المنهجيّة الصحيحة لدراسة العلوم الدينيّة (القسم الأول)

المنهجيّة الصحيحة لدراسة العلوم الدينيّة (القسم الأول)

«محاضرةٌ ألقاها سماحة العلاّمة الشيخ معين دقيق العاملي(حفظه الله) في الحسينيّة البحرانيّة في قمّ المقدّسة بتاريخ 11 / ذوالقعدة/ 1426هـ الموافق 14 /12 / 2005م».

 

بسم الله الرحمن الرحيم، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيّدنا ونبيّنا محمّدٍ وعلى الهداة المهديّين، من آله الطيّبين الطاهرين.

روى الشيخ الطبرسيّ في (الاحتجاج) عن مولانا الرضا(ع) في باب التفضيل والمفاضلة بين العالم والعابد: «يُقال للعابد يوم القيامة: نِعْمَ الرجل كنتَ، همّتُك ذاتُ نفسك، وكفيتَ مؤنتك، فادخل الجنّة».

لا شكّ ولا ريب أنّ هذا منصبٌ عظيمٌ تشرأبّ له الأعناق، وهو دخول الجنّة، لكنّ فوق كلّ مقامٍ يوجد مقامٌ أعلى منه، ثمّ يقول: «ألا إنّ الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله تعالى، وحصّل لهم رضوان الله تعالى، ويُقال للفقيه: يا أيّها الكافل لأيتام آل محمّدٍ، الهادي لضعفاء محبّيهم ومواليهم، قفْ حتّى تشفع لكلّ من أخذ عنك أو تعلّم منك، فيقف فيدخل الجنّة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً ـ حتّى قال عشراًـ، وهم الّذين أخذوا عنه علومه، وأخذوا عمّن أخذ عنه، وعمّن أخذ عمّن أخذ عنه إلى يوم القيامة»(1).

هذه هي فضيلة الإنسان العالم، وهو الفقيه الحقّ بنظر مولانا الإمام الرضا(ع)، إلاّ أن الوصول إلى هذا المنصب والمقام له مقدّماتٌ، منها ما يرتبط بالمقدّمات الفكريّة والعلميّة، ومنها ما يرتبط بالمقدّمات المنهجيّة، وللأسف الشديد في عصورنا المتأخّرة هناك إبداعٌ على مستوى المقدّمات الفكريّة والعلميّة، إلاّ أنّه يوجد خللٌ على مستوى المقدّمات المنهجيّة، فلا توجد ضابطةٌ على أساسها يسير طالب العلوم الدينيّة من أوّل خطوةٍ يخطوها في هذه الحوزة إلى أن يرجع إلى بلاده ويصبح مرجعاً يُستفاد منه، بل إذا ضربنا مثالاً على ذلك ـ على مستوى المقدمات، بل هو يسري في الحقيقة إلى جميع مراحل الدراسةـ وهو أنّه نجد أنّ الطالب إذا أراد أن يختار الأستاذ يسأل عادةً أهلَ الفضل والعلم، وبعد جمع أجوبة هؤلاء لن يحصل على نتيجةٍ واحدةٍ، بل كلّ واحدٍ منهم يشير إلى شخصٍ، فيبقى الطالب ضائعاً بين هذا وذاك إلى أن يعتمد على تجربته الشخصيّة، والّتي قد يصل فيها وقد لا يصل، والحال أنّه يوجد في نصوصنا ورواياتنا الموروثة عن أهل بيت العصمة ما يضع الحلول لهذه المشكلة وما يوفّر على الطالب جهد التجربة، وكذلك الحال بالنسبة للمادّة العلميّة، وكذا الحال في كيفيّة تحصيل العلم؛ فإنّ التراث الموجود لدينا في وضع ضوابط لهذه الأمور ـ سواءً في النصوص الشرعيّة أو في سيرة السلف الصالح من علمائناـ لا يضاهيه تراثٌ حتّى في الجامعات الأكاديميّة الحديثة الّتي تطوّر فيها الجانب المنهجيّ إلى مراتب عاليةٍ، مع هذا نجد أنّه يوجد في تراثنا الكثير مما يستطيع أن يشكّل منه الطالب منهجيّةً عن طريقها يسير في سيرها العلميّ في هذه الحوزة، لكنّنا لم نلتفتْ إلى هذا التراث، لذا نجد أنّ كثيراً من طلبة العلوم الدينيّة في عصرنا هذا عندما يأتون من المعاهد الأكاديميّة والجامعات يؤاخذون على حوزاتنا الضعف الموجود في المنهجيّة، وفي الحقيقة هذه المؤاخذة ينبغي أن تردّ علينا كأفرادٍ لا على الحوزة الّتي لها تراثٌ ومخزونٌ منهجيٌّ في غاية القدم، فإنّه بقدم التحريض على العلم كان هناك تحريضٌ على المنهجيّة، لكنّنا في زماننا هذا غفلنا عن الكثير منها.

مواصفات التحصيل العلميّ الناجح:

يمكن أن نقسّم هذه المواصفات إلى طائفتين من المواصفات:

الطائفة الأولى: ترتبط بالبعد الفكريّ والعلميّ.

والطائفة الثانية: ترتبط بالبعد الآدابيّ والمعنويّ.

وإذا اجتمعتْ هذه المواصفات بكلتا طائفتيها حينئذٍ يُقال لهذا المحصّل إنّه محصّلٌ ناجحٌ، ويُقال لهذا التحصيل العلميّ بأنّه تحصيلٌ علميٌّ ناجحٌ.

المواصفات المرتبطة بالبعد الفكريّ والعلميّ:

1) الاستحضار للمطالب العلميّة:

الإنسان الّذي يكون ناجحاً في تحصيله العلميّ لا بدّ أن يكون مستحضراً للمطالب العلميّة، والمراد من الاستحضار ليس هو الاستحضار التفصيليّ والجزئيّ لكلّ مفردات هذا الكمّ الهائل الّذي أخذه من بداية تحصيله العلميّ إلى نهايته، وإنمّا المراد أن يكون ضابطاً وملتفتاً إلى كلّيّات وأسس هذه الأمور الّتي حصل عليها في سيره العلميّ.

2) القدرة على تلقين الغير:

هناك عمليّة تفاعلٍ بين جانب التلقّي وجانب الإلقاء، هناك ملازمةٌ بين اختمار وتبلور الأفكار العلميّة الدقيقة، ووضوحها بصورةٍ كاملةٍ لدى المحصّل العلميّ الناجح، وبين القدرة على الإلقاء، فنستطيع من خلال قدرة المحصّل العلميّ على تلقين الآخرين أن نستكشف أنّ هذا الشخص هل تبلورتْ المعلومات في ذهنه وكملتْ أم لا؟

3) الإحساس الملموس بالتطوّر العلميّ بين فئةٍ وأخرى:

على الطالب المحصّل بعد مرور فترةٍ معيّنةٍ من مجيئه إلى الحوزة أن يرجع إلى نفسه ليرى هل يوجد عنده إحساسٌ بالتطوّر أم لا؟ وعلامة الإحساس بالتطوّر أن يفهم أنّ هناك قضايا قد أصبح جاهلاً بها ولم يكن سابقاً ملتفتاً إلى جهله بها، فكلّما فهم الطالب مطلباً من المطالب تنفتح آفاقه نحو مجاهيل، ويدرك أنهّا تحتاج إلى إجابةٍ، وهذه هي آية وعلامة التطوّر العلميّ.

4) المداومة والاستمرار:

المداومة والاستمرار تقتضي أن يكون الأمر الأوّل لدى الطالب هو التحصيل، وعلامة المداومة أن يقول الطالب لكلّ شيءٍ إنه عنده درسٌ، وهي أحد الأسباب الرئيسيّة الّتي تؤدّي إلى التوفيق وعدم الابتلاءات والانشغالات في عمليّة الدراسة.

المواصفات المرتبطة بالبعد الآدابيّ والمعنويّ:

1) الوصول إلى لذّة العلم:

يُنقل أنّ الشيخ الطوسيّ(ره) كان يسهر الليل بطوله يفكّر في مشكلةٍ وعويصةٍ من المشكلات العلميّة، وكان إذا أصابه النعاس يرشّ الماء على وجهه ويقول: إنّ النعاس من الحرارة، والماء يطفئ الحرارة، فإذا وصل إلى نتيجةٍ في هذه المسألة يقفز في الغرفة كالمجنون ويقول: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذّة؟!

من شَعَرَ في الحوزة بهذه اللذّة في كلّ موقعٍ من مواقع الحياة يصبح البحث العلميّ غريزةً من الغرائز الّتي جُبِلَ عليها، ولا يستطيع أن يتخلّى عنها أمام الانشغالات الوظيفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

والشعور باللذّة العلميّة هو الّذي يعطي عنصر المداومة والاستمرار، حيث يشتاق الطالب إلى ساعة البحث والمطالعة، حتّى أنّ الشيخ محمّد جواد مغنية كان يذكر في تجاربه أنّه يتمنّى أن يكون من جملة النعم الإلهيّة في الجنّة البحث العلميّ.

2) انعكاس الجانب العلميّ على الجانب العمليّ:

وهذه الخصلة قد ركّزتْ عليها الروايات بكثرةٍ، الإنسان الّذي لا ينعكس ما يقرؤه وما يتلوه على جوارحه، معناه أنّه لا يوجد عنده علمٌ حضوريٌّ في هذه المطالب الّتي قرأها، أي لم يقتنع بها، فكيف يستطيع أن يقنع الآخرين بها؟! إذ لو أنّه اقتنع بها لما أمكن أن تتخلّف عن عمله، فإذا وصلت المعلومات بحقيقتها وبراهينها واقتنع بها هذا المحصّل سوف تنعكس على جوارحه قهريّاً.

3) عدم التباهي في المجالس والأندية:

لا ينبغي للإنسان أن يتصدّى للكلام في كلّ مجلسٍ؛ لأنّ هذه الصفة معاكسةٌ ومضادّةٌ للعالم الحقيقيّ، وإنمّا هي حالةٌ من الغوغائيّة والتمويه على الآخرين ليجبر النقص الموجود عنده.

4) الانضباط بالمواعيد الدراسيّة:

مسألة الانضباط بالوقت ليستْ مشكلة الحوزة فقط، بل هي مشكلة المجتمع الإنسانيّ في الواقع، قال تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}(2)، في الآية المباركة صدق الوعد قدّم على الرسالة وعلى النبوّة، ويُذْكَرُ في علم البلاغة أنّ النكتة الأساسيّة للتقديم هي الأهمّيّة، فبنظر المتكلم ـ وهو الباري(عزّ وجل)ـ أنّ صدق الوعد شيءٌ في غاية الأهمّيّة، وحوزاتنا ـ بحسب التنظيرـ ينبغي أن تتّبع منهج الأنبياء، فإنّ المنهجيّة الّتي نستفيدها من تجارب العلماء ومن نصوص أهل البيت(ع) أحد أركانها تنظيم الوقت، فإذا لم يكن الوقت منظّماً لا نستطيع تطبيق المنهجيّة الصحيحة، وهذه الصفة ـ وهي المحافظة على المواعيدـ ترجع إلى صفة الشعور باللذّة، فالإنسان الّذي شعر بلذّة العلم يشتاق إلى الشيء الّذي يلتذّ به، فيحاول أن يأتي في أوّل الوقت بالنسبة لدرسه العلميّ.

هذه هي المواصفات الإجمالية للتحصيل العلميّ الناجح.

هناك روايةٌ عن أمير المؤمنين(ع) تشير إلى أكثر هذه المواصفات، قال(ع): «طلبة هذا العلم على ثلاثة أصنافٍ، ألا فاعرفوهم بصفاتهم وأعيانهم، صنفٌ منهم يتعلّمون للمراء والجدل، وصنفٌ منهم يتعلّمون للاستطالة والختل، وصنفٌ منهم يتعلّمون للفقه والعمل، فأمّا صاحب المراء والجدل تراه مؤذياً ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشّع، وتعالى من الورع، فدقّ الله من هذا خيزومه، وقطع منه خيشومه، وأمّا صاحب الاستطالة والختل، فإنّه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء من دونهم، فهو لحلوائهم هاضمٌ، ولدينه حاطمٌ، فأعمى الله من هذا بصره، وقطع من آثار العلماء أثره، وأمّا صاحب الفقه والعمل، تراه ذا كآبةٍ وحزنٍ، قد قام الليل في حندسه، وقد انحنى في برنسه، يعمل ويخشى خائفاً وجلاً من كلّ أحدٍ إلا من كلّ ثقةٍ من إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه»(3).

هذه هي نظريّة أمير المؤمنين(ع) في تصنيف طلاب العلم، فلْنسعَ ولْنَرَ في أيّ صنفٍ من هذه الأصناف ندخل ونسلك.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصنف الثالث الّذي ورد ذكرهم في كلام أمير المؤمنين(ع) من الفقهاء والعاملين، ربِّ زدني علماً وعملاً، وألحقني بالصالحين، وصلّ اللهمّ على سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

 

 * الهوامش:

(1) الاحتجاج، ج1، ص9.

(2) سورة مريم(ع)، الآية: 54.

(3) الخصال للصدوق، ص194.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا