المنهج الموضوعي القرآني (القسم الأول)

المنهج الموضوعي القرآني (القسم الأول)

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، والصلاة على رسوله الكريم وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم.

يقول تعالى:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَّهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(1).

تتناول هذه المقالات مسألةً مهمةً وضروريةً على المستويين الفكري والعملي، وقد أولاها القرآن الكريم أهميةً خاصةً وتناولها بصورةٍ مكثفةٍ ومركزةٍ وتفصيليةٍ، وجعلها عاملاً حاسماً في التعامل مع مختلف المسائل والقضايا، فمن النادر أن تمر عدة آياتٍ أو يتم طرح موضوعٍ دون أن يشير القرآن لارتباطه بموضوع مقالاتنا، وقد ترددت في اختيار الاسم المناسب لهذه الأخلاقية القرآنية الاستثنائية، فهل أسميها الموضوعية أو الحقانية أو الصدق أو البصيرة أو العدل أو التقوى، وقد كنت أفضل اختيار عنوانٍ قرآنيٍّ للتعبير عن هذه الأخلاقية، ولكن وجدت أن الأنس الثقافي العام ربما يؤيد اختيار مصطلح (الذاتية).

ما هي الموضوعية؟

إننا نلاحظ أنّ كل إنسانٍ وانطلاقاً من فطرته -وبقطع النظر عن مشربه ومأربه- يدعي التزامه وعمله طبق الواقع، وهو التزامٌ تحث عليه الفطرة والوجدان الإنساني، ولكن في مقام العمل فكراً وحركةً، فإنّ هناك مناهج ومسالك مختلفةٌ يتخذها الناس في الوفاء بحق هذا الالتزام الفطري، فهناك من الناس من يرفع شعار الالتزام بالواقع وهو يخالفه في كل وجوده ويتبع في حقيقته واقع نفسه وذاته ويترك وفق تسويلاتها ورغباتها، وهذا هو الإنسان الذاتي بصورةٍ كاملةٍ، حتى أنه لا يرى -شعورياً- انفصالاً بين ذاته والواقع؟!

والذاتية ذات درجاتٍ ومراتب وأنواعٍ، فهناك ذاتيةٌ أقل من الذاتية الكاملة حيث يلتزم بعض الناس الموضوعية في بعض القضايا ويتركون وفق الذاتية بالنسبة للقضايا الأخرى.

وهناك قسمٌ آخر من الناس تغلب عليهم صفة الموضوعية، فهم يرفعون شعار الالتزام بالحق والواقع، ويسعون بصورةٍ حقيقيةٍ وواقعيةٍ للالتزام بهذا الشعار حتى لو خالف أدنى لمخالفة ذاتيتهم وظرفيتهم النفسية، والواقع المقصود هنا قد يكون حقيقةً موضوعيةً خارجيةً أو حقيقةً علميةً وعقليةً أو حقيقةً فطريةً أو حقاً اعتبارياً أو مصلحةً واقعيةً وغيرها مما تحمل الفطرة الإنسانية الإنسان على الالتزام بها وترى حرمة الإخلال بها.

فالموضوعية إذن هي الالتزام الحقيقي بالواقع، والذاتية هي السجن داخل النفس والذات، وقد اهتم القرآن الكريم كثيراً بأخلاقية الموضوعية كما اهتم كذلك كثيراً بما يقابلها من أخلاقية الذاتية. وقد عبّر القرآن الكريم عن الموضوعية بتعابير مختلفةٍ من قبيل (الصدق، الإخلاص، الأمانة، التقوى، العدالة، الوفاء، التزام الحق، العلم، البصيرة، الإيمان، وغيرها من التعابير)، كما عبّر عن الذاتية بتعابير متعددةٍ من قبيل:(الظلم، الخيانة، الفسق، الكفر، التكبر، الجهل، العمى، إلهه هواه، وغيرها).

ما هي المشكلة والخلل؟

ورغم هذا التأكيد القرآني المركّز والتربية القرآنية العميقة بمبدأ وأخلاقية الموضوعية والنهي والزجر عن ظاهرة وأخلاقية الذاتية، إلاّ أنّ مسألة الموضوعية والذاتية أخلاقيةٌ ومبدأٌ قرآنيٌّ شاملٌ ومستوعبٌ، يحث على الالتزام بالواقع الموضوعي، وينهى عن تحويل النفس والذات لمحورٍ واقعيٍّ بديلاً عن الواقع الحقيقي، لم تلقى الاهتمام الثقافي والتربوي المطلوب في الأوساط الإسلامية.

فإنني وبحسب تتبعي المتواضع لم أجد بصورةٍ كثيرةٍ تناول الموضوعية بصورةٍ جادةٍ كمبدأٍ قرآنيٍّ شاملٍ، كما أننا على المستوى التربوي والميداني لا نعير للموضوعية اهتماماً كبيراً.

ومن المؤسف أن أقول بأننا في الأوساط العلمية والاجتماعية، مشبعون بالذاتية، والموضوعية ليس لها إلاّ مساحةً محدودةً في حياتنا وثقافتنا! فنحن مشبعون بالأطر والمسبقات الضيقة والاستماتة في تبرير المواقف الذاتية وقولبة الأقيسة والبراهين وتأويل الحقائق! وأصبح من علامات الإيمان واليقين قوة الدفاع والجدل العقيم عن الميول والرغبات والمسبقات والأعراف والأشخاص، حتى لو غاب الصدق والحقانية والموضوعية، فأصبحت الميول الذاتية تطغى وترجح على تعاليم الوحي والفطرة والعقل والواقع والمصالح العامة والانحياز للحق والحقيقة، ووضعنا الروحي والفكري والاجتماعي يحتاج منا لوقفةٍ موضوعيةٍ صادقةٍ مع النفس لعرض واقعنا على بصائر الوحي والفطرة والمنطق، لنسائل أنفسنا أين نحن من موضوعية وحقانية القرآن الكريم والعترة المطهرة(ع)؟!

لنحاول مثلاً أن نعرض مستوى تجردنا وموضوعيتنا في أحكامنا على أنفسنا والآخرين، على قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}(2)، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (3).

ولنحاول أن نمتحن موضوعية علاقتنا الاجتماعية ووفاءنا الحقوقي مع قول الرسول الأكرم(ص):(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

ولنجرب مدى موضوعيتنا في النظر للحق بعيداً عن النظر للرجال وفاءً لقول أمير المؤمنين(ع):(اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال).

وهكذا فلنجرب أن نرجع لعشرات بل مئات النصوص القرآنية والروائية التي تحث على الموضوعية والحقانية والتجرد عن الذاتية في كل مناحي الفكر والمشاعر والمجتمع، ولنسائل أنفسنا بصدقٍ وموضوعيةٍ أين نحن من بصائر النصوص الإلهية والمعصومية؟

سوف أتناول -بإذن الله تعالى- مبدأ وأخلاقية الموضوعية القرآني في بحثي هذا بالصورة التالية:

أولاً:التمهيد، وسوف أتناول فيه مفهوم الموضوعية وحدوده.

ثانياً:أقسام الموضوعية، وهو يمثل القسم الأساسي من البحث حيث أتناول فيه أهم أقسام ومظاهر الموضوعية بحسب التعليم والتربية القرآنية والتي يمكن حصرها بالمجالات التالية:(الموضوعية مع الخالق سبحانه، الموضوعية مع الحق، الموضوعية القيادية، الموضوعية مع العمل الصالح، الموضوعية تجاه الغير).

ثالثاً:الموضوعية في الإطار الغربي والإسلامي، وهو يمثل مقارنةً بين مبدأ وأخلاقية الموضوعية في الرؤية العلمانية الغربية وفي الرؤية القرآنية الإسلامية، وهي محاولةٌ أسعى من خلالها لإثبات أنّ الموضوعية الحقيقية الشاملة لا يمكن تأسيسها إلاّ على قاعدة الرؤية التوحيدية المعنوية القرآنية، كما أسعى لإظهار زيف الدعوى الغربية والعلمانية بالامتلاك الحصري للموضوعية وإشكالياتها على إمكانية الموضوعية الإسلامية.

ونحن في سياق هذه المقدمة من الضروري الإشارة للأهمية القصوى والاستثنائية للموضوعية ثقافةً وتربيةً لاسيما للنخبة الحوزوية والمثقفة باعتبارها طلائع للوعي والعمل الاجتماعي، فإنّ أي وجودٍ إنسانيٍّ فرداً كان أو مجتمعاً لا يمكنه تحقيق التقدم الحقيقي في عالم المعنى أو عالم المادة بدون أن يحقق بصورةٍ مقبولةٍ تقدماً ملحوظاً في عالم الموضوعية والحقانية.

فالتقدم على مستوى تحقيق العبودية مع الخالق سبحانه، والتقدم على المستوى العلمي والمعرفي، والتقدم على مستوى العلاقات القيادية والاجتماعية والحقوقية، والتقدم في إنجاز وإدارة العمل والمصالح الاجتماعية مرهونٌ بصورةٍ أساسيةٍ بالتزام الموضوعية وتذويب الذاتية في ذلك المجال الخاص، وهكذا فيمكننا أن نطلق هنا قاعدةً كليةً نافذةً وهي:(لا تميز كثيراً أحياناً بين الأسماء والدعاوى والشعارات لأنها ترتبط بالواقع الفعلي للسلوك والموقف).

ومفاد هذه القاعدة هو أنّ أي تخلفٍ أو جمودٍ أو تشتتٍ على المستوى الروحي أو العلمي أو الاجتماعي أو المادي أو الحقوقي فإنه يكون مرهوناً بتخلفٍ على مستوى الموضوعية والحقانية؟! كما أنّ أي تقدمٍ سواءً على مستوى الروح أو الفكر أو المجتمع أو المادة فإنه يكون مرتبطاً بالتقدم في عالم الموضوعية والحقانية. ومن هنا فإذا أردنا الانطلاق بوجودنا أفراداً أو مجتمعاً نحو أفقٍ مشرقٍ من التقدم في عالم المعنويات والسمو الروحي والوحدة والألفة الاجتماعية، والرصانة القيادية، والكرامة الحقوقية، والتقدم المادي، والإنجاز الإداري، فإننا يجب أن نجعل الموضوعية والحقانية الشاملة الشعار والإطار والدافع الناظم للمسيرة الإسلامية، كما نجعل الذاتية بكل أشكالها وصورها العدو اللدود الذي نحاربه ونحذره ونسحقه.

ويمكن في هذا المقام الاستشهاد بقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(4)، فلنغير ما بأنفسنا من ذاتيةٍ في أي مجالٍ كان نحصل على التقدم المطلوب في ذلك المجال.

وهكذا قوله تعالى:{وَمَنْ يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً وَّيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(5)، فالموضوعية والتقوى مترادفان في العرف القرآني، والمتقون موعودون بالمخرج، أي العلاج لكل مشاكلهم ومعوقات وجودهم وتقدمهم، وكذا هم موعودون بالرزق، والرزق الإلهي الذي لا نحتسبه بعيوننا وعقولنا المادية هو مفهومٌ شاملٌ لكل تقدمٍ وإفاضةٍ وعطاءٍ معنويٍّ وماديٍّ، فهل نسمع الدعاء ونلبي النداء؟

والله من وراء القصد

 

 * الهوامش:

(1) الأعراف: 181.

(2) النساء: 135.

(3) المائدة: 8.

(4) الرعد: 11.

(5) الطلاق: 3 - 4.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا