالباب الحادي عشر وهي (من تصانيف شيخنا وإمامنا، الإمام العالم الأعلم الأفضل الأكمل سلطان أرباب التّحقيق، أستاذ أولي التنقيح والتدقيق، مُقَرِّرُ المباحث العقلية، مُهذِّبُ الدّلائل الشرعيّة آية الله في العالمين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، جمال الملة والدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي) المعروف بالعلامة الحلي (قدس الله روحه، ونور ضريحه، فإنّها) أي: المقدمة الموسومة بالباب الحادي عشر (مع وجازة لفظها) إلا أنها(كثيرةَ العِلم، ومع اختصار تقريرها) إلا أنها (كبيرة الغُنم).

(وكان قد سلف منّي في سالف الزّمان أن أكتب شيئاً يُعين على حلّها بتقرير الدلائل والبرهان، إجابة لالتماس بعض الإخوان، ثم عاقتني عن إتمامه عوائقُ الحدثان ومصادَمات الدهر الخوّان إذ كان (أي: الدهر) صادّاً للمرء عن بلوغ إرادته وحائلاً بينه وبين طلبته).

(ثم اتَّفَق الاجتماع والمذاكرةُ في بعض الأسفار مع تراكم الأشغال وتشويش الأفكار، فالتمس منّي بعض السادات الأجّلاء أن أعيد النَّظر والتّذكّر لما كنت قد كتبت أولاً، والمراجعة إلى ما كنت قد جمعت، فأجبت مُلْتَمَسَه) أي: ما التمسه مني بعض الإخوان (إذ قد أوجب الله تعالى عليّ إجابته ) باعتبار أنه مؤمنٌ وطلب مني حاجة.

(هذا مع قلة البضاعة وكثرة الشواغل المنافية للاستطاعة، وها أنا أشرع في ذلك مستمدّاً من الله تعالى المعونة عليه ومتقرّباً به إليه، وسميته «النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر»).

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت وإليه أُُنيب.

هذه هي المقدمة التي ذكرها الشارح المقداد السيوري.

الفقرة الخامسة:

قوله في المقدمة وهي تقع في بيان وتوضيح وجوب معرفة أصول الدين، وفيها أي: وفي هذه المقدمة عدَّة أمور:

 

الأمر الأول:

في بيان وجه تسمية هذا الكتاب ومعاني الوجوب والأصول والدين.

قال - أي العلامة الحلي (قده)- : الباب الحادي عَشَر، فيما يجبُ على عامة المكلفين من معرفة أصول الدين.

س 25: ما هو وجه تسمية هذا الباب بالباب الحادي عشر؟

ج: يجيب المقداد السيوري بقوله: (أقول: إنّما سُمِّيَ هذا الباب الحادي عشر لأنَّ المصنِّف) وهو العلامة الحلي(قده) كان قد لخص و(اختصر) كتاباً باسم (مصباح المتهجد) وهذا الكتاب هو الذي وضعه شيخ الطائفة الإمامية ورئيسها في الفقه والكلام (الشّيخ أبو جعفر الطوسي (ره)) حيث أن كتابه كان (في العبادات والأدعية)، (و) عندما لخصه العلامة الحلي اقتضى منه المحافظة على نظم الكتاب لذلك (رتّب ذلك المختصر على عشرة أبواب وسماه) أي: وسمى العلامة ذلك المختصر:(كتاب منهاج الصلاح في مختصر المصباح)، وحيث أن هذا الكتاب في العبادة والعمل، ولمَّا تقدم من الشارح السيوري: إن العمل والعبادة لا يكون إلا بالمعرفة، فأضاف إلى كتاب الشيخ الطوسي (قده) في آخر الأبواب العشرة باباً آخر وسماه بـ«الباب الحادي عشر» وهو ما يرتبط بالمعرفة وما يرتبط بمعرفة الله سبحانه وتعالى.

س 26: كما تعلمون إن العبادة متأخرة رتبة عن المعرفة يعني: لكي يَعْبُدَ الإنسانُ لابد وأن يَعْرِفَ أولاً، فلماذا جعل هذا الباب بالباب الحادي عشر؟ حيث كان ينبغي أن يجعله بالباب الأول؟!

ج: يقال في محله: ذكر بعض المعلقين أن السبب في ذلك كي لا يكون عاملاً في تشويش ترتيب الكتاب وإلا كما تقولون أنه بحسب النظم كان ينبغي أن يجعل هذا الباب بالباب الأول، ويجعل الأبواب الأخرى من الثاني إلى الباب الحادي عشر.

ولكنه حتى يحافظ على نظم الكتاب أي مصباح المتهجد للشيخ الطوسي نجد أنه جعل هذا الباب الذي يرتبط بمعارف الدين وبمعرفة الله سبحانه وتعالى في آخر الكتاب، وحيث أن الكتاب الذي اختصره عشرة أبواب فيكون هذا الباب الباب الحادي عشر.

لهذا قال الفاضل المقداد السيوري: (ولمَّا كان ذلك الكتاب) وهو مصباح المتهجد ومختصره وهو منهاج الصلاح (في فنّ العمل والعباداتِ والدعاء، استدعى ذلك إلى معرفة المعبود والمدعوّ) حيث كما تقدم من الشارح السيوري من أنه لا عبادة إلا بمعرفة يقينية، إذن (فأضاف) أي: العلامة الذي اختصر كتاب مصباح المتهجد، (إليه) أي: إلى ذلك المختصر (هذا الباب) وسماه الباب الحادي عشر حفظاً لنظمِ الكتاب.

س 27: ما هو المراد من الوجوب في قوله: فيما يجب على عامة المكلفين؟

ج: طبعاً (الوجوب في اللغة) يأتي بمعنى (الثبوت والسقوط، ومنه قوله تعالى: {فَإذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}(1)

قال الزمخشري: وجوب الجنوب: أي: وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجبة إذا سقط، و وجبت الشمس جِبة: أي: غربت، والمعنى: فإذا صفت الإبل أيديها وأرجلها للنحر - أيام الحج - {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي: خرَّت صريعة بعد نحرها، حتى استقرت جنباتها على الأرض بالكامل كناية عن انتهاء حركتها(2).

هذا معنى الوجوب في اللغة وأمَّا في الاصطلاح الذي يتعلق ببحثنا المتواضع قال السيوري.

(و) تعريفه (اصطلاحاً) أي: أيُّ وجوبٍ مقصود منه هنا؟ قال إن المراد من(الواجب) هنا: (هو ما يُذَمُّ تاركه) ولكن (على بعض الوجوه) لا مطلقاً.

س 28: لماذا قال على بعض الوجوه، لا مطلقاً؟

ج: باعتبار أن الواجب إذا كان عينياً، فإنه يُذم تاركه، أما إذا كان كفائياً، فإنه لاشك لا يذم تاركه فيما لو قام به البعض الآخر، فهنا لوترك الواجب العيني فإنه يكون مستحقاً للذم.

س 29: ما الفرق بين الواجب العيني والكفائي؟

ج: قال السيوري: (وهو) أي: الواجب (على قسمين):

إمَّا (واجب عيناً)، (و) تعريف الواجب العيني (هو مالا يَسْقُط عن البعض بقيام البعض الآخر به) وبتعبير أوضح: إن الواجب العيني: هو العمل الذي يجب القيام به من قِبَلِ كلِّ شخص مكلف ولا يوجب القيام به من قِبَلِ البعض سقوطاً للتكليف الشرعي عن البعض الآخر، أي: لابد لكل شخص مكلف من القيام بتكليفه الشرعي، كالصلاة اليومية فإنها تجب على كل شخص مكلف، ولا تسقط بقيام الآخرين بهذا الواجب العيني الشرعي.

(و) إمَّا هو(واجب كفاية)، (و) تعريف الواجب الكفائي (هو بخلافه) أي:بخلاف الواجب العيني الذي يجب القيام به من كل شخص مكلف ويذم تاركه، أمَّا الواجب الكفائي فإنه أيضاً في أول الأمر يكون واجباً على كل مكلف، ولكن إذا قام به البعض فإنه يسقط عن البعض الآخر من المكلفين.

ومثال الواجب الكفائي:

يجب في حال الاحتضار والنزع توجيه الميت المسلم إلى القبلة. ولكن هذا الوجوب كفائي فلو قام به البعض سقط عن الآخرين وإذا تخَلَّف الجميع أثموا.

س 30: معرفة الواجب سبحانه وتعالى من أي قسم؟ أي: إن وجوب المعرفة هل هو من الوجوب العيني؟ أم من الوجوب الكفائي؟

ج: قال السيوري: (والمعرفة من القسم الأول) يعني أنه: واجبٌ عيني ونفسي وتعيّني، بل ويعتبر من أهم الواجبات عقلاً وشرعاً.

س 31: ما الفرق بين الوجوب العيني والنفسي والتعيّني؟

ج: طبعاً تقدم تعريف العيني كما في السؤال «29».

وأمَّا الوجوب النفسي فهو:كما عُرف بأنه: ما وجب لنفسه لا لواجب آخر، وإن شئت قلت: إن الواجب النفسي ما يعاقب على تركه بما هو هو، بلحاظ عالم الإلزام وتحميل المسؤولية من قِبَلِ المولى على العبد، فإذا جعل نفس العمل كالصلاة والصوم في العهدة واشتغلت الذمة به كان الفعل واجباً نفسياً.

وأمَّا الواجب التعيني فهو: الواجب بلا واجب آخر يكون عِدلاً له وبديلاً عنه في عرضه، كالصلاة اليومية مثلاً فلا يمكن أن يرخص في تركها مطلقاً: أي: لا يمكن أن يأتي بعمل عوضاً عن الصلاة.

س 32: وما هو الشاهد على أن معرفة الواجب من القسم الأول؟

ج: طبعاً أشار إلى شاهدين وهما كما يلي:

الشاهد الأول: هو قوله: على عامة المكلفين، إذ لو كان وجوباً كفائياً لما وجب على عامة المكلفين، أي: أن وجوب المعرفة إذا عرفه البعض فإنه لا يستلزم سقوطه عن البعض الآخر، فلا يجب عليه - على هذا البعض الآخر - أن يتعرف على المعبود وعلى المدعو وهو الله سبحانه وتعالى، هذه قرينة.

والشاهد الثاني: سيأتي ذكره بعد ذلك، قوله: ومن جهل شيئاً من ذلك خرج عن ربقة المؤمنين، ومن لم يعلم هذه الأمور التي نذكرها فهو أساساً ليس بمؤمن.

من هنا يرى أن الواجب هنا هو الوجوب العيني، (فلذلك قال: «يجب على عامة المكلفين» ) ولو كان من قبيل الواجب الكفائي لما قال: على عامة المكلفين.

س 33: من هو المكلف؟ وما هي شرائط التكليف؟

ج: قال: (و) المراد من (المكلف هو الإنسانُ الحيُّ البالغُ العاقلُ)،والشرائط العامة للتكليف عبارة عن أربعة أشياء وهي:

أ - البلوغ

ب - العقل

ج - القدرة

د - العلم.

س 34: عن أي شي احترز في تعريف المكلف؟

ج: احترز أولاً بقيد الإنسان ليخرج العجماوات إذ أنها ليست بمكلفة.

واحترز ثانياً بقيد الحي باعتبار أن الميت ليس بمكلف.

واحترز ثالثاً بقيد البالغ لسقوط القلم عن الصبي.

واحترز رابعاً بقيد العاقل لسقوط القلم عن المجنون كذلك، وبهذين الشرطين الأخيرين، أي الثالث والرابع أخرج الصبي والمجنون لأنهما يُعتَبَران في الشرع مرفوعَي القلم، ومسلوبي العبارة، فلا اعتبار بقولهما، ولا فعلهما.

قال النبي (ص) (رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرأ، وعن النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصبيّ حتّى يحتلم)(3)

لهذا قال: (فالميت والصبي والمجنون) أخرجناهم عن دائرة المسؤولية باعتبارهم (ليسوا بمكلفين).

س 35: اذكر لنا توضيحاً مختصراً عن شرائط التكليف؟

ج: الشرط الأول: هو البلوغ.

قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُم طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُّدَّكُمْ}(4).

تبين هذه الآية الشريفة تطور الجنين بعد أن يولد طفلاً، حيث يتحول بعدئذ إلى شاب يافع قد بلغ أوج قوته {أَشُدَّهُ} أي: يتمتع بهيكل قوي وقامة منتصبة وتركيب جسمي رجولي وعضلات قوية وعظام صلبة، تتناسب حركاته وسكناته وأخلاقه وأفكاره مع ما تتطلبه مرحلة الشباب.

على عكس ذلك مرحلة طفولة حيث تتميز بضعفها وعجزها عن فترة الشباب بقوتها وقدرتها تمايزاً كلياً، ولكل منهما محيطه المستقل وسماته وخصائصه المحددة به.

فهيكل الطفل ضعيف وتركيبته طفولية وعظامه وعضلاته هشة، وحركاته وسكناته وأخلاقه وأفكاره كلها تصدر عنه وهي تناسب صغر حجمه، أنه يرغب بالاختلاط مع الأطفال ويمارس لعبه المفضلة معهم، وما يختار من لعب تلائم مرحلته هذه.

وحينما يكون بالغاً من الناحية الشرعية بتكامله العضوي، فإنه يصير مكلفاً فيجب عليه ما وجب على مَنْ وصل إلى سن الرشد، لهذا تشمله وجوب معرفة الواجب.

الشرط الثاني: هو العقل.

الذي يمتاز الإنسان به عن المخلوقات الأخرى، حيث يملك قيمة أساسية وهي أن الإنسان بعقله يكون رشيدًا فيمكن أن يعي به كونه مكلفاً ويحس بمسؤوليةٍ تجاه ذلك.

نعم إن أعظم ما في النفس هو العقل الذي هداها الله به إلى خيرها وشرها،تقواها وفجورها، ما يصلح لها وعليها أن تأتي به، وما يفسدها وعليها أن تتركه.

عظيمةٌ جداً نعمة العقل الذي هو مرآة للطبيعة، تعكس ما فيها من خير وشر،وحُسن وقُبح، وجمال ودمامة، وأعظم منها المشيئة التي بها يتم انتخاب الإنسان لواحدٍ منهما، ويبلغ بها البشر أرفع درجات الكمال.

ومن أبرز خصائص العقل، الانتقال من الحقائق المشهودة إلى الحقائق المغيبة من المسائل الجزئية إلى الحقائق العامة، من الأمثلة الواقعية إلى السنن الإلهية، ومن الظواهر المعروفة إلى القوانين العامة غير المعروفة.

وعندما يفقد الإنسان امتياز الانتقال مما يراه إلى ما يفعله، ومما يبصره إلى ما يستبصره، فإنه هو والحيوان سواء.

ومن أعظم ظواهر هذه الحقيقة الكبرى، أن الإنسان حين يتأمل الكون بما فيه من آثار رحمة الله وقدرته وعظمته، وينتقل إلى معرفة ربِّه، فإنه ممن يعقل أي يحافظ على المعلومات، ويستثمر المبصرات، ويستفيد من الحقائق التي يراها، أمَّا إذا لم يتأمل الكون، ولم يصل إلى حقيقة معرفة ربِّه، فإنه ممن لا يعقل، بسبب جموده عند الظاهر، إذ أنه:

- يرى جريان الشمس لمستقرها، ولا يعرف أن ذلك من تقدير العزيز العليم.

- ويشاهد الودق يخرج من جبال السحب، ويتدفق كالغيث على الأرض الجرداء، ليحولها إلى جنة خضراء، ولكن لا يبصر أن هذا من رحمة الله.

- ويحس أن الإنسان ينام في الليل، ويصبح كالميت - من وراء تحوله من المنام إلى اليقظة أو العكس - فتتضح قدرة الله، ولا يبصر أصابع الغيب في ذلك.

ربَّنا تعالى شأنه بعد أن يبين في سورة الروم طائفة من آياته التي جعلها دليلاً إليه، وسبباً لمعرفته، ووسيلة للتقرب إليه، يقول: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ}.

- وهو لا يعرف أيضاً أن العقل هو الذي يذكّرنا بالوحي ويهدينا إليه، كما أنّ الوحي هو الذي يستشير العقل ويستخرج كوامنه ويوجه مسيرته نحو الحق، وإنّ من يتعلّم ويقرأ تجارب العقل البشري عبر التاريخ لا ريب يهتدي إلى أنّ الرسالة الإلهية ليست جنوناً، ولا إلقاءات الشيطان، ولا أساطير الأوّلين، وأنّها لا يمكن أنْ تتنزل إلا من ربِّ العالمين، لو أنصف الحق من نفسه وقصد سواء السبيل.

إلا أنّ المكذبين يكيلون التهم الباطلة التي يرفضها كل عاقل ليبرروا رفضهم للحقيقة،وتهربهم من المسؤولية التي تفرضها، ثم هل اكتفوا بذلك؟ كلا... لقد حاولوا التأثير على الرسول ليداهنهم في بعض قيم الرسالة بما يحفظ مصالحهم ويحوّلها إلى طائفة من الطقوس الخفيفة الفارغة عن قيم الحق والتقوى والعدل والاجتهاد، فقالوا له ما قاله الطغاة لكلّ مصلح وداعيةِ حقٍّ عبر التاريخ، قالوا: إنّك لمجنون، لماذا؟ لأنّ القيم التي تؤمن بها وتسعى لنشرها تتنافى وقيم النخبة المستكبرة. التي تتحكم بمصائر الناس،ثم جندوا لنشر هذه الدعايات إمكانياتهم المادية والمعنوية، وهكذا استهدفوا هزيمة المصلحين نفسياً لعلهم يتنازلون عن بعض قيمهم.

وأمام الهجمة التي يشنّها أُولئك المضلِّلون ضد الرسول والرسالة يقف الوحي مسدداً للرسول (ص) ولكل الرساليين عبر التاريخ ومدافعاً عن قيم الحق حيث يؤكد القرآن أنّ ما يزعمونه ما هو إلا كذب وافتراء، وذلك بالتذكرة ببعض البصائر نذكر واحدةً منها لارتباطها ببحثنا وهي:

إنّ الرسالة التي يحملها الرسول ويدعو إليها نعمة إلهية لا يدانيها جنون، لأنها حيث يدرسها الإنسان ويتدبر معانيها يجدها قمّة العقل، بل هي متقدمة بخطواتٍ كثيرةٍ على مسيرة العقل البشري لأنّها من عند ربِّ العقول.

من هنا تَتَّضِحُ لنا أهمية العقل بالنسبة إلى المكلف العاقل فهو مسؤول ليثير عقله، لكي يربط المعلومات ببعضها، ويرتقي من خلالها إلى الحقائق الكبرى،وبالرغم من أنّ ما في الحياة كلّها آيات تشير إلى تلك الحقائق إلا أنّ مَنْ لا يستشير عقله لا يستفيد منها شيئاً.

لهذا يحترز بالعاقل لكي يخرج المجنون إذ لا تكليف عليه أو الأبله الذي لا يدرك الواضحات لبلاهته وقصور عقله.

الشرط الثالث: هو القدرة:

يقول السيد الشهيد الصدر (ره) حولها أن:

القدرة شرط عقلي للتكليف، ولذلك لا يكلف الله أحداً إلا بما يقدر، فبقدر استطاعتك يكلفك الله، فمن عجز عن الطاعة كان معذوراً وسقط عنه التكليف سواء كان التكليف أمراً وإلزاماً بشيء وقد عجز عنه كالمريض يعجز عن القيام في الصلاة،أو نهياً وتحريماً لشيء وقد عجز عن اجتنابه وتركه كالغريق يعجز عن اجتناب الخطر.

قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا}(5).

لهذا فالإنسان إذن مسؤول عن تصرفاته ومسؤول عن أفكاره، وعليه فهو مسؤول عن الإيمان أو الكفر في قلبه: إن الإيمان عمل مسؤول لصاحبه، ذلك لأن كلّ بشر يولد بالفطرة التي يستطيع أن يعرف الله بها، لو لا أنه يطمر فطرته في تراب الشهوات، ويحتجب وراء سحب الأساطير والخرافات، فلا يؤمن بالله، إلا الذين يستجيبون لفطرتهم ويستنيرون بنور العقل ويخرقون به حجب الغفلة والأساطير، إنهم يصممون على أن يقاوموا ضغوط الهوى باتجاه الفكر، وأن يتبعوا هدى العقل في الإيمان بالله.

لهذا بين الله تعالى في قرآنه الكريم حدود مسؤولية الإنسان، إنها في إطار قدراته، فبقدر سعة قدرات الإنسان تتسع مسؤولياته، وكلّ إنسان يتحمل مسؤولياته دون مسؤوليات الآخرين، وذكر سبحانه وتعالى بعض الاستثناءات في المسؤولية منها، الخطأ والنسيان والحرج والعجز - الضرر -.

هذه الاستثناءات خاصة ليست دائمة بل في ظروف معينة كالجهاد في سبيل الله لا يستثني عن المسؤولية شيء، ذلك لأن النسيان ينشأ من اللامبالاة، والخطأ ينشأ من عدم الجدية، أما الحرج والضرر، فهما يرافقان ظروف الجهاد بصورة طبيعية.

إلا أن التكاليف التي تسبب ضرراً لحياة الإنسان وابتعاداً عن سنن الله،كالرهبنة والاعتزال عن الناس والامتناع عن الزواج أو عن أكل الطيبات، إن هذا النوع من التكاليف كانت في الأمم لأسباب مرحلية، ولكنها انتفت في الإسلام لأن الإسلام ليس ديناً مرحلياً بل دين أبدي، للبشر.

وقد خُفِّفَت في الإسلام التكاليف المجهدة والتي سمّيت بالحرج فإذا أصبح الصوم مرهقاً لصاحبه ويستنفد كلّ جهده وكلّ طاقته، يجوز له آنئذٍ أن لا يصوم، وكذا الحج وكل التكاليف.

الشرط الرابع: هو العلم:

أي أن يعلم الإنسان بأنه مكلف بمعرفة الحق، بدرجة اليقين والعلم أي: مائة بالمائة ويعني الجزم الذي لا يبقى معه مجال لأي تردد، وهذا يحصل بالعلم الذي قال عنه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) :

(العلم محيي النفس، ومنير العقل، ومميت الجهل)(6).

لهذا يحث أمير المؤمنين (ع) القادرين، على تحصيل هذا العلم، لأنه من شرائط تكليفهم الشرعي، فيقول (ع) :

(اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة)(7).

نعم، يوفقهم اللَّه تعالى للهداية وينور قلوبهم، ويطهِّرها من أماني الشيطان، فيعلمون أن الحق من ربهم فيؤمنون به، فتصبح قلوبهم خاضعة للحق، مسلمة لأمر الله، ويهديهم الله بإيمانهم إلى صراط مستقيم، بينما يفقد الكفار نعمة اليقين فتراهم لا يزالون في ريب منه برغم كل آيات الصدق، حتى تأتيهم الساعة بغتة بالموت، أو يأخذهم الربُّ، بعذاب يوم عقيم، أي: لا مثيل له في عظم أمره.

من هنا يعتبر العلم مشعلاً وهَّاجاً يضيء درب الحياة المظلمة ويحفظ الإنسان من الانحراف والسقوط في منعطفات الحياة.

ويسقط هذا التكليف عن الإنسان الجاهل لأنه ميت وإن كان حياً، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) (8).

وتقصد بالجاهل هو الذي حُرم من التعلم لسبب ما، كما لو عاش في صحراء بعيدة عن جو حصول العلم والمعرفة لانصرافه بأعمال كالرعي وتربية الأبقار، مع أنه يملك عقلاً طبيعياً، إلا أن عقل من عاش في المدينة وفيها كل وسائل التعلم والثقافة، واكتسب نصيبه من التربية الصحيحة والتعليم السليم، حيث يبدأ في السادسة من عمره بكسب العلم والتعلم ويرتقي عاماً بعد آخر في فصول دراسية أعلى، نلاحظ متى ما جمعنا بين الأخوين في سنة الثامنة عشر مثلاً أن هناك اختلافاً بينهما في المستوى الإدراكي والعقلي، فالمتعلم قادر أكثر من شقيقه على فهم الأسباب والمسببات وتمييز الخير من الشر.

فالشخص المتعلم يكون مؤهلاً لتحمل شرائط التكليف التي كرمه الله تعالى بها،وأما الشخص الفاقد لأسباب التعلم فقد حُرم تحمل مسؤوليته ليتحصل على المعرفة الإلهية(9).

والخلاصة:

إن شرط العلم هو من أجل تنجّز التكليف، وإلا فالتكاليف الإلهية كلها مشتركة بين العالم والجاهل، يعني على الكل أن يسعى لتطبيقها في الساحة العملية بالمقدار الذي يمكنه من تحقيقها.

س 36: ما هو المراد من المعرفة في قوله: من معرفة أصول الدين؟ وما هو الفرق بين العلم والمعرفة؟

ج: في الحقيقة توجد أبحاث مفصلة في الكتب الاستدلالية أو في الكتب المنطقية أو الفلسفية أو الكلامية في الفرق بين العلم والمعرفة، ولكن حيث أنه لم يتعرض المصنف ولا الشارح لذلك، نحاول أن نختصر على محل الكتاب إلا إذا دعت ضرورة لذلك، باعتبار أننا نريد أن نبين هذا الكتاب أمَّا التوسُّع في التوضيح والتبيين فيتم في الموارد التي نجد ضرورة لذلك، وأمَّا عند عدم وجود ضرورة للتوسُّع فنكتفي بالكتاب.

ولكن للإشارة المكتسبة لمعرفة النسبة بين المعرفة وبين العلم نقول:

رادف بعض أرباب المعاجم العربية بين المعرفة والعلم(10).

وفارق بينهما آخرون بأن قالوا: العلم هو إدراك الكلي والمركب، والمعرفة هي إدراك الجزئي والبسيط، والمعرفة تستعمل في التصورات، والعلم يستعمل في التصديقات، ولذا يقال: عرفت الله، ولا يقال: علمته(11).

والمعرفة هي الإدراك المسبوق بنسيان حاصل بعد العلم، بخلاف العلم... ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف(12).

ونقصد بالمعرفة أنها إدراك للجزئي والبسيط، طبقاً لما هو الرائج عند الفلاسفة،فإنّ المعرفة عندهم - تبعاً للغة - تطلق على إدراك الجزئيات، فيقال: «عرفت زيداً» و«عرفت الله» ولا يقال: «عرفت الإنسان».

وحديثاً:

رادفوا بين المعرفة وبين الفكر...

كما رادفوا بين العلم والفكر...

وفرقوا بينهما بأن قالوا:

المعرفة، فكر غير منظم، والعلم: فكر منظم، أو معرفة منظمة.

من خلال ما تقدم اتضح لنا الفرق الموجود بين المعرفة وبين العلم، إلا إن تعبيرنا - في بحثنا - بالمعرفة إنما نريد منه ما يرادف العلم الذي يتعلق بالجزئي والكلي على حدٍّ سواء، ونريد منه مطلق الإدراك تصوراً كان أو تصديقاً،منظماً أو غير منظم، وتفصيله موكول إلى محله، فلهذا لم يتعرض المصنف لتفصيل المعرفة باعتبار أن المراد من المعرفة هو العلم بهذه الأمور: العلم بالواجب، العلم بصفاته الثبوتية والسلبية ونحو ذلك، فلهذا تجدون أن السيوري انتقل مباشرة من المعرفة إلى الأصول.

س 37: ما هو المراد من الأصول؟

ج: قال السيوري: (والأصول) فهي (جمع الأصل وهو) أي الأصل - كما يعرفه المعجم اللغوي العربي - (ما يُبتنى عليه غيره)(13).

أو هو: ما يُبنى عليه الشيء، أو ما يتوقف عليه(14).

أو أن المراد من أصل الشيء هو أساسه الذي يقوم عليه(15).

يقول الدكتور عبد الهادي الفضلي:

وقد مرت كلمة «أصل» شأنها شأن الكثير من الكلمات العربية بمراحل تطورات فيها دلالتها من معنى إلى آخر، حيث وضعت أول ما وضعت لأسفل الشيء، «فيقال، أصل الجبل، وأصل الحائط، وأصل الشجرة»، ويراد به أسفل الجبل أي: قاعدته، وأسفل الحائط أي: أساسهُ، وأسفل الشجرة أي جذرها.

«ثم توسَّع المعنى حتى تناول كل ما يستند وجود الشيء إليه، فالأب أصل الولد، والنهر أصل للجدول» وهكذا(16).

وبعد ذلك تطورت دلالة الكلمة من الاستعمال في المعاني المادية المحسوسة التي ذكرت في أعلاه إلى التوسع في دائرة الاِستعمال لما يشمل الأَفكار والأمور المعنوية، فأصبحت تطلق الكلمة في لغة العلوم، ويراد بها: القاعدة التي يُبنى عليها الحكم.

فعند ما يقال: «أصول العلم» فإنه يراد بها قواعد العلم التي تُبنى عليها أحكامه، وهو المعنى المراد هنا.

فأصول المعرفة - في ضوء هذا - تعني أنها هي الأساس والقاعدة التي يُبنى عليها الدين(17).

وإلا لو لم توجد المعرفة فإن الله تعالى لا يقبل عملاً إلا بمعرفة كما في حديث عن الإمام الصادق (ع) (18).

فمن لا يعرف كيف يعبد الله تعالى؟ بل هو أساساً لا دين له، فلهذا ورد في كلمات أمير المؤمنين (ع) عند ما قال:

(أول الدين معرفته)(19).

فإذا أردنا أن يكون لنا دين فالدين لا يكون إلا على أساس المعرفة.

س 38: ما المراد من الدين لغةً؟

ج: قال، (والدين لغةً) يأتي بمعنى (الجزاء) كما في قوله تعالى: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أي: يوم الجزاء الأكبر، الذي يملكه الله تعالى، فيجازي المؤمن بالجنة.ويجازي الكافر بالنار - والعياذ بالله من النار - فيكون الدين لغةً بمعنى الجزاء،(ومنه) أي: ومن هذا المعنى اللغوي هو قول النبي (ص)  (كما تَدينُ تُدانُ)(20).

قال تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثلَهَا وَهُمْ لا يُظلَمُونَ}(21).ففي هذه الآية المباركة تشجيع للبشر إلى المبادرة نحو الإيمان بالله سبحانه فيعدهم بأنْ يجازيهم بالحسنة عشر أمثالها، بينما لا يجازيهم بالسيئة إِلا مثلها.وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا}(22)وقال تعالى:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(23).

قال أبو عبد اللَّه(ع) كان علي بن الحسين(ع) يقول:

(ويلٌ لمن غلبت آحاده، فقلت له: وكيف هذا؟ فقال: أما سمعت الله عز وجل يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالها وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا}فالحسنة الواحدة إذا عملها كتبت له عشراً، والسيئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة، فنعوذ بالله ممن يرتكب في يومٍ واحدٍ عشر سيئات، ولا يكون له حسنة واحدة فتغلب حسناته سيئاته)(24).

وتشير خاتمة الآية إلى أنّ جزاء العمل في الآخرة ذات العمل بعد أن يتجسد في صورة مادية. بشعة، فالظلم في الدنيا ذاته هي الظلمات التي تحيط بصاحبها في الآخرة، ومن أكل أموال اليتامى ظلماً فإنما يأكلون في بطونهم ناراً، وسيصلون سعيراً، أما النتن الذي يخرج من أفواه الفاسقين فإنه ذاته الكذب الذي أفكوه أو الغيبة والتهمة والفرية التي مارسوها في دار الدنيا، دعنا نستغفر ربنا حتى يقينا شر السيئات التي اقترفناها، والذنوب التي احتطبناها.

والمحصل مما تقدم أن الدين في اللغة يطلق على الجزاء، فكما تدين فجزاؤك كذلك الإدانة، يعني: كما تجزي غَيْرَك تُجزَى، وكما تفعل بغيرك يُفعل بك، وهذه من إحدى السنن الكونية التي وضعها الله سبحانه وتعالى في هذا العالم.

س 39: وما هو المراد من الدين اصطلاحاً؟

ج: قال السيوري، (واصطلاحاً: هو الطريقة والشريعة)، أي: هو السيادة القانونية حسب الشرائع الإلهية التي بعث اللَّه تعالى بها الأنبياء كشريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى (ع) وشريعة نبينا محمّد (ص) وتعدُّدُ الأنبياء (ع) لا يعني تعدُّدُ الديانات الإلهية بل هدفها الرئيسي هو التوحيد والوحدة فذكر القرآن مثلاً، أنَّ الله لا إله إلا هو... يقوم بالنظام العادل والمتمثل في الإسلام، الدين الوحيد لله، وهو لا يعني الخضوع لفئة من الناس، ولا حتى لشخص معين، إنَّما يعني التسليم لله وحده، وبذلك يضع القرآن أرضية الوحدة بين أبناء الرسالات السماوية.

كانت هذه تقدمة بسيطة لبيان إنَّ لله ديناً واحداً فقط، قد تختلف بعرض تفاصيله من عصر لعصر ولكن أصوله هي تبقى، وتجري عليها الأمم المسلمة جيلاً بعد جِيل.

{إنَّ الَّدِينَ عِنْد َاللهِ الإِسْلامُ}(25).

قال السيوري: (وهو) أي: الدين حسب المصطلح القرآني هذا هو(المراد هنا) أي: إن المراد بحثه في هذا الكتاب ليس هو المعنى اللغوي للدين، وإنما هو الدين الاصطلاحي والذي يعني: الشريعة وهي شريعة الإسلام.

والأنبياء (ع) هم الأمناء لرسالة اللَّه جلَّ وعلا، الذين يخلصون الدعوة إلى اللَّه لا إلى أنفسهم، ولا إلى الملائكة أو الأنبياء، ويصدق بعضهم ببعض، وفقاً للميثاق الذي اتخذه الله منهم قبل أن يحمّلهم مسؤولية الرسالة أن يؤمنوا بالنبي الذي يبعث إليهم وينصرونه، فوافقوا جميعاً عليه، وأشهدوا الله على أنفسهم.

وهذا في الواقع هو الإسلام بمعناه الصادق، فهو تجرد كامل عن الذاتية، وتسليم مطلق لله، تماماً كما أسلمت السماوات والأرض لسنن الله.

وبالنسبة لنا يعني هذا الإسلام، الإيمان بجميع الرسل انطلاقاً من وحدة الرسالات السماوية.

س 40: هل لكم توضيح عن قول السيوري: هو الطريقة والشريعة؟

ج: نعم نذكر - قارئي الكريم - توضيحاً بسيطاً فنقول:

إن رسالة الله تعتبر مسؤولية وأمانة كبيرة يحملها الإنسان في الحياة، وتتركز عند الأنبياء والصديقين، وعند الذين ينصبون أنفسهم دعاة إلى الدين وهي - في ذات الوقت - مسؤولية ثقيلة وذات قيمة كبيرة، لأنها أداة لتوجيه الناس إلى الحياة السعيدة وإلى مقاومة الجبت والطاغوت، ولنا أن نتصوَّر أن قدرة الإنسان في ضبط نفسه عن شهواته متصلة بفهمه الصحيح لرسالة الدين في الحياة، إذ أنها هي تحذره من مغبة الاسترسال مع الشهوات.

وتبين له أن لقمة واحدة يمضغها الإنسان بشهواته، قد تمنعه من الأكل الهنيء طول حياته، وأن ساعة واحدة من الغفلة واللاإرادة، قد تجعل حياته وإلى الأبد جحيماً لا يطاق، وأن أي شهوة طائشة أو جريمة، أو ذنب، أو هفوة، توجب عليه الحساب والعقاب الأليم في الآخرة، وبالتالي رسالة الدين تجعل إرادة الإنسان قوية وقادرة على ضبط الشهوات وتوجيه طاقاته نحو الجد.

هذا ما يقوم به الدين الاصطلاحي ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لدراسته ودراسة أقسامه الخمسة في هذا الكتاب فهي الصانعة لكمال الإنسان.

من هنا: يتوجب علينا جميعاً الإخلاص لدين الله تعالى الذي جعله المصدر الوحيد للسيادة والتشريع من خلال القرآن الكريم، حيث كرَّمَنَا بحمل رسالة الدين والعلم، الدين المتمثل في الكتاب، والحكمة المتمثلة في تطبيق الدين على واقع الحياة، والذي يحتاج بالطبع إلى المعرفة بالحياة عن طريق العلم.

فالعودة إلى دين الله تعالى، تعني العودة إلى سنن الحق الحاكمة على الكون، لأننا لا يمكننا البقاء طويلاً في مواجهة كل قوى الكون، وإذا متنا فنحن راجعون إلى الله.

هذا دين الله: الإيمان بما أنزل على الأنبياء الأسبقين من كتاب، وما أوتي الأنبياء الآخرون من كتاب وحكمة ومعاجز، ولاسيما الإيمان بما أُنزل على خاتم الأنبياء من شريعة وهي الشريعة الإسلامية.

 

* الهوامش:

(1) سورة الحج الآية 36.

(2)الكشاف للزمخشري بتصرف ج 3 ص 158.

(3)ميزان الحكمة ج 8 حديث رقم 17486.

(4)سورة الحج الآية 5.

(5)سورة البقرة الآية 286.

(6)ميزان الحكمة ح 6 حديث رقم 13378.

(7)نفس المصدر حديث رقم 13381.

(8)ميزان الحكمة ج 2 حديث رقم 2818.

(9)بتصرف من (الشباب بين العقل والعاطفة) للفلسفي ج 1 ص 165.

(10)انظر: المعجم الوسيط: مادة (علم).

(11)انظر: محيط المحيط: مادة (عرف).

(12)نقلاً عن كتاب أصول البحث للفضلي ص 27.

(13)انظر التعريفات، مادة (أصل).

(14)انظر، الصحاح، مادة(أصل).

(15)انظر: المعجم الوسيط مادة (أصل) بتصرف.

(16)انظر: معجم لارؤس: مادة أصل.

(17)نقلاً عن أصول البحث للفضلي بتصرف ص 9.

(18)انظر: ميزان الحكمة ج 6 حديث رقم 11877.

(19)نفس المصدر ج 6 حديث رقم 6194.

(20)انظر: نهج الفصاحة، حرف الكاف.

(21)سورة الأنعام الآية 160.

(22)سورة غافر الآية 40.

(23)سورة القصص الآية 84.

(24)نور الثقلين ج (1) ص 785.

(25)سورة آل عمران الآية 19.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا