الثورة الحسينية والعزة الإسلامية

الثورة الحسينية والعزة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، يهدف هذا المقال لتسليط الضوء على الثورة الحسينية ومستوى دلالتها على مبدأ العزة الإسلامية، وموقعية العزة الإسلامية في مشروعنا الاجتماعي المعاصر.

كربلاء وتساؤلات العزة الحسينية:

بين يدي كربلاء ودلائل العزة فيها أقدم هذه الأسئلة: هل أن دلائل العزة في الثورة الحسينية يقينية حتمية؟ وهل يمكن تقديم قراءة خاصة تنزع من الثورة الحسينية مضامين العزة؟ وما هو موقع مضامين العزة من الثورة الحسينية والنصوص الإسلامية؟ فهل هي مضامين أساسية ضمن خطاب الثورة وفكر الإسلام؟ أم أنها مضامين هامشية؟ وهل يبقى للثورة الحسينية وهجها وتألقها وفرادتها بعد نزع مضامين العزة منها؟ وما هي موقعية العزة الحسينية في مشروعنا الاجتماعي المعاصر؟

فرضية الشهادة الاضطرارية:

عند مطالعة ما كُتب حول الثورة الحسينية أو قيل فيها فإننا يمكن أن نعثر على قراءة خاصة للثورة الحسينية تكون نتيجتها تجريد الثورة الحسينية من إشعاع ومضامين العزة والشموخ، وملخص هذه القراءة هو أن الإمام الحسين(ع) إنما خرج ثائرا على يزيد بعدما غلب على ظنه الانتصار العسكري على الجيش الأموي اعتمادا على أنصاره من أهل الكوفة الذين راسلوه وتعهدوا بالطاعة له والتضحية تحت رايته، حيث صدقهم الإمام الحسين(ع) في تعهداتهم تلك، وحين وصل الإمام الحسين(ع) قرب الكوفة ومنعه الحر الرياحي من دخولها وعلم بانقلاب أهل الكوفة على تعهداتهم له ومقتل مسلم وهانئ بن عروة، قرر التراجع عن قرار المواجهة العسكرية بعدما لم يعد الإمام يملك الجيش الذي على أساسه اتخذ قرار المواجهة والحرب، وحين لم يستجب الجيش الأموي لطلب الإمام الحسين(ع) بالرجوع من حيث أتى وحوصر قرر الإمام أن يبايع يزيد، ولكنه لما لم يطمئن لعدم قتله ذليلا بعد بيعته -هنا فقط- ظهر مضمون العزة الحسينية وقرار الموت والتضحية الاستشهادية اختيارا للموت العزيز على الموت الذليل، فخطاب: «هيهات منا الذلة» ليس خطابا أصيلا وأساسيا في الثورة الحسينية، وقرار التضحية والاستشهاد ليس قرارا اختياريا أوليا، بل هو قرار اضطراري.

وممن التزم بهذه القراءة الخاصة للثورة الحسينية الشيخ الصالحي في كتابه: «الشهيد الخالد»، حيث التزم بعدم علم الإمام باستشهاده وغلبة ظن السلامة والانتصار عند الإمام(ع)، وسعي الإمام الحثيث حتى النفس الأخير لتجنب المواجهة، وأن شهادة الإمام كانت اضطرارية، وقد أحدث رأي الصالحي المذكور ضجة كبيرة، لاسيما في إيران، وكُتب ما لا يقل عن ستين كتابا للرد عليه، حيث اعتُبر رأيه شاذا ومخالفا للبديهيات التاريخية والمذهبية، ومن الكتاب المعروفين الذين تصدوا لمناقشة الصالحي في فرضيته المذكورة الشيخ الشهيد المطهري في كتابه القيم: «الملحمة الحسينية»، حيث أسهب في رد رؤية الصالحي ونبّه على سخافتها وخطورتها.

وأما السيد الشهيد الصدر(قده) فقد أسس رؤيته حول الثورة الحسينية على أساس اليقين بعلم الإمام الحسين(ع) بشهادته وسعيه وتخطيطه لمقتله، ورد فرضية عدم علم الإمام بمقتله، كما لم يقبل فرضية أن شهادة الإمام اضطرارية، وكذلك أكد الشيخ الآصفي على تخطيط الإمام لشهادته في كتابه: «وارث الأنبياء»، وكذلك هو السيد المقرم في كتابه: «مقتل الحسين»، فقد ناقش تهمة إلقاء النفس في التهلكة وأكد على تخطيط الإمام لشهادته.

وبحسب متابعتي للكثير من الكتابات المعاصرة حول الثورة الحسينية فإنني أعتقد أن المحققين من العلماء والكتاب مجمعون على علم الإمام الحسين(ع) بشهادته وتخطيطه الدقيق لتضحيته الدامية، وأما الفرضية التي قدمها الشيخ الصالحي -وما ربما نجد من يتبناها- فإنها ناتجة عن أحد سببين:

الأول: السطحية في الرؤية وغياب التحقيق والاستيعاب لمجريات الثورة الحسينية.

الثاني: التوفر على رؤية فكرية مزاجية تقوم على أساس القبول بالواقع وتمييع قيمة العزة مما يضطر صاحبها لمحاولة فرض هذه الرؤية على الثورة الحسينية وتفريغها من مضامين العزة والشموخ.

وإنني أعتقد أن الثورة الحسينية تمثل حجة صارخة كبرى على الجوهر الثوري الأصيل للإسلام، ومحورية مبدأ العزة والشموخ في الفكر الإسلامي، وأن دلالات العزة في الثورة الحسينية هي دلالات يقينية قطعية لا يمكن التشكيك فيها، كما أن مضامين العزة في الثورة الحسينية تمثل القلب النابض للثورة والجوهر الأصيل لخطابها الثوري، وسر خلودها وفرادتها التاريخية؛ وذلك كله لأن الإمام الحسين(ع) أبى إلا أن يسطر ملحمته البطولية بفيض دمه وعمق جراحاته، وعطش أطفاله وغربة نسائه، ورغم وضوح دلالات العزة وجوهريتها في الثورة الحسينية فإنني أحاول التوقف عند بعض هذه الدلالات بصورة موجزة.

تحليل الخطبة العاشورائية:

خطب الإمام الحسين(ع) في الجيش الأموي صبيحة يوم العاشر فكان مما قال: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر)، فالإمام الحسين(ع) يعلن أن ابن زياد يخيره بين السيف والذلة، ثم يعلن صراحة أن خيار الذلة مستحيل بالنسبة له، وهو ما يعبر عنه نداء: «هيهات منا الذلة»، ثم يأخذ الإمام ببيان الخلفية الفكرية والمعنوية التي تؤسس لنداء الرفض الحتمي للذلة والهوان، حيث يشير لأمور ثلاثة هي:

1) (يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون)، فالإمام الحسين(ع) يعلن صراحة أنه يرفض الذلة ليس لمجرد رغبة نفسية شخصية عابرة؛ بل لأن الله سبحانه والرسول الأكرم(ص)والمؤمنون يرفضون لكل مؤمن القبول بالذلة طائعا، فعزة الإمام الحسين(ع) مستمدة من عزة الله سبحانه ورسوله والمؤمنين، فهل يمكن أن تكون عزة عابرة مرحلية؟! والإمام يشير لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}(1)، فهل يمكن بعد ذلك تحديد العزة الحسينية وتسطيحها؟!

2) (وحجور طابت وطهرت)، فالإمام الحسين(ع) يعتبر الذلة رجساً ونجاسةً، وأن طهارة البيت النبوي مدلول عليها بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2)، فإذا كان رفض الذلة عند الإمام الحسين(ع) نابع من طهارته الربانية فهل يمكن اعتبار رفض الذل وخطاب: «هيهات منا الذلة» مجرد خطاب عابر؟!

3) (وأنوف حمية ونفوس أبية)، فالإمام الحسين(ع) يشير لطبيعة الغيرة والحمية والإباء المغروسة في العائلة الهاشمية، ويعتبر أن شعار رفض الذل هو المتناسب مع ملكة الحمية والإباء المتأصلة في الروح الهاشمية، فهل تقبل الطبائع والملكات المتأصلة تحديدها وتسطيحها بظرف عابر خاص؟! فهل اكتشف الإمام الحسين(ع) فجأة -وبسبب محاصرته في لحظاته الأخيرة، وفقط لتجنب القتل الذليل- أن العزة الإلهية والطهارة القرآنية والحمية الهاشمية لا تسمح له بالموت ذليلا؟! أم أن المنطقي هو أن الإمام الحسين(ع) مازال مجللا ومحاطا بالعزة الإلهية والطهارة القرآنية والحمية الهاشمية منذ الولادة وحتى الشهادة؟! وأن الثورة الحسينية إنما انطلقت شرارتها وأوارها من الجوهر الأصيل للعزة والطهارة والحمية؟!

ثم يوضح الإمام الحسين(ع) المقصود من الذلة التي رفع شعار رفضها؛ حيث يقول: (مِنْ أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)، وفي هذه الجملة الحسينية جواب صريح على فرضية الشهادة الاضطرارية؛ إذ تعتبر الفرضية المذكورة أن الذلة التي رفضها الإمام الحسين(ع) وفَضَّل الموت عليها هي ذلة طرأت في يوم العاشر ولم تكن قبله، وهي الموت الذليل؛ ولذلك فالعزة الحسينية محدودة بيوم العاشر رفضا لهذه الذلة الطارئة! ولكن الإمام يعلنها صراحة أن الذلة التي يرفضها ليست هي مجرد الموت الذليل، بل هي (طاعة اللئام)، فالإمام يعتبر نفس البيعة ليزيد ذلا وهوانا، ويفضل عليها مصارع الكرام، فمن أين افترض القائل بالشهادة الاضطرارية أن الإمام يقصد بالذلة الموت ذليلا فقط؟! فإذا كان المقصود من الذلة هو البيعة ليزيد فقد كان رفض البيعة هو شعار الإمام الحسين(ع) الأساسي وهو في المدينة المنورة حيث قال: (إن مثلي لا يبايع مثله)، وهو ما يعني أن شعار العزة ورفض الذلة بدأ ببداية الثورة واستمر حتى الشهادة الدامية.

ثم يقول الإمام الحسين(ع): (ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر)، والسؤال هو: هل يصح للإمام الحسين(ع) أن يعرض أسرته وحريمه و عياله لكل ما تعرضوا له من أهوال ومصائب لمجرد ألا يموت هو شخصيا بذلة؟! فهل يعقل أن ينجو الإمام بعزته الشخصية وفي المقابل يضحي بعزة حريمه وعياله ولا يهتم حتى بتجنيبهم الأسر والهتك وإرجاعهم للمدينة المنورة؟! إن العبارة الأخيرة للإمام الحسين(ع) تشير لكون الإمام وأسرته المقدسة قد اتخذت قرارا ناجزا بالتضحية والفداء من بداية الثورة انطلاقا من العزة الإلهية والطهارة القرآنية والحمية الهاشمية.

العزة في دائرة الثورة:

ولو أردنا دراسة حياة الإمام الحسين(ع) فسوف نجد مظاهر العزة الإسلامية مواكبة للإمام الحسين(ع) منذ عهد معاوية وخطابات الإمام الصارمة تجاهه، وبعد موت معاوية وطلب البيعة من الإمام ليزيد فقد ظهر مبدأ العزة الحسينية جليا في (الرفض القاطع للبيعة)، و(التخطيط الدقيق للشهادة)، وأن رفض البيعة اليزيدية لم يكن بسبب رسائل أهل الكوفة، بل هو سابق عليها كما يؤكد ذلك التاريخ؛ ولذلك فلا يمكن أن يقبل الإمام ببيعة يزيد لخذلان الكوفيين له وقد أعلنها الإمام صراحة بوجه والي يزيد بالمدينة: (إن مثلي لا يبايع مثله)، يقول عقبة بن سمعان: (صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل وقد سمعت جميع كلامه، فما سمعت منه ما يتذاكر فيه الناس من أن يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيره إلى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله، نعم سمعته يقول: دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة)،(3) وواضح أن طلب الإمام الحسين(ع) للخروج من كربلاء دون البيعة ليزيد هو لمجرد إلقاء الحجة لعلم الإمام اليقيني بأنهم لا يتركونه دون البيعة.

وكذلك خطابات الإمام الأخرى -والتي تؤكد على رفض البيعة- كخطبته الشهيرة في اليوم الثاني من كربلاء، وقوله: (فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما)، وكذلك قول الإمام: (فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض، فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه، فقال(ع): أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد)(4)، وظل الإمام -وحتى الرمق الأخير- رافضا لكل مظهر للانكسار والذلة؛ حيث رفض أن يلبس ثوبا لأنه من لباس الذلة، كما كان خطاب الإمام للجيش الأموي يستحث فيهم غيرة العزة والحرية، حيث يقول لهم: (فأصبحتم ألبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم..، فسحقا لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب)، وكذلك قول الإمام لهم: (يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم)، وكذلك كان خطابه لأنصاره يشكر فيهم صفة العزة والحرية كما قال للحر الرياحي حين خر صريعا: (أنت حر كما سمتك أمك حرا)، وغيرها من الأقوال والمواقف الحسينية، تشير كلها إلى أن موقف العزة الحسينية في يوم العاشر لم يكن إلا تتويجا لمواقف العزة السابقة عليه، وليس موقفا طارئا، فكان محور العزة الحسينية هو رفض بيعة يزيد، وهو رفض انطلقت الثورة الحسينية على أساسه، وختم الإمام الحسين(ع) شهادته مصرا عليه.

وكلمات الإمام حول رفض الذلة يقصد به رفض هذه البيعة، وهو ما يعني أن شعار العزة ورفض الذلة هو الشعار الاستراتيجي الأول للثورة الحسينية، كما كان ذم الإمام للجيش الأموي واتهامه بالذلة والعبودية هو بسبب قبوله بطاعة يزيد، كما أن ثناءه على أصحابه وأنصاره ونعتهم بالعزة والحرية هو بسبب وقوفهم معه ضد بيعة يزيد.

علم الإمام بمقتله وانقلاب الكوفيين:

إن القرائن المتوفرة على علم الإمام بشهادته أصرح من أن تنكر، فالنبي الأعظم(ص) يهتم بأصحابه الثابتين على الحق والمستشهدين في سبيله، فيخبر عمار بن ياسر بكيفية شهادته، ويخبر أبا ذر الغفاري بكيفية حياته ووفاته، والإمام علي(ع) يخبر ميثم التمار ورشيد الهجري بثباتهم على الحق وكيفية شهادتهم، وسلمان الفارسي أخبر زهير بن القين بشهادته مع الإمام الحسين(ع)، وأم سلمة تعلم بشهادة الإمام الحسين(ع)، بينما الإمام الحسين(ع) لا يعلم بشهادته وأسر حريمه وبالفجائع التي هزت السماوات والأرض! رغم مكانة الإمام الحسين(ع) الخصيصة من جده وأبيه! والفرادة المعنوية والعقائدية والتاريخية الكبرى للمصيبة الكربلائية! وكلمات الإمام الحسي(ع) نفسه تثبت علمه باستشهاده، والأهم من كل ذلك أن خبر شهادة مسلم وانقلاب الكوفيين عليه وصل للإمام الحسين(ع) قبل لقائه بالحر الرياحي، فهذا الفرزدق يقول للإمام حين سأله عن حال الكوفة وأهلها: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)، فلو كان الإمام طالبا للسلامة وعدم المواجهة لكان غير وجهته ولم يقصد الكوفة بمجرد علمه بتغير الأحوال، ولكن الإمام واصل مسيره للكوفة حتى بعد علمه بتغير حالها، والإمام الحسين (ع) ليس من يخفى عليه حال أهل الكوفة ونفاقهم؛ حيث يقول في نفس خطبته في يوم العاشر (أجل والله، غدرٌ فيكم قديم وشجت عليه أصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر، وأكلة للغاصب).

القرآن الكريم والعزة الإيمانية:

لقد ربط الإمام الحسين(ع) في خطبته في يوم العاشر بين رفضه للذلة وبين العزة الإيمانية المؤسسة قرآنيا؛ ولذلك فمن غير المنطقي دراسة العزة الحسينية بمعزل عن التأمل بالعزة المؤسسة قرآنيا؛ فهي العزة الإلهية التي تجلل المؤمنين باطنا وظاهرا، حيث يستمدون عزتهم من مصدر العزة والقدرة والجبروت المطلق، حيث يقول تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}(5)، فالآية المباركة تشير للعزة الباطنية كما تشير للعزة الظاهرية؛ حيث العزة الباطنية تملأ أراوح المؤمنين لارتباطهم بجبار السماوات والأرض، ومصدر القدرة والكمال، وهو ما يشعرهم بالطمأنينة والاقتدار بالمعية الإلهية والشجاعة والاستغناء والحرية تجاه الخلق والناس، كما أن العزة الظاهرية الاجتماعية والسياسية تكون ملازمة لهم وهم أولى بها لأولويتهم بالعزة الإلهية، وهو ما يحملهم مسؤولية توفير الظروف الموضوعية للعزة الظاهرية والسعي لتحرير الإنسان من صور العبودية الاجتماعية.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) تفسيرا للآية المباركة: (إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذل نفسه، ألم ترَ قول الله سبحانه وتعالى ههنا { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا)(6)، ومن الواضح أن الله سبحانه يمكن أن يفوّض لنا أمورنا الشخصية الخاصة، أما العزة الإيمانية فليست شأنا خاصا؛ حيث تمثل العزة الإلهية وترتبط بالأهداف الكبرى من وجود الإنسان وصياغة المجتمع الإنساني الكريم، وقد بين الحق تعالى أن الإرادة الإلهية المستمرة زمانا ومكانا تعلقت بإعزاز المؤمنين سياسيا واجتماعيا عند عملهم وفق الشروط الموضوعية التاريخية؛ حيث يقول تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(7)، وأما الإشكال حول كيفية التناسب بين ثبوت العزة للمؤمنين وبين الذلة السياسية التي يعيشونها في الكثير من الأحيان فقد أجاب عنه القرآن بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(8)، فالآية المباركة -وبعد حث المؤمنين على عدم الوهن والاستكانة وتقرير حقيقة العلو والعزة الإيمانية- تقرر كذلك أن طريق العزة ليس مفروشا بالورود والرياحين، بل هو طريق الجهاد والدماء والتضحية، فالعزة والنصر الإلهي لا يتحققان إلا وفق سنة الابتلاء والامتحان الإلهي، وهو ما يعني أن كل ذلة يعيشها المؤمنون إنما هي بسبب فشلهم في توفير شروط العزة والنصر وفق السنن الإلهية.

موقعية العزة في الثورة الحسينية:

ذكرت في ما مضى أن المبدأ الذي انطلقت منه الثورة الحسينية -والذي به ختمت ملحمتها الدامية وتمحورت حوله- هو: (رفض البيعة اليزيدية والاستعداد للشهادة دون هذا المبدأ)، وأن كل حديث الإمام حول العزة والحرية والذلة والهوان إنما يقصد به الموقف من بيعة يزيد، وهو ما يعني أن عنوان العزة والحرية ورفض الذل والهوان يمثل المبدأ الأساس الذي انطلقت من خلاله الثورة وسطرت خاتمتها الدموية القانية على أساسه، كما يمثل المحور الذي حرك كل فصولها وشعارها الاستراتيجي الأول، وأن هذه الحقيقة الصارخة تطرح صياغة نوعية سامية لجوهر الدين الإسلامي وحقيقته الثورية الصافية، ولكن لو قُدّر لفرضية الشيخ الصالحي أن تقدم شهادة الإمام الحسين(ع) باعتبارها شهادة اضطرارية نتيجة اشتباه الإمام في تقدير مستوى صدق الكوفيين في نصرته، وأن شعار العزة مجرد شعار شخصي اضطراري عابر، فكيف يمكن أن تكون موقعية الثورة الحسينية في شعائرنا وشعاراتنا المعاصرة؟ وما هو المصير المنطقي لمئات السنين من الشعائر الحسينية؟ إن إفراغ الثورة الحسينية من مبدأ العزة -باعتباره محورها الأول- يفرغ كذلك الشعائر والشعارات الحسينية من أهلية التخليد والبقاء والتميز؛ إذ يتم حينها تقزيم الثورة الحسينية وتحوليها لمجرد بكاء على القتل الفجيع للإمام بسبب غدر الكوفيين للإمام! ولا يوجد شيء غير ذلك! فالفرق عميق وكبير بين شهادة اضطرارية دفاعا عن العزة الشخصية وبين شهادة اختيارية مخططة دفاعا عن العزة الخاصة بما هي تجسيد تاريخي صارخ على عزة الدين الإسلامي والقيادات الإلهية والأمة الإسلامية؛ ولذلك فإنما ما ينبغي التأكيد عليه هو أن رؤية الثورة الحسينية القائمة على جوهرية مبدأ العزة هي الوحيدة التي تعطي للثورة الحسينية ضخامتها وفرادتها التاريخية وفاعليتها الموضوعية، كما تعطي للشعائر الحسينية مضمونها العاطفي والاجتماعي السامي.

العزة الحسينية ومشروعنا الاجتماعي المعاصر:

إن الثورة الحسينية تمثل شمسا دائمة الإشعاع بكل مضامين العزة الإيمانية؛ حيث العزة لا تعرف الحدود؛ فهي عزة معنوية وثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، ونحن نشاهد اليوم ثلاثة مواقف مختلفة من مبدأ العزة الإيمانية الحسينية، أولها موقف مزاجي غير مبالٍ بأي مضمون من مضامين العزة الحسينية الإيمانية، وهو موقف يتأسس انطلاقا من الرغبة في التعايش مع الواقع المعاش بكل تجلياته وصوره، والشيء الأمر من ذلك حين يتم مسخ الثورة الحسينية وقراءتها بما يجعلها أداة للتعايش مع الواقع المنحرف عوضا عن إصلاحه! وأعتقد أن هكذا وضعية ينبغي التوقف عندها وتقييمها بكل حزم وموضوعية.

وهناك موقفان آخران ربما يبدوان متقابلين، وهما موقفان ينطلقان من اعتزاز صادق بالعزة الإيمانية، إلا أن أحدهما يؤكد على العزة الأخلاقية والثقافية، بينما يؤكد الموقف الآخر على العزة السياسية والحقوقية، وأعتقد أن العزة الإيمانية التي تقدمها الثورة الحسينية والنصوص القرآنية هي عزة شاملة وكاملة، كما أن روح العزة روح واحدة، والذات الإنسانية لا يمكن تفكيكها وتجزئتها وجعلها تعيش الازدواجية والتناقض بين عزة في جانب وذلة في جانب آخر، وهي وضعية تخالف رسالة الثورة الحسينية وأهدافها في صناعة مجتمع توحيدي عادل مجلل بالعزة والشموخ في فطرته وروحه ومشروعه الحضاري، فهل آن للشعوب الإسلامية ـ وهي تستذكر اليوم الملحمة الحسينيةـ أن تقف موقف المراجعة للنفس و الواقع المخزي فتستمد من أبي الأحرار وسيد الشهداء والثوار عزيمة وحماسة وصلابة روحية وثقافية وسياسية دون تجزئة وانتقاء ترجع بها شيئا من عزتها الضائعة وكرامتها المهدورة؟!

 

 * الهوامش:

(1) المنافقون:8.

(2) الأحزاب:33.

(3) مقتل الحسين(ع)، المقرم، ص207.

(4) مقتل الحسين(ع)، المقرم، ص 229.

(5) المنافقين:8.

(6) الميزان، ج 19، ص 287.

(7) القصص:5.

(8) آل عمران:139-140.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا