الحكومة الإسلامية.. شكلها، وأدوارها المختلفة

الحكومة الإسلامية.. شكلها، وأدوارها المختلفة

مقدمة: الإسلام دين ودولة

يتطاول البعض بين آونة وأخرى فيدعي دعوىً لا دليل عليها، بل الدليل قائم على عكسها؛ بأنَّ الإسلام ليس له علاقة بالسِّياسة، وأنَّ مهمتَه تنحصر في كونِه علاقة بين العبد وربه ويقتصر دوره هذا على الجانب العبادي فقط، أمَّا شؤون السِّياسة والاقتصاد والمجتمع فهي ليست من مهماته، ولا من شؤونه.

غريب أن يصدرَ هذا الكلامُ من أفواه أناسٍ يدَّعون الإسلام ديناً، ولكنَّه ليس بغريبٍ أن يصدر من أوساطٍ غربية وشرقية لا صلة لها بالإسلام؛ ذلك لأنَّ هذه الأوساط تقيسُ الإسلام بما لديها من الأديان وتحكم عليه بما تحكم على ما تعتنقه من عقائد تهتمُّ بعلاقة الإنسان بربِّه دون اهتمامٍ بشؤونه الأخرى تحت  شعار (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر).

إنَّ الإسلام الذي ندينُ به ونتمسَّكُ بتعاليمه هو ذلك الدِّينُ الذي جاء ليغيِّر المجتمع البشري كافَّة، ويصبُّه في قالبٍ خاص، وفق أهداف الإسلام وغايته بصورة مترابطة ومتناسقة؛ لا فرق في سياسته واقتصاده واجتماعه عن شؤون الفرد في صلاته وصيامه، ويضمها قاسمٌ مشترك هو الطاعة والامتثال الخالص والطواعية المطلقة لأمر الله.

ولم يكن الإسلام في يومٍ ما نظريةً غيرَ قابلةٍ للتَّطبيق، بل أنَّ العقيدة الإسلامية ظهرت على مسرح الحياة العامة العملية وتمثلها أجيال عديدة من أبناء الإسلام، وأقام دولةً كانت من أعظم أمم العالم آنذاك شأناً وعلماً وقوة على أساس من العقيدة الإسلامية والدعوة إلى الإسلام، وكان عنصر الجِّهاد المقدَّس الذي هو جزءٌ من الأمور العبادية في الإسلام دافعاً قوياً وعاملاً مؤثراً في قيام الدولة الإسلامية الكبرى؛ فكانت الجيوشُ الإسلامية الزاحفة شرقاً وغرباً تهتف باسم الله، وتحت شعار التَّوحيد تنشر المبادئ والتعاليم الإسلامية وتحرِّر الأراضي والأمم من عبوديات الإمبراطوريات الدكتاتورية المستبدِّة؛ لتقيم حكم الإسلام؛ حكم العدالة والإنصاف. وبذلك يظهرُ أنَّ دعوى تجرُّد الإسلام من السِّياسة وبعده عنها، دعوى فارغة لا أساس لها من الصحة، وسيظهر ذلك جلياً في ثنايا البحث.

إنَّ هذا البحث يتناول النَّظام السِّياسي في الإسلام، لكنْ هذا العنوان واسع وشامل؛ إذ يمكن أن يندرج تحته شؤون القضاء وإقامة الحدود وأبواب الجهاد، غير أنَّ البحث سيتركَّز حول شكلِ الحكومة الإسلامية وأدوارها المختلفة، وقبل الدُّخول في هذه النُّقطة لا بدَّ من التَّعرُّض إلى مقوِّمات الدَّولة الإسلامية، ومدى توافرها على المسرح الإسلامي.

مقومات الدولة الإسلامية:

إنَّه لا بدَّ لكلِّ دولة من أن تقوم على أساس ثابت وركن منيع، وإنَّ الأساسَ المتين لقيام الدولة يتمثَّل في أن يكون لهذه الدولة مبدأٌ شامل صحيح، مبدأ يتعرَّض للإنسان وللمجتمع وللحياة ويسنُّ القوانين الكافية لتنظيم الفرد والدولة والمجتمع، والإسلام هو ذلك المبدأ الذي يقدر فلسفة الحياة والإنسان والمجتمع، ويسنُّ القوانين الكافية لتنظيم الفرد والدولة والمجتمع، وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها والتغاضي عنها، ففي الإسلام كلُّ ما فيه سعادة الإنسان في الدنيا وتنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية، وإدارة شؤونه السِّياسية مع إيمانه بالحياة الأخرى والتي تفرض عليه أن يعمل في هذه الحياة العمل الصالح لينال الجزاء والثواب في الآخرة، والمتفحِّص لتعاليم الإسلام وشرائعه يجد ارتباطاً وثيقاً بين تعاليمه المختلفة، "فالدين الإسلامي كلٌ لا يتجزأ؛ عباداته ومعاملاته شرائعه وتوجيهاته، والشَّعائر التعبدية ليست منفصلة في طبيعتها وأهدافها عن النُّظم والمعاملات"، و"على أنَّ الإسلام لا يعد العبادة فيه هي مجرَّد إقامة الشعائر، إنَّما هي الحياة كلها خاضعة لشريعة الله متوجهاً بكلِّ نشاطٍ فيها إلى الله"، فأتباع هذا الدِّين لا يكونون مسلمين حقاً وهم لا يحكمون في نظامهم الاجتماعي والقانوني والمالي، ولن يكون مجتمعهم إسلامياً وأحكام الإسلام وشرائعه منفية في قوانينهم ونظمهم وليس لهم من الإسلام إلا شعائر وعبادات، فالإسلام هو العبودية لله وحده أفراده بخصائص الإلوهية وفي أولها الحاكمية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(سورة النساء: 65)، {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}(سورة المائدة 44)، والدِّين الإسلامي بالإضافة إلى كونه مبدأً يقرِّر فلسفة الحياة والإنسان والمجتمع فهو "شامل يسع الإنسان كلَّه عقله وجسمه وروحه، ويحكم جميع علاقاته واتصالاته وإرادته، ويشمل حتى ساعات الفراغ ونبضات الضمير، ويفصل بين الهواجس والأهواء، ويحدِّد موقف الفرد والدولة والمجتمع من كلِّ حقيقة وتصور"، وذلك واضح وجلي لمن خبر دراسة التشريع الإسلامي بمختلف أبوابه فيجد أنَّه لم يترك مسألة إلا وأوجد لها الحل المناسب، ولا مشكلة من مشاكل الإنسان إلا وأوجد لها العلاج الناجح، فتجد الترابط قائم بين ما يخص الأمور العبادية بشؤون المعاملات المرتبطة بين الإنسان ومجتمعه قائمة على أساس نزاهة الضمير من كل شوائب الحقد والضغينة والنفاق.

الركيزة الأولى: وجود المبدأ الشامل الصحيح

ولأجل أن يسير المجتمع سيراً صحيحاً سليماً وفق نظرية الإسلام أوجد نظاماً يشرف على تطبيقه وتمثله بين النَّاس وهو الذي يمكن أن نطلق عليه (النظام السِّياسي)، وهو كما قلنا سابقاً ليس منفصلاً في حقيقته وجوهره عن صميم هذا الدين وهو الحاكمية لله، ويتمثَّل الجانب السِّياسي في الإسلام في أحكام القضاء وفصل الخصومات بين النَّاس حيث أوجد الإسلام تعاليمه الخاصة بهذا الشأن في اختيار القاضي وما يعتبر فيه من الشروط التي تضمن سلامة الحكم وعدالته، وكذلك في أحكام الحدود والقصاص والديات وهي العقوبات التي شرعها الإسلام لمختلف حالات الخروج عن النظام العام، والآداب المرعية بأحكام الإسلام وقوانينه صيانة لحقوق الناس وضماناً للأمن والاستقرار وحفظ النظام، ثمَّ بالتالي تحديد الإسلام للشخصية التي يجب أن تتولَّى الحكم وما يعتبر فيها من الشُّروط والمخيرات التي لها أبلغ الأثر في تطبيق النِّظام والقانون بين جميع أفراد الرعية.

تلك خلاصة للركيزة الأولى التي ينبغي أن تقوم عليها الدولة، وهي وجود المبدأ الشامل الصحيح.

الركيزة الثانية: وجود القيادة، امتداد لحاكمية الله

إنَّ الركيزة الثانية والمهمة هي وجود القيادة المحدودة الحُكمية المنتزعة من صميم المبدأ، وهي ركيزة مهمَّة أيضاً لضمان تطبيق ذلك المبدأ ولكي لا يبقى مجرَّد نظرية في عالم الخيال، بل لا بدَّ من تطبيقها وتمثيلها في عالم الواقع العملي، فالقيادة هي السُّلطة المسيطرة على جماعة من النَّاس قلَّت أو كثرت لتنظيم شؤونها المشتركة بمختلف الأساليب والطاقات بوعي من مبدأ معين، وهذه السُّلطة ينبغي أن تكون محدودة، فليس لكلِّ إنسان محاولة اكتسابها، بل هي لأناس مخصوصين وليس لأحد مهما بلغ انتزاعها عنهم ولا مشاركتهم فيها إذا كانوا معصومين، أمَّا غير المعصومين من يتولى القيادة بعد فقدانهم فهي تنحصر أيضاً في أفراد توفرَّت فيهم مؤهلات معينة ليس لأي إنسان الاستبداد بها لمجرد السيطرة الثورية، بل لا بدَّ أن يتدرَّج في مؤهلات خاصَّة حتى يستوفيها فيبلغ مستوى القيادة بشروط خاصة.

وعليه فتكون مسألة قيادة الأمَّة ليست مسألة انتخاب أو نسب أو ثورة عسكرية، بل هي امتداد لحاكمية الله؛ فإنَّ طبيعة الإسلام هي الطاعة والإيمان؛ لأنَّه دين نزل من السماء بلا إرادة من الإنسان، بل تلبية للمصلحة العليا، كما إنَّ واضع هذا الدِّين خلق الإنسان بلا إرادة منه، وإنما لمصلحته العليا، فالإسلام ليس نتاج رأي الإنسان، بل جاء لتحديد رأي الإنسان، وجدير بمثل هذا الدين أن تكون قيادته أيضاً معينة من قبل السماء لا منتخبة من عند النَّاس؛ لأنَّ اللهَ الذي خلق الإنسان وأرسى نظامه لا بدَّ أن يعين قادته الذين ينفذون دينه في خلقه كما يشاء، لا أن يترك قيادة خلقه لمن يختارونه أو ترشحه الظروف كيفما كانوا أو شاءت، فليس لأحدٍ حقُّ السَّيطرة على أحد، فالنَّاس جميعاً عباد الله الذين خلقهم ليعرفوه وليعبدوه بمدلول الآية الكريمة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}( سورة الذاريات 56)، كان لله تعالى وحده التصرف في العباد، وفرض إرادته الحكمية عليهم، فله القيادة المطلقة بحق، ولكنَّه خوَّل هذه الصلاحية القيادية للنبي الأكرم(e) ليكون قائداً بشرياً في النَّاس؛ حتى يتوفَّر لهم التَّفاعل معه والاطمئنان إليه، فصرَّح القرآن الحكيم قائلاً {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول}(سورة آل عمران 32، 132) ثمَّ أكَّد {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}( سورة الأحزاب 6) وبعد أن فارق النبي الحياة انتقلت قيادة الأمَّة إلى الأئمة المعصومين(g) الذين قاموا بخلافة الله والرسول في الأرض {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}( سورة النساء 59)، وبعد أن توارى المعصومون(i) عن التَّفاعل المباشر مع النَّاس استنابوا عنهم في قيادة الأمة العلماء الجامعين لشرائط المرجعية، وصدرت عنهم التصريحات المتواترة معنىً؛ لتثبيت هذه القيادة النيابية من نوع الأحاديث القائلة بأن >مجاري الأمور بيد العلماء بالله، الأمناء على دينه"([3])، وغير ذلك من الأحاديث التي سنتعرض لها حين يأتي دور البحث عن ولاية الفقيه.

وهكذا نجد أنَّ الحكم الإسلامي منبعث من صميم المبدأ الذي يقوم عليه؛ وهو الحاكمية لله)؛ وهو ذلك المبدأ النابع من حاجة الإنسان إلى نظام، ومن الواضح أنَّه ليس كل نظام يملك إشباعاً لحاجة الإنسان هذه، بل هناك فقط -وهذه حقيقة نطق بها تأريخ الإنسان- نظام واحد يملك تلك الصِّفات؛ إنَّه النِّظام الذي يحمل معه ضمان تنفيذه، أي أنَّه النِّظام الذي يلتزمه الإنسان.

أفضلية النِّظام الإسلامي تتجلى في ارتباطه بالفطرة:

المسألة إذاً مسألة التزام، والدِّين هو أروع صور الالتزام؛ لأنَّه التزامٌ فطري لا حرج فيه، وكلُّ التزام غير فطري لن يؤدِّي الفرض الأساسي، وبالتالي لن يشبع نزعة الإنسان إلى تبنِّي النِّظام، فالقوانين الوضعية التي تذعن لها الأمَّة إنما هي في واقعها التزام بين السُّلطة التي شرَّعتها والأمَّة التي خضعت لها، ولكنَّه التزام ليس فيه خيار التزام من خارج الإنسان ولا في داخله، التزام لن ينفع الإنسان في روحه وعقيدته، ولذلك كان هذا الالتزام التزاما غير فطري؛ لأنَّ مثل هذا الالتزام من توابع الربوبية أو العبودية للسُّلطة، والحاكم، والمشروع الذي هو من جنس الملتزم ومن نوعه، ولا يختلف عنه أبداً إلا في الصلاحيات الوظيفية التي خوَّل نفسَه بها، أو خولته على أقل تقدير جماعته المسيطرة، أو جهاز كفاحِه القديم الذي استولى على زمام السلطة كالحزب مثلاً.

وكان هذا الالتزام التزام الشكل لا الروح، والتزام المظهر لا الجوهر، التزاماً فاسداً؛ لأنَّه التزام غير فطري؛ أي أنَّه ليس من توابع الربوبية والعبودية الحقَّة، بل هو من توابع الربوبية والعبودية الإنسانية التي يتساوى فيها في حساب الفطرة والتكوين العبد والعابد، والرب والمربوب، والواهب والموهوب له، ولذا تراها ربوبية (هيكل) أو (إطار)، لا ربوبية (روح) سرعان ما يتحين المربوب -أو في أية فرصة تمكنه- من الانتفاضة منها والانقضاض عليها؛ ليعود إلى طبيعته وفطرته حراً من عبودية (الأغيار) كما ولدتُه أمُّه حراً تجاههم "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"([4])، و"لا تكن عبداً لغيرك، وقد جعلك الله حراً"([5])، أمَّا التزام الروح والجوهر أي الالتزام الفطري الصَّحيح فهو وحده الالتزام الذي يقف على أرضية فكرية صلبة من (الإيمان في الداخل) وضمانه، وهو وحده الذي يتضمنه (الدين) ويعمل له، وهذا الالتزام لا يملكه الجهاز الحاكم والسُّلطة الحاكمة، بل يملكه خالق الكون وباريه، ومن في قبضته الكون وما فيه؛ وهو الله وحده ويضمنه مفهوم الدين، فالسلطان المطلق لله سبحانه وتعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(سويف:40) فهذا النَّص يقرِّر الحاكمية لله، وأنَّ السَّعادة والهيمنة دائماً للمبدأ، كما وأنَّ النَّظام القانوني في الدَّولة والمتمثل في نظريتها الحكومية وأهدافها الدولية والإنسانية من الدِّين، فالله هو الحاكم الحقيقي في الدولة، وأنَّ مظهر هذا الحكم في اعتبار السُّلطة التشريعية هي مصادر الشَّريعة الأساسية من كتاب وسنة.

ومن الواضح أنَّ هذه القيادة طبيعية منبثقة من فلسفة الحياة ومنحدرة من خالق الكون والإنسان، الذي هو أجدر بكلِّ شيءٍ وأحق، وأعلم بكلِّ شؤون الحياة والإنسان، كما أنَّها منتزعة من صميم الإسلام والواقع الفكري والذاتي للأمَّة، كما أنَّها دينية حميمة يكون رباطها الأوسع والأقوى دين فكري؛ يمثل إرادة السماء، وذلك للانسجام الكامل الدقيق بين حقيقة القيادة وواقع الأمَّة والإسلام، وأهدافهما واتجاههما وأساليبهما الذي يتجسد أروع ما يكون في النبوة ثم في الإمامة ثم في الاجتهاد المطلق أو الأعلمية في الفقه الإسلامي المنتزع من صميم أعماق الواقع والأمة.

ولأجل أن تتضح الصورة أكثر جلاءً، لا بدَّ من استعراض لحكومات النبي(e) وخلفائه المعصومين، ومن بعدهم دور العلماء الدينيين في قيادة الأمَّة وتوجيهها.

أولا: حكومة النبي(e):

من المعروف أنَّ النبي(e) لم يتمكن من إقامة دولة -بادئ الأمر- في مكَّة؛ لكونها قلعة الكفر وحصنه المنيع، ولقلة أنصاره، ولذا اقتصر دوره على الدعوة السِّرية لمبادئ الدين الحنيف، ولما كثر إيذاء المشركين له، بعد أكثر من عشر سنوات من الاضطهاد والاستهزاء والسخرية، الذي قابل به مشركي قريش النبي قرار الهجرة إلى المدينة، حيث آمن به وبدعوته رهط كبير من أبنائها، وتكون منهم ومن المهاجرين المجتمع الإسلامي الأوَّل، الذي أصبح النبي(e) -بحكم مركزه الروحي- قائداً له، ورئيساً تدين له الجماعة المسلمة بالولاء والاحترام، باعتباره النبي والقائد المبلِّغ عن الله، والذي يجب إتباعه بنص القرآن الذي يؤمنون به {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء:65)، وقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، وبحكم هذه الطاعة والانقياد من هؤلاء المسلمين باشر النَّبي جميع السلطات التي يمارسها رجل الدولة؛ فكان هو القائد الأعلى في الحرب، وهو المرجع الأعلى في التشريع، وأخذ بإرسال الرسل إلى القبائل العربية يدعوها إلى الإسلام، كما أرسل الرسائل إلى ملوك العالم يدعوهم فيها إلى إتباع الإسلام، كما وباشر عقد الاتفاقيات والمعاهدات التي تمارسها السلطات التنفيذية في الدول عادة، كما أرسل القضاة إلى مختلف المناطق التي دخلها الإسلام كاليمن، والسيرة النبوية شاهد -لمن استعرضها- على أنَّ الإسلام لم يكن له شأن ولم تكن له هيبة في نفوس الدول إلا يوم كانت له الدولة، ممَّا يدلُّ دلالة واضحة على أنَّ الإسلام لم يكن ديناً كهنوتياً يهتم بأمور النَّاس العبادية الخالصة، بل أن الإسلام يشملها، بالإضافة إلى أنَّه نظام صالح للحكم والقيادة.

ثانيا: حكومة الأئمة(i):

أمَّا بالنسبة لحكومة الأئمة من بعده(e)، فإنَّ موضوع الإمامة هو أهم موضوع عالجه الفكر السِّياسي في الإسلام، ويعتبر الركيزة الأولى في السياسة الإسلامية، فقد اتفق المسلمون عامة على وجوبها، كما قد تضافرت الأخبار على ضرورتها، فقد أثر عن النبي(e) أنَّه قال: >من مات وليس  في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية<([6])، وهكذا فلقد أجمع المسلمون منذ فجر تأريخهم على ضرورة الإمام، وأنَّها من الواجبات التي لا تستقيم الحياة الإسلامية بدونها.

فالإمامة قاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصوله؛ لأنَّ الشريعة الإسلامية مجموعة من الأحكام والقواعد؛ ففيها الحدود والعقوبات، وفيها الحكم بما أنزل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها الجهاد في سبيل الله والذب عن حياض الدين، وغير ذلك من الأحكام التي لا يمكن للفرد أن يقبلها من دون إمام يتولى تنفيذها؛ فإنَّ المسلمين لا بدَّ لوجودهم السِّياسي والديني من إمام يسوس أمرهم، ويعالج قضاياهم على ضوء كتاب الله وسنة نبيه، ويسير فيهم بسيرةٍ قوامها العدلُ الخالص والحقُّ المحض.

فالإمامة ضرورة من ضروريات الحياة الإسلامية؛ لا يمكن الاستغناء عنها، فبها تتحقَّق العدالة الكبرى التي ينشرها الله في الأرض، ومن أهم الأمور الدَّاعية لها إيصال النَّاس إلى معرفة الله وطاعته، وتغذية المجتمع بروح الإيمان والتَّقوى، وإبعاده عن نوازع الشر والغرور.

أهمُّ الوظائف التي يجب على الإمام القيام بها:

وأناط الإسلام بالإمام جميع المسئوليات الضخمة؛ فأوجب عليه السهر على مصالح المسلمين، ورعاية شئونهم، والعمل على تطوير حياتهم، وإبعادهم عن جميع عوامل الانحطاط والتأخر، وقد ذكر المعنيون بهذه البحوث بعض الواجبات المهمة التي يجب عليه القيام بها، وهي:

1- حفظ الدِّين الإسلامي، وحراسة الإسلام وصيانته من المستهترين بالقيم والأخلاق.

2- حماية بيضة الإسلام والذب عن الحُرم؛ ليتصرف الناس في معايشهم، وينتشروا في أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم.

3- تحصين الثغور بالعدد ووفوره؛ حتى لا يظفر العدو بثغرة، فيهتك فيها محرم أو يسفك فيها دم مسلم أو معاهد.

4- جهاد الكفرة المعاندين للإسلام، حتى يُسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين قياماً بحق الله بظهور دينه على الدين كله.

5- تنفيذ الأحكام وقطع الخصومات؛ حتى لا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.

6- إقامة الحدود؛ لتتوقى المحارم وتصان الأنفس والأموال.

7- اختيار الأمناء والأكفاء وتقليد الولايات للثقات النصحاء؛ لتضبط الأعمال بالكفاءة وتحفظ الأموال بالأمناء.

8- جباية أموال الفيء والصدقات والخراج على ما أوجبه الشرع نصاً أو اجتهاداً من غير حيف ولا عسف.

9- تقدير العطاء وما يستحقه كل واحد في بيت المال، من غير سرف ولا تقتير، ودفعه إليهم في وقت معلوم لا تأخير فيه ولا تقديم.

10ـ  مشارفة الأمور العامَّة بنفسه غير معتمد على ولاته وعماله؛ فقد يخون الأمين ويغش النَّاصح، ومن يمعن النَّظر فيما أثر عن الإمام أمير المؤمنين(g) يرى أنَّ واجبات الإمام(g) أشمل من ذلك؛ فإنها تمتد إلى إقامة صروح الأخلاق والفضيلة، وبناء مجتمع يعيش في ظلال العدل والحق، وتستأصل فيه صور الانتهازية والوصولية وبذور البغي والفساد.

من هذا يظهر اهتمام التشريع الإسلامي بأمور السياسة وإعطاؤها الأولوية، وأنَّها من القضايا التي لا يمكن للمسلمين التفريط فيها، بل أنَّها قوام الدين؛ فبواسطة القيادة الإسلامية الصحيحة السليمة يمكن نشر كلمة الله وتعاليمه ونشر أخلاق الدين وتطبيقها في المجتمع وطبعه بطابع الإسلام في كافة شؤونه ومجالاته المختلفة، وبما أنَّ الإمام أو القائد هو الرقيب على هذه الأمة وهو الحافظ للشريعة وهو المسئول عن تطبيقها فقد اعتبر الباحثون في من يتولى منصب الإمامة شروطاً يجب توافرها فيه ضماناً للحكم العادل، فلا بدَّ أن تتوفَّر في الإمام جميع النَّزعات الخيرة والصفات الرفيعة والمثل الكريمة من العلم والتقوى وسماحة الرأي وأصالة التفكير والدراية التامة بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها، وتعتقد الشيعة أنَّ الإمام يجب أن يكون أفضل النَّاس في ملكاته وعبقرياته، وأنَّه لا بدَّ فيه من العصمة، وعصمة الإمام عند الشيعة قاعدة أساسية في الإمامة، وهي من المبادئ الأولية في كيانهم العقائدي وقد عرفها المتكلِّمون فقالوا: "إنَّها لطف من الله يفيضها على أكمل عباده وأفضلهم عنده وبها يمتنع من ارتكاب الآثام والجرائم عمداً وسهواً"، واستدلوا في إثبات هذا الرأي بأدلة عقلية ونقلية؛ فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33)، وكذلك الحديث الشريف المعروف بحديث الثقلين([7])، فإنَّه يدلُّ على العصمة بوضوح، حيث قرن فيه الرسول(ص) بين الكتاب وعترته، وكما أنَّ الكتاب العزيز معصوم من الخطأ والزلل فكذلك العترة، وإلا لما صحَّت المقارنة والمساواة بينهما.

وفي كلمة للأستاذ السيد محمد تقي الحكيم يفسِّر فيها فلسفة العصمة بقوله: "حينما يتعرض لمهمة الإمام وهي تطبيق ما جاء به النبي(e) من تعاليم وأحكام بلَّغها للمسلمين في ظرف زمني محدود لم يكن كافياً كي تستوعب الأمَّة هذه المفاهيم وتهضمها هضماً سليماً، فلذا كان من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق أن يكون القائم على تطبيقها شخصاً تتجسَّد فيه مبادئ فكرته تجسيداً مستوعباً لمختلف المجالات التي تكفلت الفكرة تقويمها من نفسه، ولا نريد في التجسد أكثر من أن يكون صاحبها خالياً من الأفكار العاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق التضحية والفناء من جهة أخرى، ومتى كان الإنسان بهذا المستوى استحال في حقه من وجهة نفسية أن يخرج على تعاليمها بحال، وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الإيمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها لم يكن بالطبع أميناً على تطبيقها مائة بالمائة؛ لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير واستثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل، وربما استجاب الرأي العام له تخفيضا لحدة الصراع في أعماقه بين ما حد من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشاً له متجاوباً مع نفسه من الرواسب، على أنَّ الناس كل الناس لا يكادون يختلفون إلا نادراً في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها، فالتشريع الذي يحرم الرشوة أو الربا، أو الاستئثار في شخص المسئول يمكن أن يأخذ مفعوله من نفوس الناس متى عرف الارتشاء أو المراباة أو الاستئثار في شخص المسئول عن تطبيقه ولو في آن ما أو احتمل فيه ذلك، وبما أنَّ الإسلام يعالج الإنسان علاجاً مستوعباً لمختلف جهاته داخلية وخارجية احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول، ثمَّ العصمة في الذي يتولى وظيفته من بعده وعلى هذا يتضح سر إصرار النبي(e) على تعيين أهل بيته الذين أعدهم لهذه المهمة إعداداً خاصاً بالإضافة إلى مواهبهم الإرادية للقيام بشؤونها".

دور الأئمة(i) في القيادة السياسية للأمة الإسلامية:

وكيف كان؛ فإنَّ الإمامية يعتقدون عصمة الأئمة الاثني عشر الذين اختارهم الرسول الأعظم للخلافة من بعده ونص عليهم، والأدلة على ذلك كثيرة، ليس هنا محل عرضها، بل المهم هو بيان دور الأئمة في مسرح الحكم، فمن الواضح أنَّ أي من الأئمة الاثني عشر لم يمارس الحكم الفعلي وقيادة الأمَّة من الناحية السياسية سوى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(h) في سنوات خلافته حيث مارس صلاحياته كإمام للمسلمين وقائد للأمة الإسلامية، وقد عرف المسلمون أثناء خلافته القصيرة برنامجه في الحكم والإدارة، واطلعوا على أساليبه في إدارة شؤون الرعية، وهي أساليب لا تختلف عن الأساليب التي اتبعها الرسول الأعظم(e) إلا انشغاله بالفتن التي نشبت في عهده منعت الأمة من الاستفادة من هذه التجربة الرائعة، وإن عهد الإمام لمالك الأشتر ليمثل سياسة الإمام في الحاكم، وما يجب أن يكون عليه أمام رعيته خير مثال لسياسة الإمام في الحكم، وقد تضمَّن هذا العهد بنوداً تهتم بشؤون سياسة الحاكم والدولة في مختلف المجالات.

أمَّا الإمام الحسن بن علي(g) فقد تولَّى الحكم والأمة الإسلامية تمرُّ بفترة عصيبة، وكان الخطر يهدد بانقسام الأمَّة الإسلامية من جراء الحروب المتطاحنة، التي شبَّ أوارها أصحاب السلطة ودعاة الأغراض، وقد اضطرَّ الإمام الحسن للتنازل عن الخلافة نظراً للظروف القاهرة التي أجبرته على اتخاذ مثل هذا القرار، والذي كان له آثاراً وأبعاداً خطيرة فيما بعد تمثلَّت في ثورة الإمام الحسين(g)، وموقفه المعروف من السلطات الحاكمة المنحرفة عن خط الدين.

وإزاء هذا الموقف الذي اختارته الأمَّة الإسلامية لها في تلك الفترة اختار الأئمة من أهل البيت الابتعاد عن مسرح المطالبة بالحكم، متبنين خطة تختلف عن الخطة السابقة التي انتهجها الأئمة الثلاثة من قبلهم؛ وهي المواجهة العسكرية، بل كانت خطتهم تتمثَّل في الابتعاد عن هؤلاء الحاكمين وإشعار الأمَّة بعدم شرعية حكمهم حتى يكون التغيير والانقلاب في نفس صفوف الأمَّة، إلا أنَّهم في موقفهم هذا لن يتخلوا عن إرشاد المسلمين وتوجيههم وإيجاد الطرق المشروعة في إدارة شؤونهم فقد كان يرجع إليهم الكثير من ولاة الأمر يستفسرون منهم عن الحكم الشرعي وما يجب عليهم عمله.

من ذلك الكتاب المطوَّل الذي أرسله الإمام الصادق(g) إلى عبدالله النجاشي، روى عن كتاب له يخبر فيه الإمام بتوليه منصب الولاية في الأهواز، ومما قال فيه: "اعلم سيدي ومولاي أني بليت بولاية الأهواز، فإن رأى سيدي أن يحد لي حدا ًويمثل لي مثالاَ استدل به على ما يقربني إلى الله! وإلى رسوله، ويلخص في كتابه ما يرى لي العمل به وفيما أبذله، وأين أضع زكاتي وفيمن أصرفها، وبمن آنس وإلى من أستريح، وبمن أثق وآمن وألجأ إليه في سري، فعسى أن يخلصني الله تعالى بهدايتك وولايتك؛ فإنك حجة الله على خلقه وأمينه في بلاده، ولازالت نعمته عليك"([8]).

وقد أجابه الإمام(g) بكتاب مطول، ذكر فيه ما يجب على الحاكم إتباعه في رعيته، ممَّا يعتبر بحق وثيقة مهمة ينبغي الرجوع إليها ودراستها دراسة مستوفية، ولولا خوف الإطالة لذكرت الكتاب بطوله لما فيه من النقاط المهمة، والتي تكشف لنا نظرة أهل البيت في الحكم، وأنَّه وسيلة لا غاية لذاته، بل وسيلة لنشر العدل وفرض الشريعة، ولكن أكتفي بذكر مقدمة الكتاب لعلها تسقط بعض الضوء على مضامينه الأخرى فقال(g): >حاطك الله بصنعه، ولطف بك بمنه، وكلاءك برعايته، فإنَّه ولي ذلك، أما بعد، فقد جاء إلي رسولك بكتابك فقرأته، وفهمت جميع ما ذكرته، وسألت عنه، وذكرت أنَّك بليت بولاية الأهواز فسرني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني من ذلك وما سرني إنشاء الله تعالى، فإما سروري فقلت: أن يغيث الله بك ملهوفاَ من أولياء آل محمد، ويعز بك دليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوى بك ضعيفهم، ويطفي بك نار المخالفين عنهم، وأمَّا الذي ساءني في ذلك؛ فإن أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بولي لنا فلا تشم رائحة حظيرة القدس، فإني ملخص جميع ما سألت عنه فإن أنت عملت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إنشاء الله تعالى..الخ<.

وكذلك فعل بقية الأئمة من أهل البيت؛ كالإمام موسى بن جعفر الكاظم والإمام الرضاg، فقد كانوا يقفون موقف الرقيب على تصرفات السلطات الحاكمة يبدون النصح والإرشاد ويحلون أعضل المشاكل التي تتعرض لها الدولة، والتأريخ خير شاهد على ذلك.

ثالثا: حكومة الفقهاء العدول:

هذا هو دور الأئمة الذين هم القادة الشرعيون للأمَّة بنصِّ الرسول الأعظمe، ولما آن لهذا الدور أن ينتهي ليبدأ الدور الآخر؛ دور العلماء الفقهاء الورعين لقيادة الأمة بتوقيع الإمام الثاني عشرg بقوله: >وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم..<([9]).

وكذلك الأحاديث المتواترة معنىً؛ كالأحاديث القائلة "مجارى الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على دينه"([10])، وأنَّ "العلماء خلفاء النبي(ص)"([11]) و"أنَّ العلماء حكام على الملوك، والملوك حكام على الناس"([12]) وتأكيد الإمام الصادقg: >ولكن ينظرون إلى رجل منكم؛ ممَّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما؛ فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا راد على الله، والراد علينا على حدِّ الشرك بالله([13]).

الفقهاء العدول يقومون مقام الأئمةiفي قيادة الأمة:

والكلام في الدليل على أنَّ الفقهاء يقومون مقام الأئمة في قيادة الأمة هو "أنَّ الحكومة ظاهرة اجتماعية، فرضتها حاجة المجتمع إلى الأمن وحفظ الحقوق وإشاعة العدالة، وأنَّ المجتمع الإسلامي ليس بدعاَ من المجتمعات البشرية في طبيعة ما يستلزمه تنظيم علاقاته؛ من تشريع نظام اجتماعي بغية تحقيق الأمن وحفظ الحقوق وإشاعة العدالة بين أفراده وقيام حكومة تقوم على تنفيذ ذلك النَّظام لتحقيق الغاية في تشريعه، ولو كان مجتمع المسلمين يختلف عنا في طبيعة حاجته إلى ذلك لكان النبي(ص) أو الإمامg أولى وألزم ببيان ذلك والتنبيه عليه، وحيث لم ينبهها على ذلك فهو إذن -مجتمع المسلمين- كبقية المجتمعات في لزوم قيام حكومة فيه".

فهذا الدليل التأريخي والاجتماعي، بالإضافة إلى النُّصوص السَّابقة تدلُّ على ضرورة قيام حكومة إسلامية، سواء كان ذلك في زمن الغيبة أو في زمن الحضور.

يقول السيد البروجردي: "إنَّ في الاجتماع أمور لا تكون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل تكون من الأمور العامة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام الاجتماع؛ مثل القضاء وولاية الغيب والقصر وبيان مصرف اللقطة والمجهول المالك وحفظ الإنتظامات الداخلية وسد الثغور والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء ونحو ذلك مما يرتبط بسياسة المدن، فليست هذه الأمور مما يتصدى لها كل أحد، بل تكون من وظائف قيّم الاجتماع، ومن بيده أزمة الأمور الاجتماعية، وعليه أعباء الرياسة والخلافة"([14]). 

والفقهاء يقومون بهذه المهمة على أساس النيابة العامة عن الإمامg يقول المحقق الكركي: "اتفق أصحابنا أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى ـ المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية ـ نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل"([15]).

فعلى هذا الأساس يثبت للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة المقدار الثابت للإمامg؛ من السلطة الدينية والسلطة الزمنية والولاية العامة لأمور النَّاس، والرياسة المطلقة والزعامة الشاملة فيما يخصُّ تدبير شؤون المسلمين العامة الداخلية والخارجية الدينية والدنيوية، وما يرجع لمصالحهم وما يتوقف عليه نظم البلاد وانتظام العباد ورفع الفساد بالنحو الذي هو ثابت للإمام.

وقد ذكر فقهائنا الوظائف التي يتولاها الفقيه نيابة عن الإمام زمن الغيبة، وكلها من الوظائف التي لا يمكن توليها إلا للرئيس والحاكم العام للمسلمين، فوجب أن يكون الحكم زمن الغيبة للفقيه العادل دون سواه من بقية الناس ممن لم يصل إلى هذه المرتبة.

وعليه فيكون النظام الإسلامي للحكم تنحصر إدارته بيد المعصومg في حضوره، وفي حالة غيابه يكون الأمر للفقهاء العدول نيابة عنه، ولم يكن مسألة ولاية الفقيه مسألة نظرية لا يمكن تطبيقها في الواقع، فقد حدثنا التأريخ أنَّ الحكومة الصفوية في إيران استدعت المحقق الشيخ عبدعلي العاملي الكركي وأسندت إليه شيخ الإسلام، فقام بهذا المنصب خير قيام، ذكر الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين في ترجمة هذا العالم الجليل نقلاً عن السيد نعمة الله الجزائري قال: "الشيخ علي بن عبد العالي -عطر الله مرقده- لما قدم أصفهان وقزوين في عصر السلطان العادل الشاه طهماسب -أنار الله برهانه- مكنه من الملك والسلطان، وقال له: أنت أحق بالملك؛ لأنك النائب عن الإمام g، وإنما أكون من عمالك أقوم بأوامرك ونواهيك"، وقال أيضاً:" ورأيت للشيخ أحكاماً ورسائل إلى الممالك الشاهية إلى عمالها أهل الاختيار فيها تتضمن قوانين العدل وكيفية سلوك العمال مع الرعية في أخذ الخراج وكميته ومقدار مدته"([16])، وكذلك الحال بالنسبة إلى الشيخ جعفر الكبير صاحب كشف الغطاء؛ حيث أعطى للسلطان فتح على شاه في أخذ ما يتوقف عليه تدبير المملكة من الحقوق الشرعية، والأخذ من الأموال للدفع عن بلاد الإسلام، كما أمر بوجوب طاعته وعدم مخالفته في الجهاد لأعداء الرحمن، وقد جعله نائباً عنه في إدارة شؤون مملكة إيران، وأوجب على الشعب الإيراني إطاعته في جهاد الأعداء، وأذن له في الزكاة والخراج في تدبير جنوده وعساكره، وإن لم تف أخذ من أموالهم بقدر ما يدفع به العدو عن أعراضهم ودمائهم.

السلطات الثلاث في النظام الإسلامي:

وهكذا يتضح أنَّ مهمة الفقيه العادل هو إدارة الدولة وتصريف أمورها تشريعاً وتنفيذاً، فالنِّظام الإسلامي لا يعرف الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ فكلها من وظائف الإمام واختصاصاته، وإن كان للفقيه أن ينيب عنه أو يأذن لغيره التصرف في ما يتعلق بالأمور التنفيذية إلا أنَّ شؤون القضاء والتَّشريع خاص به، حيث أنَّ وظيفة السلطة التشريعية تتلخص فيما يلي:

1. بيان الأحكام: وهي التي شرعت بنص خاص من الكتاب والسنة أو ثبتت بالضرورة من الدين أمثال وجوب الزكاة والخمس وتعيين مصارفها وإعداد القوة قدر المستطاع لإرهاب عدو الله، ونستطيع أن نصطلح عليها بالدستور.

2. وضع التعاليم: وهي الأحكام التي لم تشرع بنص خاص، وإنما أوكل أمر استنباطها إلى اجتهاد الفقهاء داخل إطار الأحكام الإسلامية العامة نظراً لتطورها، تبعاً لتغير الظروف والأحوال مثل وجوب التدريب العسكري في هذا العصر نظراً لتطور وسائله وأساليبه إلى ما يفرض ذلك من باب المقدمة للدفاع الواجب، ومثل تحديد مقدار ضريبة الخراج وما شاكل، ونستطيع أن نصطلح عليها بالنظام.

أما السلطة الثالثة، وهي السلطة التنفيذية، والتي تكون مهمتها القيام بتطبيق الدستور والأنظمة فتعود إلى الأمناء من أبناء الأمة ممن تتوفر فيهم إمكانيات القيام بمسؤولية التنفيذ وضماناته الشرعية كل في حقل اختصاصه.

خاتمة: النظام البرلماني ومدى انسجامه مع النظام الإسلامي

وفي الختام يحسن التعرض إلى النِّظام البرلماني ومدى انسجامه مع النِّظام الإسلامي، فمن الواضح أنَّ النِّظام الإسلامي السياسي يختلف عن النظام الديمقراطي الذي تكون فيه السلطة من الشعب ومن يختاره المواطنون، ولما كان مهمة المجالس البرلمانية هي تشريع القوانين والأنظمة، وتحديد اختصاص السلطات المختلفة في الدولة، وبحث مشاكل المواطنين باقتراح الحلول المناسبة، وكان ذلك مبايناً لما يراه النظام السياسي الإسلامي؛ حيث يحصر أمر التشريع بالفقهاء العدول دون سائر الناس لكونهم أعرف من غيرهم بأحكام الله وتعاليمه، ولكن كيف التوفيق بين هذين النظامين المتباينين، وهل أنَّه من الصِّحة أن يقف المسلم حقاً مكتوف اليد مذعناً للأمر الواقع، أم لا بدَّ له من التحرك ما دام ذلك ممكناً؟

الرؤية الشرعية في المشاركة في المجالس النيابية:

أستطيع القول بناءً على فتوى بعض الفقهاء بجواز الدخول في المجالس النيابية؛ لضرورة الإسهام والمشاركة فيها إذا كان التغيير ممكناً؛ وذلك باقتراح القوانين والأنظمة المأخوذة من روح الإسلام وتعاليمه، وليس غير المؤمنين العدول القادرين على تحمل هذه المسؤولية، فهم المدعوون الآن في هذا الظرف لتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم بخوض معركة الانتخابات والمشاركة فيها، كما أنَّ علينا مساندتهم، إذا كنَّا نريد لنا نظاماً ينسجم مع اعتقادنا ومبدأنا، إنَّ الواجب يحتم علينا ذلك، وإلا كنَّا نحن المسئولين عن انحراف البلاد قانونياً ودستورياً عن الإسلام.

والغاية من هذا البحث هو بيان ما للإسلام من نظرية في الحكم والسياسة، ورداً على مزاعم القائلين بأنَّ الإسلام لا صلة له بشؤون الدولة والسياسة العامة. وأكتفي بهذا القدر من هذا البحث الذي هو جزء من موضوع كبير.

مصادر البحث([17]):

1ـ كلمة الإسلام، 2ـ حياة الإمام موسى بن جعفر(ع). 3ـ في انتظار الإمام. 4ـ أصول الحكم في الإسلام(مصطفى عبد الرزاق). 5ـ أصول الحكم والإدارة في الإسلام(محمد مهدي شمس الدين). 6ـ نظام الإدارة في الإسلام(الطباطبائي). 7ـ الحكم في الإسلام(الطبطبائي). 8ـ  الإسلام(السيد حسن الشيرازي). 9ـ المكاسب، رسالة الأمام للأهوازي ـ ولاية الفقيه. 10ـ نظرية التكييف الدستوري. 11ـ لؤلؤة البحرين. 12_ النور الساطع.

 ([1]) المقالة تنشر لأول مرة، أخذت من أبناء الكاتب الشهيد(رح).

([2]) سماحة العلامة الشهيد السيد أحمد السيد علوي السيد أحمد الغريفي، من علماء البحرين، ولد 7/ ذي الحجة/ ١٣٦٥هـ، - 1/11/ ١٩٤٦م، التحق بالدارسة الابتدائية سنة ١٩٥٣م، وأكمل الثانوية قسم الأدبي سنة ١٩٦٦- ١٩٦٧م بتقدير جيد جدا. وحوزويا، التحق بكلية الفقة في النجف الأشرف سنة ١٩٦٧- ١٩٦٨م، وتخرج منها سنة ١٩٧١م حاصلا شهادة البكالوريوس بقدير (جيد جدا)، ثم التحق بحوزة قم المقدسة سنة ١٩٧٣، وبقي سنة واحدة وعاد بعدها للنجف الأشرف. ثم التحق بكلية دار العلوم بالقاهرة سنة ١٩٧٥، وحصل على شهادة الماجستير في العلوم الاسلامية بتقدير (ممتاز)، عاد إلى ربوع الوطن عام ١٩٧٩ عاملا في التبليغ والتدريس والعمل الديني، وفي مساء يوم السبت ١٠ من ذي القعدة ١٤٠٥هـ، ٢٧/7/ ١٩٨٥ تعرض لعملية اغتيال واستشهد على أثر ذلك، فرحمه الله برحمته الواسعة.

([3]) في تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص238 عن إمامنا الحسين الشهيد(ع): >ذلك بأنَّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه<.

([4]) العوالم، ص293.

([5]) نهج البلاغة ص51 ج3.

([6]) الفصول المختارة، الشيخ المفيد، ص245، و بحار الأنوار ص94 ج23.

([7]) انظر: بحار الأنوار ص53 ج33.

([8]) الإمام جعفر الصادق (المظفر).

([9]) بحار الأنوار ص181 ج53.

([10]) القواعد الفقهية، ص51 ج 6.

([11]) انظر: وسائل الشيعة (باب صفات القاضي)، "العلماء خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله"

([12]) بحار الأنوار ج1.

([13]) انظر: الكافي، الكليني، ج1، ص67، ووسائل الشيعة ص137، ج7.

 ([14]) البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، بحث السيد البروجردي(تقرير الشيخ المنتظري)، ص73-74.

([15]) رسائل الكركي، المحقق الكركي، ج1، ص13.

([16]) لؤلوة البحرين، المحدث البحراني، ص148.

([17]) كما وردت في مخطوطة الكاتب الشهيد.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا