القيادة في فكر الإمام الحسين (عليه السلام) حوار مع سماحة الشيخ عبدالله الدقاق (1) (حفظه الله)

القيادة في فكر الإمام الحسين (عليه السلام) حوار مع سماحة الشيخ عبدالله الدقاق (1) (حفظه الله)

كل أمة لا يمكن أن تثبت لها استقامة إلا بعد أن تأخذ شكل المثلث حاد الزاوية ويكون على رأس ذلك المثلث أفضلهم في جوانب متعددة في فقهه وخبرته وحكمته ليشق لها طريقاً مستقيماً ويوصلها إلى برِّ الأمان ويحافظ عليها من الهلاك والوهن أو غيرها في كل حراك ومعترك قُدِّر لها أن تخوضه، ومن يكون في الأمام والمقدمة هو ما يسمى بالقائد ومن يكون خلفه هم أتباع له، ومن هنا تأتي عدة تساؤلات:

منها ما يتعلق بهذه القيادة ومعرفتها، ومنها ما يتعلق بعلاقة القائد مع الأتباع خصوصاً في حال الحراك ضد الظلم، ومنها ما يتعلق بقرارات القائد وتعامل الأتباع معه، وغيرها من التساؤلات نطرحها على سماحة الشيخ عبدالله الدقاق (حفظه الله) مستلهمين ذلك من ثورة سيد الأحرار أبو عبدالله الحسين (عليه السلام).

المحور الأول: (الهدف والطريق)

■ لكل حراك في هذا الوجود مجموعة من الأهداف والمعالم التي يحددها صاحب الحراك فما هي أبرز المعالم التي كانت في حراك الامام الحسين (عليه السلام) وهل حددها بوضوح قبل الحركة أم لا؟

● أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين... في البداية نشكركم على إتاحة الفرصة ونتمنى لمجلتكم المزيد من التوفيق والسداد إن شاء الله.

كل قائد في التاريخ إذا أردت أن تُشخّص معالم حراكه وأهداف ثورته فلابد من النظر الى كلماته وتقطيع سلوكياته، فإذا ما جمعت بين أقواله وأفعاله وسلوكياته وحاولت أن تؤلف بين هذه المقاطع المختلفة فإنك ستستطيع عندها أن تخرج معالم ذلك الحراك. وحركة سيد الشهداء هي أبرز حركة في التاريخ الإسلامي وإذا أردنا أن نُشخّص معالم ثورة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه فلا بد من النظر الى كلماته المباركة(2) وهي كثيرة... أبرزها ما جاء في رسالته إلى أخيه محمد بن الحنفيه إذ يقول: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتي يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين»(3)، وهناك رواية أخرى يقول فيها مخاطبا الناس «ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه، يرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة -وفي نص شهادة- والحياة مع الظالمين إلا برما»(4)، فلنقف عند هذين النصين لنحللهما بعض التحليل، في العرف السياسي في الواقع المعاصر تقسم الحركات إلى قسمين. القسم الأول: الحركات الجذرية الثورية(5) وهي التي تطمح إلى التغيير من الجذور بما يلبي طموحات الشعب، والقسم الثاني: هو الحركات الإصلاحية وهي التي تطمح إلى إصلاح المفاسد في الأنظمة(6)، والإمام الحسين (عليه السلام) حدد من خلال كلمته الأولى بأن حركته ليست حركة إفساد بل دوافعها خيرة «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي» وعندما يقول الإمام أنه خرج للإصلاح فهو لا يقصد ترميم نظام آل أمية؛ وذلك واضح من أن الإمام يرى عدم شرعية حكم آل أمية وهو نظام مغتصب من الإمام الحسين (عليه السلام) فكان يطالب تغيير أصل هذا النظام الفاسد الذي لا شرعية له. وهذا الإصلاح الذي نادى به الإمام (عليه السلام) في الواقع هو إصلاح شامل.

وعادة ما يذكر القادة العنوان العام لثوراتهم، ولكنه قد يكون فضفاضاً، وقد يتعرض إلى التحريف، لذا نجد الإمام الحسين يحدد نوع الإصلاح الذي خرج من أجله وذكر مصاديقاً على أرض الواقع حتى لا يتم التلاعب بشعاره الذي أطلقه فقال: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. وأسير بسيرة جدي وأبي. وتلاحظ أنه لم يكتف بذكر جده (صلّى الله عليه وآله) بل عطف عليه أباه علياً (عليه السلام)؛ ذلك لأن رسول الله سيرته قد يُختلف فيها فدفعا لأي توهم قد يرد قام بتحديد مصداقين مثاليين في تعاملهما الإصلاحي للأمة.

فالإمام (عليه السلام) حركته إصلاحية شاملة ليُرجع الأمة الإسلامية لماضيها التنيد فأبرزَ العنوان العام لحركته وهي أنها حركة إصلاحية وبيَّن معالمها فقال أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ثم حددهما بشكل أدق بأنه سيكون على وفق مبادئ وسيرة جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام). وأما المقطع الثاني الذي يشير فيه إلى الواقع الذي وقعت فيه الأمة آنذاك فقال: «ألا ترون الحق لا يعمل به...» وفي نص آخر يستنهض الأمة فيقول: «من رأى سلطانا جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثا لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعمل في عباده بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله»(7)، فالسبب الذي دعا سيد الشهداء إلى القيام بهذا الحراك هو الواقع الفاسد الذي أوصل يزيد بن معاوية وأمثاله حتى يتحكموا بمصير الأمة الإسلامية.

■ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) في حراكه هو في الواقع تشخيص للوظيفة العملية في الحراك السياسي، فلو نظرنا إلى شخصية الإمام الحسين كقائد لا كإمام فما هي الركائز التي اعتمدها الإمام الحسين في تشخيص هذا النوع من الوظيفة؟

● شخصية المعصوم (عليه السلام) لا يمكن أن تفكك أبعادها وتعزلها عن بعضها البعض فالأبعاد المختلفة تتكامل فيما بينهما وأوضح نص يوضح كيف شخّص الإمام الحسين هذا الواقع الفاسد هو النص الذي جهر به في مجلس والي المدينة حين دعاه لبيعة يزيد (لعنه الله)، فقال (عليه السلام): «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله...»(8)، نحن لو تأملنا في هذه الكلمة لوجدنا أنه لم يقل (وأنا لا أبايعه) فهو أولاً طرح الصفات العامة له (عليه السلام) ثم الصفات العامة ليزيد (لعنه الله) ثم طبق ذلك على الواقع الخارجي فقال: «ومثلي لا يبايع مثله» والإمام الحسين (عليه السلام) تارة ننظر إليه كإمام فهو إمام معصوم قد ولع بكتاب الله وسنة رسوله (صلّى الله عليه وآله)، ومن الواضح أن القرآن والسنة تمنع مثل هذه البيعة.. وإذا نظرنا إلى هذه المسألة بمعزل عن كتاب الله وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعرضناها على أي عاقل فإن الإمام الحسين (عليه السلام) يقول لنا بأن من يمتلك هذه الخصال المقربة من الله تعالى لا يمكن أن يبايع من يمتلك هذه الخصال المبعدة عن الله تعالى، ونحن لو نظرنا إلى الحركات الثورية حتى تلك التي لا تدين بالدين الإسلامي فإنها تستلهم الصمود والثبات، وهنا كلمات كثيرة تؤكد هذا الشأن من مشاهير كغاندي وغيره.

■ لقائل أن يقول بأن الإمام الحسين (عليه السلام) هو أبرز مثال للتضحية والفداء، لكنه مع ذلك لم يصر على استخدام هذا الأسلوب ولم يتعامل مع يزيد (لعنه الله) تعاملاً ينتهج الحراك السلمي كما يُعبّر في الإصطلاح الحديث. لعل هذا الأسلوب يطول ولكنه مفيد وفيه حفاظ على دم الإمام الحسين (عليه السلام).

● حركة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت سلمية بحق وفرق كبير بين السلمية والاستسلام، فقد أبدأ الهجومَ فتكون حركتي حركة ابتدائية وأقوم بالحركة المسلحة فتكون حركتي مسلحة غير سلمية، ولكن قد أقوم بحركة استنهاض للأمة أقوم باتباع الوسائل السلمية لإنارة عقول الناس، وهذا ما اتبعه سيد الشهداء (عليه السلام)، فعندما كان في المدينة لم يجمع الجيش، بل كان همه إنارة عقول الناس، حتى خرج منها إلى مكة، ثم إلى الكوفة فكربلاء. لكن حينما طُلب منه الاستسلام قال: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد»(9) فلم تكن حركته استسلامية البتة. ويخطئ من يحصر حركة الحسين (عليه السلام) في إسقاط يزيد فقط بل حركته هي حركة استنهاض الأمة إلى رشدها. بعد أن كادت تنسى هدف رسولها (صلّى الله عليه وآله). فعندما أجبر على القتال قاتل، وإذا تلاحظ أن الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلا لم يبدأهم بالقتال، بل كان يعظهم ويذكرهم بحسبه ونسبه وشدة اتصاله برسول الله (صلّى الله عليه وآله) فحتى انقطعت الحجة عليهم قالوا: ما قاتلناك إلا بغضاً منا لأبيك، فلما يئس منهم قال لهم: «يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»(10) فخاطبهم بعدة خطابات ابتداء بعقولهم إلى وجدانهم لكن القوم قد أعماهم الله تعالى.

المحور الثاني: (التوقيت)

■ من بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام) حتى موت معاوية ما يقرب من عشر سنوات، وبعد موت معاوية استلم الحكم يزيد وبعدها ثار الإمام الحسين (عليه السلام)، فلِم لَم يثر الإمام الحسين (عليه السلام) مباشرة بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) خصوصاً وأن الشروط قد نُقضت في حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، وأن أحد طرفي الصلح قد قضى شهيداً مظلوماً وهذا بحد ذاته داع للقيام؟

● فرق كبير جداً بين شخصية معاوية ابن أبي سفيان وبين شخصية ولده يزيد، فمعاوية كان يتظاهر بالإسلام، وكان يصلّي الجمعة، وكان يتظاهر بجميع المراسم، وكان يشعر بتدينه وإيمانه، لكنه كان يمارس الفسق والفجور في خلواته ومع خواصه، وأما يزيد فكان يتجاهر بالفسق، وكان يشرب الخمر علناً، ويلاعب القردة والخنازير علناً، ويرتكب المساوئ علناً، ولا ننس أن يزيد لم يتربَ في القصور؛ لأن أمه كانت من البادية، ولم تألف حياة القصور فارجعها معاوية إلى البادية، فنشأ يزيد نشأةً خشنةً قذرةً في البادية، ويشهد لهذا شعره البديع الذي اكتسبه من عيشة البادية.

الإمام الحسين (عليه السلام) عاصر حكم معاوية وقد حكم بعد حكم أمير المؤمنين عشرين سنة عشر منها في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) وعشر سنوات حتى موت معاوية، وهذا الأخير كان بسبب تظاهره بالإسلام كان يوجد لا أقل من الإسلام اسمه ورسمه، وعندما صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية جاء الإمام الحسين (عليه السلام) من يستنهضه إلى القيام إلا أنه أمرهم بالانصياع إلى إمامة الحسن (عليه السلام)، وبعد هلاك معاوية طرأت على الأمة حالة غريبة؛ وهي أن يتزعمهم من هو متجاهر بالفسق وهذه مشكلة عظمى فلو لم تعترض عليه الأمة كان ذلك مؤثراً على انسلاخها من شعورها ومبادئها، ودخلت في نفق لا يمكنها الخروج منه، خصوصاً أن من سياسة الأمويين هو إدخال ما ليس في الدين فيه، حتى يساهم ذلك في الحفاظ عليهم وعلى حكمهم، وهذا تجده واضحاً في الفقه السُّني في مسائل القيام على الحاكم وغيرها من هذه المسائل، وعملوا جاهدين على بث كل ما من شأنه أن يناهض مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، حتى ينصرف الناس عن هذا المذهب الحق ويميلوا إلى غيره، ومن أخطر المفاهيم التي قام الأموييون ببثها في الناس هو مبدأ الجبر؛ أي أن الله يجبر العباد على أفعالهم، وهذا تجده واضحاً في حوادث عاشوراء؛ فمثلا عندما يخاطب ابن زياد السيدة زينب (عليها السلام) فيقول: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟، ولم يقل صنعنا، بل أسند الصنع والقتل إلى الله؛ حتى يسند فعلهم إلى فعل الله، فقالت ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بيننا وبينهم(11). فجعلت (عليها السلام) الحكَم هو الله وجعلت ابن زياد طرفاً في الخصام، وهذا فيه نفي إلى ادعاء ابن زياد بأن الفاعل لقتل إلامام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته هو الله، بل الفاعل هو ابن زياد وأضرابه. وموقف آخر عندما التفت ابن زياد إلى الإمام السجاد (عليه السلام) فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال (عليه السلام): قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتله الناس، فرد عليه ابن زياد: بل قتله الله(12)، وكان الغرض من بث مبدأ الجبر هو قَبول الواقع الفاسد والسكوت عن ظلم الظالم، والخنوع عن التحرك، وتأطير هذا الإطار بإطار شرعي. من هذه الحقائق يتضح أن الإمام الحسين (عليه السلام) حينما ثار كان قد واجه عدّة مفاهيم بحركة واحدة.

■ عندما عرضت البيعة على الإمام الحسين (عليه السلام) مع فساد هذا الطاغية فلِم لم يقبل البيعة ويعمل عندئذ جاهداً بكل الطرق لمحاربة هذه الأفكار ومعالجتها، ويترك المجال إلى الناس حتى يروا فساد هذا الظالم، بل يترك المجال للظالم حتى يفضح نفسه بنفسه؟

● هناك مسألة ينبغي أن تبحث فقهياً هل أن ثورة الإمام الحسين قضية في واقعة أم لا؟ وبعبارة أخرى هل هي شأن خاص بالإمام الحسين (عليه السلام) لا يقاس عليه، أم أنها قضية يمكن تطبيقها على أي واقع، فصاحب الجواهر يرى أن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) قضية في واقعة؛ أي أنَّ لهذه الثورة خصوصيات شخّصها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل البيت أدرى بما فيه، وأن هذه من خصوصياته (عليه السلام)، وهناك من يخالفه ويقول بعدم خصوصيتها للحسين (عليه السلام)، لكن هناك حقيقة ينبغي التنبه إليها إذا ما نظرنا إلى شخصية يزيد بن معاوية فهي شخصية غير مستقرة ولا يمكن التعويل عليها، وهي تختلف تماماً عن شخصية معاوية، ففي يوم من الأيام جلس أمير المؤمنين (عليه السلام) مع جماعة من أصحابه، فقال أحدهم: أن معاوية عاقل فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما هو بعاقل إنما هو الداهية، العقل هو ما عرف به الرحمن واكتسب به الجنان، فمعاوية على فسقه وفجوره، فإن فيه دهاء مما يجعله يزن الأمور ويراعي ظواهر الإسلام، ويستمع لمستشاريه، بخلاف يزيد الذي نشأ نشئة جعلت منه شاباً متهوراً لا يعبئ بشيء، ونلاحظ في التأريخ أن معاوية ابن أبي سفيان قد كتب وصية لابنه يزيد وقال فيها: إذا مت فخذ البيعة من الحسين بن علي وعبد الله بن أبي بكر وإياك أن تسفك دم الحسين بن علي؛ فإنه ابن فاطمة، وأوصى سرجون المسيحي بذلك أيضاً، لكن بمجرد أن هلك معاوية لم يلتزم يزيد بهذه الوصية، وأوعز إلى والي المدينة أن خذ البيعة من أهل المدينة عامة، وخاصة على الحسين (عليه السلام) فإن أبى عليك فاضرب عنقه(13)، فمثل هكذا شخص لا يمكن التعويل عليه أبداً فعلاوة على عدم مشروعية نظام بني أمية فإنه لا يمكن التعويل على الشخص القابع على ذلك النظام، ومن هنا رفض سيد الشهداء مبايعة يزيد مطلقاً. والإمام الحسين (عليه السلام) أشير عليه بأن يبايع، ولكنه أبى ذلك وآثر إلا أن يقاتل يزيد ليستنهض هذه الأمة، وما ذكرته الآن يصلح شاهداً على أن ثورة الحسين قضية عامة، وأما بالنسبة إلى القول الأول، وأنها قضية في واقعة فتوجد له شواهد منها حينما جاءه محمد بن الحنفية فأشار عليه بالذهاب إلى اليمن فهناك شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أنظر فيما قلت، وعند خروجه (عليه السلام) جاءه محمد بن الحنفية فقال له: ألم تعدني النظر فيما سألتك، فقال: أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدما فارقتك فقال: يا حسين أخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا(14)، وهذا يشير إلى أنها قضية حتمية مقدرة لا بد من وقوعها، وهذا في الواقع يحتاج إلى دراسات تحليلية تستفيد منها الأمم والشعوب.

■ ما هي ملامح القيادة التي يرتضيها أهل البيت (عليهم السلام) لمن يقود الأمة، خصوصا مع غياب المعصوم وعدم حضوره الظاهري مما يجعل إبراز القيادة من وظائف المجتمع. فإذا نظرنا إلى شخصية مسلم فهو قائد منتخب من قبل المعصوم (عليه السلام)، ما الذي وجده الإمام (عليه السلام) في شخصية مسلم حتى يقدمه إلى القيادة؟

● مسلم بن عقيل قد حاز على عدة خصال:

الأولى:- الفقاهة: فقد كان عالماً ولديه معرفة بالضوابط الشرعية، ومثل هذه الأمور تحتاج إلى رجل مشرِّع دقيق في كلماته وأفعاله فكان لها مسلم بن عقيل.

الثانيه:- الشجاعة: فإن إيصال رسالة سيد الشهداء إلى مجامع الكوفة في ذلك الوضع الأمني القاهر يحتاج إلى رجل شجاع مغوار قادر على التضحية والفداء.

الثالثة:- كتمان السر: فإن إيصال الرسالة وإرجاعها تحتاج إلى شخص قادر على الحفاظ على الأسرار وكتمانها.

الرابعة:- الشخصية الجذابة والمؤثرة: فالإمام الحسين (عليه السلام) حين أراد أن يرسل رسولاً كان لا بد أن يرسل أحداً من أهل بيته حتى يبيّن قوة هذه الرسالة فكان لها مسلم.

الخامسة:- الأدب الرفيع والأخلاق العالية: التي تجسدت في شخصية مسلم وكيف أنه حكّم المبادئ على المصالح وكان بإمكانه أن يقضي على عبيد الله بن زياد حينما زار هانئ بن عروة فلم يفتك به غيلة؛ لأنه قد سمع حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن(15) فهذه الخصال اجتمعت في مسلم فكان له أن يمثل الإمام تمثيلاً حقيقياً.

المحور الثالث: (علاقة القائد مع الأتباع من خلال ثورة الإمام الحسين -عليه السلام-)

■ من خلال ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كيف كان يتعامل الإمام مع أتباعه من جهة الفكر والمعلومات والخطط؟

● يذكر علماء الإدارة فوارق بين المدير والقائد؛ فيقولون بأنه يشترك المدير مع القائد في عدة أمور ويتفرد القائد بخصوصيات لا تتوفر في المدير، فالمشتركات هي:

أولاً: الأمر والنهي، فالمدير والقائد كل منهما يأمر وينهى، افعل هذا ولا تفعل ذاك.

ثانياً: القدرة على التخطيط، فالمدير لا بد أن يرسم الخطة الإدارية فيقول نحن الآن في نقطة (أ) وبعد خمس سنوات لا بد أن نكون في نقطة (ب)، وهكذا القائد يرسم الخطة القتالية والسياسية والاقتصادية فرسم الخطة النوعية هي من مهام القائد والمدير معا.

ثالثاً: الإشراف والمتابعة أو كما يقولون المراقبة والمتابعة فبعد أن يرسم الخطة وينتهى يأتي ليشرف على القائمين على تنفيذ الخطة ويراقب أدائهم.

وهناك خصوصية يتفرد القائد فيها عن المدير وهي القدرة على الإقناع فالمدير لا يشترط أن يقنع الموظفين فالموظف أمام تطبيق قرارات المدير أو الاستقالة من الوظيفة، ولكن القائد لا يمكن أن يتعامل مع الأمة بمثل هذا التعامل وهذا من أهم مميزات القائد المثالي والمحنك، وإذا رأيت قائداً مميزاً محبوباً له امتداد شعبي وجماهيري فلاحظ خطاباته فإنك ستجدها خطابات تتوفر على عنصر الإقناع، ولو لاحظنا كلمات سيد الشهداء (عليه السلام) وكلمات أصحابه لوجدناها كلمات ترتسم فيها ملامح الإقناع، وفيها كلمات نورانية تدخل القلوب، هذه في القيادة العادية، أما قيادة الإمام الحسين (عليه السلام) ففيها خصوصية أخرى تضاف على ما تقدم وهي شخصيته الآلهية فيكفي لأن تنظر إلى نور الحسين (عليه السلام) لكي تتأثر به، وهذا ما كان واضحاً في لقائه مع زهير بن القين الذي كان عثماني الهوى وكان قد خرج ليبتعد عن خيام الحسين (عليه السلام) حتى التقيا في مكان واحد فدعاه الإمام، ولم يكن راغباً في إجابة الدعوة، لكن بعد أن ذهب ولقي الحسين (عليه السلام) رجع وهو من أنصار الحسين (عليه السلام)، وهذا انقلاب لم يحصل في مثل زهير لو لم تكن للإمام (عليه السلام) هذه الشخصية الجذّابة التي عليها نور الله تعالى.

■ هل يعيش القائد حالة الغموض أم الحالة المكشوفة مع الأمة؟

● القائد يعيش حالة الوضوح مع الأمة، ولكن ليس كل ما يعلم يقال، ومن شواهد ذلك أنه حينما رجع أحدهم من الكوفة وسأله سيد الشهداء عن وضع الكوفة فأراد أن يصف له الحال فقال: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"(16)، وكان ذلك بشكل واضح وظاهر أمام أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام). القيادة التي يكتنفها الغموض تعيش أزمة ثقة مع المقودين فلا توجد ثقة متبادلة بينها وبين المقودين، فمن أبرز ملامح القائد الذي يكون شفافاً وصريحاً مع أمته في النجاح والإخفاق. وهذا لا يعني نشر جميع الملفات أمام المعارضة وأمام العدو؛ لأنه في هذه الحالة سيمكّنهم من نفسه ومن الأمة.

فالقيادة الناجحة هي القيادة الواضحة الشفافة مع شعبها، ولكنها في نفس الوقت لا بد أن تحتفظ ببعض المعلومات لنفسها ولخواصها حفاظاً على الشعب والأمة.

■ لا ينبغي للقائد أن يسير في خطة عدوه بل هو من يجبر عدوه على السير في خطته هو، فإن لم يقدر على هذا. عمل جاهداً على إفشال خطة العدو أو تأخيرها. بالنظر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كيف تجلى هذا في حراكه؟

● تارة نلحظ القضية من ناحية تأريخية وأخرى من ناحية فكرية، ولو لحظناها من الناحية الفكرية فيمكن الرجوع إلى كتاب طبع مؤخرا للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدِّس سرُّه) وهو عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها في النجف الأشرف حول ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) يشير المؤلف في هذا الكتاب إلى أن سيد الشهداء قد خطط إلى هذه النتيجة الأخيرة. وإذا لحظنا الجانب التأرخي فمن الواضح أن يزيد كان يريد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة فأوعز إلى والي المدينة أن خذ البيعة من الحسين وإن أبى فاضرب عنقه(17) لكن الإمام الحسين (عليه السلام) حوّل هذه الخطة إلى حركة نهضوية جالت العالم الإسلامي حتى استقر به الحال في كربلاء، فالإمام أجبرهم على قبول خطته ولم يكن العكس.

■ متى يتحقق الانقياد الحقيقي من الرعية إلى القائد؟ وكيف تعامل أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا الجانب؟

● هناك حالات ثلاث:

الأولى: هي حالة التسليم المطلق في الصالح والطالح في الخير والشر؛ فهذا تسليم أعمى يؤدي إلى مخالفة البديهيات كأداء صلاة الجمعة في يوم الأربعاء وهذا ليس مطلوبا.

الثانية: هي حالة التمرد وعدم التسليم، وهذه تكشف عن روح العناد وهي الأخرى ليست مطلوبة أيضا.

الثالثة: هي روح التسليم مع تحكيم المبادئ والنصح، فينبغي على المقود أن ينقاد إلى القائد لا لشخصه ولا لحسابات مادّية ولا لحسابات أسرية، وإنما لحسابات إلهية ولمبادئ ربانية مع إسداء النصح، وهناك رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يطلب فيها من المسلمين النصح ثم يقول: «فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه»(18)، وهذه خصيصة مهمة ينبغي للقاعدة الشعبية أن تتحلى بها وهي أنه إذا وجدت شيئاً يتنافى مع المبادئ التي تؤمن بها لا بد لها أن تلفت القيادة إلى هذه المبادئ وهذه النصيحة ليست بالضرورة أن تكون واقعية صحيحة، لكن مع ذلك لا بد أن تُسمع الأمة صوتها إلى قائدها، والقائد عليه في المقابل أن يُحكّم الموازين الشرعية والعقلية في اتخاذ موقفه، فإذا اتخذ الموقف وكان متوفراً على الشرائط وجب على القاعدة الانقياد له.

هناك حقيقة مرّة وهي أن يتبع الناس القيادة ما دامت تلتقي معهم في الفكر والرأي، أما بمجرد أن يحصل اختلاف فإن الناس يقفون متفرجين على قيادتهم لتسير لوحدها، لذا نقول بأن معنى القيادة يتجلّى في الاختلاف.. وتسديد القائد لا ينحصر في النصح وحسب بل بتحريك الأمور التي لها مدخلية في تغيير الوضع كالشخصيات التى يمكن أن تكون مؤثرة، والوسائل كثيرة لكن المهم في المقام أنه على المقودين أن ينقادوا للقائد المتوفر على الشرائط، وأهمها العلم والورع والخبرة؛ فقيادة بهذه المواصفات يجب اتباعها، وأما نجاحها إن لم يكن مقطوعاً به فهو محتمل لا أقل، لكن لو اتخذت هذه القيادة خطوة يرى فيها البعض عدم الصحة فينبغي عليهم إقناع القيادة بشتى الطرق، وإلا فالجميع عليهم أن ينقادوا، لا أن تُبث التشويشات بين المقودين؛ لأن هزيمتهم عندئذٍ ستكون معلومة بعد تمزق الأمة وضعف القيادة.

إشكال

■ يصور البعض قيام الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه صراع بين العائلتين الهاشمية والأموية، أي أن أسباب معركة الطف تعود إلى العداء والحقد المستحكم بين العائلتين منذ أيام الجاهلية. ما هو تعليقكم على هذا التصوير؟

● هذا التصوير قد تجده في كتب محمود العقاد تحت عنوان الحسين أبو الشهداء(19) حيث قام بمقارنة بين البيت الأموي والبيت العلوي فقال: إن الحسين أمه فاطمة ويزيد أمه ميسون والحسين أبوه علي ويزيد أبوه معاوية والحسين ينتمي إلى خديجة ويزيد ينتمي إلى هند، الحسين جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويزيد جده أبو سفيان...

فرق كبير بين الشجرة الطيبة وبين الشجرة الملعونة في القرآن، ولكن اختلاف البيتين ليس هو الأساس في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنما اختلاف المبادئ التي تجسدت في البيتين، واختلاف المثل والقيم التي تجسدت في الشخصيتين كانتا هما الفاصل في تحقق هذه الثورة، وهذا ما أشار إليه سيد الشهداء (عليه السلام) في قوله: «ومثلي لا يبايع مثله»، فالقضية ليست شخصية، فهو لم يقل: أنا لا أبايع يزيد، بل قال: مثلي لا يبايع مثله.

والطواغيت عادة إذا أرادوا أن يميّعوا قضية من القضايا فإنهم يجعلونها قضية شخصية، ويبعدوا الأهداف الرسالية والمبادئ والقيم الدينية عنها، ولكن سيد الشهداء (عليه السلام) حال دون ذلك منذ البداية.

 

في ختام هذا اللقاء الشيِّق نشكر سماحة الشيخ عبدالله الدقاق على إتاحة الفرصة لنا وإجراء هذا الحوار معه سائلين المولى أن ينفع به الإسلام والمسلمين والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) المشرف العام والمدير المسؤول لهذه المجلة الكريمة، وهو من المؤسسين لها، وهو  (حفظه الله) مدير حوزة الأطهار التخصّصية في قم المقدّسة، وأستاذ في الحوزة العلمية، ويحضر البحث الخارج لجملة من المراجع العظام.

(2) لا تتسع هذه الوقفة لسردها ويمكنكم مراجعة كتاب كلمات الإمام الحسين (عليه السلام).

(3) بحار الأنوار44: 329.

(4) بحار الأنوار44: 364.

(5) تسمى بالراديكالية فهي تهدف إلى إسقاط النظام السياسي وبناء نظام جديد يختلف تماماً مع النظام السابق.

(6) وبعبارة أخرى تهدف إلى إبقاء أصل النظام، لكن مع إصلاح المفاسد التي اعترت ذلك النظام، فهي تطوّر النظام التي بدت ملامح الخلل تظهر فيه.

(7) بحار الأنوار44: 382.

(8) اللهوف في قتلى الطفوف 17.

(9) مناقب آل أبي طالب3: 224.

(10) بحار الأنوار45: 51.

(11) بحار الأنوار45: 115.

(12) بحار الأنوار45: 117.

(13) اللهوف في قتلى الطفوف: 9

(14) بحار الأنوار44: 364.

(15) بحار الأنوار44: 344.

(16) دلائل الإمامة للطبري(الشيعي):182.

(17) اللهوف في قتلى الطفوف: 9.

(18) نهج البلاغة، من خطبة له (عليه السلام) بصفين بين حق الخليفة وحق الرعية.

(19) الحسين أبو الشهداء للعقاد 3: 309-315.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا