النبي (ص) ونور النبوة حوار مع سماحة الشيخ عادل الشعلة (1) (حفظه الله)

النبي (ص) ونور النبوة حوار مع سماحة الشيخ عادل الشعلة (1) (حفظه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على حبيب قلوبنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، نرحب بكم سماحة الشيخ في مجلتكم رسالة القلم ويطيب لنا إجراء هذه المقابلة معكم.

■ يتحدث القرآن الكريم عن الجاهلية بأوصاف مثل {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}، ويصفها أمير المؤمنين (عليه السلام): «بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلالٌ فِي حَيْرَةٍ وحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ واسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ واسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ وبَلاءٍ مِنَ الْجَهْلِ فَبَالَغَ (صلّى الله عليه وآله) فِي النَّصِيحَةِ ومَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ ودَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة»(2).

أ. كيف عايش النبي (صلّى الله عليه وآله) هؤلاء في هذه الفترة من عمره الشريف؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. مرحباً بكم وبجميع القائمين على هذه المجلة المعطاءة.. رسالة القلم، وجزاكم الله خير الجزاء. 

استشهدتم بخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) في سؤالكم، وقد أشار النص إلى طبيعة البيئة الاجتماعية التي عاشها النبي (صلّى الله عليه وآله)، وفي هذا الإطار أرغب في الاستشهاد أيضاً ببعض النصوص القرآنية المبيّنة لهذه البيئة؛ لأنّ التعرف على هذه البيئة بحدّ ذاته يرسم صورة واضحة لدلالة المفردات والعناوين التي تبيّن طبيعة معايشته (صلّى الله عليه وآله)، فهو (صلّى الله عليه وآله) قد عايش في هذه البيئة أنماطاً من البشر.. نمطاً معانداً قد أشار إليه تعالى في مثل قوله: ﴿بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾(3).

ونمطاً مؤذياً قد أشار إليه تعالى في مثل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً﴾(4).

ونمطاً بذيئاً، مستهزءاً قد أشار إليه تعالى في بيان قولهم الفاحش في مثل قوله: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾(5).

ونمطاً منافقاً قد أشار إليه تعالى في مثل قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾(6).

ونمطاً لا يعرف قدر النبي (صلّى الله عليه وآله) ولا شأنه ولا عظمته، فلم يوقره أو يكرمه أو يحترمه، وقد أشار إليه تعالى في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}(7).

وقوله: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(8).

ونمطاً متسرعاً في آرائه ومواقفه، وقد أشار إليه تعالى في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(9).

إنّ هذه البيئة الصخرية المعقدة، عايشها (صلّى الله عليه وآله) معايشة رساليةً، منذراً، ونذيراً، ومبشراً، وداعياً، وتالياً، ومعلماً، ومزكياً، وحزيناً، وصابراً، ونقيّاً، ورحيماً، وحليماً، وأسوة، وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ومحللاً حلال الله، ومحرماً حرامه، ومحرضاً، وشديداً، ومقاتلاً، وشجاعاً، وطريقاً، ومعيناً لخليفته.

أما كونه منذراً، ومبشراً، ونذيراً، فكما قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾(10)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾(11).

وأما كونه داعياً إلى الله تعالى، فكما قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾(12).

وأما كونه تالياً لكتاب الله تعالى، فكما قال تعالى: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾(13).

وأما كونه معلماً ومزكياً، فكما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾(14).

وأما كونه متأثراً، حزيناً على قومه الذين لم يستجيبوا لدعوته، فكما قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾(15).

وأما كونه صابراً، فكما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(16).

وأما كونه حسن النية، ونقي السرية، فكما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(17).

وأما كونه رؤوفاً رحيماً، فكما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(18).

وأما كونه حليما، فكما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾(19).

وأما كونه أسوةً وقدوة، فكما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(20).

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(21).

وأما كونه آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، ومحللاً حلال الله، ومحرماً حرامه، فكما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(22).

وأما كونه محرّضاً، فكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾(23).

وأما كونه شديداً على الكافرين، فكما قال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾(24).

وأما كونه محارباً للكافرين، فكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾(25).

وأما كونه ثابتاً في الميادين، وشجاعاً لا يلين، فكما قال تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾(26).

وأما كونه طريقاً لمغفرتهم، فكما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾(27).

وأما كونه معيناً لخليفته، فكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(28).

هكذا عايش النبي (صلّى الله عليه وآله) واقعه، ولم يألُ جهداً في أداء ما حُمِّل، فجزاه الله خير الجزاء، وحيّا الله محمداً وآل محمد بالسّلام.

ب. ما الذي نستفيده نحن طلبة العلوم من سيرته وتعامله مع أشخاص هذه أوصافهم؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. أظنّ بأنه بات واضحاً مورد استفادتنا من سيرته (صلّى الله عليه وآله)، فإنّه يجب على طالب العلم أو ينبغي له -كل بحسب مورده- أن يمارس طرق معايشته في أداء دوره الرسولي (صلّى الله عليه وآله).

■ في نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) النبي (صلّى الله عليه وآله) بــ «وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ (صلّى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَه‏»(29).

أ) ما هي حقيقة هذا التسديد الإلهي؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. في المراد احتمالات، أذكر منها الآتي:

الاحتمال الأول: أن المسدد هو أعظم ملك في دائرة الملائكة مطلقاً، وهو جبرائيل (عليه السلام)، إذ لم يثبت أنّ أحداً من الملائكة أعظم منه (عليه السلام). وقد قال تعالى في وصفه: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾(30).

وقد يؤيد هذا الاحتمال بما رواه الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «وإنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان مسدداً موفقاً، مؤيداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله»(31).

وروح القدس هو جبرئيل (عليه السلام) الذي كان مسدِّداً لنبي الله عيسى (عليه السلام) منذ أن كان فطيماً، كما أشار إليه تعالى في قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً﴾(32). إلاّ أنّ خبر الفضيل لا يدلّ على أكثر من التسديد، وليس فيه دلالة على كون تسديده للنبي (صلّى الله عليه وآله) حال صغره.

الاحتمال الثاني: أن المسدِّد هو أعظم ملك في دائرة ملائكة خاصين، وهم الملائكة الموكلون بتسديد الأنبياء، وهذا ما يمكن استفادته من خبر أبي جعفر (عليه السلام)، إذ ورد في قول الله (عزّ وجلّ): ﴿إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾(33)، أنه قال: «يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد (صلّى الله عليه وآله) ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع، يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشرّ ومساوئ الأخلاق، وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا رسول الله، وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى شيئاً»(34).

فالنص أشار إلى أنّ الله تعالى وكّل بأنبيائه ملائكة يحصون الأعمال، ووكلّ بمحمد (صلّى الله عليه وآله) ملكاً عظيماً، وهذا يعني بأنّ هذا الملك العظيم من سنخ الملائكة المحصين للأعمال.

وهذا الاحتمال وإن كان مخدوشاً بقرينة (يؤدون إليه تبليغهم) إلا أنه مؤيد ببعض النصوص التي أشارت إلى أنّ إسرافيل (عليه السلام) قد سبق جبرئيل (عليه السلام) في اقترانه بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وبما أنّ إسرافيل (عليه السلام) لم يقترن بالنبي (صلّى الله عليه وآله) سوى ثلاث سنين، فهذا يعني أنّ هناك ملكاً غيرهما قد سبقهما، وهذا ما ذكره الشيخ المفيد (قدّس سرّه)، قال: «قُرن إسرافيل برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثلاث سنين، يسمع الصوت ولا يرى شيئاً، ثمّ قرن به جبرئيل (عليه السلام) عشرين سنين، وذلك حيث أوحى إليه، فأقام بمكة عشر سنين ثمّ هاجر إلى المدينة فأقام بها عشر سنين، وقبض (صلّى الله عليه وآله) وهو ابن ثلاث سنين وستة أشهر»(35).

وعن الشعبي(36)": "قرن إسرافيل بنبوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثلاث سنين، يسمع حسّه ولا يرى شخصه، ثمّ كان بعد ذلك جبرئيل (عليه السلام)"(37).

فاقتران إسرافيل (عليه السلام) بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، ومن بعده جبرئيل (عليه السلام)، يبين أن الملك الذي اقترن به منذ كان فطيماً هو ليس جبرئيل (عليه السلام).

الاحتمال الثالث: أن المسدِّد، هو خَلْقٌ أعْظم من جبرئيل وميكائيل (عليه السلام)، ففي صحيحة أبي بصير قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجلّ): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾(38). قال (عليه السلام): «خلق أعظم من جبرئيل ومكائيل، كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمة (عليهم السلام)، وهو من الملكوت)(39).

وفي صحيحته الأخرى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾(40) قال: «خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرائيل ومكائيل، وقد كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده»(41).

■ قد تقدم أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أشار -في النص الذي ورد في السؤال- إلى أن التسديد كان عَبْرَ أعظم ملك من ملائكته، وهذه النصوص أشارت إلى أنه خلق أعظم من الملائكة، ولم تُشر إلى أنه من الملائكة، بل ورد كونه ليس من الملائكة صريحاً في خبر الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) قال: «إنَّ الله عزّ وجلّ أيدنا بروح منه مقدَّسة مطهرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممن مضى إلاّ مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهي مع الأئمة منّا تسددهم وتوفقهم، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزّ وجلّ»(42).

فإذا كان الخلق الأعظم ليس ملكاً، فكونه المسدِّد للنبي (صلّى الله عليه وآله) منذ صغره، ليس صحيحاً.

● بسم الله الرحمن الرحيم، نحتاج هنا إلى تقديم مقدمتين، يتضح بهما كيفية الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات:

 الأولى: الظاهر أنّ الروح المقدّسة المعرَّفة بالعمود النوري -كما في الخبر الرّضوي المذكور-، هي غير روح القدس الجبريلي، وغير روح القدس الملكوتي، وفي وجوه المغايرة يمكن قول الآتي:

أما الوجه في بيان غيرية الروح المقدسة عن روح القدس الجبريلي، هو أنّ الإمام (عليه السلام) قد فسرها بالعمود النوري، وجبرائيل (عليه السلام) ليس عموداً.

وأما الوجه في بيان غيرية الروح المقدسة عن روح القدس الملكوتي، فلأنّها خاصة بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، بخلاف روح القدس الملكوتي فإنه ليس خاصاً بهم (عليهم السلام)، وهذا ما يمكن استفادته من صحيحة جابر الجعفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا جابر إنّ الله تبارك وتعالى خلق الناس ثلاثة أصناف، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾(43). فالسابقون هم رسل الله (عليهم السلام)، وخاصة الله في خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح.. أيدهم بروح القدس، فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان، فبه خافوا الله عزّ وجلّ، وأيدهم بروح القوة، فبه قدروا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّ وجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون، وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان، فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون»(44).

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾(45). فقال (عليه السلام): «جبرئيل الذي نزل على الأنبياء والروح تكون معهم ومع الأوصياء لا تفارقهم تفقهم(46)، وتسددهم من عند الله، وأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبهما عبد الله واستعبده الخلق، وعلى هذا الجن والانس والملائكة، ولم يعبد الله ملك ولا نبي ولا إنسان ولا جان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وما خلق الله خلقا إلا للعبادة»(47).

فالنصان صريحان في كون روح القدس الملكوتي عاماً وليس خاصاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وهذا يعني أنّ روح القدس الملكوتي غير الروح المقدسة.

الثانية: بعد أن تبين أن نفي المَلَكَيّة، إنما هو عن الروح القدسيّة -العمود النوري-، وليس نفياً لمَلَكيّة روح القدس الملكوتي، فيمكن القول بأنه ورد التعبير بالملك عن الخلق الأعظم في بعض النصوص، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «أنّ الروح ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه منها سبعون ألف لسان، يسبح الله بجميع ذلك»(48).

وفي آخر بإضافة عنه (عليه السلام) أنّه قال: «الروح ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، ولكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل منها سبعون ألف لغة، يسبح الله تبارك وتعالى بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة يوم القيامة»(49).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير الرّوح الواردة في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾(50). قال: «إنّه ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل»(51).

ولعل هذا التعبير عن الروح بكونه ملكاً من الملائكة ناظر إلى كونه وجوداً ملكوتياً، كما جاء في تعبير صحيحة أبي بصير المتقدمة.

ويرد على هذا الاحتمال أنّه حتى لو صحّ إطلاق مفردة الملك على روح القدس الذي هو غير جبرئيل (عليه السلام)، إلاّ أنه لا يمكن القول بأنه المسدِّد للنبي (صلّى الله عليه وآله) منذ أن كان فطيماً، وذلك لأنه إنما ينزل على النبي حال نبوته، لا قبل ذلك، ويدل عليه قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾(52).

هذا مضافاً إلى أنه نفسه ينتقل من إمام إلى إمام، حال قيام الإمام بالأمر، لا قبل ذلك، وبانتقاله يتعرف الإمام عند قيامه بالأمر على ما لم يكن يعرفه قبلاً، فعن عبيد ابن زرارة وجماعة معه قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «يعرف الذي بعد الإمام علم من كان قبله في آخر دقيقة تبقى من روحه»(53).

ويجتمع روح القدس حال انتقاله إلى الإمام القائم بالأمر مع العمود النوري، وهذا الاجتماع يمكن استفادته مما ورد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «أنّ الإمام مؤيد بروح القدس، وبينه وبين الله عمود من نور، يرى فيه أعمال العباد، وكلما احتاج إليه لدلالة اطلع عليه»(54).

فالحاصل أن الإمام قبل قيامه بالأمر ليس عنده إلاّ العمود النوري فحسب، وهذا ما يُستفاد من مجموعة من الأخبار أيضاً، فعن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله  (عليه السلام) قال: «إن الإمام يسمع الصوت في بطن أمه فإذا بلغ أربعة أشهر كتب على عضده الأيمن وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته فإذا وضعته سطع له نور ما بين السماء والأرض، فإذا درج(أي مشى) رفع له عمود من نور يرى به ما بين المشرق والمغرب»(55).

وعن الفضيل بن يسار، قال: قال (عليه السلام): «إن الامام منّا يسمع الكلام في بطن أمه، فإذا وقع على الأرض سطع له نور من السماء إلى الأرض، فإذا درج رفع له عمود من نور يرى به ما بين المشرق والمغرب»(56).

وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إن الإمام منا ليسمع الكلام في بطن أمه، حتى إذا سقط على الأرض أتاه ملك فيكتب على عضده الأيمن: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(57)، حتى إذا شبَّ رفع الله له عموداً من نور، يرى فيه الدنيا وما فيها، لا يستر عنه منها شيء»(58).

هذه احتمالات ثلاثة في بيان المسدد له (صلّى الله عليه وآله).

ب) هل يعتبر هذا التسديد من مقامات النبوة؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. الجواب ينقسم بحسب الاحتمالات السالفة الذكر، فإن قلنا بأنّ المسدد هو جبرئيل (عليه السلام)، فهذا الاحتمال خاص بمقام النّبوة بنحو المعاينة، وأعم منه بشموله لمقام الحجج والولاية بغير معاينة، ويُسمى الحجّة عندها بالمحدّث،  فعن زرارة في صحيحته قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾(59)، ما الرّسول وما النبي؟ قال (عليه السلام): «النّبي الذي يرى في منامه، ويسمع الصّوت، ولا يعاين الملك، والرّسول الذي يسمع ويرى في المنام ويعاين الملك، قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾(60)، ولا مُحدَّث»(61).

وإن قلنا بأنّ المسدِّد هو ملك معين، فهو ليس من مختصات النّبوة، بل يشمل حتى المؤمنين فضلاً عن أوصياء الأنبياء، ففي صحيحة سليمان ابن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أراد بعبد خيراً، نكت في قلبه نكتة من نور، وفتح مسامع قلبه، ووكّل به ملكاً يسدده، وإذا أراد بعبد سوءاً، نكت في قلبه نكتة سوداء، وسدّ مسامع قلبه، ووكّل به شيطاناً يضلّه، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾(62) (63).

فهنا قد وكل الله تعالى به ملكاً يسدده بإلهام الحقّ والصواب والخير، نعم الأملاك تتفاوت في طبيعة المهام الموكلة إليها.

وإن قلنا بأن المسدد هو روح القدس الملكوتي، فلا يكون من مختصات النبوة، بل يشمل الإمامة، ويدلّ عليه مثل: خبر أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): "جعلت فداك، أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾(64) قال (عليه السلام): «يا أبا محمد، خلق والله أعظم من جبرائيل ومكائيل، وقد كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة يخبرهم ويسددهم»(65).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾(66) قال (عليه السلام): «لقد أنزل الله عزّ وجلّ ذلك الرّوح على نبيه (صلّى الله عليه وآله) وما صعد إلى السماء منذ أنزل، وإنه لفينا»(67).

فهذان النصان الصحيحان، كافيان في بيان عدم اختصاص هذا النمط من التسديد بمقام النّبوة.

■ في هذا الإطار يمكن فتح نافذة لإثارة تساؤل عن إمكانية تواجد هذا النور الملكوتي في نبيين في زمان واحد، أو في نبي وولي في زمان واحد، أو في وليين في زمان واحد.

● الناظر في النصوص يجد في الوهلة الأولى أنّه لا يوجد في شخصين، وفي آن واحدٍ معاً، وإنما ينتقل من واحدٍ إلى آخر.

وقال العلامة المازندراني (قدّس سرّه): "والمراد بانتقالها -أي: انتقال روح القدس-: انتقال مثلها لا نفسها إلاّ أن تحمل على الملك وهو بعيد هنا"(68).

ولكن قد يُقال أنّ انتقال المثل بعيد، لأنّ ظاهر النصوص هو النفس لا المثل، سيما كما في صحيحة زرارة المتقدمة، حيث قال فيها: إنّ الروح منذ أنزل لم يصعد إلى السماء، وإنما هو نفسه الذي أخذ ينتقل في الأئمة (عليهم السلام) واحداً تلو الآخر، وهذا يعني بأنه نفسه لا مثله، وإلاّ لو كان مثله لصعد ما في النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء.

كما يمكن فتح نافذة أُخرى للبحث حول كون ما نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) وانتقل إلى الأئمة (عليهم السلام)، هل هو نفسه ما نزل على الأنبياء (عليهم السلام) أم ليس كذلك؟

وجهان يردان إلى الذهن:

الوجه الأول: أنه نفسه، وذلك بدلالة صحيحة جابر الجعفي المتقدمة، حيث ذكر اختصاص الرّسل بروح القدس، وهذا يعني بأنه ينتقل من نبي إلى آخر حتى وصل إلى نبينا محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله).

الوجه الثاني: أنه ليس نفسه، بدليل خبر الحسن بن الجهم المتقدم، عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) قال: «إنَّ الله عزّ وجلّ أيدنا بروح منه مقدَّسة مطهرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممن مضى إلاّ مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهي مع الأئمة منّا تسددهم وتوفقهم، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزّ وجلّ»(69).

إلاّ أنه تقدمت الإشارة إلى أن الروح المقدسة الخاصة بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، هي عمود نوري، وهو ما ذكر في هذا النصّ أيضاً، وهي غير روح القدس الذي هو ملك، وهو في الأنبياء، وانتقل منهم إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومن بعده إلى أوصيائه.

إن قلتَ: إنّ نزوله على النبي (صلّى الله عليه وآله) فيه دلالة على أنه ليس هو من كان في الأنبياء؟

قلتُ: ليس فيه دلالة على ذلك، وكونه نازلاً من السماء، لعله إشارة لمفارقته نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام)، الذي هو في السماء كما قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(70).

وقد كان عيسى (عليه السلام) مؤيداً بروح القدس بنص القرآن، كما قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾(71).

ومن هذا الانتقال نقترب من فهم معنى كون نبي الله عيسى بن مريم (صلوات الله عليه) يُصلي خلف قائم آل محمد (صلى الله عليهم أجمعين)، فتأمل.

ولكن صحيحة أبي بصير تبيّن اختصاص روح القدس الملكوتي الأعظم بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وبأهل بيته (عليهم السلام)، ولم يكن عند من مضى من الأنبياء، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾(72)، قال: «خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد (صلّى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمة يسددهم، وليس كلّ ما طلب وجد»(73).

■ في قبال ذلك نجد في بعض كتب السيرة ما ينافي ذلك من قبيل ما ينقله ابن ابي الحديد عن تاريخ الطبري عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: ما هممت بشي‏ء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئا، ثم أخبرته الخبر، ثم قلت له ليلة أخرى: مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة فجلست‏ أنظر فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته.

وكذا ما رواه عن محمد بن حبيب في أماليه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أذكر وأنا غلام ابن سبع سنين وقد بنى ابن جدعان دارا له بمكة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا إلا أني أسمع الصوت فتماسكت ولم أرخه فكأن إنسانا ضربني على ظهري فخررت لوجهي وانحل إزاري فسترني وسقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار أبي طالب عمي ولم أعد.

أ‌. ما حقيقة مثل هذه النقولات؟؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. وردت هذه المرويات في بعض المصادر الإسلامية، واستشهد بها بعض الكتاب، معتبراً إياها من مصاديق التسديد الإلهي للنبي (صلّى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ في سيرة الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام)، ما يجعل النبي (صلّى الله عليه وآله) أقل شأناً منهم، والحال أنه من الثوابت عند الجميع أن نبينا (صلّى الله عليه وآله) أعظمهم!!، وأكتفي بذكر شاهدين يبينان عدم موافقة هذه النقولات وأمثالها لمقام النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله):

الشاهد الأول: قصة النبي يحيى (عليه السلام)، فقد روي عن العسكري (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾(74)، أنّه قال: «ومن ذلك الحكم أنّه كان صبياً، فقال له الصبيان: هلمّ نلعب. فقال: أوه، والله ما للعب خلقنا، وإنما خلقنا للجدّ لأمر عظيم»(75).

و"روي عن معمر: أنّ الصبيان قالوا ليحيى اذهب بنا نلعب؟ فقال: ما للعب خُلقت، فأنزل الله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾"(76).

و"عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه –وآله- وسلم): قال الغلمان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال يحيى: ما للعب خُلقنا، اذهبوا نصلي، فهو قول الله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾(77).

الشاهد الثاني: قصة الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام)، فقد روي أنّ بهلول "رآه وهو صبي يبكي، والصبيان يلعبون، فظنَّ أنه يتحسر على ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال (عليه السلام): «يا قليل العقل، ما للعب خُلقنا». فقال له: فلماذا خُلقنا؟ قال: «للعلم والعبادة». فقال له من أين لك هذا؟ قال: «من قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾»(78). ثمّ سأله أن يعظه، فوعظه بأبيات، ثمّ خرّ الحسن (عليه السلام) مغشياً عليه. فلمّا أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟ فقال: «إليك عنّي يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتقد إلاّ بالصغار، وإنّي أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم»(79).

وبهذين الشاهدين يتجلى عدم صوابية همه أو لعبه (صلّى الله عليه وآله).

ب‌. وما هو السرّ في الإصرار على نقلها وتداولها؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. النقل راجع إلى مسلك النّاظر في طبيعة تنزيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، فمن نقلها لم يجد فيها ما يُسيء إليه (صلّى الله عليه وآله)، بل اعتبرها من مصاديق عناية الله به، وتسديده بالملك الموكل به، سيما في مثل النقل الثاني، قد يعتبره أمراً مقبولاً، ولا يتنافى مع النبي (صلّى الله عليه وآله)، والأمر ليس كذلك، إذ كيف يصدر شيء مهين ممن وصفه أبو عبد الله (عليه السلام) بقوله: «مهذب لا يدانى، هاشمي لا يوازى، أبطحي لا يسامى، شيمته الحياء، وطبيعته السخاء، مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها، مطبوع على أوصاف الرسالة وأحلامها، إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها»(80).

 وهناك من السيرة الكثير ما يكفينا لبيان تسديد الرّب لنبيه صغيراً وكبيراً، بلا حاجة للاستشهاد بما يُسيء إليه (صلّى الله عليه وآله) من طرف خفي أو جلي.

■ بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله) في سن الأربعين، ماذا تعني في نفسها؟ وما هي الدلائل التي يستفيدها السائرون على نهجه في تبليغ رسالته؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. يمكن النّظر إلى أسرار البعثة الأربعينية من جهتين: من جهة النبي نفسه (صلّى الله عليه وآله)، وومن جهة أمته (صلّى الله عليه وآله)، وقبل الإشارة إلى هاتين الجهتين، ينبغي التنويه إلى أنّ النبي محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، أول الأنبياء وآخرهم وجوداً، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال في وصفه: «تبشِّرُ به كلَّ أمة من بعدها» فـ"لما قدّر الله تعالى النبوة والرسالة، وهيأ له أسبابها، وجعله نبيا في عالم الأرواح كما قال (صلّى الله عليه وآله): «كنتُ نبياً وآدم بين الماء والطين»(81)، وأعلم بذلك الأنبياء وسائر الخلق، وجعله أميراً لهم جميعاً، ثمّ قدمهم في عالم الأبدان الذي هو مقام المجاهدة مع النفس والشيطان، كتقديم المقدمة على الأمير، فصار يبشر كل أمة من بعده بموكبه وظهوره، ويوصيهم بمتابعته وموافقته وترك معاندته (صلّى الله عليه وآله)"(82).

ولذا فليس في سبق النبوة زماناً دنيوياً دلالة في الفضل والكمال على من لم يسبقه في ذلك.

والجهتان التي يمكن الإشارة إليهما، هما كما يلي:

الجهة الأولى: النبي نفسه (صلّى الله عليه وآله)، فيمكن القول بأنّ البعثة في هذا السنّ ناظرة إلى اكتمال النبي (صلّى الله عليه وآله) في موارد منظورة عند الله، وهذا ما يمكن استفادته مما رواه إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الله أدّب نبيه على أدبه، فلما انتهى به إلى ما أراد، قال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، ففوض إليه دينه فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾»(83).

وهذا النص أشار إلى وجود حكمة في إيصاله تعالى نبيه إلى ما يُريد، والظاهر أنْ لا علاقة لسنّ الأربعين في شيء -بما هي أربعين-، ويؤيده ما ورد عن علي بن أسباط قال: "رأيت أبا جعفر (عليه السلام) قد خرج عليّ، فأحددت النظر إليه، وإلى رأسه، وإلى رجله، لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فخر ساجداً فقال: «إنّ الله احتج في الإمامة مثل ما احتج في النبوة. قال الله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾، وقال: فـ﴿لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾، وبلغ أربعين سنة، فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى وهو ابن أربعين سنة»(84).

طبعاً لا يعني هذا، نفي ما للرقم الأربعيني من أسرار، "فإنّ خاصيّة الأربعين في ظهور الفعلية وبروز القابليّة والقوة وحصول الملكة، أمرٌ مصرّح به في الآيات والأخبار، ومجرب لدى أهل الباطن والأسرار"(85).

الجهة الثانية: أمة النبي (صلّى الله عليه وآله)، فيمكن القول بأنّ من أسرار بعثته (صلّى الله عليه وآله) في سن الأربعين هو الآتي:

أولاً: أنّ الله تعالى عالم بمصلحة الناس، وأنّهم وصلوا إلى مرحلة لها قابلية الكمال عبر الرسالة المحمدية.

ثانياً: أنّ تأثير سنّ الأربعين أكبر في الساحة المكية والقرشية، فدعوته (صلّى الله عليه وآله) في هذا السنّ أكثر مقبولية منه ما لو كان أقل، ويمكن الاستئناس بسيرة قريش، إذ "كان لا يدخل دار الندوة -إذا حزب أمر- إلا ابن الأربعين وصاعداً"(86).

أما الجواب عن الشق الثاني من سؤالكم، وهي الدلائل المستفادة من بعثته (صلّى الله عليه وآله) في مثل هذا السن، يمكن تلخيصها بدراسة الظروف والفئات المستهدفة لاختيار الأشخاص المناسبين، الأقدر في التأثير والعطاء، والأكثر مقبولية.

■ ما هي أهمية يوم المبعث الشريف للمسلمين كافة؟ وماذا يمثّل لهم؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. إن بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله)، هي إرشاد الناس في أمور دينهم ودنياهم، وهدايتهم إلى طريق الصواب وأحكام الشريعة. وإذا كانت كذلك، فهي ذكرى الإيمان المُطهر من الشرك..

ذكرى الصلاة المنزهة عن الكبر.

ذكرى الزكاة المزكية للنفس، والمنمية للرزق.

ذكرى الصيام المثبت للإخلاص.

ذكرى الحج المشيّد للدين.

ذكرى العدل المنسق للقلوب.

ذكرى الطاعة المنظمة للملة.

ذكرى الإمامة المؤمنة من الفرقة.

ذكرى الجهاد المعز للدين.

ذكرى الصبر المعين على استيجاب الأجر.

ذكرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصلح للمجتمع.

ذكرى البر بالوالدين الواقي من السخط.

ذكرى صلة الأرحام المطيلة في العمر والمنمية للعدد.

ذكرى القصاص الحاقن للدماء.

ذكرى الوفاء بالنذر المعرّض للمغفرة.

ذكرى الوفاء بالمكاييل والموازين الصائن للبخس.

ذكرى النهي عن شرب الخمر المنزه عن الرّجس.

ذكرى اجتناب قذف المحصنات حجاباً عن اللعنة.

ذكرى ترك السرقة إيجاباً للعفة.

ذكرى تحريم الشرك إخلاصاً لله في الربوبية.

فإذا كانت البعثة تمثل ذكرى ذلك كلّه، وهو ما علمتنا إياه فاطمة الزهراء (روحي لآلامها الفداء)، فأهميتها بأهمية التنزه عن الكبر، وزكاة النفس، ونماء الرزق، وثبات الإخلاص، وتشييد الدين، وتناسق القلوب، ونظام الملة، والأمان من الفرقة، وعز الدين، والأجر، وإصلاح العامة، الوقاية من السخط، الزيادة في العمر والنماء في العدد، حقن الدماء، والتعرض للمغفرة، وحماية الحقوق، والتنزه عن الرجس، وحجب اللعن، وتحصيل العفة، والإخلاص في الربوبية.

وهذه الأهمية تجعلها محطة للتأمل، والاعتبار، ومراجعة المنجزات والعطاءات، ودراسة الواقع والطموح وتحديد الموقف.

■ حياة النبي (صلّى الله عليه وآله) من بعثته.. إنذار عشيرته الأقربين..إنذار أهل مكة.. الهجرة إلى المدينة.. تأسيس الدولة الإسلامية.. الغزوات.. الفتوحات..

أ. ما هي أهم الدروس التي نستخلصها من سيرته العطرةة؟؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. إن الدروس كثيرة، وتتنوع بتنوع سيرته (صلوات الله عيه). وأركز على ضرورة الاستمداد منه (صلّى الله عليه وآله) مسؤولية الدعوة إلى الحق عزّ وجلّ، والتعلم منه الطريق إلى إحقاق الحق وتحرير الإنسان، وبناء القدرة على البلاغ المُبين.

والطريق إلى الحذو حذو الرسول (صلّى الله عليه وآله)، هو أن نقف ملياً مع كتاب الله تعالى، لنقرأه قراءة نشعر معها بمسؤوليتنا تجاه رسالة الله تعالى التي تخضبت الدماء في سبيل نشرها وتأصيلها وإبقائها.. نقف مع القرآن لنسمع خطاب: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾(87).

وخطاب: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾(88).

وخطاب: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾(89).

وغير ذلك من الآيات التي ترسم طريقاً واضحاً في تحمل مسؤولية الأنبياء (صلى الله عليهم أجمعين).

ب. كيف تقرأون هذا التدرج في نشر الدعوة؟

● بسم الله الرحمن الرحيم. القراءة الأولى هي التدرج في البلاغ، حتى تأخذ الدعوة مسارها في الواقع دون ردود فعل قاتلة، إلاّ أنّ الموضوع يحتاج إلى تأمل وقراءة تساهم في فهم معنى التدرج ومدارجه، فقد يأخذ الموقف المتدرج طابعاً زلزالياً أو ثورياً، فمن يقف -مثلاً- مع قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾(90)، فقد يقرأه فيه الأسلوب الهادئ في طريق التحول التدريجي، إلاّ أنّه زلزال اجتماعي وإداري، إلاّ أنّ إجراءت الموقف -أي: الدعوة إلى الطعام وطريقة تقديمها- ساهمت في امتصاص تداعيات هذا الزلزال، وقد بدت آثاره في استهزائهم.

فالبلاغ التدريجي إبداع زماني ومكاني وأفعالي وأقوالي، قد يخرج عن دائرة المرغوب، ويواجهه الواقع مهما كانت النتائج، ويمكن التمثيل بتعيين الخليفة، فرغم النقلة الكبرى التي حققها النبي العظيم (صلّى الله عليه وآله)، إلاّ أنه خشي من تكذيب قومه في تعيينه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولياً وإماماً وهادياً، وقد سأل ربّه العصمة من الناس حين تبليغه بذلك، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(91).

■ لا يسعنا في نهاية المطاف إلا تقديم الشكر الجزيل لكم سماحة الشيخ على ما تفضلتم به من وقتكم الثمين،، سائلين الله تعالى أن يوفقكم لخدمة دينه إنه سميع مجيب.

● والشكر موصول لكم، وفي رعاية المولى وتسديده. والحمد لله ربّ العالمين.

 

* الهوامش:

(1) سماحة الشيخ عادل الشعلة من علماء البحرين، درس في حوزة قم المقدّسة، ثم رجع منها إلى أرض البحرين سنة 1992م ليشتغل بالتبليغ، وكان عضواً في الهيئة المركزية في المجلس الإسلامي العلمائي في البحرين في دورته الأولى، وله حالياً نشاطات تبليغية كثيرة.

(2) من خطبة له (عليه السلام) يقرر فضيلة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) 95.

(3) فصلت: 4-5.

(4) الأحزاب: 57.

(5) الصافات: 36.

(6) التوبة: 101.

(7) الحجرات: 2.

(8) النور: 63.

(9) الحجرات:  1.

(10) الشعراء: 214.

(11) الفرقان: 56.

(12) الحجر: 94.

(13) البينة: 2-3.

(14) آل عمران: 164.

(15) الكهف: 6.

(16) النحل: 127.

(17) التوبة: 61.

(18) التوبة: 128.

(19) آل عمران: 159.

(20) القلم: 4.

(21) الأحزاب: 21.

(22) الأعراف: 157.

(23) الأنفال: 65.

(24) الفتح: 29.

(25) التوبة: 73.

(26) آل عمران: 153.

(27) النساء:  64.

(28) المائدة: 67.

(29) من خطبة له (عليه السلام) تسمى القاصعة 192.

(30) التكوير: 19-22.

(31) الكافي للكليني: 1 / 266 ح4.

(32) المائدة: 110.

(33) الجن: 27.

(34) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13 / 207.

(35) الاختصاص للمفيد: 130.

(36) الشعَبي –بفتح الشين-: عامر بن شراحبيل التابعي الحميري  المتوفى في سنة (103)، من علماء العامة.

(37) تاريخ الطبري للطبري: 2 / 110.

(38) الإسراء: 85.

(39) الكافي للكليني: 1 / 273 ح3.

(40) الشورى: 53.

(41) الكافي للكليني.

(42) عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج1، ص217.

(43) الواقعة: 7-11.

(44) الكافي للكليني: 1 / 271 ح1.

(45) النحل: 2.

(46) هكذا في المصدر، وفي الحاشية: وفى نسخة بدله، توفقهم.

(47) بصائر الدرجات للصفار: 483 ح1.

(48) التبيان للطوسي: 6 / 515.

(49) روضة الواعظين للنيسابوري: 492.

(50) النبأ: 38.

(51) بحار الأنوار للمجلسي: 7 / 90.

(52) الشورى: 53.

(53) الكافي للكليني: 1 / 274 ح2.

(54) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: 2 / 193 ح2.

(55) بصائر الدرجات للصفار: 454 ح1.

(56) بصائر الدرجات للصفار: 455 ح2.

(57) الأنعام: 115.

(58) بصائر الدرجات للصفار: 455 ح3.

(59) مريم: 51.

(60) الحج: 52.

(61) الكافي، ج1، ص176.

(62) الأنعام: 125.

(63) الكافي للكليني: 1 / 166 ح2.

(64) الشورى: 53-53.

(65) بصائر الدرجات للصفار: 475 ح1.

(66) الشورى: 53.

(67) مختصر البصائر لابن سليمان:  65 ح7.

(68) شرح أصول الكافي للمازندراني: 6 / 73.

(69) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: 1 / 216 ح1.

(70) النساء: 157-158.

(71) البقرة: 87.

(72) الإسراء: 85.

(73) الكافي للكليني: 1 / 273 ح4.

(74) مريم: 12.

(75) تفسير الإمام العسكري المنسوب للعسكري (عليه السلام): 661.

(76) البيان للطوسي: 7 / 111.

(77) الدر المنثور للسيوطي: 4 / 260.

(78) المؤمنون: 115.

(79) مناقب أهل البيت (ع) للشيرواني: 393.

(80) الكافي للكليني: 1 / 444 ح17.

(81) عوالي اللئالي لابن أبي جمهور: 4 / 121 ح200.

(82) شرح أصول الكافي للمازندراني: 7 / 163.

(83) بصائر الدرجات للصفار: 399 ح4.

(84) بصائر الدرجات، ص258.

(85) رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم: 37.

(86) الحد الفاصل للرامهرمزي: 353 رقم: 288.

(87) الغاشية: 21.

(88) الأحزاب: 39.

(89) آل عمران: 159.

(90) الشعراء: 214.

(91) المائدة: 67.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا