الغيبة وآثارها في الحياة الإنسانية (القسم الأول)

الغيبة وآثارها في الحياة الإنسانية (القسم الأول)

تقديم

كنت قد كتبت بحثاً في سالف الزمان حول الغيبة، وقد عرضته على علمين بارزين من علماء البحرين في ذلك الزمان، فأفاداني مشكورين ببعض ملاحظاتهما، بعد أن استحسنا فكرة طباعته، إلا أنني لم أكن راغباً في طباعته آنذاك، فبقي البحث محفوظاً من دون طباعة، وجاءت انطلاقة مجلة رسالة القلم، التي تهدف إلى تنمية الأقلام، فرأيت من المناسب أن أطرح ذلك البحث المكتوب فيها من دون أي تغيير، لأنه يعكس الجهد العلمي لتلك الحقبة الزمنية، ولذلك لم أدرج فيه حتى تلك التعليقات التي استفدتها من العلمين، من باب الأمانة العلمية.

مدخل:

لإرساء حاكمية دين الله في الأرض لابد من تحقق المجتمع الإسلامي السليم، ومن أجل تحقيقه لابد من ترسيخ المبادئ السامية للإسلام المحمدي الأصيل في الأسرة المسلمة؛ حيث أنّ هذه الأسرة هي النواة التي يتشكل بها المجتمع الإسلامي، ومن هنا جاءت تعاليم الشريعة الغراء لكي ترسم للفرد المسلم الطريق القويم والصراط المستقيم؛ إذ بالأفراد تتكون الأسر التي تشكل المجتمعات البشرية التي حرص الإسلام على غرس القيم الأصيلة فيها، كما أنّه حرص كلّ الحرص على صيانتها وتنزيهها من الخصال الذميمة.

ومن هنا تنبثق أهمية البحث حول الغيبة، فالغيبة، من الآفات الاجتماعية الخطيرة التي لو كتبت لها أن تتفشى في المجتمع الإسلامي لقضت عليه ومزقته تمزيقاً وأودعته في قعر الجحيم!! هذا من جهة.

ومن جهة أخرى نلحظ أنّ هذه الآفة تعترض مسيرة الإنسان المسلم وخصوصاً المؤمن الرسالي، فهي في الأعم الأغلب مورد ابتلاء الكثير من المؤمنين والعاملين، بل إنها منتشرة بين الناس انتشاراً كبيراً وملحوظاً حتى عبّر عنها بعضهم بأنها فاكهة المجالس.

ومن المعلوم أن الغيبة من الذنوب الكبيرة إن صح تقسيم الذنوب إلى صغيرة وكبيرة، وقد عدّها السيد عبد الحسين دستغيب(قده) أول الكبائر غير المنصوص عليها وفقاً لتقسيمه للذنوب الكبيرة في كتابه القيم ((الذنوب الكبيرة))، حيث أنه قد قسم الكبائر إلى قسمين:

القسم الأول: كل ذنب ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التصريح بأنه ذنب كبير (وهذا القسم يتجاوز أربعين ذنباً) صرّح به في أخبار أهل البيت (ع)(1)، وأولها وأكبرها الشرك بالله كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في أصول الكافي قولـه: ((أكبر الكبائر الشرك بالله))(2).

القسم الثاني: كل معصية ورد في القرآن الكريم والسنة المعتبرة الوعيد عليها بالنار(3) إلا أنه لم يصرّح بأنها ذنب كبير، و((يجب أن يعلم أن مدرك هذا الحكم روايات عديدة صرّحت بهذا الأمر من جملتها صحيحة ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال (ع) في معرفة عدالة الشخص: ((ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار)) ويظهر بوضوح من هذا النص أنّ كل ذنب وعد عليه بالنار فهو من الكبائر))(4) و ((أول الذنوب  التي ثبت أنها من الكبائر بدليل الوعيد عليها بالعذاب في القرآن المجيد والروايات الكثيرة هو (الغيبة)، كما يقول تعالى في سورة النور: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))(5) وفي رواية ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (( من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ ((إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة)) اصول الكافي))(6).

فبالنظر إلى عظم هذا الذنب الكبير مع الالتفات إلى توغله في أوساط مجتمعنا الإسلامي نرى لزاماً علينا البحث فيه ولو بشكل يسير، تمشياً مع حجم هذا الكتيب، حيث أن بعض الموارد تحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب حتى يتسنى للمسلم الوقوف على أبوابها بوعي تام ووعي مستنير، ومن هنا ارتأينا أن نبحث موضوع الغيبة في ستة فصول على النحو التالي:

الفصل الأول: تعريف الغيبة وشروط تحققها وأقسامها.

الفصل الثاني: دواعي الغيبة وبواعثها.

الفصل الثالث: موارد جواز الغيبة.

الفصل الرابع: علاج الغيبة وكفارتها وأحكامها.

الفصل الخامس: دراسة آثار الغيبة على الفرد والمجتمع وما قد تؤدي إليه من آفات وأضرار وما قد تفرزه من مساوئ.

الفصل السادس: فيما ورد في الغيبة من الروايات.

***

 

الفصل الأول: تعريف الغيبة وشروط تحققها وأقسامها:

البحث الأول: تعريف الغيبة:

عُرِّفت الغيبة بعدة تعريفات، منها ما ذكره أهل اللغة في قواميسهم اللغوية، ومنها ما ذكره الفقهاء فيما بحثوه وكتبوه في كتبهم الفقهية أو الأخلاقية، وبما أننا نلتزم الاختصار قدر الإمكان، فإننا سنذكر بعض التعريفات اللغوية والفقهية للغيبة مع إيراد بعض الملاحظات التي تتناسب وحجم الكتيب.

أولاً: تعريف الغيبة لغةً:

نذكر هنا ما ذكره بعض أهل اللغة مع الإشارة إلى المصادر كما يلي:

أ- قال الجوهري في كتاب ((الصحاح)): ((اغتابه اغتياباً، إذا وقع فيه؛ والاسم الغيبة، وهو أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه لو سمعه، فإن كان صدقاً سمّي غيبة، وإن كان كذباً سمّى بهتاناً))(7).

ب- قال الخوري الشرتوني اللبناني في كتاب (أقرب الموارد): ((الغيبة اسم بمعنى الاغتياب وهي أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته، أي قلت عليه ما لم يفعله، وإن واجهته بذلك فهو شتم))(8).

جـ - قال ابن الأثير في كتاب (النهاية): ((الغيبة وهي أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، فإذا ذكرته بما ليس فيه فهو البهت والبهتان))(9).

نلاحظ أنّ هذه التعريفات الثلاثة تتضمن جميعها مايلي:

أ- ذكر الإنسان بسوء أو بما يكرهه والوقيعة فيه حالة كونه غائباً.

ب- أن يكون الشيء المذكور موجوداً في الشخص المغتاب، وليس مفترىً عليه، فلو كان مفترىً عليه لأصبح بهتاناً لا غيبة.

توجد بعض الفوارق التي نستطيع أن نستخرجها من المدلول اللفظي للتعريفات الثلاثة وهي كما يلي:

أ- اشترط الجوهري في تعريفه أن يكون ذكر الإنسان والوقيعة فيه يؤدي إلى غمه لو سمعه، كما اشترط الشرتوني كون الذكر موجباً لكراهة المغتاب، بينما لا نجد هذا القيد في تعريف ابن الأثير، وبذلك لا تستحقه الغيبة على ضوء تعريف الجوهري والشرتوني إلا إذا استوجبت أذى المغتاب أو كراهته ذلك، أما على ضوء تعريف ابن الأثير فإن الغيبة تتحقق وتصدق بمجرد ذكر الإنسان بسوء من وراء ظهره وإن كان هذا الذكر السيء لا يؤذيه ولا يغمه.

ب- اشترط الجوهري في تعريفه للغيبة أن يكون العيب مستوراً، بينما لا نجد هذا القيد في التعريفين الآخرين، وعلى هذا ينطبق عنوان الغيبة على ذكر العيب سواء كان مستوراً أم غير مستور على ضوء تعريف ابن الأثير والشرتوني، بينما لا ينطبق عنوان الغيبة إلا على خصوص ذكر العيب المستور لا على مطلق ذكر العيب وفقاً لتعريف الجوهري.

نذكر هنا بعض الملاحظات العامة على التعريفات الثلاثة وباقي تعاريف أهل اللغة كما يلي:

أ- نلاحظ أن التعاريف الثلاثة قد اقتصرت على اعتبار التكلم أو الذكر في ظهر الغيب من الغيبة، ولم تتطرق إلى غير التكلم كالإشارة باليد وغيرها أو حكاية بعض التصرفات... إلخ؛ ولهذا قال صاحب مفتاح الكرامة – معلقاً على تعريف صاحب النهاية بعد أن ذكر تعاريف أهل اللغة – ما نصه: ((فكلام أهل اللغة خاص بالذكر والكلام، إلا أن يريدوا بالذكر ما يشمل الإشارة والتحاكي للفعل))(10).

أ- إنه قد وقع الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي للغيبة في أكثر تعريفات أهل اللغة كما اتضح من مراجعة كتب اللغة، فمن المعروف أنّ الكثير من اللغويين يسردون المعاني الكثيرة للكلمة من دون التفرقة والتمييز بين معانيها الحقيقية والمجازية، كما أنهم أحياناً يذكرون المعاني اللغوية والاصطلاحية للكلمة الواحدة من دون تمييز بينها، ولهذا علّق الإمام الخميني العظيم (قده) بعد ذكره لبعض تعريفات اللغويين للغيبة بما يلي:

((وحسب اعتقاد الكاتب إنّ هذه المعاني المذكورة لا تمت إلى المعنى اللغوي بشئ، بل في كل منها قيود تداخلت مع المعنى المصطلح، وعلى أي حال لا جدوى في البحث عن المعنى اللغوي، فإن المهم هو الوصول إلى الموضوع الشرعي الذي أصبح متعلقاً للتكليف الشرعي–الحرمة-. وحسب الظاهر يكون لهذا الموضوع – الغيبة – قيود شرعيّة لا يرقى إليها الفهم العرفي والمعنى اللغوي))(11).

ثانياً: تعريف الغيبة اصطلاحاً:

1- الأقوال في تعريفها اصطلاحاً:

اتضح بعد ملاحظة ومراجعة أغلب مؤلفات فقهائنا الأعلام وعلمائنا الكرام أنّ هناك تقريباً ثلاثة تعاريف للغيبة سنذكرها إن شاء الله تعالى، كما اتضح أنّ عمدة ما يذكرونه من تعريفات للغيبة وما يتفرع عليها مستقى من كتاب ((كشف الريبة عند أحكام الغيبة)) للشهيد الثاني (قده)(12)، حيث قال في مقام بيان تعريفها ما يلي : ((وأما بحسب الاصطلاح فلها تعريفان:

أحدهما: المشهور وهو ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعدُّ نقصاناً في العرف بقصد الانتقاص والذم، فاحترز بالقيد الأخير وهو قصد الانتقاص والذم عن ذكر العيب للطبيب مثلاً أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حق الزّمِن والأعمى بذكر نقصانهما، ويمكن الاستغناء عنه بقيد كراهته نسبته إليه.

الثاني: التنبيه على ما يكره نسبته... إلخ، وهو أعم من الأول لشمول مورده اللسان والإشارة والحكاية وغيرها وهو أولى لما سيأتي من عدم قصد الغيبة على اللسان))(13).

ملاحظة: لو قلنا أن الذكر أعم من التكلم لأصبح التعريفان تعريفاً واحداً، وقد استظهر الإمام الخميني (قده) ذلك حيث قال: ((وإذا كان الذكر أعم من القول كما هو الموافق للغة، كان مرجع التعريفين واحداً، والمستفاد من الأخبار أيضاً يدل على هذين التعريفين))(14).

وعلى هذا يكون مرجع التعريفين المذكورين إلى تعريف واحد، وقد اختار هذا الرأي السيد محسن الحكيم (قده) حيث قال ما نصه:

((والغيبة وهي أن يذكر المؤمن بعيب في غيبته سواء كان بقصد الإنتقاص أم لم يكن، وسواء كان العيب في بدنه أم في نسبه أم في خلقه أم في فعله أم في قولـه أم في دينه أم في دنياه أم في غير ذلك مما يكون عيباً فيه ومكروهاً لديه، كما لا فرق في الذكر بين أن يكون بالقول أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب))(15).

القول الثالث: إن الغيبة هي ذكر المؤمن بعيب في غيبته على أن يكون العيب مستوراً عن الناس سواء كان بقصد الإنتقاص أم لا، وسواء كان بالقول أم بالفعل، وقد يستفاد هذا الرأي من كلام الإمام الخميني (قده) حيث قال: ((ولا يبعد أن يكون إظهار المستور من عيوب المؤمنين عند عدم رضاهم بذلك محرماً، حتى وإن لم يكن هناك قصد للانتقاص منهم))(16).

وهذا هو رأي السيد الخوئي إلا أنه لم يذكر قيد عدم رضا المغتابين حيث قال:

((والغيبة وهي أن يذكر المؤمن بعيب في غيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص، أم لم يكن وسواء أكان العيب في بدنه، أم في نسبه، أم في خلقه، أم في فعله، أم في قولـه، أم في دينه أم في دنياه، أم في غير ذلك مما يكون عيباً مستوراً عن النّاس، كما لا فرق في الذكرية أن يكون بالقول، أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب))(17).

وقد ارتضى هذا الرأي الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر (قده) في تعليقته على منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم حيث قال: ((بل الغيبة أن يكشف العيب المستور))(18) كما ارتضى هذا الرأي السيد علي الحسيني السيستاني(19) والشيخ جواد التبريزي في تعليقته على منهاج الصالحين، حيث أنه لم يعلقه على هذا الرأي(20) مما يعني أنه يرتضيه وليس له نظر يخالفه.

فنلاحظ أن السيد الخوئي (قده) قد خالف التعريف المشهور للغيبة في أغلب الكتب الفقهية والأخلاقية، والوجه في ذلك ما ورد في تقريراته حيث قال: ((والتحقيق أن يقال: إنه لم يرد نص صحيح في تحديد مفهوم الغيبة، ولا تعريف من أهل اللغة كي يكون جامعاً للأفراد ومانعاً للأغيار، وعلى هذا فلابد عن أخذ المتيقن من مفهوم الغيبة وترتيب الحكم عليه: وهو أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما في المقدار الزائد فيرجع إلى الأصول العملية(21)، وقد ذكر هذا في جملة من الروايات وهي وإن كانت ضعيفة السند، ولكن مفهومها موافق للذوق السليم والفهم العرفي))(22).

 

ضابطة كشف الستر:

((من المعلوم توقف إذاعة السر وكشفه على أمرين:

الأول: كون النقص غير معروف لدى العامة وبمعرض الظهور والبروز لغير أهل البلد من دون حاجة إلى إخبار المخبر. وبعبارة أخرى قد يصير النقص في العلنية والدوران على الألسنة والأفواه بمثابة لا يقبل أن يستر، فإنه بنفسه يظهر للغريب إذا بقي في البلد قليلاً من دون أن يخبره مخبر، فلا يصدق على الكف عن ذكر هذا النقص لهذا الغريب أنه كتمان للسر ولا على ذكره أنه كشف لـه.

والثاني: هو الستر عند السامع لوضوح عدم الكشف مع اطلاعه))(23).

1- مصاديق الغيبة:

قد ذكر شهيد المحراب السيد عبد الحسين دستغيب خلاصة ما ذكره الشيخ الأنصاري (ره) حيث قال: ((والشيخ الأنصاري بعد أن نقل كلمات أهل اللغة والروايات في معنى الغيبة، والتحقيق في أطراف ذلك، ذكر كلاماً خلاصته أن مصاديق الغيبة ثلاثة:

الأول: ما كان غيبة قطعاً وبنحو متفق عليه.

الثاني: ما كان الظاهر أنه غيبة.

الثالث: ما كان الظاهر أنه ليس من الغيبة.

أما القسم الأول: فهو إظهار العيب الشرعي أو العرفي المستور عن السامع، والذي لا يرضى صاحبه بكشفه، وكان قصد المغتاب الانتقاص من صاحب العيب. وخلاصة القول أن انتقاص المؤمن بكشف عيب خفي فيه غيبة قطعاً، ومن الذنوب الكبيرة.

أما القسم الثاني: فهو نقل العيب الخفي عند شخص لا بقصد الذم والانتقاص، بل لغرض آخر، كالتفكه، أو الاستشهاد به، أو من باب الشفقة على صاحبه. ولا شك في أنّ ذلك حرام، والذي يظهر من الروايات أنه من موارد الغيبة ومصاديقها.

وأما القسم الثالث: فهو نقل عيب شخص لآخر يعلم بوجود ذلك العيب، وظاهر بعض الروايات أن ذلك خارج من عنوان الغيبة، وإن كان يستفاد من روايات أخرى أنّ ذلك غيبة أيضاً.

وهنا إذا كان المغتاب يقصد الانتقاص والمذمة فلا شك في حرمة ذلك، وإن كان اعتباره غيبة محل شك، وذلك لأن نفس هذا النقل يوجب الإيذاء والتوهين لمؤمن، ولا شك في حرمته، وإن لم يكن قصد المغتاب الانتقاص والمذمة، لكن يتحقق ذلك قهراً، كأن يصفه بألقاب وأوصاف ذميمة، كما لو قال: إنه ابن يهودي، أو أمه فاحشة، فذلك حرام أيضاً، كما جاء النهي في سورة الحجرات صريحاً عن التنابز بالألقاب: ((ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان))(24).

المبحث الثاني: شروط تحقق الغيبة المحرمة شرعاً:

يتضح مما تقدم من التعاريف السابقة الضابط لتحقق الغيبة المحرمة شرعاً، ففي كل تعريف توجد شروط معينة تحقق الغيبة المحرمة وفقاً لنفس التعريف المذكور، ونحن هنا نشير إلى بعض الشروط التي قد تكون لم تذكر أصلاً أو قد ذكرت إلا أننا أحببنا التنبيه والإشارة إليها وهي كما يلي:

1- لابد من تعيين المغتاب، فلو قال: واحد من أهل البلد جبان لا يكون غيبة))(25).

2- الظاهر اختصاصها بصورة وجود سامع يقصد إفهامه واعلامه))، فلو كان يتكلم مع نفسه لم تتحقق الغيبة المحرمة.

1- أن لا تكون الغيبة من الموارد التي تستثنى منها، كغيبة المتجاهر بالفسق، فهذه الموارد قد يصدق عليها تعريف الغيبة إلا أنها من الموارد التي استثنتها الروايات من حرمة الغيبة، وجوزها الفقهاء، وسيأتي ذكرها في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.

2- أن يكون المغتاب مؤمناً، بمعنى أن يكون امامياً أثني عشرياً، فتجوز غيبة المخالف(26)، حيث أنه ((لا ريب في اختصاص تحريم الغيبة بمن يعتقد الحق كما في مجمع البحرين والرياض))(27)، إلا أنّ بعض الفقهاء قد احتاط في ذلك كالسيد محمد رضا الگلپايگاني (قده) حيث أجاب على السؤال التالي: هل تجوز غيبة المخالف؟ فأجاب (قده): ((بسمه تعالى: الأحوط عدم غيبته إلا بداع شرعي، والله العالم))(28).

المبحث الثالث: أقسام الغيبة وأنواعها:

اتضح مما تقدم تعريف الغيبة وشروطها إلا أنها قد تقسم إلى أقسام ((وقد قسم الشهيد في قواعده الغيبة إلى ظاهرة وخفية وأخفى، وعدّ من الثاني الإشارة والتعريض، ومن الثالث أن يذم نفسه بترك طرائق لينبه على عورات غيره فينبغي تحديدها بما يقصد به هتك عرض المؤمن أو التفكه به أو إضحاك الناس منه فما كان منها لغرض صحيح لا يحرم))(29) كما سيأتي في موارد جواز الغيبة.

وقد ذكر الشهيد السعيد السيد عبد الحسين دستغيب بعض الأمور يستحسن ذكرها هنا إتماما للفائدة، حيث قال مانصه:

((صريح الروايات وكلمات الفقهاء أن لا فرق في ذكر العيب بين عيب وآخر، سواء كان نقصاً في البدن، أو في النسب، أو في الخلقة، وسواء في الأقوال أو الأفعال، في دين أو دنيا، أو في أمور ترجع إليه كاللباس والمنزل والمركب، وأمثال ذلك. وقد ذكر بعض(30) لكل واحد من هذه الأمور مثالاً، أما الغيبة الراجعة للبدن فمثالـه أن يقول: فلان أعمش، أو أحول، أو أعور، أو أقرع، أو قزم، أو أسود، أو أصفر، وأمثال ذلك من الأوصاف التي يتأثر صاحبها لذكرها.

وأما الغيبة في النسب فمثالـه أن يقول: فلان أبوه فاسق، أو خبيث، أو خسيس أو حائك، أو غير شريف، وأمثال ذلك.

وأما الغيبة في الخلقة فمثالـه أن يقول: فلان سئ الخلقة، بخيل، أو متكبر، أو جبان أو ضعيف أو مراءٍ، أو سارق، أو ظالم.

وأما الغيبة في سلوكه الدنيوي فمثالـه أن يقول: فلان غير مؤدب، لا يعرف الحد، لا يعرف موضعه الطبيعي، ثرثار، أكول، نوّام.

وأما الغيبة في اللباس فمثالـه أن يقول: لباسه وسخ، عتيق، ممزق، طويل، قصير، وهكذا في سائر الأمور الراجعة لـه إذا ذكرت بسوء بنحو لا يرضى صاحبها ويجب أن يعلم أنه لا فرق في حكم الغيبة بين كشف عيب الآخرين باللسان، أو بالفعل والإشارة، بنحو صريح أو بالكناية، بل أحياناً تكون الغيبة بالكناية أسوأ مثل أن يقول: الحمد لله الذي لم يبتلني بحب الرئاسة، أو مجالسة الظلمة، أو حب المال، أو يقول: أعوذ بالله من الحرص والبخل والصلافة، أعاذني الله من شر الشيطان، وغرضه في جميع هذه العبارات التعريض بشخص يحمل تلك المواصفات.

وكثيراً ما يقول بعض الأشخاص المحتالين حين يريدون استغابة أحد بمدحه أولاً، فيقول هو نعم الرجل، لكن مع الأسف إنه مبتلى بالشيطان، وكذا وكذا، وأحياناً يظهرون الغصة والتأثر عليه نقاقاً، ويقولون ما أشد تأثرنا لفلان، قلبنا يحترق لـه حيث صدر منه العمل الفلاني. وإن كانوا صادقين في محبتهم لـه وتأثرهم لأجله، فكان يلزمهم أن لا يفضحوا سره ويذكروه بسوء))(31).

***

 

الفصل الثاني: دواعي الغيبة وبواعثها:

إن التأمل في ظاهرة الغيبة والسعي لدراسة وتحليل ظاهرة تفشيها واستشرائها بين الأفراد في عمق المجتمع المسلم، يوصلنا ويرشدنا إلى الكثير من البواعث والدواعي التي تؤدي إليها وتعمل على اتساع رقعتها من قبيل:

أ- الغفلة عن تحريمها وما ورد فيها من الوعيد(32)، فقد يكون المسلم غير مدرك لضابطة الغيبة وموارد حرمتها ومن هنا لزم عليه أن يحيط بها وبضوابطها، وأنْ يتعرف عليها جيداً لكونها من المسائل التي تقع في معرض ابتلائه في الواقع الاجتماعي.

ب- قد يكون المسلم عارفاً للغيبة مدركاً لحرمتها إلا أنه يغفل عن خطرها وعظمها وكونها من الذنوب الكبيرة، ((لخفاء هذا النوع من المنكر))(33) عند النّاس ((ولو وسوس إليهم الشيطان أن اشربوا الخمر أو ازنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة، وسقوط محلّهم به لديهم، بل عند متعاطي الرذائل الواضحات))(34).

ولكن مع إمعان النظر أكثر فأكثر نجد أنّ المغتاب كثيراً ما يعاني من عدة حالات نفسية أو مرضية تسوقه إلى الغيبة والاغتياب نذكر منها مايلي:

1- الإحساس بالنقص والشعور بالقصور أمام الآخرين: فيسعى لصد هذا الشعور المؤلم بالغيبة وذكر عيوب الآخرين، بل ويسعى جاهداً لعرضهم بالصورة المشوهة التي يعاني منها معاناة باطنية وإن لم تكن هذه الخصال فيهم، حيث أنّ عجزه عن الرقي إلى مستوى الآخرين يلجأه إلى الهجوم عليهم والنيل منهم في غيبهم لكي يطفأ لهيب معاناته بالانتقاص منهم لتعويض نقصه.

2- الكبرياء والتعالي وإرادة الافتخار والمباهاة: فالشخص الذي هو معجب بنفسه، ويرى أنّ الآخرين أدون منه، يحاول عادةً عرض الآخرين وإبرازهم بالصورة المحتقرة المذمومة حتى ترتفع شخصيته وتبرز أكثر، فيرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان لا يعلم شيئاً أو لا يفهم شيئاً، وغرضه الأساس أنْ يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه وأنه أفضل منه، ومنشأ الغيبة هنا التكبر والمباهاة وهذه من رذائل القوة الغضبية.

3- ضعف الشخصية: فقد يلجأ البعض للغيبة نتيجةً لضعف أنفسهم وهزالة إرادتهم أمام الآخرين ومن أمثلة ذلك:

أ- إرضاء الآخرين من الذين يرغبون في هدم شخصيةٍ وإسقاطها وتحطيمها والعمل على تقويض مكانتها، فيشاركهم لارضائهم متجاهلاً غضب الرب العظيم، فيساعد أقرانه ورفقاءه على الكلام حذراً من تنفرهم واستثقالهم إياه لولا مشاركته لهم في الحديث ظناً منه أنه مجاملة في الصحبة فيهلك معهم.

ب- أن ينسب إلى شئ من القبائح، فيريد أن يتبرأ منه بذكر فاعل ذلك القبيح، وكان اللازم عليه أن يبرأ نفسه منه فقط منه دون التعرض للغير الذي فعله، وقد يشير إلى غيره ويلوح بأنه كان مشاركاً لـه في فعل القبيح لكي يخفف وطأة اللوم عليه، فيقع في محذور الغيبة.

جـ - أن يستشعر من رجل أنه سيذكر مساوئه، أو يقبح حالـه عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادر قبل ذلك بتقبيح حالـه وذكره بسوء، ليسقط أثر كلامه وشهادته.

4- السخرية والاستهزاء: فمن كان معتاداً على توهين الآخرين والمسخرة بهم، لا فرق لديه بين توجيه الكلام اللاذع إليهم مباشرة وبين توجيه سهامه إليهم وتصويبها في نحورهم في ظهر الغيب.

5- اللعب والهزل والمرح: فالغرض الأساس هنا هو إضحاك الآخرين لتلطيف أجواء المجلس وإن لم يكن بقصد الانتقاص كما هو حاصل في السخرية والاستهزاء، فالدافع الرئيسي للغيبة هنا إضحاك النّاس على المغتاب على سبيل التعجب أو حكاية أفعالـه والبوح بظرافتها، ومرجع هذا الصنف إلى القوة الشهويّة التي يصبح الإنسان بها ميالاً للعب والمرح هرباً من هموم الدنيا ومشاكل الحياة.

6- الترحم: وهو أن يحزن ويغتم بسبب ما ابتلي به غيره فيقول مثلاً: المسكين فلان قد غمّه وأحزنه ما حدث لـه من الإهانة والاستخفاف، فيكون صادقاً في اغتمامه، إلا أنّه لما ذكر اسمه وأظهر عيبه صار مغتاباً.

7- التعجب أو التبرم: كأن يرى منكراً أو مساءةً من فلان أو يسمع عنها فيقول عند جماعة: عجباً لفلانٍ كيف يرتكب مثل هذا المنكر، أو يتبرم ويتضجر ويسأم منه، بل وقد يؤدي ذلك إلى غضبه وانفعالـه فيظهر غضبه بإظهار إسمه وما عملـه من سوء.

8- تصديقه الخبر من دون كشف وتتبع: كأن يقول شخص لشخص: إنّ فلاناً قد قام بالعمل الفلاني السئ، فيذهب المتلقي للخبر وينشر الحديث من دون تحر للحقيقة وسعي للوصول إلى مراميها التي قد تغيب عن الأذهان.

9- خبث النفس وسواد القلب: فسوء السريرة تولّد لدى الإنسان عدّة أمور منها:

أ- سوء الطن: فيصبح الإنسان دائم الحمل على المحامل السيئة، بخلاف ما جاء في تعاليم الدين الحنيف من حمل المؤمن على سبعين محمل.

ب- الحقد: فسئ السريرة ينظر إلى الدنيا وما فيها بنظارة سوداء، فبمجرد حدوث شئ بينه وبين أخيه، تنبثق الضغينة في جوانحه وتسيطر على كل كيانه، وبذلك يتحدث ويتكلم على الآخرين بما يحلو لـه.

جـ - الحسد: فصاحب النفس المظلمة يتألم عندما يرى نور النفوس المستنيرة بمعرفة الله؛ وبهذا يتمنى زوال تلك الخصيصة منهم حتى يكثر أمثاله، فيدفعه الحسد للنيل من الآخرين لإسقاطهم.

د- الشتم وقذف التهم: فإذا اسودّ قلب المسلم أصبحت آثاره وخيمة لأنها نابعة من خبث متأصل، لهذا نجده يكيل التهم والشتائم للمؤمنين حتى يطفأ لهيب الهيجان النفسي المتأجج في ذاته المحمومة.

10- محاولة تزيين الخبر وإظهاره بمظهر أنيق: فقد يكون الخبر صحيحاً وواقعياً إلا أنّه يعلم أنّه عندما يخبر به إخوانه لن يجذب انتباههم ولن يستثير أسماعهم للرضوخ لما يقول، ومن هنا يعمد إلى إضافة بعض الأمور كذكر بعض مساوئ من يريد التحدث عنه التي هي مستورة عنهم لكي يهزّ كيانهم فيعيروا لـه أسماعهم تلقائياً ولو بدون شعور.

هذه بعض الأسباب التي توقع الإنسان في داء الغيبة الوخيم، وقد جاء ذكر أسباب الغيبة بشكل مختصر في كتاب مصباح الشريعة المروي عن الإمام الصادق(ع) نستحسن ذكرها في نهاية هذا الفصل، حيث قال(ع) :((أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيض، ومساءة قوم، وتصديق خبر، وتهمة، وتصديقه خبر بلا كشفه، وسوء ظن، وحسد، وسخريّة، وتعجب، وتبرم، وتزيين، فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق، فيصير لك مكان الغيبة عبرة، ومكان الإثم ثواباً))(35).

***

 

الفصل الثالث: موارد جواز الغيبة:

جاء في الروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة والطهارة(ع) كما ورد على لسان الكثير من العلماء جواز بعض موارد للغيبة أحصاها بعضهم اثني عشر مورداً(36)، ولكن قبل ذكر هذه الموارد يجدر بنا ذكر الضابطة التي على أساسها جازت الغيبة، ويمكن أن نذكر ثلاثة ضوابط من خلال تبتع كلمات الأعلام كما يلي:

الضابط الأول: أن لا ينطبق تعريف الغيبة على المورد المذكور كالفاسق المتجاهر بالفسق، فإنّ تعريف الغيبة: (كشف ما ستره الله عليه) لا ينطبق عليه، حيث أنه متجاهر بفسقه، وبذلك يكون المورد خارجاً عن موضوع الغيبة تخصصاً.

الضابط الثاني: أن يكون للغيبة غرض صحيح لا يمكن التوصل إليه إلا بالغيبة، فحينئذٍ تصح الغيبة، وهذا ما يظهر من كلام الشهيد الثاني حيث قال: ((اعلم أنّ المرخص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة))(37)، كما أنّ هذا المعنى صريح في كلام المحقق الكركي حيث قال: ((وضابط الغيبة كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن والتفكه به، أو إضحاك الناس فيه، فأما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم كنصيحة المستشير))(38)، فلذا يمكن أن نستخرج قاعدة كلية عامة مضمونها أنه في كل مورد يوجد غرض صحيح جازت الغيبة(39)، فيكون هذا المورد خارجاً عن الغيبة تخصيصاً.

الضابط الثالث: ليس المدار في جواز الغيبة وجود غرض صحيح فيها فقط، ((بل المدار فيها وجود مصلحة أهم من  مصلحة احترام  المؤمن))(40)، ولهذا ((إذا عارض الغيبة مصلحة أخرى أهم من مصلحة مراعاة احترام المؤمن وعدم انتهاك حرمته فلا إشكال في جواز الغيبة حينئذٍ كما في سائر المحرمات عند مزاحمتها مع ما هو أهم منها عقلاً أو شرعاً(41)، وأما ما يظهر من عبارة بعضهم(42) من جعل مطلق الغرض الصحيح من مسوغات الغيبة، فلم أعرف لـه وجهاً))(43). ومن هنا ((يقدم أحد الدليلين على الآخر لأجل أقوائية الملاك))(44)، ومن الواضح هنا وجود قاعدة عامة وكلية وهي تقديم الأهم ملاكاً، ((وعلى هذا، فموارد الاستثناء لا تنحصر في عددٍ معين))(45).

هذه ضوابط ثلاثة لجواز الغيبة، إلا أنّ الضابطة الثانية والثالثة ليست عامة وكليه بحيث يستطيع كل إنسان أن يطبقها على الموارد التي تصادفه في الحياة الاجتماعية، وإنما ذكرها العلماء من أجل ((توجيه الموارد التي ورد النص فيها على جواز الغيبة أو نص العلماء على جوازها حتى لا يتوهم بأنّ الاستثناء اعتباطي بلا ملاك، وارتجالي بلا جهة، وليسا(46) بصدد بيان أنه كل ما كان هناك غرض صحيح تجوز الغيبة))(47)، ((فالأولى صرف الكلام إلى موارد الاستثناء وكذا موارد يقال أو يحتمل أن يقال بترجيح مقتضاها على مقتضى الغيبة بعد ما لم يكن في الباب ملاك كلي وضابط عام(48)، ((فإن الكلام هنا متمحض لبيان مستثنيات الغيبة بحسب التعبد بالأدلة الخاصة، فلا مساس  بلحاظ المناط والعمل بطبق أقوى الملاكين))(49).

والخلاصة أن هناك موارداً لجواز الغيبة وردت في الروايات الشريفة وجاءت على ألسنة بعض العلماء يمكن انتزاع ضوابط عامّة لها إلا أنّه لا يمكن تطبيق تلك الضوابط العامّة المنتزعة على أيّ مثال أو مصداق نصادفه في الواقع الاجتماعي، والموارد التي ذكرت لاستثناء حرمة الغيبة وجوازها مايلي:

المورد الأول: ((غيبة المتجاهر بالفسق كمن يشرب المسكر في الطرقات))(50)، حيث ((أن ذكر الفاسق المعلن خارج عن الغيبة موضوعاً لما عرفت من أن الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه))(51)، ولكن ينبغي التنبيه على عدّة أمور:

((إن القدر المتيقن من جواز الغيبة في هذا المورد هو ذكره في خصوص ما يتجاهر به، أما جواز غيبته في العيوب والذنوب الأخرى المستورة فهو غير معلوم)).

((إن جواز غيبة المتجاهر بالفسق إنما هو في صورة ما لو كان المتجاهر يعترف بأن عمله ذنب، أما لو أظهر لعمله عذراً صحيحاً فإن غيبته غير جائزة، كما لو ادعي أنه يتناول الشراب للعلاج والدواء)).

ذهب البعض إلى ((أن الأحوط عدم استغابة المتجاهر في غير البلد أو المحل الذي يتجاهر فيه))(52).

المورد الثاني: ((شكاية المتظلم بصورة ظلمه عند من يرجو منه إزالة ظلمة))(53)، ((أما من يعلم بأنه لا يجيبه أو لا يستطيع أن ينصره فالأحوط أن لا يشتكي عنده من الظالم ولا يذكر ظلمه))(54).

المورد الثالث: نصح المستشير: وذلك في التزويج وإيداع الأمانة وأمثالهما، والحقيقة أن عدم ذكر العيب هنا هو خيانة بالمستشير، وعلى ذلك لا مانع من ذكر العيب في هذه الصورة ولكن مع مراعاة أمرين:

أن يكون الضرر في عدم ذكر العيب أكبر، أما إذا كان الضرر في هتك الشخص وفضحه أكبر من الضرر الذي يصل إلى المستشير عند إيقاع المعاملة، فاللازم هنا عدم ذكر العيب.

أن يكون المغتاب مضطراً لذكر العيب من أجل عدم إيقاع المعاملة، أما إذا كان بالإمكان منع المستشير من إيقاع المعاملة من دون ذكر العيب كأن يقول لـه مثلاً: لا أرى صلاحاً في هذه المعاملة، وكان المستشير يقبل منه ذلك فيجب حينئذٍ الاكتفاء بذلك(55).

المورد الرابع: الغيبة بقصد النهي عن المنكر مع اجتماع شرائطه: وينبغي التنبيه هنا على أمرين:

((إذا رأى منكراً من مسلم وعلم أنه سوف يتركه إذا اغتابه، أما إذا لم يغتبه فسوف يبقى مصراً عليه جاز لـه غيبته))(56).

((يجب ملاحظة المفسدة الأكبر، فإذا كانت مفسدة الغيبة وهتك حرمة ذلك المسلم أكبر من مفسدة نفس المنكر، فإنّ غيبته حينئذٍ غير جائزة وإن علم يقيناً أنّه سوف يترك الذنب لو اغتابه))(57).

المورد الخامس: غيبة الضالين المضلين المبتدعين في دين الله(58): وذلك بقصد فضحهم وكشفهم على حقيقتهم، لا لدواع أخرى كالحقد أو التشفي.

المورد السادس: الجرح للشاهد والراوي(59): وذلك فيما لو نقل الفاسق خبراً أو شهد شهادة فتجوز غيبته بقصد أن يُعرف فسقه فلا يقبل قولـه.

المورد السابع: ذكر العيب الواضح المشهور الذي به يعرف صاحبه(60): مثل الأعمش والأحول والأعرج بشرط أن يكون قصده من ذكرهم التعريف بهم لا الانتقاص منهم.

المورد الثامن: رد مدّعي النسب زوراً وكذباً: حيث أنّ مصلحة حفظ الأنساب أهم من مفسدة هتك المدعي.

المورد التاسع: أن يقصد بغيبته دفع الضرر عن المغتاب: كقولـه(ع) لعبد الله بن زرارة اقرأ على والدك مني السلام وقل إنما اغتبتك دفاعاً مني عنك(61).

المورد العاشر: تفضيل بعض العلماء على بعض من أجل معرفة الأعلم أو الأكفأ: لا للانتقاص وكذلك تفضيل بعض الصناع على بعض لمعرفة الصنعة الأكثر جودة.

المورد الحادي عشر: الشهادة على الناس: إذا اطلع الذين يثبت التعزير أو الحد بشهادتهم على فاحشة جاز ذكرها عند الحاكم عند غياب الفاعل.

المورد الثاني عشر: غيبة معلوم الحال عند السامع: إذا علم اثنان أو ثلاثة معصية من آخر فذكرها بعضهم للآخر، جاز ذلك، لأنها لا تؤثر عند السامع شيئاً، والأولى التنزه عنها، لأنه ربما نسيها(62).

المورد الثالث عشر: رد المقالة الباطلة وقدحها: فيجوز القدح في الرأي الفاسد الباطل سواء كان في موضوع علمي أو في أمر من أمور الدين وإن كان الرد يدل على نقصان قائلها.

المورد الرابع عشر: الاغتياب في موضع الاستفتاء:

((والظاهر أنّ المراد منه في مورد القضاء الذي يتوقف على ذكر الظالم بالخصوص وبيان كيفية ظلمه وتعديه))(63)، والفارق بينه وبين التظلم أنّ الاستفتاء إنما يكون عند خصوص القاضي، أما التظلم فإنما يكون عند من يمكنه رفع ظلامته وإن لم يكن قاضياً.

المورد الخامس عشر: في سلب الاجتهاد:

((يجوز سلب الإجتهاد عن شخص، اللهم إلا إذا استلزم إهانة المسلوب عنه كما إذا كان الرجل شاغلاً منصب الإفتاء سنين متمادية، فسلب الاجتهاد عن مثل هذا الرجل إهانة لا تجوز إلا إذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة الغيبة))(64).

ملاحظات:

أولاً: هذا البحث ((موارد جواز الغيبة)) بحث طويل وموسع حاولنا الإختصار فيه مع الإفادة المطلوبة قدر الإمكان، فمن أراد التوسع فعليه بمراجعة الكتب الفقهية(65)، والأخلاقية(66).

ثانياً: بعض هذه الموارد قد يكون فيها خلاف بين الفقهاء، كما أن بعضها يوجد فيه الكثير من التفصيلات التي قد يختلف فيها الفقهاء، فليرجع كل مكلف إلى رأي من يقلده.

ثالثاً: صحيح أنّ هناك موارد جائزة للغيبة، ولكن يجدر بالإنسان أن يترفع عنها قدر الإمكان، ومن المناسب هنا ذكر الموعظة العظمى للمربي الكبير سماحة الإمام الخميني العظيم إتماماً للفائدة في هذا الفصل حيث يقول (قده):

((والذي يجب أن نذكره هنا هو أن على الإنسان أن لا يعيش حالة الاطمئنان أبداً من مكائد النفس، بل يجب أن يتحرك في منتهى الحذر والاحتياط، ولا يكون في صدد التبرير – لغيبته – بالأعذار بأن يقول أن هذا المورد هو من الموارد المستثناة فيسمح لنفسه بالبحث عن عيوب النّاس وإشاعتها في المجتمع.

إنّ مكائد النفس بالغة الدقة، فيمكن أن تخدع الإنسان عن طريق الشرع، وتزجّه في مهلكة. فمثلاً إن غيبة المتجاهر بالفسق جائزة، وإذا توقف ردعه بعض الأحيان على استغابته وجبت غيبته من باب النهي عن المنكر، ولكن يجب أن يتأمل الإنسان بأن الدافع النفسي لغيبته هو الداعي الشرعي الإلهي – النهي عن المنكر – أو أن الباعث أهواء شيطانية ورغبة نفسانية- العداوة والتشفي- فإن كان الهدف الداعي الإلهي – النهي عن المنكر- كان عمله من العبادات، بل كانت غيبته هذه بنيّة إصلاح المتجاهر بالفسق، والإساءة إليه من أوضح مصاديق الإحسان والإنعام إليه، وإن لم يشعر المغتاب بذلك. ولكن إذا كان قصده مشوباً بالفساد والميول النفسانية، فلابد من تخليص النية – من غير الدافع الإلهي – والصفح عن أعراض الناس وحرماتهم مع عدم هدفٍ صحيح.

بل إنّ تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة، تضر بحاله أيضاً، لأن النفس تميل نحو الشرور والقبائح، فمن المحتمل أن ينجر رويداً رويداً من الموارد الجائزة إلى مرحلة أخرى وهي الموارد المحرّمة. كما أنّ الدخول في الشبهات غير محمود، رغم جوازه، لأنها من المحرمات ومن الممكن أن الإقتحام في الحمى يفضي إلى الدخول في المحرمات.

يجب على الإنسان مهما أمكن أن يبعد النفس عن الغيبة في الأحوال المسموحة، ويحترز عن الأمور التي يحتمل أن يكون فيها طغيان للنفس.

نعم في الأحوال التي تجب الغيبة فيها، مثل غيبة المتجاهر بالفسق بهدف منعه إذا كان لا يرتدع إلا بها أو الموارد الأخرى التي ذكرها العلماء، فلابد من الإقدام عليها، مع السعي الحثيث لتخليص النية عن هوى النفس ومتابعة الشيطان.

ولكن ترك الغيبة في الموارد الجائزة أولى وأحسن. ينبغي أن لا نفعل كل عمل جائز، وخاصة الأمور التي يكون فيها لمكائد النفس والشيطان دور بارز))(67).

رابعاً: إنّ صدور الغيبة من المسلم قبيح إلا أنّ صدورها من العالم أقبح، إذ أنّ العلماء الحقيقيين يتسمون بالخشية التي تحجبهم عن الاقتحام في المهلكات، قال الإمام الصادق(ع) :

((الخشية ميراث العلم وميزانه، والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً وإن شق الشعر بمتشابهات العلم، قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

وآفة العلم ثمانية: الطمع والبخل، والرياء والعصبية، وحب المدح، والخوض فيما لم يصلوا على حقيقته، والتكلف في تزيين الكلام بزوائد الألفاظ: وقلة الحياء من الله، والافتخار، وترك العمل بما علموا.

قال عيسى(ع): أشقى الناس من هو معروف بعلمه مجهول بعمله))(68).

 

* الهوامش:

(1) الذنوب الكبيرة ج1 ص44.

(2) الذنوب الكبيرة ج1 ص57.

(3) الذنوب الكبيرة ج2 ص 261.

(4) الذنوب الكبيرة ج2 ص 264.

(5) سورة النور: 59.

(6) الذنوب الكبيرة ج2 ص 264.

(7) الصحاح ج1 ص196.

(8) أقرب الموارد ج4 ص81.

(9) النهاية في غريب الحديث والأثر ج3 ص399.

(10) مفتاح الكرامة ج4 ص64.

(11) الأربعون حديثاً ص 281.

(12) راجع الأربعون حديثاً ص 282 والمكاسب المحرمة ص 253 للإمام الخمينى، وجواهر الكلام ج ص 64، إرشاد الطالب ص190، المكاسب المحرمة للشيخ الأراكي ص 179 فما بعد.

(13) كشف الريبة ص 181.

(14)  الأربعون حديثاً ص 282.

(15)  منهاج الصالحين للسيد الحكيم ص13-14 وقد علّق عليه الشهيد الصدر في هامشه قائلاً: ((بل الغيبة أن يكشف العيب المستور))، وبذلك يكون رأي الشهيد الصدر موافقاً لاستاذه السيد الخوئي كما سيأتي عند التعرض للقول الثالث.

(16)  الأربعون حديثاً ص283.

(17)  منهاج الصالحين السيد الخوئي ص11.

(18) منهاج الصالحين للسيد الحكيم ص 13-14.

(19)  منهاج الصالحين للسيد السيستاني ص 17.

(20)  راجع ((التعليقة على منهاج الصالحين)) للشيخ التبريزي ص6.

(21)  ((وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليل يدل على الحكم الشرعي وبقاء الحكم مجهولاً لديه، فيتجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة تحديد الموقف العملي تجاه ذلك الحكم المجهول بدلاً عن اكتشاف نفس الحكم، ومثال ذلك: حالة الفقيه تجاه التدخين. فإن التدخين نحتمل حرمته شرعاً منذ البدء، ونتجه أولاً إلى محاولة الحصول على دليل يعين حكمه الشرعي، فحيث لا نجد نتساءل ما هو الموقف العملي الذي يتحتم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول، وهل يتحتم علينا أن نحتاط أولا؟

وهذا هو السؤال الأساسي الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة، ويجيب عليه في ضوء الاصول العملية بوصفها عناصر مشتركة في عملية الإستنباط)) دروس في علم الاصول – الحلقة الاولى ص 169-170.

(22) راجع مصباح الفقاهة ج ص326.

(23) المكاسب المحرمة للشيخ الأراكي ص 199.

(24) الذنوب الكبيرة ج2 ص 268-269.

(25)  راجع منهاج الصالحين للسيد الخوئي ص11، ومنهاج الصالحين للسيد السيستاني ص 17-18، كما أن الشيخ جواد التبريزي لم يعلق على هذه المسألة مما يعني أنه يرى ذلك فراجع ص 6 من تعليقته على المنهاج.

(26)  المسائل الشرعيه للسيد الخوئي ج 2 ص11.

(27)  راجع مفتاح الكرامة ج 4 ص65، وهناك تتبين مناقشة السيد العاملي للمحقق الأردبيلي المائل إلى حرمة ذلك، كما ويراجع جواهر الكلام ج22 ص62.

(28) إرشاد السائل ص 183-184.

(29)  راجع مفتاح الكرامة ص64-65.

(30) ولعله يقصد الشهيد الثاني في كتابه كشف الريبة فراجع ص 193-200 من نفس الكتاب المذكور.

(31) الذنوب الكبيرة ج2 ص269-270.

(32) كشف الريبة ص179.

(33)  نفس المصدر

(34)  نفس المصدر

(35) ميزان الحكمة ج3 ص2336، وللرواية صدر لا بأس به، فمن أراد الإطلاع عليه يراجع كتاب مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق(ع) ص204-205، وكتاب جامع السعادات ج2 ص194، وكتاب مستدرك الوسائل ج2 ص105-106، كما يستحسن الرجوع إلى كتابي جامع السعادات والمحجة البيضاء ج5 ص261-264، لمعرفة المزيد عن النقاط المتقدمة.

(36) راجع مفتاح الكرامة ج4 ص66-67.

(37)  كشف الريبة ص219.

(38)  جامع المقاصد ج 27، كما يستفاد ذلك من جامع السعادات ج2 ص311، والمحجة البيضاء ج5 ص270.

(39)  سيأتي إن شاء الله تعالى منع هذه القاعدة العامة في كلام الإمام الخميني والسيد الخوئي عند ذكر الضابط الثالث حيث أنّ تجويز الغيبة في الموارد الإثني عشر التي ستأتي خلاف الأصل (حرمة غيبة المؤمن)، ولذلك نقتصر فيما خالف الأصل المذكور على القدر المتيقن (وهو خصوص الموارد الإثني عشر) أو الخمسة عشر التي ذكرها العلماء الأعلام وجاءت بها الروايات)فتنبه.

(40)  مصباح الفقاهة ج1 ص336.

(41)  وهذا ما يستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري فراجع المكاسب ص342-343.

(42)  وهما الشهيد الثاني والمحقق الكركي كما تقدم في الضابط الثاني.

(43)  المكاسب المحرمة للشيخ الاراكي ص215.

(44)  المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص516 كما يحسن الرجوع إليه لمعرفة الضوابط الثلاث المتقدمة جيداً.

(45)  راجع المكاسب للشيخ الأنصاري ص343.

(46)  المراد من ضمير التثنية هما الشهيد الثاني والمحقق الكركي حيث يستفاد من كلامهما وجود قاعدة عامّة كلية لجواز الغيبة.

(47) راجع المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص515-516.

(48)  المكاسب المحرمة للإمام الخميني ص275.

(49)  مصباح الفقاهة ج1 ص337.

(50) الذنوب الكبيرة ج2 ص272.

(51)  المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص517.

(52)  هذه الأمور الثلاثة المذكورة تجدها في كتاب الذنوب الكبيرة ج2 ص272 مع تفصيل أكثر فراجع.

(53)  مفتاح الكرامة ج4 ص66.

(54)  الذنوب الكبيرة ج2 ص273-274.

(55)  الذنوب الكبيرة ج2، ص273-274.

(56)  الذنوب الكبيرة ج2، ص273-274.

(57)  المصدر السابق.

(58)  الذنوب الكبيرة ج2، ص274.

(59)  مفتاح الكرامة ج4 ص66.

(60)  ملاحظة: اغلب ما سنذكره فيما بعد فنقول من كتاب الذنوب الكبيرة ج2 ص274 أو عن مفتاح الكرامة ج4 ص66-67 فليرجع إليها.

(61)  مفتاح الكرامة ج4، ص66-67.

(62)  مفتاح الكرامة ج4، ص66-67.

(63)  المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص536.

(64)  المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص543.

(65)  مثل المكاسب المحرمة للإمام الخميني ص274، مصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج1 ص336. المكاسب للشيخ الأنصاري ص342، المكاسب المحرمة للشيخ الأراكي ص215، المواهب في تحرير أحكام المكاسب الشيخ السبحاني ص514.

(66)  مثل كشف الريبة عن أحكام الغيبة للشهيد الثاني ص219، جامع السعادات ج2 ص311، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء ج5 ص270، الذنوب الكبيرة ج2 ص272.

(67)  الأربعون حديثاً ص292-293، كما أنّ لهذه الموعظة تتمة يحسن مطالعتها فليراجع.

(68)  مصباح الشريعة ص20- 21.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا