السعة في حمل الأخبار المتعارضة على التقية

السعة في حمل الأخبار المتعارضة على التقية

أولاً: مختار الأعلام والأقوال في المسألة

اختلف الأعلام في سعة حمل الأخبار على التقية، فبين مضيق لها ومتوسط في القول وموسع، ولكل دليله، رغم أن أكثرهم لم يحرر المسألة منفصلة عن مباحث التعارض ومستقلة عن مسائل الفروع، عدا القليل كالمحدث البحراني(أعلى الله مقامه).

ونعني بالتضييق والتوسعة هنا: التضييق والتوسع في مسوغات حمل الأخبار الصادرة على التقية الموجب لطرح الخبر عن الحجية أو عن إرادته الجدية، كحصر صدورها عن تقية بصِرف وجود مخالف من العامة وهو التوسط، أو حصرها بوجود ما كان ذو زعامة ووجه عند السلطان ومن يُتقى منه من المخالفين أو لإجماعهم على أمر واحد وهو التضييق، وتوسعتها لتشمل ما صدر تقية منهم(عليهم السلام) -ولو لم يكن مخالفٌ من العامة- حفظا لدمائهم ودماء شيعتهم، بل تقيةً من بعض شيعتهم المفشين لأسرارهم.

وبعبارة أخرى: هل الخبر المحمول على التقية هو ما خالف العامة، أو بعض العامة حسب، أم أنه لا يختص بما خالف العامة فيشمل أيضا الأخبار التي صدرت منهم(عليهم السلام) حفظا لدمائهم ودماء شيعتهم(1).

ثم إن معرفة الأول والثاني -أعني ما لو كان المختار هو ما خالف العامة حسب أو زعاماتهم- تحصل بملاحظة آثار العامة، ومعرفة الثاني-أعني الأعم من مخالفة العامة- لا تحصل ولا تثمر إلا على القول بصحة الكتب الأربعة وغيرها على سبيل المثال، كما هو مختار بعض الأخباريين من الإمامية(أعزهم الله)، ويأتي بيانه.

وظاهر الأكثر التوسط وكون الحمل على التقية هو نفسه نتيجةُ الترجيح بمخالفة العامة، بل هو تصريح جُلِّهم، منهم الشيخ في التهذيبين في مواضع كثيرة، ومن تبعه.

وذهب السيد الخوئي (قدّس سرّه) إلى أن حمل الخبر على التقية أو الترجيح بمخالفة العامة مجعول عند تعارض الخبرين على نحو التباين -بعد كون كل طرف قد تمت فيه شرائط الحجية في نفسه- ونوبته في الترجيح بعد العرض على الكتاب، والراجح من الخبرين أو الطائفتين هو ما خالف العامة، والمرجوح -وهو ما وافق العامة- إما أن يكون غير صادر أو كان صادرا عن تقية أو كونه مما أُلزمنا بطرحه للخبر، خلافا لمختار صاحب الكفاية؛ إذ كون موافقة العامة عنده مميزة للحجة عن غير الحجة، فيكون الموافق للعامة إما صادرا عن تقية أو غير صادرٍ من رأس(2).

وأما الفقيه المُحدِّث صاحب الحدائق (رحمه الله)، فقد توسع في حمل الأخبار على التقية بما لم يسبقه إليه ذكرا إلا المحدث الإسترآبادي على ما حَكاه عنه، وصرح في حدائقه ودُرره بأن «جل الاختلاف الواقع في الأخبار -بل كله عند التأمل والتحقيق- إنما نشأ من التقية»(3) التي هي أصل كل بليَّة.

ثانيا: الإشارة إلى التقية في كلمات الأعلام

وقبل التعرض لتفصيل الأقوال وتفحص معتمد القول لكلا الطائفتين، يجب استعراض ما ذكره الأعلام في عرض الزمان الأول إلى الآن، ليتضح فهمهم ومذهبهم فيها، ويتضح ما اختاروه في أثرها على فقه الحديث.

أما الشيخ الكليني (رحمه الله) (329 ﻫ) فقد قال في خطبة كتابه الكافي: «فاعلم يا أخي أرشدك الله: أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء(عليهم السلام) برأيه، إلا على ما أطلقه العالم بقوله(عليه السلام): «اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله(عزّ وجلّ) فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه»، وقوله(عليه السلام): «دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم»، وقوله(عليه السلام): «خذوا بالمُجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم(عليه السلام) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله(عليه السلام): «بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم»(4).

والظاهر من نفيه للمعرفة -بالنسبة إلى مخالفة العامة- هو قلة ما تنطبق عليه القواعد الثلاث المذكورة وقلة المعلوم صدوره عن تقية ليحمل على خلافه كما هو تفسير المحدث البحراني في الحدائق(5)، لا الاعتراف بعدم إمكان تمييز الصادر من المكذوب كما ذهب إليه جماعة، والعبارة للإنصاف مشقوقة الغبار!.

وذكر الشيخ الصدوق الأول (329 ﻫ) (رحمه الله) أمر التقية واختلاف الأخبار في مقدمة كتابه (الإمامة والتبصرة) فقال مبينا سبب اختلاف أخبار الإمامة والغيبة: «فلأجل الحاجة إلى الغيبة اتسعت الأخبار، ولمعاني التقية والمدافعة عن الأنفس اختلفت الروايات، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}، ولولا التقية والخوف، لما حار أحد، ولا اختلف اثنان، ولا خرج شيء من معالم دين الله-تعالى- إلا على كلمة لا تختلف وحرف لا يشتبه. ولكن الله -عظمت أسماؤه- عهد إلى أئمة الهدى في حفظ الأمة، وجعلهم في زمن مأذون لهم بإذاعة العلم، وفي آخر حلماء {يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}»(6).

وهذا بظاهره يعضد مختار صاحب الحدائق (رحمه الله)، فإنه عزى اختلاف الأخبار -بعد القول بصحة الكتب المشهورة- إلى العمل بالتقية بمعناها العام، إلا أن يقال أن كلام الصدوق (رحمه الله) مسوق لبيان اختلاف أخبار الإمامة بالخصوص كما هو مختار الشيخ المفيد الآتي، لكنه غير ظاهر.

ومذهب الشيخ المفيد (رحمه الله) (413 ﻫ) في رسالته (جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية) -التي عملها في الرد على من تمسك بأخبار عدم نقصان شهر رمضان ووجوب إكماله كالشيخ الصدوق (رحمه الله)- صرح به في آخره بقوله: «فأما ما تعلق به من شذ عن أصحابنا ومال إلى مذهب الغلاة وبعض الشيعة في العدد وعدل عن ظاهر حكم الشريعة من‏ قول أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «وإذا أتاكم عنا حديثان فخذوا بأبعدهما من قول العامة»، فإنه لم يأت بالحديث على وجهه، والحديث المعروف قول أبي عبد الله(عليه السلام)‏ قال: «إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن، فإن لم تجدوا لهما شاهدا من القرآن فخذوا بالمجمع عليه؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه، فإن كان فيه اختلاف وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامة»، والحديث في العدد يخالف القرآن فلا يقاس بحديث الرؤية الموافق للقرآن وحديث الرؤية قد أجمعت الطائفة على العمل به فلا نسبة بينه وبين حديث يذهب إليه الشذاذ وهو موافق لمذهب أهل البدع من الشيعة والغلاة، وبعد فإن حديث الرؤية قد عمل به معظم الشيعة وكافة فقهائهم وجماعة من علمائهم ولو لم يعمل به إلا فريق منهم لم يكن الخبر به بعيدا من قول العامة لقربه من مذهب الخاصة.

وليس لقائل أن يقول إنه قريب من قول العامة بعيد من قول الخاصة لأن العامة تذهب إليه، إلا ولقائل أن يقول إنه بعيدٌ من قول العامة قريبٌ من قول الخاصة لأن جمهور الخاصة يذهبون إليه، وإنما المعنى في قولهم «خذوا بأبعدهما من قول العامة» يختص ما رويَ عنهم في مدائح أعداء الله والترحم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان، فقالوا: «إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان‏ أحدهما في تولي المتقدمين على أمير المؤمنين(عليه السلام) والآخر في التبري منهم، فخذوا بأبعدهما من قول العامة؛ لأن التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما يذهبون إليه من أئمتهم وولاة أمرهم حقنا لدمائهم وسترا على شيعتهم‏.

وبعد فإن الذي يرد عنهم على سبيل التقيَّة لا ينقله جمهور فقهائهم(7)‏ ويعمل  به أكثر علمائهم، وإنما ينقله الشُّكاك من الطوائف ويرويه خصماؤهم في المذهب ويرد على الشذوذ دون التواتر، وأخبار الرؤية والعمل بها وجواز نقصان شهر رمضان قد رواه جمهور علماء الإمامية وعمل به كافة فقهائهم، فاستودعته الأئمة(عليهم السلام) خاصتهم، فدل ذلك على أنه محض الحق وليس من باب التقية في شي‏ء»(8)، انتهى كلامه علا مقامه.

وخلاصة ما ذهب إليه (رحمه الله) -ولا نعلم من ذهب إليه غيره-: أن مخالفة العامة مرجح من مرحجات روايات الفضائل والإمامة لا الأحكام، وأن المرجع عند تعارض روايات الأحكام إلى موافقة الكتاب ومخالفته، وأنه لو سلمت التقية في الأحكام لم يكن للقول بترجيح المخالف مسرحٌ مع معارضة الشهرة الروائية له؛ لأن الصادر عن تقية لا يشتهر نقله ولا يقع إلا على الشذوذ.

وهذا -أي بعد تسليم وردود أخبار التقية في الأحكام- في معنى تقديم المرجح الصدوري على الجهتي، وهو مختار الشيخ النائيني(أعلى الله مقامه) وجماعة كما حكاه عنه السيد الخوئي في مصباحه(9).

ولا يخفى أنه (رحمه الله) لم يقصد نفي صدور أخبار التقية في الأحكام بالكلية، بل جرى مجرى المبالغ المصور لقلتها في مجموع الأخبار؛ ولا يمكن غير هذا؛ إذ هو نفسه (رحمه الله) اختار في غير موضع من كتبه حمل طائفة من الأخبار على التقية، فانظر رسالته في ذبائح أهل الكتاب ومختاره -في أحد وجهي الحمل- حمل أخبار الحلية على التقية خوفا من المعروفية في زمان طغاة الدولة الأموية أو العباسية(10).

وذهب السيد المرتضى (436 ﻫ) إلى ما اشتهر بين المتأخرين بعده، ذاكرا له في جملة من مصنفاته، وهو الحمل على التقية للأخبار الموافقة العامة دون التعرض لما هو أوسع، مع ملاحظة الغالب منهم في حال اختلفوا في مذاهبهم وفتاواهم، قال (قدّس سرّه) في الانتصار في كتاب الزكاة في مسألة ما تجب فيه الزكاة معارضا لمذهب ابن الجنيد ويونس: «فإن قيل: كيف تدعون إجماع الإمامية وابن الجنيد يخالف في ذلك ويذهب إلى أن الزكاة واجبة في جميع الحبوب التي تخرجها الأرض وإن زادت على التسعة الأصناف التي ذكرناها؟ وروي في ذلك أخبارا كثيرة عن أئمتكم(عليهم السلام)، وذكر أن يونس كان يذهب إلى ذلك.

قلنا: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد ولا يونس وإن كان يوافقه، والظاهر من مذهب الإمامية ما حكيناه. وقد تقدم إجماع الإمامية وتأخر عن ابن الجنيد ويونس. والأخبار التي تعلق ابن الجنيد بها الواردة من طريق الشيعة الإمامية معارضة بأظهر وأكثر وأقوى منها من رواياتهم المعروفة المشهورة، ويمكن حملها بعد ذلك على أنها خرجت مخرج التقية، فإن الأكثر من مخالفي الإمامية يذهبون إلى أن الزكاة واجبة في الأصناف كلها، وإنما يوافق الإمامية منهم الشاذ النادر»(11).

وأما الشيخ (رحمه الله)(460 ﻫ) فهو أول من عالج الأخبار المختلفة بتوسع لم يسبق إليه سابق ولا لحقه حتى هذا العصر لاحق، فخصص كتابيه التهذيب والاستبصار لعلاج اختلاف الأخبار في الأحكام، صرح بذلك في مقدمة كتابيه، وإكثاره منها في علاج الأخبار يحتمل وجوها، منها: قربه لعصر الصدور وعلمه بقرائن الحال الموجبة لتمييزه أخبار التقية من غيرها، فحملها على التقية قريب للقبول، ومنها: ما صرح به في مقدمة التهذيب من ارتكابه للتأويل دون الطرح مهما أمكنه، وهي القاعدة المعروفة بأن الجمع أولى من الطرح، المنسوبة إليه على الخصوص(12)، ومنها: تمسكه بالأمر بالحمل على التقية في بعض الأخبار بمجرد مشابهة قول الإمام(عليه السلام) لكلام العامة كما يأتي عند التعرض لمسلك العلامة، ومنها: أن يكون مختاره أن صدور جل الأخبار المتخالفة كان للتقية، وهو ما لم يصرح به (قدّس سرّه)، لكن قد يدعى ذلك من تتبع طريقة جمعه بين الأخبار؛ فإنه (رحمه الله) يحمل بعض الأخبار المتخالفة على التقية بمجرد كون المخالف موافقا لمذهب بعض العامة، قال (قدّس سرّه) في مسح الرأس من الخلف: «فأما ما رواه سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن ظريف بن ناصح عن ثعلبة بن ميمون عن عبد الله بن يحيى عن الحسين بن عبد الله قال: «سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الرجل يمسح رأسه من خلفه وعليه عمامة بإصبعه أيجزيه ذلك؟ فقال: نعم»، فلا ينافي ما قدمناه من أنه ينبغي أن يكون المسح بمقدم الرأس لأنه ليس يمتنع أن يدخل الإنسان إصبعه من خلفه ومع ذلك فيمسح بها مقدم الرأس، ويحتمل أن يكون الخبر خرج مخرج التقية لأن ذلك مذهب بعض العامة(13)»(14)، وغيره من المواضع فراجع(15).

وبنهاية عصر الشيخ (رحمه الله) استقر أمر من تبعه -بحسب ما تتبعنا- على ما جرى عليه من الحمل على التقية في حال وجود المخالف من العامة بلا شرط، على ما يظهر مما في أيدينا، حتى زمان المحقق (رحمه الله)(676 ﻫ)، فإنه لم يستحسن حمل الشيخ لكثير من الأخبار على التقية ووصفه بالتأويل، وكان مسلكه (رحمه الله) كما يظهر بتتبع الموارد إلى تحكيم وتقديم جانب شهرة الرواية بين الأصحاب، قال (رحمه الله) في معرض رد شرح الشيخ لرواية زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد العجلي الفضيل بن يسار عن أبي جعفر وأبي عبد الله(عليهم السلام):

«في كل خمس شاة حتى تبلغ خمسا وعشرين، فإذا بلغت ذلك ففيها بنت مخاض»: «وأما رواية الأصحاب فقد تأولها الشيخ بتأويلين: أحدهما: قال: تضمر وزادت واحدة، وقد يجوز الإضمار لتسلم الروايات الأخر. والآخر: حملها على التقية. والتأويلان ضعيفان. أما الإضمار: فبعيد في التأويل وأما التقية: فكيف تحمل على التقية ما اختاره جماعة من محققي الأصحاب؟ ورواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي؟ وكيف يذهب مثل علي بن أبي عقيل والبزنطي وغيرهما ممن اختار ذلك مذهب الإمامية من غيرهم؟ والأولى أن يقال فيه روايتان أشهرهما ما اختاره المشايخ الخمسة وأتباعهم على أنه يمكن التأويل بما يذهب إليه ابن الجنيد، وهو أنه يجب في خمس وعشرين بنت مخاض أو ابن لبون، فإن تعذر فخمس شياة، ولا فرق بين أن يضمر التعذر، أو يضمر زيادة واحدة، وليس أحد التأويلين أولى من الآخر»(16).

وعلى أي حال، فالذي يظهر من كلماته عدم اللجوء إلى التقية بمجرد مخالفة بعض العامة كما عليه الشيخ (رحمهما الله).

ومسلك العلامة (قدّس سرّه) أصرح من المحقق (رحمه الله)، فإنه قال في مسألة وقوع الطلاق بالخلع أم يشترط إتباعه بالطلاق: «واختلف علماؤنا في الخلع هل يقع بمجرده أم يشترط إتباعه بالطلاق. قال ابن الجنيد بالأول، قال: وليس عليه أن يقول لها: قد طلقتك إذا قال لها: قد خلعتك، أو أجبتك إلى مخالعتك. وهو الظاهر من كلام ابن أبي عقيل، وشيخنا المفيد، والصدوق، وسلار، وابن حمزة، ونص السيد المرتضى على وقوعه مجردا عن لفظ الطلاق، وقال الشيخ في المبسوط: والخلع بمجرده لا يقع، ولا بد من التلفظ بالطلاق على الصحيح من المذهب، وفي أصحابنا من قال: لا يحتاج إلى ذلك... احتج الشيخ بما رواه موسى بن بكر، عن أبي الحسن الأول(عليه السلام) قال: المختلعة يتبعها الطلاق ما دامت في عدتها. ثم تأوَّل الأخبار التي تلوناها من جانبنا بالحمل على التقية، لأنها موافقة لمذهب العامة. قال: واستدل محمد بن الحسن بن سماعة وغيره بأن قالوا: «قد تقرر أنه لا يقع الطلاق بشرط، والخلع من شرطه أن يقول الرجل: إن رجعت فيما بذلت فأنا أملك ببضعك، وهذا شرط، فينبغي ألا يقع به فرقة». قال: واستدل أيضا ابن سماعة بما رواه عبيد بن زرارة، عن الصادق(عليه السلام) قال: «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه». والقول بأن الخلع يقع به بينونة يشبه قول الناس، فينبغي أن يكون محمولا على التقية. ثم استدل على إرادة التقية بما رواه سليمان بن خالد قال: «قلت: أرأيت إن هو طلقها أيجوز عليها؟ قال: ولم يطلقها وقد كفاه الخلع، ولو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقا». والجواب عن الأول: أن في طريق الحديث طعنا، فإن موسى بن بكر واقفي. وفي الطريق أيضا علي بن فضال، وفيه أيضا قول، ومع ذلك فلا تصريح للرواية على مطلوبه، والحمل على التقية ممنوع، والموافقة لمذهب العامة لا يوجب ذلك، وعدم وقوع الطلاق بشرط لا ينافي وقوع الخلع به، إلا عند جزء من الخلع، فإن مقتضى الخلع ذلك. ورواية ابن خالد لا دلالة فيها»(17).

قال الفاضل المقداد (رحمه الله)(826 ﻫ) في التنقيح الرائع متعرضا لكلام العلامة حول عدم صحة التمسك بالتقية هنا: «لعدم التعارض، لما عرفت من ضعف المتمسك (المستمسك) لما عرفت، وليس في رواية زرارة دلالة على أن جميع ما يسمع منه مشابها لقولهم تقية. وهو ظاهر، لقوله «فيه التقية» وإلا لزم مخالفته للعامة في كل الأحكام، وليس كذلك»(18)، ومراده: أي في بعضه التقية، لا كله.

وأما المأثور عن أعاظم المحدثين من الأخباريين هو إما عدم التقييد في استعمال الترجيح بالتقية وعدم اشتراط شيء زائد، أو توسعتها لتشمل ما يراد به إيقاع الخلاف بين الشيعة حفظا لهم عن المعروفية.

فعن الحر العاملي (رحمه الله)(1104 ﻫ) في هداية الأمة أن المرجحات كثيرة «أقواها التقية، وهي أقوى أسباب اختلاف الحديث»(19)، ولم نعثر له على ما يمكن الجزم بموقفه، بل يمكن القول بمتابعته للشيخ (رحمه الله) إذ وافقه في جملة من الموارد أو أورد رأي الشيخ وكأنه يرتضيه، فراجع الوسائل، ويظهر منه أنه لا ينفي صدور ما يحمل على التقية في الأخبار ولو مع عدم المعارض، قال (رحمه الله) في الوسائل -في (باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها) عند روايته لخبر أبي عبيدة عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: قال لي: يا زياد ما تقول لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشيء من التقية؟ قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجرا»(20)-: هذا محمول على ما لم يعلم كونه تقية لعدم وجود معارضه، لما مضى ويأتي، أو مخصوص بوقت التقية»(21).

واختار صاحب الحدائق(طيب الله ذكره وثراه) (1186 ﻫ) ما هو المعروف من مسلكه، وذكرناه صدر البحث، من كون جل الاختلاف في أخبار الكتب المشهورة بل كله عن التأمل والتحقيق سببه التقية التي هي أصل كل بلية، وشدد على أن التقية التي هي عمدة الترجيح بعد الكتاب العزيز كما تكون لموافقة فتاوى العامة كذلك تكون لتفريق كلمة الشيعة عصر الخوف عليهم من الاجتماع، وذكر (رحمه الله) أنه كان يعجب من عدم التفطن لذلك ممن تقدمه عدا المحدث الإسترآبادي (رحمه الله)، لكن قد مر عليك كلام للشيخ علي بن بابويه بما يمكن القول بموافقته لما ذكر الشيخ العصفور (رحمه الله).

وهذا المقدار كاف لمعرفة عمل الأصحاب من الصدر الأول للفقه الاستنباطي إلى عصر المتأخرين-فإن من تأخر عنهم لم يختر مسلكا غير الثلاثة المتقدمة- وتبين أنهم ليسوا على منهج واحد في تحقيق معنى فارد للحمل على التقية.

ثالثا:تفصيل الأقوال وبحث الأدلة

وتفصيل كل قول من الثلاثة: أما المتوسطون: وهم الشيخ (رحمه الله) بل هو مشهور من لحقه، الحاملين لكل خبر وافق العامة على التقية بعد العرض على الكتاب الكريم، فيمكن التمسك لهم بأخبار العرض المعروفة، وما أشار له الشيخ (رحمه الله) في متفرق كلماته.

منها: ما استدل به الشيخ (رحمه الله) في كتاب الزكاة من التهذيب والاستبصار -والذي مر آنفا ضمن كلام العلامة والفاضل المقداد- بإسناده عن الحسن بن سماعة عن الحسن بن أيوب(22) عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه»(23).

ومنها ما رواه الحر في وسائله عن رسالة الراوندي بسنده عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «ما أنتم واللّه على شي‏ء مما هم فيه ولا هم على شي‏ء مما أنتم فيه فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شي‏ء»(24). فإنه يتمسك بإطلاق الأمر بالمخالفة في الثاني والمشابهة في الأول لإثبات أن الحمل على التقية بلا شرط.

لكن لا تخفى الخدشة في هذا المستمسك لو أريد به القياس على كل مباني فقهائنا (رضوان الله عليهم)؛ فإنا نعالج ما بأيدينا من الأخبار الحاضرة في المصنفات، وتمييز المسموع منهم(عليه السلام) من غير المسموع أول الكلام، وهذا ما أشار له السيد الخوئي (رحمه الله) -كما مر عليك- بأن الترجيح بموافقة العامة نوبته بعد توفر شرائط الحجية لولا المانع من الأخذ كالتقية، والملاحظ من إكثار ومبالغة الشيخ الطوسي (رحمه الله) وسرعة حمل الأخبار على التقية تمسكا بهذا الدليل إهماله لهذا الشرط بالكلية، ولا يستقيم تفسير عمله وحمله إلا على القول بظهور حال الشيخ في الفراغ من صحة ما أورد من الأخبار كما يشهد به كلامه في مقدمة التهذيب والاستبصار بل قرينة المقام والداعي للتأليف أوضح من الكلام، فيصح استدلاله بها.

وظاهر الأمر بالمخالفة في الثاني هو الأمر بمخالفتهم في أصل العقيدة والحذر من متابعتهم فيها، فإنه يتناسب والتعبير بعدم كون الشيعة على شيء مما هم فيه، وكون العامة ليسوا من الحنيفية على شيء.

والتأمل في مسلكه (رحمه الله) -وحسب ما بنى عليه وبغض النظر عن بقية المباني- ينحصر في حمله بعض الأخبار على التقية ولو كان المخالف بعض العامة دون كبرائهم، ولا يخفى أن ملاك التقية دفع الخوف ممن يحتمل إضراره ويتقى لخطره، ولا يعلم وقوعها من أصاغر فقهائهم أو شاذ أقوالهم وممن لا يعتنى به، بل لا يفهم من الخبر الشريف إلا هذا.

ويحسن التنبيه على أنا لم نقف على قائل بوجوب مخالفتهم مطلقا في الأحكام وغيرها تمسكا بمثل هذا الخبر وغيره!، فلا مسرح له هنا، بل كل من ذكرها أراد بها التخالف بين كلام المعصومين(عليهم السلام) وكلام غيرهم، أو ما هو المعروف منهم في قبال المعروف من غيرهم، ولو لم يكن تعارض بين الأخبار، ككون سيرة المتشرعة في زمن الصدور -الكاشفة عن حكم المعصوم- موافقة للعامة.

وأما المضيقون أو المقيدون: كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والمحقق وغيرهم وكثير من المتأخرين، فيمكن التمسك لهم بأمور:

الأول: عدم الدليل؛ إذ لا إطلاق في أدلة الأمر بمخالفة العامة ولا عموم يشمل كل قائل من العامة.

الثاني: دلالة أدلة الحمل على التقية عليه؛ إذ في مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق(عليه السلام): «فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة، قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقهيان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، فبأي الخبرين يؤخذ؟، فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا؟، فقال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر»(25).

ومثله ما ذكره الكليني في مقدمته من قوله(عليه السلام): «دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد في خلافهم»(26)، وكأنه حكاه بمضمونه لا بنصه، ومثل الخبرين غيرهما في المعنى والنكتة.

فإن التعبير بلفظ الجمع (العامة) في صدره، ظاهر فيما يصدق عليه كونه رأي جماعتهم لا من كان من جنسهم وأي فرد منهم، ويؤيده التعبير في ذيلها «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم»، بل يكون بهذا صريحا في المدعى، بل أصرح منه ما في الخبر الثاني من التعبير عنهم بـ(القوم).

وفي خبر علي بن أسباط المروي بأسانيد كثيرة قال: «قلت للرضا(عليه السلام): يحث الأمر لا أجد بدا من معرفته، وليس في البلد الَّذِي أَنَا فِيهِ أَحَدٌ أَسْتَفْتِيهِ مِنْ مَوَالِيكَ، قَالَ: فَقَالَ: إئْتِ فَقِيهَ الْبَلَدِ فَاسْتَفْتِهِ مِنْ أَمْرِكَ فَإِذَا أَفْتَاكَ بِشَيْ‏ءٍ فَخُذْ بِخِلافِهِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ»(27).

دل على أن الاعتداد بفتوى فقيه البلد ومن مثله في نفاذ القول، وهو وإن ورد في صورة الاضطرار لا تعارض الأخبار، إلا أن محل الشاهد فيه هو صنف الإرجاع والمُرجَعُ إليه.

وقد يورد عليه: أن دلالتها غير ناهضة على المطلوب، إذ كما قد تكون وافية بدعوى الاكتفاء بقول الواحد منهم في كل صقع ولو تعبدا، قد تكون كذلك مشيرة لحيثية شهرة قول هذا الفقيه وتسلطه على أقوال غيره لمكان إضافته -في قول الإمام(عليه السلام)- إلى البلد، وكأنه أراد بذلك فقيه البلد الذي لا يخالف قوله، وهذا الأخير أظهر.

الثالث: أن إطلاق القول بإيجاب الحمل على التقية عند تعارض الأخبار -وهو كثير جدا- ولو عند موافقة الخبر لقول الواحد أو البعض من العامة سببٌ في الوقوع في أحد محذورين: إما ابتداع دين جديد أو أن لا يكون للحمل على التقية مورد إلا نادرا جدا؛ إذ أن العامة مختلفون في كثير من الأصول وغالب الفروع ككثرتهم في المذاهب، ولا ترجيح لبعض على آخر لتساويهم في الجزئية، ونعلم أن الشارع المقدس لا يرضى بدخالة الأذواق والتشهيات في أحكامه، وإلا كان هرج ومرج في دينه، حاشاه وهو الحكيم!.

فإن قلت: إن هذا ممنوع، لكون الأخذ بخلاف قولهم -ولو كان البعض منهم- لازم في مورد التعارض-وهو غير كثير- وإلا فلا حكم نستنجه، ويسقط المرجح بسقوط موضوعه وهو التعارض، ثم يعالج بأمر آخر إن وجد.

قلنا: لا ريب في أن فروع فقهم متسعة متشعبة، لا يكاد يخلو حكم شرعي عندنا من ذكر في كتبهم، إلا ما ندر وشذ، بل إن الشيخ الطوسي (رحمه الله) قد ألف المبسوط ليقف على ما ابتدعوه من الأحكام والفروع والفروض التي لم يُطرق بابها عندنا(28)، فلا تجد حكما عندنا -تعارض دليله أم لا يتعارض- إلا قابله أحكام عندهم، فأي مورد قد ضربت القاعدة لأجله بعد هذا!.

فيجب حمل الأمر بمخالفتهم على مخالفة فقهائهم ورؤسائهم أولوا الشوكة والشيطنة.

الرابع -وهو متوجه لطائفة الموسعين-: عدم النص في أخبار الترجيح على التقية بمعنى إيقاع الخلاف بين الشيعة. وهو مبتن على التعبد بالمرجحات المنصوصة دون النظر إليها بعين الطريقية أو القرينية إلى استكشاف الحكم الشرعي.

لكن لا يخفى أن عدم ذكرها في أخبار الترجيح لا يلزم منه أجنبيتها عن وادي المحامل الخبرية، فإن الترجيح بحمل الأخبار على قصد إيقاع الخلاف مما لا يسع إنكاره ووقوعه في الأخبار.

هذا ما يمكن اقتناصه والتبرع به ليكون دليلا للطائفة الثانية.

وأما الموسعون: كالمحدث الشيخ يوسف صاحب الحدائق(عطر الله تربته): فقد استدل (رحمه الله) بما يوطئ الأمر لمختاره في صحة الكتب المشهورة؛ فإنه لا بد أن يقف عند اختلاف الأخبار المعلومة الصدور عن المعصومين(عليهم السلام)، ويفسر سبب اختلافها الكثير، وأن اللجوء إلى حملها على مخالفة العامة لوحده لا ينفع في مواردَ يُعلم أن العامة لا قول معارض لهم فيها، لذا فإن في حملها على التقية -التي هي بمعنى تفريق الشيعة على أقوال لكي لا يعرفوا فيؤخذوا بعقيدتهم- هو الخيار الأحسن، بل هو المعتمد بعد دلالة الأخبار عليه، هذا مجمل ما قصد رحمه الله وطيب ذكره وثراه.

ولنأتي على ذكر أدلته (رحمه الله) بعد التسليم بصحة الكتب المشهورة كالكتب الأربعة كما هو مذهبه:

أولا: وهو ما فيه إعطاء الأجوبة المختلفة عن المسألة الواحدة:

منها: ما رواه الشيخ الكليني في الكافي عن أَحْمَد بْن إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام) قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَنِي، ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَأَجَابَهُ بِخِلافِ مَا أَجَابَنِي، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَأَجَابَهُ بِخِلافِ مَا أَجَابَنِي وأَجَابَ صَاحِبِي، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلانِ قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ رَجُلانِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِكُمْ قَدِمَا يَسْأَلانِ، فَأَجَبْتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِغَيْرِ مَا أَجَبْتَ بِهِ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: يَا زُرَارَةُ إِنَّ هَذَا خَيْرٌ لَنَا وأَبْقَى لَنَا ولَكُمْ ولَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَصَدَّقَكُمُ النَّاسُ عَلَيْنَا ولَكَانَ أَقَلَّ لِبَقَائِنَا وبَقَائِكُمْ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام): شِيعَتُكُمْ لَوْ حَمَلْتُمُوهُمْ عَلَى الأسِنَّةِ أَوْ عَلَى النَّارِ لَمَضَوْا وهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِكُمْ مُخْتَلِفِينَ، قَالَ: فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِيه‏»(29).

قال فخر المحدثين الشيخ يوسف (قدّس سرّه) في حدائقه: «فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته(عليه السلام) في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة، ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد بما هم عليه، ولما تعجب زرارة من ذلك، لعلمه بفتواهم(عليهم السلام) أحيانا بما يوافق العامة تقية»(30).

وظاهرها كما أفاد (قدّس سرّه)، فإن تعجب زرارة لو كان لمجرد المخالفة بينهم ما احتاج للتنصيص على أن الرجلين من العراق، فما أراد إلا القول بأنهما من صقع واحد فلم تخالف بينهم؟، وقد نص قبلها على أنه -أي زرارة- سأله ما سألوا، وأنهم من شيعته، فلم يقل لم خالفت بيننا وعد نفسه، بل خص السؤال عنهم وعن كونهم من وطن واحد، بل لو ذكر نفسه لما زاد في المطلب شيئا لأنه كوفي كذلك، لكنه لم يرد إلا التأكيد على اتحاد الموطن، وأما احتمال إرجاعهم إلى قولين من أقوال العامة في العراق غير ظاهر.

ومنها: ما رواه الشيخ في التهذيب صحيحا عن مُحَمَّد بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَبِي خَدِيجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام)قَالَ: «سَأَلَ إِنْسَانٌ وأَنَا حَاضِرٌ فَقَالَ: رُبَّمَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وبَعْضُ أَصْحَابِنَا يُصَلِّي الْعَصْرَ وبَعْضُهُمْ يُصَلِّي الظُّهْرَ، فَقَالَ: أَنَا أَمَرْتُهُمْ بِهَذَا لَوْ صَلَّوْا عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ لَعُرِفُوا فَأُخِذُوا بِرِقَابِهِم»(31).

قال (رحمه الله): «وهو أيضا صريح في المطلوب، إذ لا يخفى أنه لا تطرق للحمل هنا على موافقة العامة، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك»(32).

وهي كذلك دالة على عدم التعدد في الوقت عندنا وأن التفريق مأمور به للتقية، ولعل المراد -قويا- لو صلوا على وقت صحيح واحدٍ لعرفوا، لكنَّ بعضهم يصلي موافقا للمذهب الحق وبعضهم يصلي موافقا لمذهب العامة، فلا يُعرف مذهبهم بين الناس وينتفي خطرهم في نظر العامة.

وبعبارة أوضح: أن المصلي للعصر قد وافق العامة في التفريق وخروج وقت الظهر، ومن صلى الظهر في عين الوقت قد وافق المذهب الحق، وهذا ما أمر به الأئمة(عليهم السلام)، وهو مورد تعجب السائل.

وأما حملها على سعة وقت الفضيلة وأن الإمام(عليه السلام) قد أوقع الخلاف بينهم في هذا الأمر بخصوصه فبعيد بعد ما قربناه بما قدمناه.

وبهذا تعلم أن لا دلالة تامة لمطلوب المُقدس العصفور من هذه الصحيحة؛ فإنها غير ناظرة لإيقاع الخلاف بين الشيعة بمعزل عن فتاوى العامة.

ومنها: ما ذكره من مجموع الأدلة قائلا: «وما رواه الشيخ في كتاب العدة مرسلا عن الصادق(عليه السلام): أنه «سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال: أنا خالفت بينهم».

وما رواه في الاحتجاج بسنده فيه عن حريز عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «قلت له: إنه ليس شي‏ء أشد علي من اختلاف أصحابنا. قال ذلك من قبلي».

وما رواه في كتاب معاني الأخبار عن الخزاز عمن حدثه عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «اختلاف أصحابي لكم رحمة»، وقال(عليه السلام): «إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد»، وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال(عليه السلام): «أنا فعلت ذلك بكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم».

وما رواه في الكافي بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال: «كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام) فسأله رجل عن آية من كتاب الله(عزّ وجلّ) فأخبره بها ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول، فدخلني من ذلك ما شاء الله، إلى أن قال: فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي، فسكنت نفسي وعلمت أن ذلك منه تقية. قال: ثم التفت إلي فقال: يا ابن أشيم إن الله(عزّ وجلّ) فوض إلى سليمان بن داود فقال: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)، وفوض إلى نبيه(صلّى الله عليه وآله) فقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، فما فوض إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله) فقد فوضه إلينا» انتهى كلامُه علا في الخلد مقامُه.

وأنت خبير بأن كل ما أورده (رحمه الله) لا دلالة فيه ولا ربط له بأصل المدعى على عدم اختصاص الحمل على التقية بخلاف العامة؛ إذ من الواضح أن إيقاع الخلاف والمخالفة بين الشيعة كما تصدق على موافقة فئةٍ منهم للعامة، فلا تعرف جملة الشيعة فيؤخذوا، كذلك تصدق على إيقاع الخلاف بين نفس الشيعة كما دلت عليه رواية زرارة المتقدمة، وهي عمدة الأدلة بل هي الدليل الأوحد الصالح للتمسك به في المقام.

ويظهر بعد التأمل أنه (رحمه الله) لم يورد الأدلة الأخيرة -وإن عطفها على سابقتها- ليستدل بها على أصل دعواه، بل ليثبت بها ما رتب عليها من كون الحمل على التقية بكلا معنييها من أقوى المرجحات بعد الكتاب العزيز.

وأورد عليه الشيخ محمد علي القطري البحراني في هامش النسخة المحققة من الدرر النجفية بقوله: «إن ما ذكره شيخنا المصنّف -أفاض اللّه عليه شآبيب رحمته- من جواز حمل بعض الأخبار على التقية وإن لم يوجد بها قائل من العامّة، فيه نظر:

أما أوّلا، فلأن الأخبار التي استدل بها وما ضاهاها لا دلالة فيها على مدّعاه بوجه.

وأمّا ثانيا، فلتصريح ما رواه الشيخ في كتاب الخلع من (تهذيب الأحكام) موثقا عن الحسن بن أيوب عن أبي بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقيّة، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية» بأن ما ورد من الأحكام الغير المشابهة لقول العامّة فليس فيه التقيّة، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، فتأمّل»(33).

والإيراد عليه ظاهر، فإن الرواية الأولى كما تقدم تامة الدلالة على المدعى، وأن الإيراد أخص من المدعى؛ لأن المدعى هو الحمل على التقية بمعناها الواسع كما صرح به (رحمه الله)، والرواية غير ناظرة إلا إلى التقية بمعناها الخاص المعروف، فمعنى «ليس فيها التقية»: التقية التي تقابل قول العامة وإن أمكن مقابلة روايات أخر -كالذي مر عليك- للتقية بالتفريق.

كما لا يمكن الالتزام بما ذكره جمع من الأعاظم -كالسيد السيستاني(دام عزه) في بحث اختلاف الحديث- من «أن الأئمة(عليهم السلام) أوجدوا الاختلاف في الموسعات فحسب»(34)، «وأن موردها فيما لو كلا الحكمين مطابقين للواقع»(35)، فإنها مجرد دعوى تستند لاستقراء ناقص لبعض الأخبار، واستبعاد أن يلقي الإمام للشيعة حكما مخالفا للواقع بعد نفي حق التشريع للمعصومين(عليهم السلام) بعد رسول الله(صلّى الله عليه وآله)؛ فإن تلك الموارد المذكورة في الموسعات لا تسقط إطلاق إيقاع الخلاف في الخبر المعروف، ولو سلم نفي حق التشريع لهم(عليهم السلام) لم يكن مانع من أن ما ألقوه هو من الأمور المكتومة لديهم من النبي(صلّى الله عليه وآله) لا تشريع ابتدائي منهم(عليهم السلام).

رابعا: محاكمة الأدلة:

والنظر في أدلة القوم وما يمكن أن يتمسك به ليكون دليلا لكل مسلك يقتضي القول: أن الإنصاف: أن الشيخ (رحمه الله) وإن صرح في مواضع عديدة بحمل الأخبار على التقية لوجود بعض المخالفين من العامة، إلا أنه لقرب عصره ووضوح القرائن الحافة بالخبر لديه -حتى أنه عاب على من لم يفقه الحديث ويفهم معاريضه- لا يمكن الجزم بمذهبه أو نسبة التساهل إليه، ويؤيده ما سيأتي من كلام الشيخ البهائي في الحبل المتين؛ إذ من القريب أن حمل الخبر على التقية عنده قد يكون لمكانة هذا البعض في التأثير والتقية، وأن احتماله حمله على التقية كذلك حينا آخر لقوة الاحتمال في نظره وترجحه، لا لمجرد وجود مخالف من العامة، ولا بد من هذا الخيار؛ فإن الفقيه مثل الشيخ منزه عن الغفلة عن الملاك في التقية أو الغفلة عن أن التعبد بمخالفة القوم ليس إلا لهذا، وهو المتمرس في الأخبار والناقد لها بل شيخ النقاد.

وأما من تبعه (رحمه الله) ممن كان بعده، فإما أنه قد اشتبه عليه صحيح الحمل من سقيمه، خصوصا بعد ملاحظة أن جل الناقل لقول العامة قد اتكل على نقل من تقدمه دون تتبع وفحص، أو وقوعه في الغفلة عن بعض الحيثيات اللازم أخذها والتي سنبين جانبا منها في الأمر الخامس الآتي.

وأما مسلك الشيخ المفيد والسيد المرتضى والمحقق وغيرهم وكثير من المتأخرين، فهو أوفق للصواب من سابقه لو صحت نسبة ذلك إلى الشيخ (رحمه الله)، وإلا فهما متحدان في المسلك، إلا أنهما أغفلا جانب التقية بمعنى التفريق بين أقوال الشيعة لا بمعنى مخالفة حديث العامة، ولعله لعدم النص عليه في أخبار الترجيح كما تقدم.

وأما مسلك الشيخ العصفور(أدخل الله عليه السرور والحبور) فإنه صحيح في نفسه، لكن لا يلزم من القول بصحة كتاب حديثي حمل الأخبار المتخالفة على التقية بموافقة العامة تارة، فإن لم يكن فبإرادة إيقاع الخلاف تارة أخرى؛ فإنه وإن احتمل ذلك ثبوتا، إلا أن أسباب الاختلاف غير محصورةٍ بالتقية، وإن سُلم بصحة الكتب المشهورة.

فمن أسبابها: نسخ الأحكام كما في عديد من الأخبار.

ومنها: اختلاف ألسن الرواة في التبليغ بسبب ضعف اللسان والتسلط على اللغة بما يوهم التعارض، كما نسب إلى إسحاق بن عمار، أو النقل بالمضمون كما هو صريح رواية داوود بن فرقد في عدم استطاعته نقل نص الخبر، أو ما يظهر من أخبار يونس بن عبد الرحمن -بحسب التتبع- التي هي أشبه بالفتوى من التحديث، حيث يجمع بين ألفاظ الروايات المختلفة بما يراه صحيحا، وغيرهما.

ومنها: اختلاف النسخ والكتب الحديثية.

ومنها: خطأ مصنف الكتاب وهو نادر لكنه ممكن؛ فإن المحمدين الثلاثة (أنالهم الله السعادة) وإن بالغوا في حفظ الأخبار وتنقيتها وتصفيتها عن شوب المكذوب والضعيف حتى سلكوا من أجلها غمار البحار والأقفار الخطار، إلا أن الجليل عز اسمه لا يسهو وغيره من العباد يخطأ ويكبو.

وهذا لا يعارض ما سمي بأصالة القصد وعدم الغفلة، ولا ينافي التزامهم بصحة ما يوردون، ولا يعارض التعبد بقبول إخباراتهم لكونهم مأمونين في النقل (تقدست أسرارهم)؛ فإن التعبد بقبول الأخبار يتوقف على العلم بصدورها غير المعارض بالأقوى على كل المسالك، كان علما عاديا كما عليه الأخباريون أو قطعا أو ظنا معتبرا شرعا كما عليه غيرهم. فإنك ترى في أصح كتبنا وهو الكافي، ذكر مجيء يزيد بن معاوية المدينة المشرفة وحديثه مع زين العباد(عليه السلام)، وهذا ما يقطع تاريخيا بخطئه؛ إذ علم أن يزيد لم يقصد موضعا آخر بعد مقتل الحسين(عليه السلام) حتى هلك كما نقل(36).

أو ذكر آية خطأ -بناء على القول بعدم التحريف-: كما في رواية مُحَمَّد بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنِ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الأعْلَى بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام) يَقُولُ: قَدْ وَلَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ(صلّى الله عليه وآله) وأَنَا أَعْلَمُ كِتَابَ اللَّهِ وفِيهِ بَدْءُ الْخَلْقِ ومَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وخَبَرُ الأرْضِ وخَبَرُ الْجَنَّةِ وخَبَرُ النَّارِ وخَبَرُ مَا كَانَ وخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ أَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا أَنْظُرُ إِلَى كَفِّي إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ»(37).

ورواية مُحَمَّد بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِ عَنْ عَبْدِ الأعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام) يَقُولُ واللَّهِ إِنِّي لأعْلَمُ كِتَابَ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ كَأَنَّهُ فِي كَفِّي فِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وخَبَرُ الأرْضِ وخَبَرُ مَا كَانَ وخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ»(38).

وما رواه عن العِدَّة عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ عَبْدُ الْأَعْلَى وأَبُو عُبَيْدَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ سَمِعُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام) يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ومَا فِي الْأَرْضِ وأَعْلَمُ مَا فِي الْجَنَّةِ وأَعْلَمُ مَا فِي النَّارِ وأَعْلَمُ مَا كَانَ ومَا يَكُونُ قَالَ ثُمَّ مَكَثَ هُنَيْئَةً فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ كَبُرَ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ فَقَالَ عَلِمْتُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ»(39).

وأما أنه لا ينافي القول بصحة الكتاب؛ فإن مقصود المؤلفين من الصحة أنهم بذلوا الجهد في ذكر الثابت من الأخبار، خرج عنها ما يقع سهوا منهم كالموردين السابقين، وهي قليلة في المجموع، فيصدق إطلاق الصحة على الكتاب، بعد معلومية غير الصحيح منه وغير المقصود.

خامسا: النتيجة

والنتيجة التي قد اتضحت من النقاط السابقة: أن الحمل على التقية لا ينحصر بمخالفة العامة. وأن الحمل على التقية -بكلا معنييها- وإن ثبت كونها من أعظم المحامل بل وأعظم أسباب اختلاف الحديث، إلا أنها لا تسوغ سرعة الحمل عليها بسبب مخالفة بعض العامة أو احتمال إرادة تفريق قول الشيعة حتى لا يعرفوا. وأنه لا يصح حصر أسباب اختلاف الحديث في الكتب المشهورة -حتى بناء على القول بصحتها- بالتقية.

سادسا: أغلاط البعض

وفيها ذكر لبعض الأغلاط المشهورة بين المصنفين، نذكر منها ما يخطر بالبال حتى ساعة كتابة هذا المقال:

أولا: حمل الخبر على التقية لموافقة العامة غير المعاصرين لزمان الصدور، تقدما أو تأخرا دون شياع قوله وتأثيره، وقد تفطن لها صاحب الحدائق(طيب الله ثراه) في حدائقه فقال في كتاب الزكاة: «وكيف كان فحيث كانت الأخبار المتقدمة من ما أعرض عن العمل بها كافة الأصحاب قديما وحديثا مع معارضتها بالأخبار المتقدمة في المقام السابع وكونها على خلاف الاحتياط فلا بد من تأويلها أو طرحها وإرجاعها إلى قائلها، والأظهر هو حملها على التقية فإنه مذهب أبي حنيفة ومذهبه في وقته له صيت وانتشار زيادة على غيره من أصحاب المذاهب فإنها إنما اعتبرت في الأزمان المتأخرة»(40).

ثانيا: الاقتصار على مخالفة علماء العامة دون رؤسائهم وأغلب عوامهم، قال الشيخ البهائي(رحمه الله) (1031 ﻫ) في الحبل المتين عند التعرض لنجاسة الخمر: «والشيخ حمل الأحاديث المؤذنة بالطهارة على التقية جمعا بين الأخبار، ولا بأس به.

فان قلت: كما أن حمل هذه الأحاديث على التقية أحد وجوه الجمع فكذلك حمل الأحاديث المقابلة لها على استحباب الاجتناب، فكيف آثر الشيخ (رحمه الله) ذاك على هذا؟. قلت: الحمل على هذا يستلزم مخالفة ما عليه جماهير الأصحاب(رضوان الله عليهم)، بل مخالفة الإجماع على ما يؤذن كلامه(طاب ثراه)، فلا مناص عن الحمل على التقية.

فإن قلت: إن أكثر العامة قائلون بنجاسة الخمر، ولم يذهب إلى طهارتها منهم إلا شرذمة نادرة وهم لا يعبأ بهم ولا بقولهم، وما هذا شأنه كيف يتأتى فيه وهو مخالف لما عليه جماهيرهم؟.

قلت: التقية لا تنحصر في القول بما يوافق علماء العامة، بل ربما يدعو إليها إصرار الجهلاء من أصحاب الشوكة على أمر وولوعهم به، فلا يمكن إشاعة ما يتضمن تقبيحه ويؤذن بالإزراء بهم على فعله، وما نحن فيه من هذا القبيل فإن أكثر أمراء بني أمية وبني العباس كانوا مولعين بمزاولة الخمر وشربه وعدم التحرز عن مباشرته، بل ربما أمَّ بعض أمراء بني أمية بالناس وهو سكران، فضلا عن أن يكون ثوبه ملوثا به، كما هو مذكور في التواريخ، فإشاعة القول بنجاسته يتضمن شدة الشناعة عليهم ويوهم التعريض بهم، فلا يبعد عند السؤال عن نجاسته في صدور الجواب منهم(عليهم السلام) على وجه يؤمن معه من الحمل على الإزراء بهم والتشنيع عليهم والله أعلم»(41).

وقد أجاد فيما أفاد (رحمه الله)، ويؤيده ما رواه الشيخ الكليني في الكافي صحيحا عن الْحَلَبِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام): «كَانَ أَبِي(عليه السلام) يُفْتِي وكَانَ يَتَّقِي، ونَحْنُ نَخَافُ فِي صَيْدِ الْبُزَاةِ والصُّقُورِ، وأَمَّا الآْنَ فَإِنَّا لاَ نَخَافُ ولاَ نُحِلُّ صَيْدَهَا إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ، فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ(عليه السلام): أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} (المائدة: 4) فِي الْكِلاَبِ»(42).

وما رواه في نفس الباب صحيحا عن أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(عليه السلام) يَقُولُ: كَانَ أَبِي(عليه السلام) يُفْتِي فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّ مَا قَتَلَ الْبَازِيُّ والصَّقْرُ فَهُوَ حَلاَلٌ، وكَانَ يَتَّقِيهِمْ، وأَنَا لاَ أَتَّقِيهِمْ، وهُوَ حَرَامٌ مَا قَتَلَ»(43).

 

* الهوامش:

(1) قسم السيد الخميني (رحمه الله) الأخبار الواردة في مخالفة العامة على قسمين: الواردة في تعارض الخبرين، والآمرة بمخالفتهم مطلقا [الرسائل 2: 80]، وحيث أن لا قائل بوجوب مباينة أحكامنا لأحكهم مطلقا، لم نتعرض له هنا.

(2) مصباح الأصول 3: 413-416.

(3) الحدائق 1: 8، من المقدمة الأولى، الدرر النجفية: 162 (حجرية).

(4) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي 1: 9، دار الكتب الإسلامية، ط5، 1363 ش، طهران.

(5) الحدائق 1: 107.

(6) القمي، ابن بابويه، الإمامة والتبصرة: 9، ط ونشر مدرسة الإمام المهدي(عليه السلام)، ط1، 1404 هـ، قم.

(7) أي فقهاء الخاصة.

(8) جوابات أهل الموصل (من مجموعة مصنفات الشيخ المفيد ج9): 46-48، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، ط1، 1413 هـ، قم.

(9) مصباح الأصول 3: 419.

(10) ذبائح أهل الكتاب (من مجموعة مصنفات الشيخ المفيد ج9): 31، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، ط1، 1413 هـ، قم.

(11) المرتضى، علي بن الحسين، الانتصار: 210، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415 هـ، قم.

(12) لكنها ليست على إطلاقها؛ فإنه (أعلى الله مقامه) نص على ضوابط الجمع إجمالا في آخر مقدمة الاستبصار -وهو المتأخر عن تأليف التهذيب- وصرح فيها بقوله: «وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر لأنه يكون العامل بذلك عاملا بالخبرين معا، وإذا كان الخبران يمكن العمل بكل واحد منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا لفظا أو دليلا وكان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكان متحاذيا كان العامل مخيرا في العمل بأيهما شاء، وإذا لم يكن العمل بواحد من الخبرين إلا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما وبعد التأويل بينهما كان العامل أيضا مخيرا في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم، ولا يكون - وغيرها مما ذكره في المقدمة» الاستبصار 1: 4، ومثله في عدة الأصول 1: 148.

(13) قد يقال: أن لا ظهور في عبارته على كون هذا البعض غير متقى منه، ويأتي في آخر البحث مزيد بيان.

(14) الاستبصار 1: 60.

(15) الاستبصار 1: 341، السنة في القنوت، ح14، وغيرها.

(16) المعتبر 2: 499-500.

(17) مختلف الشيعة 7: 395.

(18) التنقيح الرائع 3: 362.

(19) الحر العاملي، محمد بن الحسن، هداية الأمة إلى أحكام الأئمة 8:378، مجمع البحوث الإسلامية، ط1، 1412 هـ، مشهد - إيران.

(20) الوسائل 27: 107/ح2.

(21) نفس المصدر السابق.

(22) ذكره النجاشي والشيخ في فهرسته وعده في رجاله من أصحاب الكاظم(عليه السلام).

(23) التهذيب 8: 98/ ح330، الوسائل 27: 132/ ح46.

(24) الوسائل 27: 119/ ح32، والرسالة ينقل عنها صاحب البحار كذلك، وهي مفقودة عند من نعرفه من مؤسسات تحقيقية. (استدراك: طبعت أخيرا في مجلة علوم الحديث وذهب الشهيد السيد الصدر إلى صحتها وصحة إسناده فراجع).

(25) الوسائل 27: 106-107/ ح1.

(26) الكافي 1: 7.

(27) الوسائل 27: 116/ ح23.

(28) وهذا أمر لا بد منه عندهم، فإنهم لا نص لديهم عند أكثر القضايا ولا عموم، بخلاف مذهبا الحق، فإنك لا تجد موردا إلا وذكر فيه حكم بخصوصه أو عمومه، فعن حريز، قال، دخلت على أبي حنيفة وعنده كتب كادت تحول فيما بيننا وبينه، فقال لي: هذه الكتب كلها في الطلاق وأنتم! وأقبل يقلب بيده، قال، قلت: نحن نجمع هذا كله في حرف، قال وما هو قال، قلت قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، فقال لي: فأنت لا تعلم شيئا إلا برواية، قلت: أجل، فقال لي: ما تقول في مكاتب كانت مكاتبته ألف درهم فأدى تسعمائة وتسعة وتسعين درهما، ثم أحدث يعني الزنا، كيف نحده فقلت: عندي بعينها حديث حدثني محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام): أن عليا(عليه السلام) كان يضرب بالسوط وبثلثه وبنصفه وببعضه بقدر أدائه، فقال لي: أما إني أسألك عن مسألة لا يكون فيها شي‏ء، فما تقول في جمل أخرج من البحر، فقلت إن شاء فليكن جملا وإن شاء فليكن بقرة إن كانت عليه فلوس أكلناه وإلا فلا. (رجال الكشي: 385).

(29) الكافي 1: 65/ ح5.

(30) الحدائق 1: 6.

(31) التهذيب 2: 252/ ج37.

(32) الحدائق 1: 6.

(33) الدرر النجفية 2: 311.

(34) بحث اختلاف الحديث للسيد السيستاني بتقرير السيد هاشم الهاشمي: 95، (غير مطبوع).

(35) بحث اختلاف الحديث للسيد السيستاني بتقرير السيد هاشم الهاشمي: 99، (غير مطبوع).

(36) ابْنُ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَبَعَثَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَتُقِرُّ لِي أَنَّكَ عَبْدٌ لِي إِنْ شِئْتُ بِعْتُكَ وإِنْ شِئْتُ اسْتَرْقَيْتُكَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: واللَّهِ يَا يَزِيدُ مَا أَنْتَ بِأَكْرَمَ مِنِّي فِي قُرَيْشٍ حَسَباً ولَا كَانَ أَبُوكَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ والْإِسْلَامِ ومَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنِّي فِي الدِّينِ ولَا بِخَيْرٍ مِنِّي فَكَيْفَ أُقِرُّ لَكَ بِمَا سَأَلْتَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُقِرَّ لِي واللَّهِ قَتَلْتُكَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَيْسَ قَتْلُكَ إِيَّايَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِكَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ(عليه السلام) ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ(صلّى الله عليه وآله) فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ(عليه السلام) مَعَ يَزِيدَ لَعَنَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ(عليه السلام) فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ لِلْقُرَشِيِّ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ(عليه السلام): أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أُقِرَّ لَكَ أَلَيْسَ تَقْتُلُنِي كَمَا قَتَلْتَ الرَّجُلَ بِالْأَمْسِ فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ لَعَنَهُ اللَّهُ: بَلَى فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ(عليه السلام): قَدْ أَقْرَرْتُ لَكَ بِمَا سَأَلْتَ أَنَا عَبْدٌ مُكْرَهٌ فَإِنْ شِئْتَ فَأَمْسِكْ وإِنْ شِئْتَ فَبِعْ فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَوْلَى لَكَ حَقَنْتَ دَمَكَ ولَمْ يَنْقُصْكَ ذَلِكَ مِنْ شَرَفِكَ. (الكافي 8: 234-235).

(37) الكافي 1: 61/ ح8.

(38) الكافي 1: 229/ ح4.

(39) الكافي 1: 262/ ح2، باب أن الأئمة(عليهم السلام) يعلمون علم ما كان، قال الغفاري في تعليقته عليه: «لعله نقل بالمعنى؛ فإن في المصاحف (تبيانا لكل شيء)، أو كان في قراءتهم(عليهم السلام)».

(40) الحدائق 12: 129.

(41) الحبل المتين (ضمن رسائل الشيخ البهائي ط.ق): 103.

(42) الكافي 6: 207/ ح1.

(43) الكافي 6: 208/ ح8.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا