الخطاب الديني بين التجديد والتبديد

الخطاب الديني بين التجديد والتبديد

يحلو للبعض استخدام كلّ ما هو جديد من ملبس وهاتف وما شاكل، وإذا ما دخل في مكان قد دخل فيه لأول مرّة -كالقطار مثلا- فإنّه يشغل نفسه بتكشّف الأشياء التي فيه، وينبهر بها أيّما انبهار، وكأنّ الدنيا لا يوجد فيها إلا ما هو فيه من أدوات وألوان وما شاكل... هذا أمر معتاد يراه الجميع عندما يسافرون إلى أيّ مكان أو أيّ فندق ينزلون فيه عند السفر.

وهذا بعينه للأسف موجود في عالم الفكر حيث ينبغي أن يعـيش المفكّـرون -كما يدّعون- حالة الاستقلالية في التفكير وعدم التقليد الأعمى وعدم الانصياع والاتباع لأفكار الآخرين وترديدها في المحافل بعد حفظها.. إلا أنّ الواقع ترى فيه أنّ بعضهم لا همّ له إلا اجترار([1]) ما يردّده الآخرون فيتقبّله قبول المسلّمات ليخرجه إذا ما دعت الحاجة إليه، هذا بغمض النظر عن وعايته لما يردد أو رغبته في مجارات ما انبهر به من فكر!

ومفردة التجديد للخطاب الديني من هذه المفردات التي يحلو للبعض تكرارها بعد أن يخترع لها معنى يتناسب مع خلفياته وأهدافه من دون لحاظ معناها الذي أنشأت من أجله.

لفت نظر:

لا بد من التفريق بين تجديد الدين، وتجديد الفكر الديني، وتجديد الخطاب الديني. وحديثنا عن المفردة الثالثة، وهذه المفردة قد يؤصَّل لها بما هو متقبّل عن الرسول| من أنّ في كلّ مائة عام يوجد مجدّدٌ، ولكن هنا يبدأ التباين فمنهم من يرى هذا المجدد أنّه يبرز ما كان خفيّاً لم يستخدم من الدين من خطابه فيبقى جديداً فعندما يبرزه يكون مجدّداً وأنّ ما جاء به كان أمراً جديداً. ومنهم من يرى أنّ هذا المجدّد يعيد ما بلي وقدِم جديداً يخرجه إلى المسلمين. ومنهم من يرى أنّ المجدد يعني أنّه مبتكر لما لم يلتفت إليه السابقون فيبرز الجديد في قبال القديم الذي عندهم ليواكب العصر فيصف خطابه بالتجديد.

ولم أجد لهذه الفكرة مستنداً عن الشرع سوى ما ورد من طرق العامّة -وهو صحيح عندهم- عن أبي داوود رفعه إلى النبي|: >إنَّ الله تعالى يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنةٍ من يجدِّد لها دينها<([2]) وهذا يعتبر من أهمّ ما يعتمد عليه في هذا المجال وصار يستعمله الكثير من المسلمين، فيحمّل الحديث ما لا يحتمل وكأنّ المستدلّين لا يرون منه سوى كلمة >يجدد

والحال أنّ معنى الحديث -كما ذكر غير واحد- أنّه يعني أنّ الناس يميلون عن الدين بين الحين والآخر فينحرفون ويضعف تديّنهم، فيمنّ الله عليهم بأن يبعث فيهم من يجدد لهم دينهم؛ أي يرجعهم إلى حالة التديّن الموجودة عندهم بنفي البدع ورد الشبهات ودحضها، فيتجدد الدين الذي يحملونه برجوعهم إليه، فالتجديد هو للأمّة وليس للدين.

ونفس الكلام ينجرّ على التجديد الديني بالتفصيل المتقدّم، فينتج أنّ التجديد له يكون بتجديد علاقة الناس مع الدين من دون تغيير في الدين أو أنّ التجديد له قد يكون بجلب ما لم يكن موجوداً فيه أو إبراز ما لم يُلتفت إليه فيه.

ففي الحالات هذه توجد بعض المعاني التي يمكن قبولها وبضوابط محدّدة وبعضها لا يمكن أن تُقبل بحال.. وهذه السعة يستغلّها دعاة التجديد في الخطاب الديني فإذا ما حوصروا فإنّهم يروّجون المعنى الذي يمكن أن يقبل لكنّهم في واقعهم العملي يطبّقون تجديدهم بالمعنى الذي لا يمكن قبوله. فتضيع الحقيقة التي يدّعون الرغبة في الوصول إليها.

هل هم مجّددون فعلاً؟!

من يرغب في التجديد ويروّج إليه هل هو راغبٌ فعلاً في أن يعطي ما هو جديد في الدين بالمعنى الإيجابي؟! أم أنّه سوف ينقل ما يروّجه الغرب -أصحاب الحضارة الصناعية والتكنولوجية- ويأخذ منهم تقييم واقعهم قبل عشرات السنين ويطبّقه على واقعه! فيأخذون كلّ ما قيل عن الخطاب الديني وتجديده في العالم الغربي حيث كانت سيطرة الكنسية وما جرّت من ويلات ويطبّقونه على الخطاب الديني الإسلامي!! فأين هذا من ذاك!!!

وإليك ما قاله أحد الكتّاب في هذا الشأن: "نحن الذين درسنا في الجامعة... الحديثة، ودرسنا المناهج الحديثة ننظر إلى سياقنا التاريخي والتراثي حتى اللحظة الراهنة بمخرجات علم الاجتماع التي كانت نتاج دراسة واقع معيّن" يختلف عن واقعنا في الزمان والشخوص والمكان.. وهذا بعينه يجري في ما نحن فيه فيُسقط مفهوم الخطاب الديني الناتج من الكنيسة الكاثوليكيّة وغيرها على الخطاب الديني الإسلامي... أليست هذه مفارقة وتجنٍ كبير؟!

وقد اختصر بعض الشعراء هذا في قوله: "إنَّ جديدهم هو قديم أوربا".

لا حاجة لمفردة التجديد:

يطرح البعض هذا العنوان في الخطاب الديني الإسلامي ويطلب منه أن يغيّب الأحكام أو يغيّرها كي يكون هذا الخطاب مقبولاً للآخر ومرْضياً، ولا يكون وسيلة تنفير للآخرين... وهذا المعنى لا يمكن قبوله بحال؛ فهو يؤدّي إلى تبديد الخطاب الديني حيث يجعله لا يعكس الدين ومفاهيمه كما هو المطلوب منه. كما يجعله يتحدّث على وفق ما يشتهيه المتحدّث-فإن رضي عن المخاطبين ذكّرهم بالجنّة ورحمة الله الواسعة وإن غضب منهم خاطبهم بآيات العذاب وغضب الله الذي لا يُطفأ- أو ما يشتهيه من رقبة المتحدّث بيده فيتحدّث بما يخدم مخططاته ويساهم في تخدير الناس كي لا يعترضوا على ما يحاك ضدّهم مثلا.

ويطرح الآخرون هذا العنوان في الخطاب الديني ويطلب منه استخدام ما هو حديث في مخاطبة الآخرين عبر الأمثلة والوسائل الحديثة، فهذا لا يصحّ وصفه بأنّه تجديد للخطاب الديني بل هو تجديد في وسائل التخاطب؛ إذ الخطاب الديني ليس كما يتصوّره الكثير الذي هو بمعنى التخاطب بل هو شامل حتى للمواقف المتّخذة من المسلمين وسلوكياتهم فهو خطاب يخاطبون به الآخرين، لكن لو اقتصرنا على المعنى الذي تنصرف إليه أذهان الكثير فإنّ الخطاب في وسائله متجدد، ولك أن تشاهد وسائل التواصل الاجتماعي فإنّك ستجد الخطاب مواكباً لها ويوجد من يخاطب الناس بالأساليب الحديثة –وإن دعت الحاجة إلى الزيادة كماً وكيفاً- وحينئذٍ لا حاجة لمفردة التجديد كي لا يدخل من لا شأن له بالخطاب الديني ليطرح نفسه مجدداً.

وأن يوجد فردٌ يخاطب جماعة في خطبة جمعة أو غيرها فهذا ليس أسلوباً متراجعاً كي يدعى للتملّص والتخلّص منه؛ ففي أيّ خطاب لا بد من أن يتحدّث فرد للجماعة، نعم لا ينبغي الاقتصار عليه لكنّه ليس أسلوباً تقليدياً غير مؤثّر كما يروَّج!

أما الدين فبعد الفراغ عن شموليته لكلّ مناحي الحياة فهو جديد متجدّد، وما على أهل الاختصاص إلا أن يستخرجوا دفائن العلوم التي فيه، وحتى أساليب فهم النص فهي عند الفقهاء متجددة عند الفريقين، وأما نفس النصوص (القرآن والسنّة) فلا مجال لتجديدها بالمعنى السلبي إلا ممن صدرت عنه.

المتصدّي للخطاب الديني:

بناء على ما تقدّم فإنّ الخطاب الديني الإسلامي لا ينبغي تقييمه بناء على ما أنتجه الغرب من تقييم للخطابات الدينية في بلادهم، وأنّ الخطاب الديني بمعناه السلبي مرفوض لأنّه يؤدّي إلى التبديد لا التجديد، وأما الخطاب الديني بمعناه الإيجابي فموجود فلا حاجة لما يروّج من طلبات في تجديد الخطاب الديني الإسلامي وأنّه خطاب متخلّف.

نعم، الخطباء الدينيون هم على أصناف:

منهم من هو مواكب للعلوم مؤهّلٌ، يحترم عقله وعقول الآخرين، ولا يفصل الدين عن واقعه، ويسعى لطرح المنظومة المتكاملة للدين بوجهها الناصع بعد أن أتعب نفسه في مراجعة الدين من مصادره المعتبرة.

وصنفٌ آخر من الخطباء هم غير المؤهلين الذين يتحدّثون بلا حدود([3]) ويحسبون أنّهم يعرفون الدين أكثر من علمائه، وإذا ما اعترض عليهم بشيء استنكروا ذلك بأنّ المعترض جاهل أو أنه يطعن في شمولية الإسلام.. نعم نسلّم بشمولية الإسلام لكلّ مجالات الحياة لكنّ هذا لا يعني شموليتك أيها الخطيب غير المؤهل لكلّ مجالات الحياة، ولذا إذا ما دعت الحاجة من الخطيب أن يعالج قضايا ذات أبعاد مختلفة فلا بد من الاستعانة بتلك العلوم التي تمسّها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] هو من الجِرَّة: وهو ما يفيض به البعير من كرشه فيأكله ثانية. تاج العروس، الزبيدي، ج6، ص180، مادّة (جَرَرَ).

[2] سنن أبي داوود، حديث رقم4291، المستدرك، للحاكم النيسابوري، ج4، ص522، هنا يرويه عن أبي هريرة.

[3] أما من يتحدّث بحدود أهليّته فهو مؤهّل بمقدار معين وملتزم بما تأهل له.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا