الراسخون في العلم

الراسخون في العلم

قال الله العلي العظيم في كتابه الكريم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ}(1).

سبب النزول

عن طريق الشيعة:

جاء في تفسير نور الثقلين نقلاً عن كتاب معاني الأخبار بإسناده إلى محمد بن قيس قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث أن حيياً وأبا ياسر ابني أخطب ونفراً من يهود أهل نجران أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسلم فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أنزل الله عليك {ألم}؟ قال: بلى، قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله؟ قال: نعم، قالوا: لقد بعث أنبياء قبلك وما نعلم نبياً منهم أخبرنا ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك، قال: فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم: الألف واحد. واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة، قال: ثم أقبل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: هاته، قال: {المص}، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة ثم قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: هاته، قال: {الر}، قال: هذه أثقل وأطول، والألف واحد، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: هاته، قال: {المر}، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد. واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، ثم قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قالوا: قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت، ثم قاموا عنه، ثم قال: أبو ياسر لحيي أخيه: ما يدريك لعل محمداً قد جمع له هذا كله وأكثر منه؟ قال: فذكر أبو جعفر (عليه السلام) أنّ هذه الآيات أُنزلت فيهم {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال: وهي تجري في وجه آخر على غير تأويل حيي وأبى ياسر وأصحابهما»(2). أي أن خصوص المورد لا يخصص الوارد، فهي تنطبق على كل من يتبع المتشابهات من الآيات ويذر المحكمات بغية الفتنة والإضلال، فتشمل المنافقين.

عن طريق العامة:

أخرج البخاري في التاريخ وابن جرير من طريق ابن اسحاق عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله ابن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب فجاء رجل من اليهود لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: أتعلمون؟ والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه {الم ذلِكَ الْكِتابُ}، فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حتى وافى أولئك النفر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقالوا: ألم تقل أنك تتلو فيما أنزل عليك {الم ذلِكَ الْكِتابُ}، فقال: بلى، فقالوا: لقد بعث بذلك أنبياء ما نعلمه بُين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة. ثم قال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم {المص}، قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم {الر}، قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. هل مع هذا غيره؟ قال: نعم {المر}، قال: هذه أثقل وأطول هذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أنّ هذه الآيات نزلت فيهم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}‏.

وأخرج يونس بن بكير في المغازي عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعد بن جبير عن ابن عباس وجابر بن رباب أنّ أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وهو يقرأ فاتحة الكتاب و{الم ذلِكَ الْكِتابُ} فذكر القصة(3).

وجاء في ظلال القرآن أن نصارى نجران قالوا للرسول (صلّى الله عليه وآله) ألست تقول عن المسيح: إنه كلمة اللّه وروحه؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى (عليه السلام) وأنه ليس من البشر، إنما هو روح اللّه -على ما يفهمون هم من هذا التعبير- بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية اللّه المطلقة، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور.. فنزلت فيهم هذه الآية، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة، وترك النصوص التجريدية القاطعة(4).

اللغــة

"المحكم" مأخوذ من قولك أحكمت الشي‏ء إذا أتقنته، وأمّ الكتاب أصله، والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضاً فيغمض، أخذ من الشبه لأنه يشتبه به المراد، والزيغ الميل، وإزاغة إمالة، والتزايغ التمايل في الأسنان، والابتغاء الطلب، والفتنة أصلها الاختبار من قولهم فتنت الذهب بالنار أي اختبرته، والتأويل التفسير، وأصله المرجع والمصير من قولهم آل أمره إلى كذا يؤول أولاً، إذا صار إليه وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه، والراسخون الثابتون يقال رسخ رسوخاً إذا ثبت في موضعه وأرسخه غيره(5).

المعــنى

لما تقدم بيان إنزال القرآن عقبه بيان كيفية إنزاله فقال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ} يا محمد {الْكِتابَ} أي القرآن {مِنْهُ} أي من الكتاب {آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ} أي أصل الكتاب {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قيل في المحكم والمتشابه أقوال:

(أحدها): أنّ المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} و{لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} ونحو ذلك مما لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل. والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه، وهذا قول مجاهد. نحو قوله {ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ} يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره وأن يكون بمعنى القهر والاستيلاء والوجه الأول لا يجوز عليه سبحانه، بخلاف الثاني. حيث إن الله (سبحانه وتعالى) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(6)، وهي من الآيات المحكمات، فلا بد حينئذٍ من ردّ المتشابه إلى المحكم.

(وثانيها): أنّ المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، وهذا القول عن ابن عباس.

(وثالثها): أنّ المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعداً، وهذا القول عن محمد بن جعفر بن الزبير وأبي علي الجبائي.

(ورابعها): أنّ المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما تكرر ألفاظه كقصة موسى وغير ذلك، وهذا القول عن ابن زيد.

(وخامسها): أنّ المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة، وهذا القول عن جابر بن عبد الله(7).

وإنما وحّد أم الكتاب ولم يقل هن أمهات الكتاب لوجهين:

(أحدهما): أنّه على وجه الجواب كأنه قيل ما أم الكتاب فقال هن أم الكتاب كما يقال من نظير زيد فيقال نحن نظيره.

(والثاني): أنّ الآيات بمجموعها أصل الكتاب وليست كل آية محكمة أم الكتاب وأصله، لأنها جرت مجرى شي‏ء واحد في البيان والحكمة ومثله قوله {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آية} ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد في أنها جاءت به من غير ذكر فلم تكن الآية لها إلا به ولا له إلا بها، ولو أراد أن كل واحد منهما آية على التفصيل لقال آيتين.

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الحق وإنما يحصل الزيغ بشك أو جهل.

{فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} أي يحتجون به على باطلهم {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} أي لطلب الضلال والإضلال وإفساد الدين على الناس، وقيل لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق عن مجاهد، وقيل لطلب الشرف والمال كما سمى الله المال فتنة في مواضع من كتابه، وقيل‏ المراد بالفتنة هاهنا الكفر وهو المروي عن أبي عبد الله‏ وقول الربيع والسدي.

{وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} ولطلب تأويله على خلاف الحق، وقيل: لطلب مدة أُكل محمد -أي رزقه وحظه من الدنيا- على حساب الجمل وابتغاء معاقبته.

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} قيل: عني به وفد نجران لما حاجوا النبي (صلّى الله عليه وآله) في أمر عيسى (عليه السلام)، عن الربيع، وقيل هم اليهود طلبوا علم أُكل هذه الأمة واستخرجه بحساب الجمل عن الكلبي، وقيل هم المنافقون عن ابن جريح، وقيل بل كل من احتج بالمتشابه لباطله فالآية فيه عامة عن قتادة.

{وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي الثابتون في العلم الضابطون له المتقنون فيه {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} معناه: المحكم والمتشابه جميعاً من عند ربنا.

{وَما يَذَّكَّرُ} أي وما يتفكر في آيات الله ولا يرد المتشابه إلى المحكم {إِلا أُولُوا الأَلْبابِ} أي: ذوو العقول(8).

الراسخون في العلم

اختُلف في إعراب «الراسخون» وفي نظمه وحكمه من حيث الوقف، ومن ثم في مدلول ذيل الآية المباركة {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على قولين(9):

(الأول): أنّ الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} واو استئنافيّة و(الراسخون) مبتدأ، خبره جملة يقولون آمنّا(10).

فعلى هذا القول يكون العلم بتأويل المتشابه منحصر في الله (سبحانه وتعالى)، والوقف عند قوله: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ويبتدي {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فيكون مبتدأ وخبراً، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير والحسن ومالك واختيار الكسائي والفراء والجبائي وقالوا: إنّ الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يؤمنون به، فالآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أُكل هذه الأمة ووقت قيام الساعة وفناء الدنيا ووقت طلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى وخروج الدجال ونحو ذلك مما استأثر الله بعلمه(11).

فيُخرج حينئذ (الراسخون في العلم) عن فضيلة العلم بالتأويل، ويُحطوا عن رتبة استحقوها ونوّه عليها القرآن الكريم في هذا السياق المشرق إذ وصفهم بالرسوخ في العلم‏.

ويمكن أن يحتج لهذا القول بعدة روايات جمعت في الدر المنثور(12):

منها: عن ابن عباس قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا اللّه.

ومنها: ما ورد عنه أيضا في بيان وجوه القرآن: وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا اللّه ومن ادّعى علمه فهو كاذب. وفي رواية أخرى: وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه ومن ادعى علمه سوى اللّه فهو كاذب.

ومن طريق طاوس عن ابن عباس أيضاً كان يقرأها وما يعلم تأويله إلا اللّه ويقول الراسخون في العلم آمنا.

وعن الأعمش قال في قراءة عبد اللّه: وإنّ حقيقة تأويله إلا عند اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا.

وذكر في الدر المنثور رواية هذا القول أيضاً عن رأي عائشة وأبي الشعثاء وعروة وعمرو بن عبد العزيز ومالك وذكر أيضاً أحاديث تحذر من المجادلة في كتاب اللّه واتباع المتشابه، منها ما أخرجه عبد الرزاق وسعيد وعبد بن حميد والجوامع الستة وغيرهم عن عائشة عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قرأ الآيات وقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم اللّه فاحذروهم. وفي لفظ البخاري فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذرهم(13).

ويرد عليه بعد غضّ النظر عن الأسانيد وما فيها:

أولاً: إنّ يوم القيامة الذي ذكر في حديث ابن عباس خارج عن محل الخلاف وسوق الآية وموضوعها من التأويل، حيث إن محل الخلاف هو ما عناه بقوله: وتفسير تعلمه العلماء، أو تفسره، وقوله في حديث آخر: ظهره التلاوة وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء.

ثانيا: أمّا ما روي من طريق طاوس عن ابن عباس أنه كان يقرأها وما يعلم تأويله إلا اللّه ويقول الراسخون في العلم آمنا. فيرد عليها تواتر غيرها، وإجماع المسلمين على عدم الاعتناء بها.

ثالثاً: أمّا الآراء التي ذكرنا روايتها، فهو اجتهاد في محل النزاع بلا دليل.

رابعاً: أمّا التحذير ممن يجادل ويتبع المتشابه فإنّما هو تحذير من الضالين المضلِّين الذين في قلوبهم مرض، لا الراسخين في العلم‏(14).

(الثاني): أنّ (الراسخون) معطوف على الله (سبحانه وتعالى) بالواو، على معنى: أنّ تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله وإلا الراسخون في العلم فإنهم يعلمونه، و{يَقُولُونَ} على هذا في موضع النصب على الحال وتقديره قائلين «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا»(15).

فحينئذٍ يُعطف «الراسخون» على لفظ الجلالة من حيث القراءة ولا يوقف على لفظ الجلالة، ويكون المعنى أنَّ اللّه جلت آلاؤه فتح للراسخين في العلم باب العلم بالتأويل بلطفه، وكرّمهم بهذه الرتبة بتعليمه(16).

يمكن أن يحتج على القول الثاني بأمور:

الأوّل:- دلالة العقل:

فإنّ المتشابه الذي أشرنا إليه وإلى وجوه تشابهه والذي يتبعه ويطلبه الزائغون عن الحق ابتغاء الفتنة في أمر الدين ونظام الملّة وأحكام الشريعة هو في القرآن كثير جداً. ومما لا يصحّ في العقل أنّه مع هذه الكثرة يحرم اللّه من تأويله والعلم به رسوله الهادي الكريم وأمناءه على الوحي، وعلماء الأمة. فيكون القسم الكبير من القرآن الكريم لا فائدة في تنزيله للبشر مطلقاً حتى الرسول الأكرم ولا أثر له إلا صدى ألفاظه وسواد حروفه(17).

الثاني:- النقل الصحيح من الفريقين:

أولاً:- ما ورد من طريقنا:

ففي تفسير القمي في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) قال: «إنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل في القرآن من التنزيل والتأويل وما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله وأوصياءه من بعده يعلمونه كله»(18). وعن العياشي مثله. وفي الكافي عن أحدهما (عليها السلام) مثله.

وفي الكافي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام): «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله»(19). ونحوه عن تفسير العياشي.

وفي نهج البلاغة وغيره قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ولقد جئتهم بالكتاب مشتملاً على التنزيل والتأويل»(20).

ثانياً: ما ورد من طرق العامة:

 ما في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري من طريق مجاهد عن ابن عباس قوله: إنّا ممن يعرف تأويله.

 وأخرج أحمد والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قال: «اللهمّ أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل‏».

وأخرج الحاكم في مستدركه وابن أبي شيبة: «اللهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل».

واخرج الحاكم أيضاً: «اللهم علمه تأويل القرآن».

وأخرج ابن ماجه وابن سعد والطبراني «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب».

فلو كان علم التأويل منحصراً باللّه ولم يعلِّمْه رسوله والراسخين في العلم، لما دعا به رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لابن عباس. وما هو معنى الدعاء بما لا يرجى وقوعه.

وأخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري ومسلم كما هي عادته في المستدرك عن معقل بن يسار عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله): «اعملوا بكتاب اللّه فما اشتبه عليكم فاسألوا عنه أهل العلم يخبروكم». والذي يشتبه عليهم هو المتشابه.

وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والبيهقي في شعبه والحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية وسعيد بن منصور في سننه وابن السكن عن الأخضر الأنصاري. والديلمي عن أبي ذر جميعاً عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أنّ علياً (عليه السلام) يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو (صلّى الله عليه وآله) على تنزيله.

ومفاد الحديث أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عالماً بتأويل القرآن على حقيقته فهو يقاتل دفاعاً عنه وتثبيتاً لحقائقه في الدين وأساسيّاته كما قاتل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) دفاعا عن تنزيله(21).

الثالث:- دلالة سياق القرآن:

فإنّ تمجيد الراسخين في العلم بهذا التمجيد السامي والصفة الفائقة إنّما يناسب عطفهم في مقام العلم بالتأويل ورسوخهم فيه ومجدهم في الإيمان بمؤدّاه على بصيرة من أمرهم، وأمّا قولهم آمنّا، فلو أريد به الإيمان بنزول لفظه من دون علم بمعناه ولا عمل به، لكان المناسب له وصفهم بتصلبهم في الإيمان والتسليم لرسول اللّه في التنزيل(22).

ومما يؤيده هذا القول أنّ الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شي‏ء منه ولم يفسروه؛ بأن قالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، وكان ابن عباس يقول في هذه الآية أنا من الراسخين في العلم(23).

السر في وجود المتشابه

قد يقال: إنّ القرآن كتاب هداية لعموم البشر، ووجود المتشابهات فيه -وهي كثيرة- يلزم منه نقض الغرض، بحيث يتنافى مع كونه كتاب هداية.

وقد أجاب صاحب تفسير الأمثل بعدّة نقاط:

أوّلاً: إنّ الألفاظ والكلمات التي يستعملها الإنسان للحوار هي لرفع حاجته اليومية في التفاهم، ولكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا الماديّة وحدودها، كأن نتحدّث عن الخالق الذي لا يحدّه أيّ لون من الحدود، نجد بوضوح أنّ ألفاظنا تلك لا تستوعب هذه المعاني، فنضطر إلى استخدام ألفاظ أخرى وإن تكن قاصرة لا تفي بالغرض تماماً من مختلف الجهات.

ثانياً: كثير من الحقائق تختصّ بالعالم الآخر، أو بعالم ما وراء الطبيعة ممّا هو بعيد عن أفق تفكيرنا، وإنّنا -بحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان والمكان- غير قادرين على إدراك كنهها العميق. قصور أفق تفكيرنا من جهة، وسمّو تلك المعاني من جهة أخرى، سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات، كالتي تتعلّق بيوم القيامة مثلاً.

وهذا أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أمّه مسائل هذا العالم الذي لم يره بعد، فهو إذا لم يقل شيئا يكون مقصّراً، وإذا قال كان لا بدّ له أن يتحدّث بأسلوب يتناسب مع إدراكه.

ثالثاً: من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار والعقول وإيجاد نهضة فكرية بين الناس. وهذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقّدة التي يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم ولتعميق دقّتهم في المسائل.

رابعاً: النقطة الأخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن، وتؤيّدها أخبار أهل البيت (عليهم السلام)، هي أنّ وجود هذه الآيات في القرآن يصعّد حاجة الناس إلى القادة الإلهيّين والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) والأوصياء، فتكون سبباً يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء والاعتراف بقيادتهم عملياً والاستفادة من علومهم الأخرى أيضاً. وهذا أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرّس نفسه، لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأستاذهم، ولكي يستمرّوا -بسبب حاجتهم هذه- في التزوّد منه على مختلف الأصعدة.

وهذا أيضا مصداق وصيّة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وسلَّم حين‏ قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(24).

 

* الهوامش:

(1) آل عمران الآية 7.

(2) تفسير نور الثقلين الشيخ الحويزي ج1 ص314.

(3) الدر المنثور في تفسير المأثور، جلال الدين السيوطي ج‏2 ص 5.

(4) في ظلال القرآن للسيد قطب بن إبراهيم الشاذلي ج1 ص369.

(5) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج‏2 ص699.

(6) الشورى الآية 11.

(7) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج‏2 ص 700( بتصرف).

(8) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج‏2 ص 701( بتصرف).

(9) الإعراب: (الواو) حاليّة (ما) نافية (يعلم) مضارع مرفوع (تأويل) مفعول به منصوب و(الهاء) هنا وفي السابق ضمير مضاف إليه (إلا) أداة حصر (اللّه) لفظ الجلالة فاعل مرفوع (الواو) عاطفة (الراسخون) معطوف على لفظ الجلالة مرفوع وعلامة رفعه الواو، (في العلم) جارّ ومجرور متعلّق بـ(الراسخون)، (يقولون) مضارع مرفوع وعلامة الرفع ثبوت النون والواو فاعل (آمنّا) فعل ماض مبنيّ على السكون. (و نا) فاعل (به) حرف جر و( الهاء ) ضمير في محل جر متعلّق بـ (آمنا)، (كلّ) مبتدأ مرفوع والتنوين للعوض (من عند) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ كلّ (ربّ) مضاف إليه مجرور و(نا) ضمير مضاف إليه (الواو) استئنافيّة (ما) نافية (يذكّر) مضارع مرفوع (إلا) أداة حصر (أولو) فاعل مرفوع وعلامة الرفع الواو فهو ملحق بجمع المذكّر السالم (الألباب) مضاف إليه مجرور.

ويجوز جعل الواو استئنافيّة و(الراسخون) مبتدأ خبره جملة يقولون آمنّا.. وهذه الآية عوض من تكرار (أمّا) وما بعدها، وكأنّ الأصل أن يقال: وأمّا غيرهم فيؤمنون به معناه إلى ربّهم.

و جملة: «يقولون» في محلّ نصب حال من (الراسخون).

(10) الجدول في إعراب القرآن، محمود بن عبد الرحيم الصافي ج‏3، ص: 112.

(11) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج‏2 ص 702.

(12) الدر المنثور في تفسير المأثور، جلال الدين السيوطي ج‏2 ص 7.

(13) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي، ج‏1 ص 257.

(14) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي، ج‏1 ص 257.

(15) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج‏2 ص 702.

(16) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي، ج‏1 ص 256.

(17) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي، ج‏1 ص 257.

(18) تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج1ص96.

(19) الكافي، الكليني، ج1ص213.

(20) تفسير كنز الدقائق، الميرزا محمد المشهدي،ج1ص5.

(21) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي، ج‏1 ص 258.

(22) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي، ج‏1 ص 258.

(23) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج‏2، ص 702.

(24) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج‏2 ص 399.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا