الشفاعة في المنظور الإسلامي

الشفاعة في المنظور الإسلامي

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على شفعاء الأنام محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

وبعد، فإن هذا البحث هو من بحثٍ موسعٍ كتبته حول الشفاعة، وهو يمثل فصلاً من فصوله، وقد أوجزته مراعاةً للاختصار.

سبب الكتابة:

هي محاولة المشاركة في توضيح مفهوم الشفاعة في الإسلام وما له وما عليه بأسلوبٍ مختصرٍ وبعيدٍ عن التعقيد، وتجنب المصطلحات الكلامية قدر الإمكان إلا القليل مما يتطلب ذكره.

هذا ونسأل الله تبارك وتعالى التوفيق لخدمة الإسلام العزيز وأهله والقبول، وأن يشملنا بالشفاعة يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ.

تعريف الشفاعة:

قال الخليل في العين: الشافع: الطالب لغيره، وتقول استشفعت بفلان فتشفع لي إليه فشفعه فيَّ والاسم: الشفاعة واسم الطالب: الشفيع (1)

وقال الراغب في المفردات: الشفع: ضم الشيء إلى مثله ويقال للمشفوع شفع، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى (2)

ويقول صاحب الميزان(قده): ما هي الشفاعة؟ الشفاعة: هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجاً بعدما كان فرداً فيقوى على نيل ما يريده لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها (3) وإلى غيرها من التعريفات التي لا تختلف عن بعضها في المضمون.

التعريف اصطلاحاً:

أما التعريف اصطلاحاً فهي مقام للشفيع مقتضاه أن يشفع الشفيع للمشفوع له عند الله عز وجل لقضاء الحوائج سواءً الدنيوية أو الأخروية، وقد تخصص الشفاعة اصطلاحاً بالآخرة (دون الدنيا) لدخول الجنة والنجاة من النار إذ وقتها يوم الحساب كل بحسبه في التقديم والتأخير.

ويقول السيد الإمام الخميني العظيم (قده) في بحث حول الشفاعة في رد الشبهات :(الشفاعة في الحقيقة دعاء النبي والإمام أن يغفر الله -عز وجل- ذنب هذا الشخص) (4)

موقف علماء الإسلام من الشفاعة (5):

أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن النبي (ص) أحد الشفعاء يوم القيامة بدليل قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)  (6) والذي أعطي هو حق الشفاعة، وقوله تعالى : (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً)  (7) ولعل هناك اتفاقٌ لدى المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، ونذكر بعض آراء علماء المسلمين على سبيل المثال لا الحصر.

1- أبو منصور الماتريدي السمرقندي ( إمام أهل السنة في المشرق الإسلامي في القرن الرابع الهجري ) قال بعد أن ذكر قوله تعالى (وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةُ) (8) وقوله تعالى ( وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) (9) قال : إن الآية الأولى وإن كانت تنفي الشفاعة،  ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها الآية )

2- تاج الإسلام أبو بكر الكلاباذي  قال : إن العلماء قد أجمعوا على أن الإقرار بجملة ما ذكر الله سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي(ص) في الشفاعة واجب.

3- الإمام أبو حفص النسفي قال : والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق الكبائر بالمستفيض من الأخبار، وقد أيده التفتازاني على ذلك

4- القاضي عياض بن موسى قال : مذهب أهل السنة هو جواز الشفاعة عقلاً ووجودها سمعاً بصريح الآيات وبخبر الصادق، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها.

5- الإمام ناصر الدين أحمد الإسكندري المالكي قال: وأما من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأما من آمن بها وصدقها وهم أهل السنة والجماعة فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم.

6-الفتال النيسابوري قال: لا خلاف بين المسلمين أن الشفاعة ثابتة مقتضاها إسقاط المضار والعقوبات

7- الرصاص: إن شفاعة النبي (ص) يوم القيامة ثابتةٌ قاطعة.

8-ابن تيمية الحراني الدمشقي قال: للنبي (ص) في يوم القيامة ثلاث شفاعات......وأما الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها.

9- نظام الدين القوشجي: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة.

10- محمد بن عبد الوهاب قال : وثبتت الشفاعة لنبينا محمد(ص) يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد،  ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول : اللهم شفع نبينا محمداً فينا يوم القيامة أو اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، إلى أن قال : إن الشفاعة حق في الآخرة،  ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء إلا أن رجاءها من الله،  فالمتعين على كل مسلم صرف وجهه إلى ربه، فإذا مات استشفع الله فيه نبيه.

الشفاعة في القرآن الكريم:

أقسام الشفاعة في القرآن الكريم (التقسيم القرآني للشفاعة):

وردت الشفاعة في القرآن الكريم بألفاظها المتنوعة ثلاثين مرة وهي على قسمين ما ينفي الشفاعة وما يثبت الشفاعة (وهناك قسم آخر ما ينفي الشفاعة عن جماعة معينة) وكل الأصناف الآتية الذكر تندرج تحت أحد هذه الأقسام :

1- ما ينفي الشفاعة في حق الكفار ( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (10)

2- ما ينفي صحة عقيدة اليهود في الشفاعة من أنه يكفيهم الانتماء للشريعة لنيل الشفاعة ( وَاتَّقُوا يَوْماً لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ شَيْئاً وَّلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَّلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَّلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (11)

3- ما ينفي شمول الشفاعة للكفار ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّنْ قَبْلِ أَنْ يَّأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَّةٌ وَّلَا شَفَاعَةٌ وَّالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)  (12)

4- ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) (13)

5- يخص الشفاعة به سبحانه ( أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُّحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَّلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (14)

6- ما يثبت الشفاعة لغيره سبحانه بشروط ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (15)

7- ما يسمي من تقبل شفاعته ( الملائكة ) ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُوْنَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (16)

أقسام الشفاعة:

يقسم العلامة الطباطبائي (قده) (17) الشفاعة إلى قسمين رئيسين، الشفاعة التكوينية، والشفاعة التشريعية. فأما الأولى فهي جملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الأشياء، وأما الثانية فهي الواقعة في عالم التكليف والمجازاة فمنها المغفرة والتوبة والإيمان والعمل الصالح والقرآن وكل ما له ارتباط بعمل صالح والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة ومنها الأنبياء والرسل والملائكة والمؤمنون ومنها أيضاً الشفيع يوم القيامة بما فيهم الأنبياء والأئمة والملائكة والشهداء بالحق (شهادة الأعمال) والمؤمنون.

وقد قسم بعضهم (18) الشفاعة إلى ثلاثة أقسام، التكوينية، والقيادية والمصطلحة. أما التكوينية فقد مر بيانها،وأما القيادية فهي قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعمالهم وآثار سيئاتهم، وتعني الشفاعة المصطلحة أن تصل رحمة الله ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده، فكأنما التقسيم الثاني قد قسم الشفاعة التشريعية التي أشار إليها العلامة الطباطبائي(قده) إلى قسمين، والفرق بين الشفاعة القيادية و الشفاعة المصطلحة أن القيادية توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق، والمصطلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له.

متعلق الشفاعة (أثر الشفاعة):

ما هي نتيجة الشفاعة؟ هل هو حط ذنوب المذنبين وإسقاط العقاب والمضار عنهم والعفو عن العصاة، أم زيادة الثواب ورفع الدرجات للمطيعين؟

لقد ذهب جمهور وأكثر المسلمين إلى الأول وهو إسقاط العقاب والمضار، أما المعتزلة فتمسكت بالقول الآخر (19)

أما عن الوعيد بالخلود في النار فقال الشيخ المفيد في أوائل المقالات (20) باتفاق الإمامية على أن الخلود في النار موجه إلى الكفار خاصة، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة ونقل إجماع المعتزلة على خلاف ذلك وزعمهم أن الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

كما نقل إجماع الإمامية على أن من عذب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة كما نقل إجماع المعتزلة على خلاف ذلك وزعمهم أنه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب.

وقد نسب العلامة الحلي (قده) هذا القول (لا يخرج من النار أحد) إلى بعض المعتزلة لا جميعهم (21)

ويمكن الاستدلال بجواز العفو عن العصاة عقلاً ونقلاً، أما العقل فإن العقاب حق لله تعالى فيجوز تركه، وأما النقل فآيات العفو والمغفرة كثيرة، فأما الآية التي تستثني الشرك فهي في حق غير التائب بدليل قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) (22) بل حتى العفو بدون التوبة لقوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (23) وقوله ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِّنْ مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (24)

شروط شفاعة الشفيع:

1- الإذن الإلهي بالشفاعة.

2- أن لا يكون هو بنفسه من أهل المعصية.

3- الشهادة بالحق.

4- أن يكون قادراً على تقييم درجات إطاعة الآخرين وعصيانهم.

شروط المشفوع له:

1- أن يكون الشخص مرضياً عند الله من حيث دينه وإيمانه.

2- الإذن الإلهي.

3 - أن يكون مؤمناً حقاً بالله والأنبياء و يوم القيامة وكل ما نزل على النبي(ص).

4- أن يكون مؤمناً بالشفاعة ذاتها وأنها على حق.

5- أن يبقى ثابتاً على إيمانه حتى نهاية عمره.

بعض الأحاديث الواردة في الشفاعة عند أهل السنة من كتاب الشفاعة للشيخ السبحاني فلتراجع المصادر منه عن الرسول(ص) قال:

1- (لكل نبي دعوةٌ مستجابةٌ فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي لأمتي وهي نائلةٌ من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً).

2- (أعطيت خمساً... وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً).

3- (شفاعتي نائلةٌ إن شاء الله من مات ولا يشرك بالله شيئاً).

4- في تفسير قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ):(هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه).

5- (أنا أول شافع وأول مشفع).

6- (شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه).

7- (إن شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي).

8- (رأيت ما تلقى أمتي بعدي (أي من الذنوب) فسألت الله أن يوليني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل).

9- (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه).

10- (أنا أول شافع في الجنة).

11- (شفاعتي لكل مسلم).

12- (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر).

13- (أنا سيد ولد آدم وأول شافع وأول مشفع ولا فخر).

14- (إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرةٍ ومدرةٍ).

15- (ليخرجن قوم من أمتي من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين).

وغيرها  الكثير الكثير من الروايات المنقولة في كتب الحديث لدى الفريقين المفيدة لاستفاضة الحديث بل التواتر

بعض الشبهات والإشكالات حول الشفاعة:

أولاً: أن هناك بعض الآيات القرآنية تنفي الشفاعة عن أحد في يوم القيامة وأيضاً هناك آيات تنفي الانتفاع من الشفاعة.

الجواب: أن الشفاعة تنقسم إلى قسمين، شفاعة صحيحة وشفاعة باطلة، وهذه الآيات تنفي الشفاعة الباطلة العشوائية التي لا تتوافر فيها شروط وضوابط الشفاعة المذكورة فهي تنفي الشفاعة أو الانتفاع بها عن طائفة معينة، هذا بالإضافة إلى أنها عامة وتخصص بالآيات التي تدل على قبول الشفاعة بإذنه تعالى

ثانياً: إنّ رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعدما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلاً أو ظلماً، فإن كان عدلاً كان أصل الحكم بالعقاب ظلماً وهذا يخالف ما هو ثابت له سبحانه وتعالى، وإن كان ظلماً كان شفاعة الشفيع كالأنبياء طلباً للظلم منه تعالى وهذا لا يجوز نسبته إليهم.

الجواب: إن إثبات العقاب أو الحكم و رفعه كليهما من العدل و الحكمة، فالحكم بالعقاب ناظر لارتكاب المعصية والمخالفة دون النظر للمقتضيات التي توجب تحقق الشفاعة وقبولها في حق العصاة، و الحكم برفع العقاب إنما تم بسبب حصول تلك المقتضيات التي توجب تحقق الشفاعة.

ثالثاً: إن الله اعتبر اتباع الشيطان سبباً في التعرض لعذاب النار في قوله تعالى ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (25)  وفي الواقع، إن تعذيب العصاة في الآخرة من السنن الإلهية، ونحن نعلم أن السنن الإلهية لا تقبل التغيير والتبديل، لقوله تعالى ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَّلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً )  (26) فكيف تتغير هذه السنة الإلهية في مجال الشفاعة ؟

الجواب: إن قبول الشفاعة في حق المذنب المتوفر على شروطها، من السنن الإلهية التي لا تقبل التغير أو التبديل، هذا بالإضافة إلى أن السنة الإلهية غير المختلفة أو القابلة للتبديل ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى بل هي قائمة على ما تستوجبه جميع صفاته، فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب وذلك نتيجة عدة من الأسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء، لا يوجب اختلافاً في السنة الإلهية.

رابعاً: يلزم من الشفاعة أن يخضع الله تعالى لتأثير الشفيع لأن شفاعتهم توجب المغفرة فيجب على الله قبولها

الجواب: إن أفعال العباد هي التي تكون موجبةً لحصول القابلية لتقبل الشفاعة بتوفر شروط القابلية للشفاعة بالنسبة للعباد والشفاعة لا تكون إلا بإذنه تعالى.

خامساً: اللازم من الشفاعة أن يكون الشفعاء أكثر رحمة وشفقة من الله الرحيم، وذلك أنه لو لا شفاعتهم لتعرض العصاة للعذاب أو لخلدوا فيه.

الجواب: أن رحمة الشفعاء مقتبسة من رحمة الله تعالى المطلقة، وأن الشفاعة وسيلةٌ للعفو عن عباده المذنبين وأن الشفعاء هم أسباب ووسائط لنيل الشفاعة وذلك للتعبير عن أسمى مراتب الرحمة الإلهية التي يظهرها على يد عباده الصالحين والمصطفين لتبيين مكانتهم وكرامتهم عند الله تبارك وتعالى.

سادساً: إن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها في الأنبياء (ع) مستلزمٌ لتجري الناس على المعصية وتماديهم في ارتكاب المعاصي وإغراءٌ لهم على هتك محارم الله تعالى وهو منافٍ لغرض الدين وهو سوق الناس إلى العبودية والطاعة.

الجواب: إن شمول الشفاعة مشروطٌ باحتفاظ المشفوع له بإيمانه حتى آخر لحظات عمره فلا يعلم هل ينال الشفاعة أو لا ومن جانب آخر إن من ارتكب معصيةً لو فقد كل الأمل والرجاء بالعفو فإنه سوف يصاب باليأس الذي يؤدي إلى ضعف الباعث له على اجتناب المعصية ويكون دافعاً له لمواصلة الخطأ.

سابعاً: إن تأثير الشفاعة في رفع العقاب هو تأثير عمل الغير في السعادة والخلاص من الشقاء، بينما الآية الشريفة (وَأَنْ لَّيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (27) تدل على أن سعي الشخص نفسه، هو الذي يوصله للسعادة.

الجواب: إن الشخص الذي تشمله الشفاعة يبذل جهداَ وسيعاَ في سبيل تحصيل مقدمات السعادة وإن كان ذلك السعي سعياَ ناقصاَ وقاصراَ. فلهذا النقص والقصور سيبتلى بمتاعب البرزخ ومواقف القيامة ولربما دخل النار لفترة ولكن تأسيسه للسعادة بإيمانه هو الذي يوصله لها وذلك مستند ومعتمد على سعيه وجهده، فتأثير الشفعاء لا ينفي جهد الشخص وسعيه.

ثامناً: إن ما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارةً وتثبتها أخرى، وربما قيدتها وربما أطلقتها، والأدب الديني الإيمان بها، وإرجاع علمها إلى الله تعالى.

الجواب: أحد الأمرين:

1- أن المتشابهة من الآيات تصير بإرجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها وهذا على قول أن التشابه في المعنى(السيد العلامة الطباطبائي -قده-)

2- أن المتشابهة من الآيات تصير محكمات بتحديد المصداق(السيد الشهيد الصدر -قده-) هذا بالإضافة لبعض الشبهات التي قد ذكرت مع أجوبتها في كل من تفسير الميزان  وكشف الأسرار و كذلك كتاب الشفاعة للسيد الحيدري وغيرهم، فمن أراد الاطلاع فليراجع.

الخلاصة:

هي ثبوت الشفاعة في الإسلام بشتى مذاهبهم وإن حاول بعضهم تضييقها، وإثبات ذلك لا يحتاج إلى عناءٍ زائدٍ، وللشفاعة شروطٌ متعلقة بالشفيع كما أن هناك شروطاً متعلقةً بالمشفوع له،  وهناك تقسيماتٌ تذكر للشفاعة، أما الشبهات والإشكالات الواردة على الشفاعة فقد ردها علماؤنا بأجوبة شافية وقد ذكر بعضها.

ملاحظة: قد اعتمد البحث على الآيات القرآنية والروايات فلم نذكرها للاختصار.

 

* الهوامش:

(1) العين ج1 ص260 الخليل الفراهيدي

(2) المفردات ص263 الراغب الأصفهاني

(3) تفسير الميزان ج1 ص 158.

(4) كشف الأسرار ص 92 للسيد الإمام الخميني العظيم(قده).

(5) راجع الشفاعة للشيخ السبحاني.

(6) سورة الضحى، الآية 5.

(7) سورة الإسراء، الآية 79.

(8) سورة البقرة، الآية 48.

(9) سورة الأنبياء(ع)، الآية 28.

(10) سورة المدثر، الآيتان 46 – 47.

(11) سورة البقرة، الآية 48.

(12) سورة البقرة، الآية 254.

(13) سورة الأنعام، الآية 94.

(14)سورة الأنعام، الآية 51.

(15) سورة طه(ص)، الآية 109.

(16) سورة الأنبياء(ع) الآيات 26- 28.

(17) تفسير الميزان ج1 ص172.

(18) الإلهيات ج4 ص342 للشيخ السبحاني.

(19) مفاهيم القرآن ج4 ص246 للشيخ السبحاني.

(20) أوائل المقالات القول في الوعيد، القول في الشفاعة.

(21) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، المسألة الخامسة في المقصد السادس.

(22) سورة الزمر، الآية 53.

(23) سورة الشورى، الآية 25.

(24) سورة الشورى، الآية 30.

(25) سورة الحجر، الآيتان 42 - 43.

(26) سورة فاطر، الآية 43.

(27) سورة النجم، الآية 39.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا