التّكليف الشّرعيّ بين التّشخيص والامتثال (قراءة في فكر آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم حفظه الله)

التّكليف الشّرعيّ بين التّشخيص والامتثال (قراءة في فكر آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم حفظه الله)

المقدّمة

التّكليف الشرعيّ شعار مبدئيّ واع ٍيفرضه الانتماء لقيم الإسلام المحمديّ الأصيل، وهو يرتكز على رؤية شرعيّة من حيث التّشخيص والامتثال، منطلقها العبودية الخالصة لله عزّ وجلّ، لا تغفل الواقعيّة والموضوعيّة لحسابات النّصر والهزيمة، إلا أنّ عمادها هو تحقيق مرضاة الله (عزَّ وجلَّ) في الدّعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.

فالقيام والقعود والحركة والسكون هي مفردات لا بدّ لها من منظومة فكريّة تحدّد لها المسار من حيث المبدأ والمنتهى، وتوضّح لها الرّؤية على مستوى المنطلقات والآليات والأهداف التي تنسجم مع تلك المنظومة الفكريّة وتلتقي مع محتواها المقدّس، وقد أشار أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة حيث قال: «ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»(1).

والنّصر في المفهوم الإلهيّ هو عبارة عن تحقيق عبوديّة الله (عزَّ وجلَّ) وتحصيل مرضاته، ولا يتأتّى ذلك إلا من خلال لزوم أوامره وطاعته عزّ وجلّ.

وبهذا الميزان للنّصر لا تعود حقيقته إلى حجم ومقدار العمل وحجم الصّعاب أو حجم التّضحيات، بل تتمحور حول الهدف من القيام والنيّة والإخلاص والتّقوى في مسار رضا الله (عزَّ وجلَّ) وطاعته وعبادته.

هذه الفلسفة الإلهيّة للنّصر هي في الواقع تشكّل جوهر القضية لأيّ حركة -فرديّة أو جماهيريّة- فالعمل مهما كان صغيراً والتّضحيات مهما كانت قليلة في المنظور الماديّ، إلا أنّها تشكّل نصراً ولها قيمة كبرى في المفهوم الإلهيّ إن كان منطلقها تحقيق الرّضا الإلهيّ، حتّى لو أدّى ذلك العمل بحسب الظّاهر إلى الخسارة أو الهزيمة أو الفشل وعدم تحقيق النّصر الظاهريّ.

وبالمقابل فإنّ كلّ عمل أو فعل مهما كان كبيراً وجليلاً بحسب الظاهر وإن صنّف أيضاً بخانة الفوز والنّصر وتحقيق الأهداف الكبرى في الإطار الماديّ لا يعدّ كذلك إن لم يكن منطلقه الله (عزَّ وجلَّ) ولم يحز على كسب الرّضا الإلهيّ، بل لا بدّ من تصنيف ذلك في خانة الهزائم والإخفاقات.

وهنا كلمات توضّح هذه المسألة بشكل جليّ للسيّد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) قال: "والنّاس كذلك يقصرون معنى النّصر على صور معيّنة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكنّ صور النّصر شتّى، وقد يتلبّس بعضها بصور الهزيمة عند النّظرة القصيرة، إبراهيم (عليه السلام) وهو يلقى في النار، فلا يرجع عن عقيدته، ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار... إلى أن قال: والحسين (عليه السلام) وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، والمفجعة من جانب، أكان هذا نصراً أم هزيمة، في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة، فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً"(2).

أداء التّكليف الشرعي -بحدّ ذاته- هو إنجاز في المنظور الإلهيّ، بغض النّظر عن المكاسب التي تحقّقت أو التي لم تتحقّق، فمن تحرّك لأجل دينه وعقيدته ومن منطلق الحكم الشرعيّ لا يعتبر خاسراً حتّى لو مزّق إرباً إرباً، فلا بدّ من تحديد الأهداف والمنطلقات والدّوافع، لتكون مقياساً وميزاناً لتحديد الرّبح والخسارة.

يقول سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) مرسّخاً هذه الرؤية الدينيّة الواقعيّة في ضمن كلماته عن الحراك الشعبيّ في البحرين: "الشعب هنا مؤمنٌ بأنَّ تكليفه أنْ يواصل حراكه لتقويم الوضع وتصحيح الواقع ورفع الظلم وإقرار العدل وأنَّ ما يعطيه من تضحياتٍ في هذا السبيل إنَّما هو برضا الله سبحانه وممَّا يقرِّبُ إليه.

وهذه الرؤية الدينيّة الواقعيّة تجعله أشدّ عناداً في طريق التّغيير وتمسّكاً بضرورة الإصلاح والبذل في سبيله وهو عنادٌ في الحقّ وليس من عناد الباطل في شيء، هذا العناد بطبيعته يفشل سحر آلة الفتك التي يعتمدها عناد الباطل فمع توفّره واستمراره لا تأتي النتيجة إلاَّ في صالح ما يستهدفه من تغييرٍ لمصلحة الحقّ وإصلاحٍ من أجل رقيّ الوطن وسلامة المجتمع وخير كلّ مواطن.

إنَّ الشعب لنْ يرجع بإذن الله من مشوار حراكه بما هو دون حقّه وعزّته وحرّيته وكرامته، فعلى هذا الطّريق حتّى تحقيق النّصر.

ولا بُد لنا -ونحن نسائل عن مآل التحرّك السياسيّ الشعبيّ السلميّ العادل وما سيفضي إليه من أنْ نستذكر الحقيقة الإيمانيَّة الثَّابتة التي يمثُّلها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقوله عزَّ من قائل: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ}، فليكن كلُّ البذل من أجل الله عزَّ وجلّ وكلُّ التضحية في سبيله وكلُّ الخطى في هدى دينه وكلُّ حركةٍ وسكون أخذاً بحكم شريعته وهذا هو الانتصار لله سبحانه وعندئذٍ يتنـزَّلُ على من أخلص له نصره والله لا يخلف الميعاد"(3).

وفي ما يلي أتعرّض لمفهوم التّكليف الشرعيّ مستهدياً في ذلك بفكر علَم من الأعلام وعالِم من العلماء اقترن علمه بعمله فأضحت كلماته منهجاً ومدرسة ومعيناً عذباً يروي القلوب والعقول.

خطاب العواطف وخطاب العقول

يتحدث سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) عن مفهوم التّكليف الشرعيّ في إطار الرؤية الشرعيّة المنبثقة من العبوديّة لله سبحانه وتعالى والإخلاص له (عزَّ وجلَّ)، ومن منطلق أهميّة وضرورة هذا المفهوم الدينيّ نرى سماحته يتعاطى معه بجنبة فكريّة تأصيليّة تخاطب العقول بأسلوب علميّ من خلال إلقاء الضوء على بعض كلمات الإمام الخمينيّ العظيم الذي استطاع من خلال بلورته لهذا المفهوم أن يأسّس دولة إسلاميّة يحترمها الصّديق ويهابها العدوّ، ولا ينحصر خطابه في إنشاءٍ يستثير العواطف ويحرّك الشّعور.

يقول سماحته: "ليس من اتّجاه هذا الحديث أن يخاطب العواطف، وإنّما يلتفت إلى مفهومٍ شائع، تتمسك به أوساطنا الإسلاميّة كثيراً، مهتديةً في ذلك بالسيّد الإمام الخمينيّ (أعلى الله مقامه)، ومفهومٌ يشيع في الأوساط الإسلاميّة ويكون محل الاحتجاج، ويضع شبابنا وشابّاتنا على الطّريق، فلا بدّ من وقفة تأمّلٍ ودراسةٍ لهذا المفهوم لكي يكون أكثر تبلوراً وإذا قاد فإنّما يقود على بصيرة، هذا المفهوم هو مفهوم (التّكليف الشرعيّ)"(4).

التّكليف الشرعيّ شعار مبدئيّ ثابت

التّكليف الشرعيّ شعار ثابت له جنبة عمليّة تبتني على أسس دينيّة، تلحظ الظّروف الخارجيّة وتوازن بينها، إلا أنّها في خاتمة المطاف تتعبد بما يقرّه الشّرع المقدّس ويفرضه التّكليف.

يقول سماحته: "الشّعار الذي رفعه السيّد الإمام، شعار (التّكليف الشرعيّ) ليس شعاراً انفعالياً، هو شعارٌ مبدئيّ واعٍ ناضج، يقول لنا: لا تتحرّكوا إلا عن تكليف، ولا تقفوا إلا عن تكليف، إذا وقفتم فإنّما تقفون بعد أن تشخّصوا أنّ تكليفكم في الوقوف، وإذا تحركتم فإنّما تتحرّكون بعد أن تشخّصوا أنّ التّكليف في الحركة.

ليس أن يدخل في نفسي أن أتحرّك ثمّ أقول تكليفي، لا، التّكليف لا يثبت بنوع من الارتجال، هذا الشّعار ليس شعاراً انفعاليّاً ولا ارتجاليّاً، شعار شرعيّ مركّز، ويقوم على الوعي، وعلى الإيمان والعبوديّة الخالصة لله تبارك وتعالى".

ويقول سماحته: "أقرأ كلماتٍ من كلمات السيّد الإمام التي نستطيع من خلالها -وهي بعض كلماتٍ له في هذا المضمارـ أن نقول بأنّ التّكليف الشرعيّ شعارٌ ثابتٌ عند السيّد الإمام (أعلى الله مقامه): (نحن مكلّفون نعمل بتكليفنا، فإذا عملنا بتكليفنا فقد انتصرنا، سواءٌ أثمرت الثورة أم لم تثمر)".

التّخطيط للنّصر أمر واجب

يقول سماحته: "ربما احتاجت هذه الكلمة إلى شيءٍ من إلقاء الضوء، أن يخطّط الإمام وغيره من القادة الإسلاميين، وأن يخطط الإمام المعصوم (عليه السلام) قبلهم للنّصر أمرٌ واجب، وأن يستهدف الثّمرة، وأن يكون عنده اطمئنانٌ أو احتمالٌ عقلائيٌ بترتّب الثّمرة على الخطّة أمرٌ لا بدّ منه، أمّا أن يضمن ترتّب الثّمرة وتحقّق النّتيجة فأمرٌ لا يدخل في المسؤوليّة.

كلمة الإمام لا تتّجه بنا أن نتحرّك من غير وعيٍ بالمقدّمات والنّتائج، ومن غير أن نقدّر أن الثمرة المطلوبة ستترتّب على تحرّكنا".

ويقول: "يجب أن نلتفت بأنّ هذا الشّعار لا يلغي الحسابات الموضوعيّة للنّصر والهزيمة، ماذا تقول في حركة تسبّب الهزيمة للإسلام، هل تكون من التّكليف؟ ماذا تقول في حركة تستنزف أكثر ممّا تعطي من نتائج، هل تكون من التّكليف؟ ماذا تقول في وقوف يذلّ الإسلام، ويتمدّد من خلاله سلطان الكفر، وتتفسّخ السّاحة وتنهار، ويتقوّض الإسلام، أهو من التّكليف؟

الإمام الحسين (عليه السلام) لم يتحرّك حركة مفصولة عن حسابات النّصر والهزيمة، وبعيداً عن البحث عن كلّ الخيارات الممكنة، حركة الإمام الحسين (عليه السلام) شخّصت التّكليف، وأنّه في المواجهة، وأن لا وقت لتأجيل المواجهة، وأنّ المواجهة إن لم تكن معطاءة بشكل عاجل وعلى المستوى المنظور فستكون معطاءة بغزارة بعده".

تشخيص التّكليف على المستوى الشّخصيّ

لكلّ تكليف تشخيص، وتشخيص التّكليف الفعليّ الشخصيّ لأيّ مكلّف يدور مدار تحقّق شروط التّكليف في الخارج، والمكلّف هو الذي يشخّص.

يقول سماحته: "أنت مخاطبٌ بالصّلاة، مرةً من قيام، ومرةً من جلوس، وأخرى من اضطجاع، ورابعة من استلقاء.

أنت مكلّفٌ بالصّوم والصّوم ووجوب الصّوم والتّكليف بالصّوم له شروطه. مكلّفٌ بالحجّ والحجّ مشروطٌ بالاستطاعة.

عليك أن تشّخص أنّك مكلّفٌ بأيّ درجةٍ من الصّلاة، لا بدّ أن تقف عند ذاتك، عند صحّتك، عند إمكاناتك لتشّخص أنّك مخاطبٌ بالصّلاة من قيام أو بالصّلاة من غيره، وليس لك أن تنطلق مع التّكليف بلا تشخيص، ليس لك أن تختار أيّ صلاةٍ من هذه الصّلوات -الصلاة من قيام أو من غيرها-، إذا صليت الصّلاة من قيام فتصليها وأنت واجدٌ لشرطها، وتنتقل إلى صلاةٍ أخرى بعد أن تشّخص أنّك من المخاطبين بها.

الصّوم مشروطٌ بالصّحة، مشروطٌ بألا يُحدث لك مرضاً، ألا يزيد في مرضك، ألا يبطئ برأك -شفاءك-، من يشّخص لك تكليفك؟ أنت تشّخص لك تكليفك. قد تستعين بالطّبيب في تشخيص التّكليف، ولكنّ الأمر يدور في الأخير إلى اطمئنانك، وأنك هل تملك الاطمئنان بالقدرة أو لا تملك الاطمئنان بالقدرة، فحيث تخاف من الصّوم خوفاً عقلائياً يرتفع تكليف الصّوم عنك.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفان ثابتان.

كل هذه التّكاليف ثابتة في منطقة تسمّى منطقة التّشريع الكليّ.

أمّا على مستوى التّكليف الفعليّ، التّكليف الفعليّ دائماً يدور مدار تحقّق شروط التّكليف في الخارج، والمكلّف هو الذي يشّخص، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط، وعليك أن تشّخص أنّ الموقف هو موقف أمر بمعروف من درجةٍ معيّنة أو هو موقف أمرٍ بمعروف من درجةٍ أخرى ثانويّة، وكذلك هو النهي.

هذا كلامٌ من درجةٍ معيّنة في تشخيص التّكليف".

تشخيص التّكليف في الساحة السياسية

السّاحة السّياسيّة العامة التي تبتني على معطيات متغيّرة معقّدة لا بدّ لها من جهة وآليّة محدّدة وواضحة للتّشخيص، فالشأن العامّ السياسيّ ليس من سنخ الشأن الشخصيّ للمكلّف.

يقول سماحته: "تشخيص التّكليف في السّاحة الاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة العامّة المعقّدة... في صلاتي أنا أشخّص، في صومي أنا أشخّص، في حجّي أنا أشخّص، أنّي مستطيع من ناحية الصّحة أو غير مستطيع، قد أحتاج إلى خبرة في تشخيص أنّي مستطيعٌ من ناحيةٍ ماليّة أو غير مستطيعٍ من ناحيةٍ ماليّة، فأسأل الحجّاج عن نفقاتهم ما إلى ذلك.

فيما يرتبط بالعمل السياسيّ، بالعمليّة الاجتماعيّة الواسعة، فيما يرتبط بالبعد الأمنيّ للشّعب، وهذه ساحات معقّدة كلّ التّعقيد، لمن يرجع التّشخيص؟

لا بدّ من تشخيصٍ للتّكليف، وجدتم في كلمات السيّد الإمام تركيزاً على التّكليف وتركيزاً على تشخيص التّكليف، لا تكليف بلا تشخيص، فلا بدّ من تشخيص".

من يشخّص التّكليف في الشأن السياسيّ العامّ؟

الشأن السياسيّ العام واقع يشوبه التّعقيد وتحفّه المتغيّرات، فلا بدّ له من تشخيص لحظيّ شموليّ يرتكز على فهم صحيح وعميق بالأسس الدينيّة والمرتكزات الشرعيّة.

يقول سماحته: "من الذي يشخّص في السّاحة السياسيّة، وفيما يرتبط بالتّضحيات، وبالنتائج الكبرى السلبيّة أو الإيجابيّة التي قد تواجه الشعوب؟

إذا قلنا أنّ كلّ فرد يشخّص، فسينتج عندنا في الشعب المليون مليون خطّة، مليون رأي، مليون توجّه، مليون حركة، قد تكون في تصادمٍ بين بعضها البعض.

فلابد أن يكون التّشخيص في المسألة السياسيّة، في المسألة الأمنيّة، في المسألة الاجتماعية لجهة معيّنة لها شروطها".

شروط التّشخيص في الشّأن السّياسيّ العامّ

يذكر سماحته شرطين رئيسين من شروط تشخيص التّكليف في الشّأن السّياسيّ العامّ.

يقول سماحته: "الإيمان: الإيمان القويّ، ما دور الإيمان القويّ في التّشخيص؟

أنا أدّعي بأن للإيمان القوي دوراً في التّشخيص، هذا الدور يتمثّل في الموضوعيّة، يجعل التّشخيص موضوعيّاً، نزيهاً، بعيداً عن الهوى، بعيداً عن الانفعالات، بعيداً عن الحبّ، بعيداً عن البغض، بعيداً ما أمكن عن مسألة الشّجاعة عن مسألة الجبن. أن يكون مع الإيمان القويّ مستوى نفسي عالٍ لا يصل إلى حد التّهور.

النّفس الهشّة تعطي تشخيصاً على خطّها. النّفس المتهوّرة أيضاً تسرع بالنّفس إلى تصوّرات من جنسها.

مستوى نفس عالٍ مع تمتّع بالانضباط.

الخبرة: خبرة شخصيّة، ومع الاستعانة بخبرات الآخرين. لماذا أجمع بين الخبرة الشخصيّة وبين خبرات الآخرين؟

الخبرة الشخصيّة لأنّ الشخص إذا كان محض مقلِد (بالكسر)، أي إذا كان مجرد مقلد في المسألة السياسيّة وفي مسألة التّشخيص فما دوره في التّشخيص؟

التّشخيص عمل خبرويّ وعمل فنيّ وعمل عقليّ، إذا كنت لا أملك من أدواته شيئاً فعليّ أن أبتعد عن مسألة التّشخيص -التشخيص يكون لغيري ليس لي-.

وإن اعتمد قائدٌ في كل مواقفه على خبرة الآخرين وعلى تشخيص الآخرين، الآخرون قد يشرّقون به وقد يغرّبون.

ثم لا بدّ من خبرة الآخرين التي قد تكشف عن خطأ أدت إليه الخبرة الشّخصية عن نقص، عن ثغرة، عن خلل، ما كان يمكن أن يكتشف لولا ضم خبرة الآخرين إلى الخبرة الشخصية".

محوريّة التّكليف الشرعيّ والثّبات على الموقف

بعد مرحلة تشخيص التّكليف الشرعيّ في الشّأن العامّ لا بد من أن تتجّلى محوريّة التّكليف في وجدان القائد والرعيّة بكلّ صدق في القول والعمل على أساس الإخلاص في النيّة لله (عزَّ وجلَّ).

يقول سماحته: "بعد أن يتشخّص التكّليف، وأنّ التّكليف في الحرب، أو أنّ التّكليف في السّلم، في الصّلح، في الجهاد العسكريّ، في الجهاد الثقافيّ، في المنازلة السياسيّة، في هذا اللون من الخطاب، بعد أن يتشخّص التّكليف تكون كل المحوريّة للتّكليف.

محوريّة تتركّز وتتجّلى في حياة القائد قبل غيره، ولا قائد للحقّ من لم تحكمه محوريّة التّكليف.

والقائد الحقّ بالكامل والمضمون هو الذي ليس في نفسه محوريّة أخرى غير محوريّة التّكليف، وأنّ محوريّة التّكليف في نفسه تامّة وخالصة من كلّ شائبة، القائد من هذا النوع هو المعصوم (عليه السلام)، ثم تأتي المستويات من القيادة تقترب من هذا النموذج بدرجةٍ وأخرى، وقد وجدت الأمة في السيد الإمام مستوى من القيادة أقرب ما يكون في كثير من مواقفه إلى عقلية المعصوم ونفسية المعصوم وصلابة المعصوم، والمتتبع للسيرة الجهادية للسيد الإمام أعلى الله مقامه يقوده البحث إلى أنّ الرجل كانت تمتلك محوريّة التّكليف في نفسه وزناً عالياً.

هذه المحورية أقول عنها بأنّها شرط أساس في القيادة الإسلاميّة، وأنّه -إذا ثبت في نفسه، وحسب الموازين الشرعيّة، والنّظر العلميّ الدّقيق، والخبرة المجتمعة ممّا عنده وممّا عند الآخرين -إذا ثبت أنّ التكليف في السّكون سكن ولم تحرّكه عواصف الرّأي العام، وإذا ثبت أنّ التّكليف في الحركة تحرّك ولم توقفه القوى الأخرى.

ولقد وجدنا في المعصومين (عليهم السلام) من يقف على خلاف هوى الأحبّة في الحركة، ومن يتحرّك على خلاف رأي النّاصحين بالوقوف والسّكون، الحسن (عليه السلام) صالح ونداءاتٌ من حوله من أصحابه تقول له بالاستمرار في المواجهة، والحسين (عليه السلام) تحرّك والنّاصحون بالتّوقف والتّراجع يقدّمون كلماتهم في لغة من الإخلاص والإشفاق عليه "صلوات الله وسلامه عليه".

ما هو المؤهّل لهذه المحوريّة؟ ما هو مؤهّل النّفس لأن تتمحور خالصاً حول التّكليف بعد التّشخيص، وألا تنظر إلى غير الله سبحانه وتعالى في حركتها وسكونها؟

إذا كانت الرؤية التوحيديّة في نفس القائد غائمة، وكان الإيمان باليوم الآخر في نفسه غير مستقرّ وغير متمكّن، بأيّ دافع سيتحرّك؟

إذا كان التّكليف يقول له بالحركة، ومصلحته حسب تشخيصه في التوقف، كيف يتحرك إذا لم يعمر الإيمان قلبه، ولم تضئ العقيدة كل أقطار نفسه؟ لا يمكن.

مع الإيمان والتّقوى نفسيةٌ متربية، نفسيةٌ شجاعة وغير متهورة، نفسيةٌ معتدلة. حين يتوافر عامل الإيمان والتّقوى وعامل الاعتدال النفسيّ، لأن الإيمان قد يضع الإنسان نفسه عملياًّ على طريق الإيمان فتصعد نفسه في مستواها إلى مستوى عمق الفكرة في فكره، وقد لا يربّي النّفس على مسار الفكرة فيضل الفكر محلقاً والنّفس في مستواها المتدنّي.

الإيمان المتغلّف في النّفس، الإيمان الذي تحوّل إلى مشاعر، الإيمان الذي كانت له قيادة الحركة في الشخصيّة طوال سنين، هذا إيمان يستبطن عنصر الاعتدال في النّفس والقوة في النّفس، أمّا ما دونه من إيمان فهو لا يرتفع إلى هذه المنـزلة".

 

* الهوامش:

(1) البحار: 78 / 327 / 5.

(2) في ظلال القرآن ج 5 ص 3086.

(3) خطبة الجمعة (522) 11 ذو القعدة 1433هـ / 28 سبتمبر 2012م ـ جامع الإمام الصادق (عليه السلام) بالدراز، البحرين.

(4) كلمة في تأبين السيد الإمام الخميني - مسجد مؤمن بالمنامة ـ 25 ربيع الثاني 1426هـ 2/6/2005م ( أنظر موقع مكتب البيان للمراجعات الدينية وهو ( الموقع الرسمي لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله).

رابط المحاضرة في موقع مكتب البيان للمراجعات الدينية:

http://albayan.org/modules.php?name=tapes&op=geninfo&did=237


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا