التحوّل الفكريّ عند أصحاب البدع.. السَّفارة والتَّجديد مثالاً

التحوّل الفكريّ عند أصحاب البدع..  السَّفارة والتَّجديد مثالاً

مقدِّمة

لا يخفى على المتابع للساحة الفكريَّة ظهور بعض التيّارات والجماعات التي تدَّعي النيابة والسَّفارة عن الإمام المهديl، وهذه الجماعات تنتشر في أكثر من بلد إسلامي، ولها أتباع وجهات داعمة، إلا أنَّه نجد حصول قفزة في الدعوى عند بعض هذه الجماعات، وتنكُّر لمعتقداتها السابقة والتي كانت تقرُّ وتعترف بها، فبعد أن كانوا يدعون إلى فكرة السَّفارة والنيابة صاروا ينادون بفكرة التَّجديد في الدِّين، ومن الواضح أنَّ بين دعوى السَّفارة والبابيَّة وبين فكرة التَّجديد في الدِّين بونٌ شاسع، فأين هذه الدعوى من تلك؟! فبالأمس كان الكلام عن الاتِّصال بالإمام المهديl وأخذ الأحكام والأوامر منه مباشرة، وأنَّ حفظ الأحكام الشرعيَّة ينحصر بهم، واليوم يضربون في ضروريّات الأحكام الشرعيَّة بدعوى التَّجديد في الدِّين وتحرير العقل. 

فما هي العلاقة بين هاتين الدعويين؟ وكيف يُفسَّر هذا التحوُّل الفكري الكبير الذي بدأ بادِّعاء رؤية الإمام المهديl والسَّفارة عنه، ثم انتقل إلى فكرة التَّجديد في الدِّين والضرب في مسلَّمات وضروريّات الإسلام؟! هذه مفارقة عجيبة تحتاج إلى تفسير وتحليل.

من هنا يقع البحث في عدّة مطالب:

المطلب الأوَّل: في معنى السَّفارة

والكلام فيه في عدَّة نقاط:

النُّقطة الأولى: السَّفير والسَّفارة لغةً واصطلاحاً

السَّفير -لغةً- فعيلٌ بمعنى فاعل، فهو الرَّسول المصلح بين القوم، يكشف ويزيل ما بينهم من الوحشة، والجمع سُفراء، والسَّفارة هي الرِّسالة([1])، والرسول يتضمَّن وجود مُرسِل.

فمرادنا من السَّفير اصطلاحاً هو من يحمل الرِّسالة إلى النَّاس من قِبل الإمام المهديl في زمن غيبته، ومرادنا من السَّفارة هو النيابة عن الإمام المهديl، والقيام مقامه في حدود ما يسمح به الدليل([2]).

النُّقطة الثَّانية: أقسام النيابة عن الإمام

النيابة عن الإمام المهديl تنقسم إلى قسمين:

القسم الأوَّل: النِّيابة الخاصَّة، أي استنابة الإمامg لشخص بخصوصه منصوص على اسمه وأوصافه، ليقوم مقامه في شأن أو شؤون متعدِّدة.

القسم الثَّاني: النِّيابة العامَّة، أي استنابة الإمامg لشخص بوصفه العامّ، ليقوم مقامه في شأن أو شؤون متعدِّدة.

النُّقطة الثَّالثة: السُّفراء الأربعة

لقد أجمعت الفرقة المحقّة على أنَّ النِّيابة الخاصَّة عن الإمام المهديl منحصرة في أربعة أشخاص معروفين بـ (السفراء الأربعة)، وهم كالتالي:

السَّفير الأوَّل: أبو عمرو، عثمان بن سعيد العمريO، وقد اختلف في تاريخ وفاته، وكان شيخاً جليلاً، ومن وكلاء الإمام الهادي والعسكريh، وقد وردت روايات توثِّقه وتدعو النَّاس للرُّجوع إليه، فقد ورد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِg قَالَ: سَأَلْتُهُ وَقُلْتُ مَنْ أُعَامِلُ وَعَمَّنْ آخُذُ وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ: >الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، وَمَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ، فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ، فَإِنَّهُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ<. قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا مُحَمَّدٍg عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: >الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، وَمَا قَالا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا و أَطِعْهُمَا، فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَانِ<([3]).

السَّفير الثَّاني: أبو جعفر، محمَّد بن عثمان بن سعيد العمريO، المتوفى عام (305 هـ)، وكان أيضاً شيخاً جليلاً، ووردت في حقِّه روايات توثِّقه، كما في الرواية السابقة، وقد أجمعت الشيعة على سفارته ونيابته.

السَّفير الثَّالث: أبو القاسم، الحسين بن روح النوبختيO، المتوفى عام (326 هـ)، وفي زمن سفارته تمَّ سجنه، وكذلك كثُر المدَّعون للسفارة، كالشلمغاني وغيره، كما أنَّ بعض الشيعة أنكر سفارته أو شكَّك فيها، فكانت مرحلته مرحلة صعبة([4]).

السَّفير الرَّابع: أبو الحسن، علي بن محمَّد السمريO، المتوفى عام (329 هـ)، وبموته انقطعت النِّيابة الخاصَّة عن الإمام المهديl، حيث صدر توقيع مهمٌّ من الإمام المهديl إلى السَّفير علي بن محمَّد السمريO أخبره فيه بأنَّه سوف يموت خلال ستَّة أيّام، وأمره أن لا يوصِ إلى أحد بعده في شأن السَّفارة، لأنَّه قد وقعت الغيبة الكبرى.

وإليك نصُّ هذا التوقيع المهمّ برواية الشيخ الصدوقO: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُكَتِّبُ قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ) فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى النَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ: >بسم الله الرحمن الرحيم، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ؛ فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانيةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللَّهِ!، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ ادَّعَى الْمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ<. قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا التَّوْقِيعَ وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِه، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِلَّهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ. وَمَضَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ([5]).

فهذا التوقيع دلَّ بوضوح على انتهاء زمن النِّيابة الخاصَّة بموت السَّفير الرَّابع علي بن محمَّد السمريO، وأنَّه لا ظهور خاصّ -فضلاً عن العامّ- إلا بإذن الله ، وأنَّ هناك من سيأتي بعد ذلك ويدّعي المشاهدة والنِّيابة الخاصّة، فهو كاذب ومفتَرٍ ما دام هذا الادِّعاء قبل علامات الظهور الحتميَّة من خروج السفياني والصيحة.

من هنا فقد تسالم علماء الإماميَّة على انقطاع السَّفارة في زمن الغيبة الكبرى([6])، قال الشيخ الصدوقO: "ووكيله عثمان بن سعيد، فلمّا مات عثمان أوصى إلى ابنه أبي جعفر محمَّد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمَّد السمري (رضي الله عنهم)، فلمَّا حضرت السمريُّ الوفاة سئل أن يوصي فقال: لله أمر هو بالغه. فالغيبة التامَّة هي التي وقعت بعد مضي السمري رضي الله عنه"([7]).

ولكنَّ انقطاع السَّفارة الخاصَّة لا تنفي الحاجة إلى من يُرجَع إليه لحلِّ المشكلات ورفع الاختلافات، وتبيين الأحكام المستجدَّة، فهل يمكن أن يغيب الإمامg ويترك الأمَّة تعصف بها عواصف الزمن، وتغرق في بحار هذه الدنيا؟ كلَّا، بل الإمامl أرجع النّاس إلى الفقهاء العدول، فهم نوّابه بالنيابة العامَّة، ولذا جاء في التوقيع الشريف بخطِّ يد الإمامl: >وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِم<([8]).‏

النُّقطة الرَّابعة: أدعياء السَّفارة

مع كلِّ ما تقدَّم من بيان على انقطاع السَّفارة إلا أنَّه -وكما أخبر التوقيع الشريف- قد خرج الكثير ممّن يدَّعي المشاهدة والنِّيابة الخاصَّة والبابيَّة، فإنَّه إذا كان في زمن الغيبة الصغرى -بل وفي زمن الأئمةi- هناك من ادّعى النِّيابة الخاصَّة كذباً -كما سيأتي في طيَّات البحث كابن حسكة واليقطيني والشلمغاني وأحمد بن هلال وغيرهم- فما بالك بزمن الغيبة الكبرى! فإنَّ هناك الكثير ممّن ادَّعى النِّيابة الخاصَّة، منهم علي محمَّد الشيرازي (1266 هـ) الملقّب بـ(الباب)، وهو مؤسِّس الجماعة البابيَّة البهائيَّة، بل هناك الكثير ممّن ادَّعى المهدويَّة وأنَّه هو المهديُّ المنتظر، كالمهديّ الفاطمي، والمهديّ المغربي، والمهديّ الهندي، والمهديّ التّهامي، والمهديّ السوداني، وغيرهم الكثير الذين يظهرون بين الفينة والأخرى.

وفي يومنا هذا أيضاً يوجد من يدَّعي السَّفارة الخاصَّة عن الإمام المهديl، كأحمد بن الحسن البصري (القاطع)، و (ع.ب) من البحرين، وغيرهما، وقد خدعوا الكثير من النّاس وأوهموهم بصدق دعواهم بأساليبهم المختلفة؛ كاعتمادهم على الرؤى والأحلام، وتأويل الرِّوايات بما يناسبهم، والآن مؤخّراً ظهروا بأسلوب آخر وهو الدعوة إلى التَّجديد في الدِّين، والظهور بمظهر مواكبة العلم الحديث وما شابه ذلك.

والذي نريد التركيز عليه في هذا البحث هو الأسلوب الأخير، وهو الدعوة إلى التَّجديد في الدِّين ومواكبة العصر كما يدَّعون، وهذا ما سنتكلّم حوله في المطلب الثَّاني.

المطلب الثَّاني: التَّجديد في الدِّين

الدَّعوة إلى التَّجديد في الدِّين ليست دعوة حديثة، بل هي دعوة قديمة منذ القرن الرَّابع الهجري كما سيتّضح، ثمَّ في القرون المتأخِّرة جاءت في سياق الدَّعوة من أجل مواكبة الدِّين مع متطلّبات العصر الحديث، وقد اعتُبر السيِّد أحمد خان الهندي (1315 هـ / 1898 م) من أبرز قادة الدعاة للتّجديد في الفكر الإسلامي، وقد اشتهرت عنه نظريّات خاصّة في التفسير والعقائد والأحكام الشرعيّة، وقد سار على نهجه العديد من الأشخاص، كشيراغ علي الهندي (1895 م)، والسيد أمير علي الهندي (1347 هـ / 1928 م)، وفضل عبد الرحمن الباكستاني (1988 م)، وغيرهم.

من هنا نريد أن نتكلّم حول مصطلح التَّجديد الدِّيني بشكل مختصر في عدّة نقاط:

النُّقطة الأولى: معاني التَّجديد في الدِّين

مصطلح التَّجديد في الدِّين قد دعا له بعض علماء الدِّين القدماء من العامَّة، ابتداء من القرن الرَّابع الهجري، وكذلك دعا له بعض الكتّاب المسلمين المتأخِّرين، ولم يتّفقوا على معنى واحد للتّجديد في الدِّين، بل الأقوال فيه مختلفة، وكلٌّ يُبيّنه بما تمليه عليه قناعته، فالتَّجديد في الدِّين قد يُطلق ويراد منه عدّة معاني([9]):

المعنى الأوَّل: إعادة الدِّين إلى ما عليه السلف الأول، وإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنَّة والأمر بمقتضاهما، وهذا ما ذكره بعضهم كأبي سهل الصعلوكي، حيث قال: "أعاد الله هذا الدِّين بعدما ذهب أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الأسترابادي"([10]).

فهو يعتبر أنَّ أحمد بن حنبل وأبا الحسن الأشعري وأبا نعيم الأسترابادي مجدّدين في الدين لأنَّهم من الذين أعادوا الدِّين إلى ما عليه السلف الأوَّل.

المعنى الثَّاني: نشر العلم والمعرفة، وبيان السنَّة من البدعة، ومحاربة البدع وأهلها، ولذا قال في عون المعبود: "يجدِّد الدين أي يبيِّن السنَّة من البدعة، ويكثر العلم، ويعزُّ أهله، ويقمع البدعة، ويكسر أهلها"([11]).

وقال ابن كثير في بيان معنى حديث التَّجديد -وهو النبوي: >إنّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لها أمر دينها<-: "وقال طائفة من العلماء: هل الصحيح أنَّ الحديث [يعني حديث التَّجديد] يشمل كلَّ فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممّن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمّن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلة وغير مرسلة: يحمل هذا العلم من كلِّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين.."([12]).

المعنى الثَّالث: ملء منطقة الفراغ، بمعنى استخراج الأحكام الشرعية للمسائل المستحدثة والمستجدَّة التي لم ترد فيها أدلّة خاصَّة، وذلك من خلال العمومات والقواعد والأصول الشرعيّة، ولذا قال في فيض القدير: "وذلك لأنَّه سبحانه لمّا جعل المصطفى خاتم الأنبياء والرُّسل، وكانت حوادث الأيام خارجة عن التّعداد، ومعرفة أحكام الدِّين لازمة إلى يوم التّناد، ولم تفِ ظواهر النّصوص ببيانها، بل لا بدَّ من طريق وافٍ بشأنها، اقتضت حكمة الملك العلَّام ظهور قوم من الأعلام في غرَّة كلِّ غرَّة؛ ليقوم بأعباء الحوادث، إجراءً لهذه الأمَّة مع علمائها مجرى بني إسرائيل مع أنبياءهم"([13]).

المعنى الرَّابع: إعادة فهم الدِّين، وذلك من خلال العودة إلى المادَّة الخام للإسلام من أجل صناعة بناء فكري واعتقاد ديني جديد يتناسب مع إنسان اليوم ومتطلَّبات حياة العصر.

ويلزم من هذا المعنى للتجديد في الدِّين إلغاء وتغيير الأحكام التي لا تتناسب مع متطلَّبات العصر الحديث بحسب قناعتهم، فتلغى أحكام الحدود من الرجم والقطع والجلد وغيرها؛ لأنَّها لا تتناسب مع زماننا، ويكون العمل على وفق القوانين الجزائيَّة الدوليَّة، وكذلك إلغاء أحكام المواريث التي تقضي بتفضيل الرجل على المرأة في الميراث، ويكون العمل على قانون المساواة بين الرجل والمرأة (سيداو)، وكذلك إلغاء الأحكام الشخصيَّة واستبدالها بقوانين الأحوال الشخصيَّة المرتبطة بالقوامة والطلاق والتعدُّد في الزواج وغير ذلك، وكذلك تغيير أحكام الحجاب بما يتناسب مع متطلَّبات هذا العصر.

وهذا المعنى في الحقيقة هو ما يدعو له بعض المتأثِّرين بالحداثة الغربيَّة، وبالفكر النسوي، وبدعاة التَّجديد في الفكر الغربي، أمثال عبدالكريم سروش ومحمَّد مجتهد شبستري([14])، وكذلك اليوم أمثال محمَّد شحرور، وغيره من جماعة القرآنيين، ولكن حاولوا تغليف ذلك بمبرِّرات دينيَّة ليغرِّروا بالبسطاء من النَّاس.

فالمعاني الثلاثة الأولى -وإن كنَّا لا نعتقد بها- يمكن أن تكون قابلة للتوجيه، ولكنّ المعنى الرَّابع في الحقيقة إنَّما هو هدمٌ للدِّين وليس تجديداً فيه.

النُّقطة الثَّانية: هل الدِّين يحتاج إلى تجديد؟

التَّجديد في اللُّغة يعني تصيير الشَّيء جديداً بعد قِدَمِه([15])، فالشيء إذا صار قديماً وبالياً فإنُّه يحتاج إلى تجديد، فهل الدِّين قديم وغير صالح لكي نقول باحتياجه إلى التَّجديد؟

إنَّ الذي دعا علماء العامَّة منذ القدم للكلام حول التَّجديد في الدِّين والإسهاب في هذا البحث هو حديث أبي هريرة عن النبيe: >إنّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لها أمر دينها<([16])، الذي تفرَّد بنقله أبو داود السجستاني (275 هـ) في سننه، وكلُّ من رواه بعد ذلك فقد نقله عنه([17])، وبناءً عليه جاؤوا لبيان معنى التَّجديد، واختلفوا في ذلك كما ذكرنا، وكذلك اختلفوا في بيان مصاديق المجدِّدين عند رأس كلِّ مائة سنة اختلافاً كبيراً.

ثمَّ إنَّ هذا الحديث لم يرد في أيٍّ من طرق أهل البيتi في كتب الإماميّة، فهو حديث ضعيف في حدِّ ذاته، ولا يمكن الاستناد إليه من أجل القول بالحاجة إلى التَّجديد في الدِّين.

بل إنَّ أصل دعوى احتياج الدِّين إلى تجديد هي دعوى محلّ نظر من الأساس، فإنَّ الدِّين لا يبلى، بل هو حيٌّ طريٌّ يستطيع أن يتكيّف مع الحياة باختلاف أزمنتها؛ إذ هو من جهةٍ له أحكام ثابتة لا تتغيّر، ومن جهة ثانية له قواعد كليّة وأصول يمكن تطبيقها على مختلف الحوادث، ومن جهة ثالثة له أحكام ثانويّة حاكمة على الأحكام الأولية يمكن من خلالها حلُّ الكثير من المواضيع المتغيّرة، ومن جهة رابعة قد أعطى مساحة للفقيه لسنِّ بعض القوانين النظاميّة التي تحافظ على نظم حياة الناس، و هكذا غيرها من الجهات المتعدِّدة المبحوثة في محلِّها والتي تساهم في تكيُّف الإسلام مع كلِّ الأزمنة.

نعم، الدِّين قد يتمُّ تعطيله، قد لا يُعمل به في فترة من الفترات، قد يتمُّ التّغافل عن منابعه الأصيلة، قد يُترك لتعبَثَ به الأيادي المنحرفة، فهو حينئذٍ يحتاج إلى إحياء، يحتاج إلى أن يُخرج من دائرة التعطيل إلى دائرة العمل به، يحتاج إلى استخراج الكنوز الموجودة في الكتاب والسنّة على وفق القواعد والأصول المقرَّرة لكي يغطِّي مساحته المقرَّرة له، لا أنَّ الدِّين يحتاج إلى تجديد، ولذا الشهيد مطهّريO في محاضراته لا يعبِّر بمصطلح التَّجديد، بل يعبِّر بمصطلح الإحياء، فيقول: "أوّل مسألة ينبغي أن نؤكّد عليها في هذا المجال هي أنّ أحكام الإسلام حيّة لا يعتريها موت أو نسخ، والله سبحانه تعهّد صيانة هذا الدِّين إذ قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9). خاصيّة الخلود هذه هي التي تميّز الدِّين الخاتم عن النظريات العلميّة التي قد تموت إلى الأبد، مثل نظريّة بطليموس في الهيئة، ونظريّة العناصر الأربعة للطبيعة. ممّا تقدّم نفهم أنّ المقصود من إحياء الفكر الديني ليس هو إحياء الدِّين نفسه، بل إحياء التّفكير بشأن الدِّين، وبعبارة أخرى: غسل الأدمغة ممّا تراكم عليها من انحرافات وتشويهات بشأن الدِّين"([18]).

إذاً، اتّضح أنّ دعوى حاجة الدِّين إلى التَّجديد هي دعوى لا تستند إلى دليل، ولا هي واضحة المعالم، وهي دعوى تفتقد إلى التبصّر والتدقيق في أبعاد الدين، وأنّ دعاتها في هذا الزمان إنما يتّبعون أفكار الغرب الداعية إلى تجديد كلِّ شيء، فاستهوتهم كلمة التَّجديد فأخذوا يردّدونها ويغرّرون النّاس بها.

المطلب الثَّالث: تفسير التَّحوّلات الفكرية عند أصحاب البدع 

ممّا يلفت الانتباه أنّ أصحاب البدع يتلوّنون وتتبدّل أفكارهم بين الفينة والأخرى، والأعجب من ذلك ما نسمعه اليوم من تحوُّل فاحش عند أصحاب بدعة السَّفارة، حيث كانوا يدّعون رؤية الإمام المهديl في المنام، وأنَّهم يتلقّون الأوامر المباشرة منه، وبالتالي فلا حاجة للفقهاء ولا لتقليدهم، ويدَّعون أنَّهم هم الحريصون على أحكام دين الله تعالى، والحافظون لشريعته، ثمَّ مؤخَّراً يصل بهم الأمر إلى أن يتحوَّلوا إلى دعاة للتجديد في الدِّين، وصاروا إلى مخالفة ضرورات الإسلام في مسائل الحجاب وغيرها، وإنكار الخلق المباشر لآدم، والكثير من الأمور التي تستوقف الإنسان المتأمِّل في مثل هكذا تحوُّل فكري. 

فما هو السرُّ في هذا التحوُّل الفكري، وكيف يمكن أن يُفسّر ذلك؟ وهل يذكر التَّاريخ لنا شواهد على حصول مثل هكذا تحوُّل عند أصحاب البدع؟

فنقول: يمكن أن يُفسّر هذا التحوُّل الفكري بعدّة تفسيرات([19])، نذكر منها:

التَّفسير الأوَّل: تفسيره بضيق الخناق

بمعنى أنَّ أصحاب البدع لا يمكنهم الاستمرار في بدعتهم والاستمرار في إضلال النَّاس ما لم يأتوا بشيء مغاير لما عليه علماء الشريعة، وإلا لو بقي صاحب البدعة على ما هو عليه، ولم يأتِ بشيء جديد مغاير لما عليه علماء الشريعة الإسلامية، وكان يصلِّي ويصوم ويحجُّ ويلتزم بتقليد العلماء وما شابه ذلك، فهذا لن يلتفت إليه النّاس، وسرعان ما ستنكشف بدعته للنّاس، فلن يستطيع الاستمرار في بدعته وضلالته.

من هنا فإنَّ أصحاب البدع -من باب ضيق الخناق ولكي تستمرَّ بدعتُهم- مضطرُّون إلى أن يأتوا بشيء جديد، بحيث يميّزهم عن الآخرين ولو كذباً وادّعاءً، حتى يستهوون النّاس؛ فإنَّ زادهم في الاستمرار هو التفاف بعض النّاس حولهم، وإلا فلا يمكن أن تستمرّ بدعتهم.

ونحن إذا قرأنا التَّاريخ نجد أنَّ أصحاب البدع دائماً كانوا هكذا، يحاولون أن يستقطبوا النّاس بأمور ملفتة جدّاً، فما يحصل اليوم ليس بأمر مستغرَب، وكنماذج على ذلك نذكر التّالي:

النموذج الأول: علي بن حسكة القمِّي، وتلميذه القاسم اليقطيني 

هاتان الشخصيتان كانتا في زمن الإمام الهاديg، وكانوا من المنحرفين، وحتى يجذبوا الناس إليهم ادَّعوا مجموعة من الدعاوى الكبيرة، وقاموا بمجموعة من الأمور([20])، نذكرها اختصاراً:

الأمر الأول: علي بن حسكة ادّعى البابيَّة والنبوّة لنفسه.

الأمر الثَّاني: كذلك ادّعى ألوهية الإمام الهاديg، وأنَّه هو نبيٌّ للإمام الهاديg.

الأمر الثَّالث: كان يروي أحاديث عن الأئمةi تشمئزُّ منها القلوب كما ورد.

الأمر الرَّابع: كانوا يفسّرون ويؤوّلون آيات الله تعالى بأمور غريبة، فمثلاً كانوا يقولون: إنَّ قول الله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(العنكبوت:45) معناها هو الرجُل، لا سجود ولا ركوع، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل، لا عدد دراهم، ولا إخراج مال.

الأمر الخامس: أنَّهم أوَّلوا أشياء من الفرائض والسنن والمعاصي. فكانوا يزعمون أنَّ الصلاة والزكاة والحجَّ والصوم، كلُّ ذلك هو معرفة الإمام الهاديg ومعرفة من كان مثل ابن حسكة فيما يدَّعي من البابيَّة والنبوّة، فالذي يعرف ابن حسكة سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج!

النموذج الثَّاني: محمَّد بن نصير النّميري 

هذا الشخص أيضاً كان في زمن الإمام الهاديg، وقد جاء بأمور كثيرة حتى يجتذب الناس([21])، منها:

الأمر الأوَّل: ادّعى أنَّه نبيٌّ للإمام الهاديg.

الأمر الثَّاني: كان يقول بالتناسخ.

الأمر الثَّالث: كان يقول بإباحة نكاح المحارم.

الأمر الرَّابع: كان يقول بإباحة نكاح الرجال بعضِهم بعضاً، وأنّ ذلك من الطيّبات التي لم يحرّمِ اللهُ منها شيئاً، بل يقول: إنّ ذلك من التواضع لله وترك التجبُّر. والعياذ بالله.

وهكذا توجد نماذج كثيرة مذكورة في التَّاريخ، بعضهم كانوا في زمن الأئمةi، وبعضهم كانوا بعد الغيبة المهدويّة، وعلى أيّ حال جميعُهم كانوا يسيرون على هذا المنوال، وهو الإتيان بأمور تخالف الشريعة الإسلاميَّة؛ حتى يتميَّزوا عن غيرهم، وبالتالي يستطيعون المواصلة في بدعتهم وضلالتهم.

التَّفسير الثَّاني: تفسيره بالمراوغة والالتفاف

بمعنى أنَّ صاحب البدعة لديه هدف يريد الوصول إليه، وهو جذب النّاس إليه من أجل تحقيق مآربه ومصالحه، والاستمرار في بدعته، ولكنَّ الأسلوب الذي كان مستخدماً في الأزمنة السابقة قد لا يكون نافعاً في استقطاب النّاس في هذا الزمن الحالي، فلذا لا بدَّ من تنوُّع الأساليب بما يتناسب مع ذوق الجمهور، ففي البداية كانت الدعوة باسم السَّفارة والبابيّة وجماعة الأمر، وعملوا جاهدين في استقطاب النّاس وبالخصوص النُّخب المثقَّفة، واستطاعوا إضلال البعض منهم، ولكن بعد ذلك لم تعد فكرة السَّفارة والبابيَّة عن الإمام المهديu مستساغة عند الجميع في هذا الزمن، خصوصاً مع تصدِّي العلماء لردِّ هذه البدعة، فلجأوا إلى أسلوب آخر لاستقطاب النّاس، وهو أسلوب الدعوة إلى التَّجديد في الدِّين؛ باعتبار أنَّ عنوان التَّجديد ممّا يستهوي النّاس في هذا العصر في شتّى المجالات، فبعض النّاس يحبُّ مثل هذه الشعارات ويستهويه، كشعار التَّجديد، والحريَّة، وانفتاح العقل، وما شابه.

ثمَّ بعد أن يقوموا بجذب النّاس إليهم، يقومون بعرض معتقداتهم الحقيقيَّة على من يرون أهليّتَه لتقبُّل ذلك، فينشرون من خلف الستار فكرة السَّفارة والبابيَّة.

وهذا ما نجده أيضاً عند أدعياء السَّفارة على مرِّ التّاريخ، حيث إنَّهم ينوِّعون الأساليب من أجل إضلال النّاس واستقطابهم.

وكمثال على ذلك نذكر النموذج التالي:

 الحلَّاج، أبو المغيث الحسين بن منصور الفارسي 

هذه الشخصيَّة من الشخصيَّات الغريبة والتي تميَّزت بتعدُّد الأساليب في سبيل إضلال النّاس كما ورد عنه([22])، ولتوضيح ذلك نذكر بعض الأمور التي نُقلت عنه:

الأمر الأوَّل: الحلَّاج كان ممَّن ادّعى السَّفارة عن الإمام المهديl كما ذكر الشيخ الطوسيO وغيرُه.

الأمر الثَّاني: كان يقول بالحلول، أي حلول الله سبحانه فيه، واتُّهمَ بأنَّه يقول بأنَّه هو الإله.

الأمر الثَّالث: كان يفتي بأحكام شرعيَّة غريبة، مثلاً: كان يقول: من صام ثلاثة أيام بلياليها ولم يفطر، ثم أخذ في اليوم الرَّابع ورقةَ هندباء وأفطرَ عليها أغناه ذلك عن صوم شهر رمضان، وإذا صلّى في ليلة واحدة ركعتين من أول الليل إلى الغداة أغنَتْه عن الصلاة بعد ذلك!! وإلى غيرها من الأحكام التي ما أنزل اللهُ بها من سلطان.

الأمر الرَّابع: قيل إنَّه ذهب إلى الهند لتعلُّم السحر والشعبذة. وفعلاً بعد ذلك كان يدّعي حصول المعجزات والكرامات على يده، وهذا أدّى إلى إضلال العديد من النّاس، وصاروا يقدِّسونه، ويتبرَّكون به.

الأمر الخامس: كان متلوِّناً، فكان يُظهرُ مذاهبَ الشيعةِ للملوك، والصوفيَّةَ للعامة، وكان ينتقَّل من مذهب إلى مذهب، ولا يجد غضاضةً في ذلك حتى يصل إلى أهدافه.

ولذا قال عنه الصولي الشطرنجي: "رأيت جاهلاً يتعاقل، وغبياً بيّناً يتبالغ، وفاجراً يتزهّد، وكان ظاهره أنَّه ناسك صوفي، فإذا عَلم أنَّ أهل بلده أو قوماً يرون الاعتزال صار معتزلياً عندهم، وإذا رأى قومَه من أهل السنَّة صار سنيّاً، وإذا رأى قوماً يميلون إلى الإمامة صار إماميّاً، وأراهم علماً من إمامهم القائم الذي ينتظرونه"([23])، يعني كلَّما رأى جماعة تلوَّن بما يعتقدونه، فإذا رأى الشيعة مثلاً ادّعى أنَّه سفير للإمام المهديu، وهكذا يتلوّن من أجل الوصول إلى هدفه.

الأمر السَّادس: كان يحاول أن يستقطب النُّخب الشيعيَّة وكبار الشخصيّات عند الشيعة، حتى يستقوي بهم بعد ذلك، فقد حاول أن يستقطب أبا سهلٍ النوبختي، ولكنَّه لم يُفلح، وحاول أن يستقطبَ والدَ الشيخِ الصدوق علي بن الحسينO، فذهب إليه في قم، وتوجّه إليه في دكانه الذي يعمل فيه، ولكن حينما عرفه الصدوق الأب أمر غلامَه بأن يأخذ الحلاجَ ويسحبَه من رجله وقفاه من الدكان، ففعل ذلك، فلم يُرَ الحلاج بعد ذلك في قم.

إذاً، أصحاب البدع يتلوَّنون وينوِّعون في الأساليب من أجل الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم، فلا غرابة في أن نسمع اليوم أنَّ أصحاب بدعة السَّفارة يطرحون الآن ما يسمّى بالتَّجديد في الدِّين، بل هذا هو المساق الطبيعي لأصحاب البدع على مرِّ التاريخ.

هذا هو التفسير الثَّاني لهذا التحوُّل الفكري لأصحاب بدعة السَّفارة.

التفسير الثَّالث: الاستدراج الإلهي

من السنن الإلهيَّة سنَّة الاستدراج، سنَّة الإضلال، سنَّة المكر، وقد أشار إليها القرآن الكريم في آيات عديدة، كقوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(القلم:44-45)، وكقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}(النساء:88)، وكقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(الأنفال:30).

إذاً، هذه سنَّة إلهيَّة، بمعنى أنَّ الإنسان إذا عصى الله تعالى، كأن ابتدع شيئاً ليس من الدِّين، فإنَّ الله تعالى يمهله، ففي البداية يرسل له من يهديه إلى الحقّ، ويبعث له من ينصحه، فإذا تكبَّر على الحقّ، واستمرَّ في عصيانه وبدعته، فإنَّ الله تعالى يستدرجُه، بمعنى أنَّ الله تعالى يغدقُ عليه النِّعم، ويعطيه ما يريدُه، ويرزقه بالخيرات، حتى يتصوَّر أنَّ الله تعالى راضٍ عنه، بل قد يتصوَّر أنَّ الله تعالى يدعمُه فيما هو فيه والعياذ بالله، فيزداد هذا الإنسان غفلةً فوق غفلة، ويستمرُّ في ضلاله وبدعته، بل قد ينتقل من بدعة إلى بدعة أخرى، فيجد أنَّ بعض النَّاس تميل إليه، وتُثني عليه، وتُعظِّمه، وهكذا يستمرُّ حاله إلى أن يأتيه العذاب بغتةً، يأتيه فجأة، فبعد ذلك لا يمكن ردُّ هذا العذاب. 

إذاً، هذه السنّة الإلهيَّة تكون للعاصين وللمبتدعين بعد أن يرسل الله تعالى لهم من يهديهم، ولا تكون ابتداءً من الله تعالى، فالله رحيم بعباده، ولكنّ الإنسان ليطغى، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(التوبة:115) ، إذاً أولاً تحصل الهداية لهذا الإنسان، ثم يحصل الاستدراج إذا لم يقبل الحقّ وجحده، ثم يأتيه العذاب.

وهذا ما كان يحصل لأهل البدع والضلالة على مرِّ التأريخ، ونذكر لذلك بعض النماذج:

النموذج الأوَّل: قارون 

قارون كان من أصحاب النبي موسىg، لكنَّه كان يحبُّ المال، فمال إلى الدنيا، واستخفَّ بالمعاصي، فجاءه القوم لنصحه وهدايته، ولكنَّه لم يهتدِ للحقّ، فأغدق الله عليه بالنعم والخير الكثير، يقول تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}(القصص:67-68)، فازداد غفلةً وتكبُّراً، حتى أتاه العذابُ بغتة، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}(القصص:81).

النموذج الثَّاني: علي بن الحسكة وتلميذه القاسم اليقطيني 

وقد تقدّم الحديث عنهما، ولكن هما أيضاً مثال لمن قد وقع في سنَّة الاستدراج، فقد كانا ممّن يزيِّن لهم الشيطان إلى أن وقعوا في الاستدراج، ولذا ورد عن الإمام الهاديg: >لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي بن حسكة القمي، إنّ شيطاناً تراءى للقاسم، فيوحي إليه زُخرُفَ القولِ غُروراً<([24])، فبسبب غفلتهم كان الشيطان سبباً في استدراجهم.

النموذج الثَّالث: الشلمغاني، محمَّد بن علي بن أبي العزاقر 

هذا الرجل كان من وجوه الشيعة، بل من فقهائهم، لكنَّه حسدَ السَّفير الثَّالث الحسينَ بن روح، فانحرف عن جادة الصواب، فجاءه الأصحاب ينصحونه ولكنَّه أبى أن ينصاع للحق، فوقع في الاستدراج، وأغدق الله عليه ما يريده، فقد التفَّت جماعةٌ كبيرة حوله من النّاس، فازداد غيّاً وغفلة، فادّعى ادّعاءات منكَرَة، وأتى بأحكام جديدة ليست من الدِّين، إلى أن أدّى به إلى الكفر والإلحاد، وادّعاء الربوبيَّة، وحلول روح الإله فيه، وسمّى نفسه (روح القدس)، وأنَّه يُحيي الموتى، وصدور اللعن من الإمام بحقِّه([25]). فانظر أين كان وإلى أين وصل!

النموذج الرَّابع: الشريعي، الحسن بن موسى 

فقد كان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكريh، ولكنَّه بعد ذلك ادّعى مقاماً لم يجعله الله فيه، وكذبَ على الله تعالى، ونسب إلى الأئمةq ما لا يليق بهم، ثمَّ ادّعى السَّفارة عن الإمام المهديl، إلى أن آل أمرُه إلى الكفر والإلحاد أيضاً، وخرج بشأنه توقيع الإمام المهديu بلعنه والبراءة منه([26]).

النموذج الخامس: أحمد بن هلال العبرتائي 

وقد كان أيضاً من أصحاب الإمامين الهادي والعسكريu، وكان كثيرَ العبادة، حجَّ أربعةً وخمسين حجَّة، منها عشرون حجَّة ماشياً على قدميه، ثم بعد ذلك انحرف، وفي زمن الغيبة الصغرى ادّعى السَّفارة عن الإمام المهديu، ولم يقبل بسفارة السَّفير الثَّاني محمَّدِ بن عثمان&، فجاء إليه الأصحاب ونصحوه، وقالوا له بأنَّنا سمعنا الإمام الحسن العسكريg قد نصَّ على سفارته، فلماذا تُنكرُها؟ فقال: أنا لم أسمع الإمام ينصُّ عليه، فقالوا له: ولكنَّه سمعَه غيرُك! فقال: أنتم وما سمعتم.

فلاحظ كيف أنَّ الله بعث إليه من يهديه، ولكنَّه لم يهتدِ للحقّ، فوقع في الاستدراج، ولم يكتفِ بادِّعاء السَّفارة، بل مالَ بعد ذلك إلى النصْب، فصار ناصبيّا، حتى نقل الشيخ الصدوق& عن سعد بن عبدالله أنَّه قال: "ما رأينا ولا سمعنا بمتشيِّعٍ رجعَ عن التشيُّع إلى النصب إلا أحمدَ بن هلال"([27]). إلى أن صدر اللعن في حقّه من الإمام المهديu([28]).

إذاً، هذا هو حال أصحاب البدع، قد يحسبون أنَّهم على خير، وأنَّهم في دائرة رضا الله تعالى، فيرسل الله تعالى لهم من يسعى لهدايتهم، ولكنَّهم يصرُّون على اتِّباع الهوى والشيطان، فيضلُّهُم الله، ويَستدرِجُهُم، فيزدادوا غفلة، وقد ينتقلون من بدعة إلى أخرى، ومن دعوى إلى دعوى، من سفارة، إلى تجديد، وإلى أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، وقد يؤول الأمر إلى الكفر والإلحاد كما قرأنا في التاريخ، وهكذا.

قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام:44-45). أجارنا الله تعالى من ذلك، وثبَّتنا على القول الحقّ.

المطلب الرَّابع: نتائج الابتداع في الدِّين

لا شكّ ولا ريب أنَّ الابتداع في الدِّين والانحراف عن جادة الحقِّ والصواب يستتبع نتائج وآثار على المجتمع وعلى نفس الأفراد المبتدعين، وكلامنا هنا عن النتائج المترتِّبة على نفس الأفراد المبتدعين في الدِّين، فيمكن أن نذكر النتائج التالية:

النَّتيجة الأولى: النتيجة الفكريّة

ذكرنا أنَّ أصحاب البدع والضلال يحاولون أن يأتوا بمجموعة من الأفكار الغريبة حتى يُضلِّلوا النّاس، ويستميلونهم إليهم، لكن هذه الأفكار سرعان ما يتَّضح زيفها، وأنَّها مجرَّد أطروحات لا تستند لعقل ولا لنقل، فيتبيَّن -ببركة جهود العلماء المخلصين في التصدِّي لأصحاب البدع- أنَّ هناك خواءً فكرياً عند هؤلاء.

وهذا في الحقيقة أحد الأمارات التي تميِّز المنهج الحقّ عن المنهج الباطل؛ إذ من المهم أن تتم ملاحظة المنهج الفكري والعملي لصاحب البدعة، فإن كان المنهج فيه ما يتنافى مع العقل السليم، والفطرة الإنسانية، فإنَّ هذا المنهج باطل لا محالة، وصاحبه كاذب بلا شك؛ لأنَّ المنهج الإلهي الحقّ لا يمكن أن يتصادم مع العقل والفطرة.

وقد عرف عن مدعي السَّفارة المهدويّة دعاوى تتنافى مع العقل والفطرة على مرِّ التّاريخ، وهذا لا يمكن أن ينسجم مع صدق دعواهم في السَّفارة عن الإمام المهديu، وقد ذكرنا سابقاً شطراً من النماذج، وإليك بعضها اختصاراً:

-يقول هارون التلعكبري في حقِّ الشريعي: "ظهر منه القول بالكفر والإلحاد"([29]).

-ويقول سعد بن عبد الله في حقِّ النميري: "كان محمَّد بن نصير النميري يدَّعي أنَّه رسول نبي، وأنَّ علي بن محمد g أرسله، وكان يقول بالتناسخ، ويغلو في أبي الحسنg ويقول فيه بالربوبيّة، ويقول بالإباحة للمحارم، وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم.."([30]).

-ويقول الشيخ الطوسيO في حقّ الشلمغاني: "وله حكايات قبيحة وأمور فظيعة ننزِّه كتابنا عن ذكرها"([31]).

فهذه نتاجات فكريّة باطلة، جاءت نتيجة للانحراف والابتداع في الدِّين.

النتيجة الثَّانية: النتيجة الاجتماعيّة

النتيجة الحتميّة لأصحاب البدع هو الانزواء والعزلة الاجتماعيّة؛ وذلك باعتبار أنَّ المجتمع يتمتَّع بقدر كبير من الوعي، وعلى قدر كبير من المعرفة التي تجعله يميِّز الحقَّ من الباطل، وذلك بجهود العلماء المخلصين الذي يبذلون قصارى جهودهم في التصدِّي لأصحاب البدع، وتثقيف المجتمع بأبعاد هذه البدع الخطيرة، فيبقى صاحب البدعة بعد ذلك منعزلاً اجتماعياً، ومنبوذاً من قبل النّاس.

وكمثال على هذه النتيجة نذكر نموذجين:

النموذج الأوَّل: الواقفيَّة

الواقفيَّة جماعة كانوا وكلاء للإمام الكاظمg، وعلى رأسهم علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، ولكن بعد استشهاد الإمام الكاظمg طمعوا فيما كان بأيديهم من أموال وحقوق شرعيّة، فامتنعوا عن تسليمها للإمام الرضاg، وادّعوا أنَّ الإمام الكاظمg حيٌّ يُرزق، وأنَّه القائم من آل محمدq، وأنَّه غاب وسيرجع حينما يأذن الله له، فوقفوا على إمامة الإمام الكاظمg، وتبعهم على ذلك جماعة من النَّاس.

لكن الإمام الرضاg وجماعة من الأصحاب المخلصين قام بالتصدِّي لهذه الفرقة المنحرفة بشكل كبير وحاسم، فها هو يونس بن عبد الرحمن يتصدّى لهذه الفرقة الضالة بكلِّ ما أوتي من استطاعة، ويرفض الإغراءات الماديّة الكبيرة التي قُدِّمت إليه في سبيل السكوت عنهم، فيقول: "مَاتَ أَبُو إِبْرَاهِيمَg وَلَيْسَ مِنْ قُوَّامِهِ أَحَدٌ إِلَّا وَعِنْدَهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وَقْفِهِمْ وجَحْدِهِمْ مَوْتَهُ طَمَعاً فِي الْأَمْوَالِ، كَانَ عِنْدَ زِيَادِ بْنِ مَرْوَانَ الْقَنْدِيِّ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.

فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنْتُ الْحَقَّ، وَعَرَفْتُ مِنْ أَمْرِ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَاg مَا عَلِمْتُ، تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُ النَّاسَ إِلَيْهِ، فَبَعَثَا إِلَيَّ وَقَالا: مَا يَدْعُوكَ إِلَى هَذَا؟ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَنَحْنُ نُغْنِيكَ. وَضَمِنَا لِي عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالا لِي: كُفَّ.

فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ لَهُمَا: إِنَّا رُوِّينَا عَنِ الصَّادِقِينَh أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُلِبَ نُورَ الْإِيمَانِ. وَمَا كُنْتُ لِأَدَعَ الْجِهَادَ وَأَمْرَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَنَاصَبَانِي وَأَضْمَرَا لِيَ الْعَدَاوَة"([32]).

وهكذا كان بقية الأصحاب يناظرونهم ويردُّون أباطيلهم، حتى أُطلق عليهم لقب (الكلاب الممطورة)، وهذا التشبيه باعتبار أنَّ الشيعة صارت تجانبهم وتبتعد عنهم كما تُجانب وتبتعد عن الكلاب التي أصابها ماء المطر؛ حيث إنَّ الناس تجتنب عنها مخافة التنجُّس، فينقل الشيخ أبو محمد الحسن النوبختي هذه الحادثة في ضمن حديثه عن الواقفة فيقول: "وقد لقّب [الواقفة] بعض مخالفيها ممّن قال بإمامة علي بن موسىh: (الممطورة)، وغلب عليها هذا الاسم وشاع لها.

وكان سبب ذلك أنّ علي بن إسماعيل الميثمي، ويونس بن عبد الرحمن ناظر بعضهم، فقال له علي بن إسماعيل -وقد اشتد الكلام بينهم-: ما أنتم إلّا كلاب ممطورة، أراد أنَّكم أنتن جيف؛ لأنَّ الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف، فلزمهم هذا اللّقب، فهم يُعرفون به اليوم، لأنَّه إذا قيل للرجل أنَّه ممطور فقد علم أنَّه من الواقفة على موسى بن جعفرh خاصّة، لأنَّ كلَّ من مضى منهم فله واقفة وقفت عليه، وهذا اللّقب لأصحاب موسى خاصة"([33]).

وهكذا تصدّى لهم الإمام الرضاg بمناظراته معهم([34])، وتحذير أصحابه منهم، فصار هذا التصدِّي سبباً في انعزالهم في المجتمع، إلى أن انقرضت هذه الفرقة ولم يعد لها أثر باقٍ.

النموذج الثَّاني: السَّامري

فمن الأمثلة القرآنية على هذه النتيجة ما حدث للسامري في زمن النبي موسىg، حيث إنَّه بعد أن فعل فعلته الشنيعة في إضلال النّاس بالعجل، أمر النبي موسىg بطرده والانعزال عن النّاس طوال عمره، {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ}(طه:97) ، وبهذا الحكم الحازم تمّ طرد السامري من المجتمع، وجُعل في عزلة تامّة، منزوياً بعيداً عن النّاس، وقال بعض المفسِّرين بأنَّ جملة >لا مِساس< إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسىg التي كانت تصدر في حقِّ من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرِّير، نجس قذر، فلا يقربه أحد، ولا يقرب أحداً([35]).

فنلاحظ بأنَّ هذا الحكم وهذا القول من النبي موسىg كناية عن الأمر بمقاطعة أمثال هؤلاء، وعدم الاتِّصال بهم؛ حتى يعيشوا ألم الوحدة والانعزال جزاءً بما اقترفوه من فساد، وأن لا يُستهان بأمر هؤلاء؛ لأنَّ فسادهم لا يرجع إليهم بالخصوص، وإنَّما فسادهم يعمُّ المجتمع، ويؤدِّي إلى افتتان النّاس وانحرافهم عن الحقّ.

النتيجة الثَّالثة: النتيجة الدينيّة

حينما نقرأ التاريخ نجد أنَّ أصحاب البدع ينتهي بهم الأمر إلى الخروج عن الدِّين، وإنكار ضروريَّاته، بل إلى الشرك والإلحاد، فيبدأ الأمر بهم باسم السَّفارة والنيابة مثلاً، ثمَّ إلى تغيير أحكام الله تعالى وتأويل آيات كتابه بما ينسجم معهم، ثمَّ إنكار الضرورات الإسلاميَّة، إلى الخروج عن الدِّين والإلحاد. 

وقد ذكرنا شطراً كبيراً من النماذج والأمثلة لذلك، والتي ذكرت في كتب الحديث والتاريخ، فليراجع هناك.

النتيجة الرَّابعة: النتيجة المستقبليّة

القارئ للتاريخ سيجد أنَّ الكثير من الفرق المنحرفة التي ظهرت قد انقرضت مع مضيِّ الأيام، فالكيسانيَّة انقرضت، والفطحيَّة انتهت، والواقفيَّة اندثرت، وأصحاب السَّفارة والبدع قد انقرضوا، وستكشف لنا الأيام في المستقبل كيف أنَّه سوف تنقرض أيضاً هذه الجماعات المنحرفة المتواجدة اليوم، وأنَّها لن يُكتب لها الاستمرار إن شاء الله تعالى، وذلك ببركة عناية صاحب العصر والزمانl، وجهود العلماء المخلصين، ووعي المجتمعات الإسلاميَّة.

خاتمة

بعد استعراض كلِّ هذه الشواهد التاريخيَّة والروائيَّة في أصحاب البدع، ففي ختام هذه الأسطر نذكِّر هؤلاء المفتونين بما ورد عن النبيe، حيث قال: >مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ<([36]).

فلا يتصوّر هؤلاء أنَّهم يتحمَّلون وزرهم فقط بسبب أعمالهم، وإنَّما هم -بالإضافة إلى ذلك- يتحمّلون وزرَ كلَّ إنسان ينخدع بهم، ويغترُّ بمقولتهم، من الآن إلى يوم القيامة، جيلاً بعد جيل، فيا له من هولٍ عظيم، ووزرٍ ثقيل، أن يأتي الإنسانُ يوم القيامة وهو يحمل وزرَه ووزرَ غيره من النّاس، فيحاسب حساباً عسيراً، وحينذاك لن تنفع الندامة والحسرة. 

يقول تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}(الزمن:56-59).

ويقول : {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(يونس:54).

وأمَّا الأتباع الذين اغترُّوا بمقولة هؤلاء، فعليهم الالتفات إلى أنَّ مجرّد التغرير بهم ليس معذِّراً ما دامت الحجَّة تُلقى عليهم، فها هم العلماء يصدحون في ردِّ الشبهات والأباطيل، بالحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، فما عليهم إلَّا أن يفتحوا أذهانهم، ويزيلوا الحواجب المانعة عن تقبُّل الحقّ، والبحث بموضوعيّة وإنصاف، حتى يصلوا إلى الحقّ فيتّبعوه، يقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}(الفرقان:27-29).

هدانا الله تعالى جميعاً لما يحبُّ ويرضى، وثبَّتنا على القول الصادق، وعصمنا عن الزلل، وآمننا من الفتن، بحقِّ محمَّد وآل محمَّد الطيِّبين الطاهرين.

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

 


 


([1]) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص: 412‌؛ الصحاح، الجوهري، ج‌2، ص686‌.

([2]) المهدوية الخاتمة، السيد ضياء الخباز، ج1، ص143.

([3]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج‌27، ص138‌.

([4]) مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص276- 278.

([5]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج‏2، ص516.

([6]) راجع كلمات الأعلام في ذلك منذ بداية زمن الغيبة الكبرى إلى يومنا هذا في كتاب: المهدوية الخاتمة، السيد ضياء الخباز، ج1، ص166- 201.

([7]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج‏2، ص432.

([8]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج‏2، ص484.

([9]) استفدنا بعضها من أستاذنا سماحة الشيخ حسن الهودارŽ.

([10]) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الحسن الأشعري، ابن عساكر، ص53.

([11]) عون المعبود في شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج١١، ص٣٩١.

([12]) البداية والنهاية، ابن كثير، ص٤٥٩.

([13]) فيض القدير للمناوي، ج١، ص١٠.

([14]) راجع: تجديد الفكر الديني في إيران، فردين قريشي، تعريب علي الموسوي، ص79 وص82.

([15]) لسان العرب، ابن منظور، ج‌3، ص111‌.

([16]) سنن أبي داود، ج2، ص512، كتاب الملاحم.

([17]) راجع مقال: دراسة حديثية تحليلية لـ "حديث التَّجديد في الدين"، علي الأسدي، مجلة آداب الكوفة، العدد 26، ص412.

([18]) إحياء الفكر الديني.. ما معناه؟، الشهيد مرتضى مطهري، مجلة ثقافة التغريب، عدد 61، ص20.

([19]) استفدنا عناوينها من أستاذنا سماحة الشيخ محمد باقر الشيخŽ.

([20]) رجال الكشي، ص517.

([21]) الغيبة للطوسي، ص398؛ مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص365.

([22]) الغيبة للطوسي، ص401؛ مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص386.

([23]) نقلاً من كتاب: مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص392.

([24]) رجال الكشي، ص518.

([25]) مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص401.

([26]) مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص363.

([27]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج‏1، ص76.

([28]) مدّعو المهدوية والسَّفارة، د. كنعان جليل إبراهيم، ص373.

([29]) الغيبة للطوسي، ص397.

([30]) الغيبة للطوسي، ص268.

([31]) الغيبة للطوسي، ص274.

([32]) الغيبة للطوسي، ص64.

([33]) خاتمة المستدرك، الشيخ النوري، ج‏4، ص349.

([34]) راجع: رجال الكشي، ص463.

([35]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏10، ص67.

([36]) الفصول المختارة، الشيخ المفيد، ص136.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا