الطفل في مذهبة السلوك

الطفل في مذهبة السلوك

قال الرسول الأعظم (ص): (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه). صدق رسول الله (ص).

سنحاول أن نسلط الضوء على بُعد من أبعاد هذا الحديث الشريف ألا وهو بُعد نشوء المعلومة عند الطفل ورسوها في عقله الباطن حيث يصعب بعد غرسها في هذا المكان انتزاعها مرة أخرى إلا بلطف الباري عز وجل على هذه الشخصية.

 إذ الإنسان منذ نعومة إظفاره وخصوصا السنة الأولى والثانية من عمره يمر في مراحل لاكتساب المعرفة وتشكل هذه الفترة البناء الأساسي لتهذيب شخصيته وبرمجة سلوكه وهي المصدر الأول لالتقاط التسميات العامة دون معرفته لما تعنيه تلك التسميات.

عندها يسهل انطباع تلك المسميات في ذهنه وتكوين منشأ معارفه الأولى مع مراعاة انه لا يعي انطباق تلك المسميات على مصاديقها الواقعية أو الخارجية.

ومع مرور الوقت تتشكل خطورة تلقيه لتلك الرواسي المعرفية في إشغال العقل الواعي وحينها تتمكن من إرساء معلومات غير سليمة في ذهنه سواء أكان طفلا أو فرداً راشداً.

وكما أسلفنا سابقا أن الطفل في السنة الأولى والثانية لا يدرك المعاني ولا يميز مصاديقها الخارجية. إلا انه في تلك الفترة يرى ويسمع ويتذوق ويحس ويشم وبهذه الحواس الجسمانية تتكون لديه المعرفة الإكتسابية الأولى ويشكل مخزونه المعرفي الذي يسمى في ما بعد بالخبرة أو بالبنك المعرفي الشخصي.

نظرية جون بياجيه:

وضع جان بياجيه خريطة عقلية  تبين رحلة العقل من مجرد كونه لا يقوى إلا على القيام بأفعال منعكسة بسيطة إلى كونه عقل راشد يقوى على تكوين المفاهيم المعقدة والأفكار المجردة. ولسنا في محل بحث الإشكالات الواردة على هذه النظرية ولكنني سأنتقل إلى ما ترتب على فهمه للمراحل التي يمر بها الطفل ونناقشها.

فقد بدأ بوضع أول بنود لنظريته من بعد ملاحظة أطفاله الثلاثة وقد افترض أن التطور العقلي يحدث وفق مراحل متمايزة، وأن جميع الأطفال يمرون بتلك المراحل وبنفس النظام دون القفز عن إحداها بحيث تبنى المرحلة اللاحقة على المرحلة السابقة ومن ثم التقدم إلى ما هو أعلى منها وبناءً على ذلك ارتأى بأن تفكير الرضع يختلف عن تفكير الأطفال وأن تفكير الأطفال يختلف عن تفكير المراهقين.

دور الأنساق العقلية:

 لكي يفسر بياجيه كيفية الانتقال من مرحلة إلى المرحلة الأعلى منها جاء بمفهوم الأنساق كوحدات أساسية للمعرفة التي يبنى منها التطور العقلي. ويقصد بالأنساق الصور العقلية أو التعميمات التي تتشكل من احتكاك الناس بالعالم، أو هي تنظيم الخبرات السابقة وصياغتها في إطار يمكن من فهم الخبرات اللاحقة، أو هي أطر عقلية نكسب فيها خبراتنا ونصنفها وفقا لتماثل أو تشابه خصائصها.

مثال: (في مرحلة الرشد نصدر في تصرفاتنا عن أنساق لا نهائية  تمتد من كيفية ربط عقدة إلى مفهومنا عن الحق أو العدل أو الحب وغيره).

و قد اقترح بياجيه مفهومين متكاملين هما التمثل والتكيف لتفسير كيفية استخدامنا وتعديلنا للأنساق التي نكونها. ففي البداية نحن نفسر أو نتمثل خبراتنا الجديدة في ضوء مفاهيمنا أو انساقنا الحالية وندمجها بها.

مثال:(الطفل في ضوء رؤيته أول مرة لعصفور يطلق على جميع الطيور عصفور بمعنى انه يصب خبرته الجديدة لرؤية طائر آخر في النسق الذي كونه سابقا عن العصفور أو هو يتمثل هذه الخبرة الجديدة في ضوء خبرته السابقة، ولكننا من جهة ثانية نعدل انساقنا لتلائم خبرات جديدة معينة. فالطفل سريعا ما يتعلم أن العصافير تختلف عن بعضها البعض وان مفهومه (او نسقه حسب تعبير بياجيه) واع أكثر مما ينبغي فيكيف مفهومه (نسقه) عن العصافير وفقا لأنواعها وعلى هذا فإن الأطفال يتفاعلون مع العالم، ومع توسع احتكاكهم به يكتشفون انساقا جديدة أو يعدلون انساقا سابقة.

مراحل التطور العقلي:

1- المرحلة الحسية الحركية:

وتسود في السنتين الأوليتين من الحياة حيث يتطور الطفل فيها من كائن يستجيب استجابات انعكاسية لمحيطه (وفقا لنظرية بياجيه) إلى كائن يتعلم التعامل معه بشيء من الفعالية. وأن الأنساق المعرفية التي يكونها في البداية لا تزيد عن كونها مجرد وظائف حسية وحركية آلية كالرؤية والسمع والقبض والمص. ولكن هذه الأنساق تبدأ تتطور مع التطور الحركي مما يمكنه من إبدال المنعكسات بأفعال إرادية، فتتكون انساقا أكثر تعقيدا كالتلويح باليدين والمصافحة وبناء الأشياء.

ثم أن الأشياء التي لم يكن لها وجود مستقل عنه في البداية يصبح يدركها منفصلة عن ذاته مع نهاية هذه المرحلة وينمو من كائن لا يدرك الأشياء عندما تكون خارج حواسه إلى كائن قادر جزئيا على التثبت من وجودها عندما يراها ويعمل على اكتشافها إذا خفيت عن رؤيته وهو ما يطلق عليه دوام الأشياء

مثال: (عندما تغطي لعبة بمنديل مثلا فإن الطفل يعمل على إزالته للحصول على اللعبة) وتنتهي هذه المرحلة عندما يستطيع الرضع تكوين صور عقلية ويفكرون بأشياء حتى لو لم تكن موجودة في دائرة حواسهم. وتعد ظاهرة دوام الأشياء  ظاهرة هامة لأنها تحرر الأطفال من الانحصار على ما هو قائم أمامهم في البيئة والانطلاق إلى آفاق تيسر تطور التفكير. وتؤدي الألعاب دورا في تنمية أنساق معرفية تساعد على إنجاز متطلبات هذه المرحلة وتجاوزها.

2- المرحلة السابقة على الإجرائية:

وتبدأ من نهايات الثانية من العمر حتى السادسة وفيها تنمو الفاعلية الرمزية، ويبدأ التفكير يواكب العمل. غير أن الطفل لا يرى إلا الصفة البارزة في الأشياء.

مثال: (قد يرفض كمية الحليب في كأس عريضة لقلتها ولكنه يقبلها إذا وضعت في كأس رفيعة وطويلة لأنه لا يدرك إلا صفة الطول "حيث يعتقد أنها الأكثر"). وتبدأ فعاليات اللعب التخيلي حيث تبدو العلبة سيارة أو العصا حصان. ويرافق هذه الفعالية الرمزية نمو في اللغة، ومع ذلك فإن تفكيره ما يزال مرهونا بخبرته المباشرة ومرتكزا على ذاته بمعنى انه لا يستطيع أن يرى الفكرة من زاوية ما يراها غيره وليس يقصد بذلك انه أنانيا أو لا يهتم بغيره وعلى العموم يحصل هذا الاشتباه أيضا مع الراشد.

مثال: (إذا ركز الشخص نظره على طرف الورقة فإنه يرى خطاً مستقيما ولا يركز في ذهنه أن هذه ورقة لأنه لم يطلع عليها من زاوية أخرى حتى يتمكن من معرفتها كورقة أمامه)

3- مرحلة الإجراءات المادية:

وتمتد من السابعة حتى الحادية عشرة من العمر. وفيها يتعلم الطفل مزيدا من المفاهيم المجردة في محاولاته لتفسير خبراته. ويمكن إيضاح الفارق بين طفل بدأ هذه المرحلة وآخر لم يصلها عن طريق التجربة وذلك بأخذ معاجين (طين) على شكلين متماثلين متساويين عندما يحول احد الشكلين إلى شكل آخر ارفع وأطول والثاني يكون على شكل نفسه ثم يسأل الطفل أي الكميتين أكبر فإذا قال انهما متساويتين يعني انه قد دخل هذه المرحلة وإلا فإنه لا يزال يعيش المرحلة السابقة. وتسمى بمفهوم الاحتفاظ. وهو يعني الإدراك بأن الكميات لا تتغير بتغير أشكالها. ويرى أن الطفل ينجز هذا المفهوم على فترات.

مثال: (الأعداد في السادسة من العمر، الكميات في السابعة، الأوزان في التاسعة ). ولاشك بأن إدراك الطفل لهذا المفهوم يعينهم على التعبير عن خبراتهم بأساليب متنوعة. ومن منجزات الطفل كذلك في هذه المرحلة القدرة على تبويب المفاهيم والأشياء وتصنيفها.

مثال: (دمى وحيوانات وفواكه يستطيع وضعها في مجموعات مختلفة).

4- مرحلة الإجراءات الشكلية:

يصلها في حوالي الثانية عشرة وتمتاز بمزيد من نمو المفاهيم المجردة واستخدامها في مواقف جديدة، وبقدرة على وضع وتقييم أطر وأفكار مختلفة لحل مشكلة. كما أن طفل هذه المرحلة يمكن أن يجيب ببساطة عن أسئلة تتضمن علاقات (مثل ألف أكبر من باء وأصغر من جيم فأيها الأكبر، أو إيجاد العلاقات السببية، ويميز بين الممكن والواقعي، كما انه يصبح قادرا على تكوين مفاهيم عن الماضي وأثره على الحاضر وعلاقة الحاضر بالمستقبل، والكيفية التي يجب أن يكون عليها الواقع بمؤسساته الاجتماعية المختلفة وما تنطوي عليه مفاهيم مثل الأخلاق والعمل والسياسة من معان وقيم.

أنماط الـVAK 

ويقسمها العرف إلى خمس حواس رئيسية: 

هذه الانماط يطلق عليها اسم الـ VAK وهي اختصار لثلاث كلمات لاتينية   Visual، Auditory، Kinesthetic وعلى أثر التعرف على هذه الانماط نتمكن من معرفة الافراد وكيفية فهم اساليبهم في التلقي المعرفي ويساعدنا هذا النظام ايضاً في صياغة خطاباتنا الموجهة للافراد حسب انماطهم الغالبة. ولمعرفة النمط الذي يستخدمه كل فرد أوالغالب عليه، هناك وسائل كثيرة حيث أن لكل نمط مميزات عديدة في طريقة الكلام وزاوية النظر ونبرة الصوت والتعامل. ومن تلك الوسائل "لحن الخطاب" فمثلاً لو كان لدينا ثلاث أشخاص : الأول بصري والثاني سمعي والثالث حسي، وطلبنا منهم الحديث عن يوم تخرجهم من الجامعة، سيكون لحن خطابهم كالتالي:

● الأول (البصري): سيقوم بوصف المكان والقاعة بأدق التفصيل حتى كأنه يرى لوحة أمامه ويصفها لك.

● الثاني (السمعي): سيقول كل الكلام الذي قاله في الحفلة والكلام الذي قيل له وطريقة النداء على اسمه لتسلم الوثيقة.

● الثالث (الحسي): سيكتفي بوصف مشاعره وفخره بنفسه وبفرحه ذاك اليوم.

هذه الطريقة هي أسهل الطرق للتعرف على النمط الغالب على الإنسان مع ملاحظة أن جميع الأنماط موجودة في كل البشر ولكن هناك نمط يغلب عند كل إنسان. دائماً ركز على المفردات والعبارات التي يستخدمها الطرف المقابل وخصوصا الطفل الذي هو محط بحثنا للتعرف على النمط الغالب أو المفضل له (بصري - سمعي - حسي) حيث ستجد انه من السهل التعامل والتفاهم معه إذا حدثته بالطريقة نفسها، أي باستخدام العبارات والمفردات المفضلة لديه لأنه يدرك العالم  الذي حوله عن طريقها بصورة سريعة، وهذه من مميزات تحديد أنماط الأفراد.

● المرشحات: لكل طفل حواس يتلقى من خلالها المعرفة كما بينا سابقا وحسب المرحلة التي يمر فيها إذ تتكون لديه مرشحات ذهنية ما تقوم بفلترة كل ما هو غير صالح من معلومات تحددها هي.

● ما هو المقصود بالمرشح: إن لكل طفل اعتقادات خاصة به، تتطور مع تطوره في النمو العقلي والجسماني ونعلم مما سبق أن الطفل كون معارفه الأولية باصطيادها من الحواس الخمس ونلاحظ أيضا أن الطفل الذي لديه عاهة مرضية في إحدى الحواس تراه في الأغلب غير قادر على التعلم كغيره من الأطفال، فتحول تلك العاهة دون وصول المعلومة التي كان يمكنه تلقيها من خلالها، ويعمل المرشح كحجاب أيضا ولكن ثانوي بعد استلام المعلومة من الحاسة وقبل رسوها في البنك المعرفي الذي يمتلكه الشخص وبعبارة أخرى المرشح هو عبارة عن حجاب يمارس عملية حجب المعلومات التي تفرض عليه من قبل الحواس أو غيرها.

● أنواع المرشحات: لو تحدثنا عن المرشحات بشكل مفصل سيطول   بنا المقام في شرحها واستعراض أنواعها وأسباب نشوئها ولكن لكوننا نركز البحث في الطفل سنوضحها كبرقيات سريعة دون الإسهاب فيها. ففي المراحل الأولى تتكون للطفل مرشحات معينة غالباً ما تكون متماثلة عند جميع الأطفال وخصوصاً الأولى والمرحلة التي تليها. أما الثالثة والتي تتطور فيها المرشحات نشوءاً وتميزاً تمتد من السابعة إلى الحادية عشرة وهي " مرحلة الإجراءات المادية " هذه المرحلة تتكون لديه الخبرة الكافية لتحليل وفك العبارات لا كالمراحل السابقة ولذلك تكون مقتصرة على مرشحات معينة متماثلة عند جميع من هم في تلك المرحلة والسبب في ذلك هو انحصار المعرفة في حدود ما يحصل عليه من خلال الحواس. ومن هنا نرى أن المرشح العرفي والمعرفي والعقدي والمنطقي تتم ولادتهم في "المرحلة الثالثة". وبهذا نقول أن علينا دراسة الطفل من عدة زوايا مختلفة يتم فيها تحديد كيفية فهم ما يدور في خلده، عندها تكون مجتمعاتنا قادرةً لصد كل ما يؤثر في تكوين الخرائط المعرفية لأطفالنا. وأختم بهذه القصة حينما كان أحد ممارسي الألعاب السحرية قد أغلق عليه صندوق على خشبة المسرح وهو مقيد اليدين من قبل طاقمه وهذا الصندوق سيُفجر خلال دقيقة واحدة ويجب عليه أن يخلص نفسه وأن يخرج من هذا الصندوق قبل الانفجار. فأُشغل وعي الجمهور عن طريق طاقمه الموجود على المسرح خلال هذه الدقيقة بأن بادر طاقمه بالقيام ببعض الحركات البهلوانية مع إحداث تأثيرات صوتية وضوئية حيث هّم بالخروج من باب سري من خلف الصندوق في ذلك الوقت مع عدم ملاحظة الجمهور له وابتعد عن الصندوق ومن ثم تم التفجير. وظهر للجمهور من زاوية أخرى وعلامات التعجب والاستغراب بادية على وجوههم. ونستفيد من هذه القصة إننا مع وجود جميع حواسنا إلا أن هناك طرق لإشغال العقل الواعي وقد تؤثر على فهمنا لخارطة الحياة بشكل مختلف. وخلاصة ما أريد أن اصل إليه في هذا المقام انه بمقدور الإنسان المؤمن أن يزرع المفاهيم الصحيحة في ذهن أطفاله منذ الصغر وبرمجة ذلك الطفل البرمجة السليمة وفق منهجية الإسلام المحمدي الأصيل عندما يتعرف على أسرار إرساء المعلومة في الذهن وتهذيبها عندما تستدعي الحاجة.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا