البعثة النبوية الشريفة وملابساتها

البعثة النبوية الشريفة وملابساتها

بسم الله والصلاة والسلام على خير خلق الله العبد المؤيد الرسول المسدَّد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}(1).

موضوع هذا البحث "البعثة النبوية المباركة" وبحث كل ما دار قبلها من مقتضياته-إذ لا يتضح دورها إلا بمعرفة المناخ الذي ولدت فيه- فالبحث إذن في مقامين:

المقام الأول: ما قبل البعثة وفيه نقاط

أولاً: الجاهلية قبل الإسلام

إنَّ طبيعة البحث حول موضوع البعثة يحتم علينا ملاحظة ما قبلها من الجو والمناخ الذي ولدت فيه، لنعرف ملابساتها وتداعياتها وما جرى عند ولادتها من أحداث، وذلك من خلال دراسة ماهية ذلك العصر من عادات أهله ومعتقداتهم، وسنعرضها كخصائص له بشيءٍ من التوسّع والبسط.

خصائص العصر الجاهلي وما يعني اصطلاح الجاهلية:

إنما سمي هذا العصر -العصر المتصل بظهور الإسلام- بالجاهلي، لأنّ الحاكم فيه هو الجهل لا العلم، والمسيطر عليه يومئذ هو الباطل لا الحق فلذا سمي بذلك وعرّف بعضُهم(2) الجاهليةَ اصطلاحاً أنّها: مجموعة الأفكار والعواطف والأعمال والمواقف أو السلوكيات المضادة لشريعة الإسلام والحضارة الإنسانية بشكل عام، وعرّفها بعض آخر(3) أنها: عدم العلم وفقدان المعرفة، وخصائص الجاهلية العربية قبل البعثة على مستويات منها:

المستوى العقائدي: كانت عقائده منحرفة كعبادة الأوثان والأصنام والاستسقاء بإشعال النيران في أذناب البقر بعد حزمها مع أشجار سريعة الاشتعال(4) الخ، ولذا وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة بقوله: «وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار... الأصنام فيكم منصوبة والآثام فيكم معصوبة»(5).

مستوى العادات والتقاليد: فقد كانت متمخضة في الجهل المدقع؛ الذي أورث لهم عادات يمقتها الطبع الإنساني كمثل وأْد البنات وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}(6)، وكذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «في بلاء أزل وإطباق جهل: من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة»(7)، وبغضهم أن يبشَّر أحدهم بالأنثى وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُو كَظِيمٌ}(8)، وإذا خاف بعضهم عند نزول القحط والجذب الإملاق فإنهم يقتلون أولادهم وهذا ما تبينه الآية المباركة {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}(9) وانتشار أنواع الزيجات الخاطئة الفاحشة واستحقار المرأة إلى درجة الحيوان، حتى جاء الإسلام ليغيّر مكاييل وموازين الإنسانية {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }(10)، و{أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}(11) وأوصاهم بالزواج بالشكل الصحيح كما في قوله تعالى: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}(12)، ومن عاداتهم الخرافية الكثير أيضاً نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، مثلاً: نهيق الرجل إذا أراد دخول القرية وهو خائف من وبائها، تصفيق الضّال في الصحراء ليهتدي، وشقّ الرجل برقع المرأة وشقها ردائه يوجب الحب المتقابل الدائم وإلا فلا(13)، وما إلى ذلك مما ينبئ عن ما كانوا عليه من جهل وتخلف.

المستوى الاقتصادي: فقد كانت عمليتا الربا والاحتكار رائجتين وقد نتج عنهما ومثيلاتهما الطبقية الاجتماعية الفاحشة والرق، كذلك القمار والظلم في المواريث كعدم الإرث للمرأة بل إنها مما يورَث وعدم تحديد أصل الإرث بحدود وضوابط.

المستوى الاجتماعي: فمن سماته البارزة الواضحة وهي من مقتضيات البداوة والتخلف والطبيعة العربية آنذاك انتشارَ التعصب القبلي الذي أدّى إلى حروب طاحنة وهذا ما يوضحه لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه لهم: «والأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة... وغارات مشنونة»، والنتيجة الطبيعية لهذا هو التفكك الاجتماعي الناشئ من حروبها وعصبيتها ومن التفككات الأسرية الناجمة من العبث الجنسي والانحلال الخُلقي والأخلاقي.

دفع تعارض يتوهّم:

ألفتتني كلمتان مباركتان لسيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين (عليه السلام) قد يتوهم البعض منهما التعارض، والكلمتان هما قوله (عليه السلام) في إحدى خطبه عند وصفه للعرب قبل البعثة: «وأنتم معشر العرب على شر دين وشر دار» وفي خطبة أخرى «في خير دار وشر جيران»، فكيف نوفق بين «شر دار» و«خير دار»؟

أقول أولاً: لا بد أن ننظر إلى سياق الحديث في كليهما على حدة؛ حتى نتعرّف على ما يدور حولهما وما يفهم من سياق الحديثين اللذين وقعا فيه لرفع التعارض المتوهم.

ثانياً: من خلال النظر والتدقيق يظهر من سياقهما عدم التعارض، حيث إنّ اللحاظين اللذين على أساسهما قسّم (عليه السلام) الدار تارة إلى شر وتارة إلى خير مختلفان، فإنّ اللحاظ في المقطع الأول هو النظر لأحوال الناس وسلوكياتهم حينذاك وما تحمله من مخالفات إنسانية وأخلاقية، وهذا ما يظهر من سياق كلامه (عليه السلام) في نفس الفقرة من الخطبة وهو قوله: «.. وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»، وقد تكون من باب (تسمية الشيء باسم لازمه) كما إذا قلت "الزّمن غدّار" فالزمن بما هو أوقات وأحيان -وبما هو أمر اعتباري- ليس من قابلياته الغدر وإنما وُصف باسم لازمه ألا وهم الناس الموجودين فيه.

 وأمّا الثاني فلحاظه المكان الجغرافي، وأنّها منطقة خير، وما يدلل على هذا التوجيه ما عطف عليه من قوله «وشر جيران» مكانياً، وما يدلل على هذا أيضاً -أنها جغرافياً دار خير- اعتبارات عدة:

- منها: احتضانها للكعبة المشرفة وهي من خير بقاع الأرض وهي بيت الله الحرام.

- ومنها: احتوائها السلالة الطاهرة للأنبياء والأوصياء التي جاء من صلبها نبينا  (صلّى الله عليه وآله)وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

- ومنها: تمتع بعض أهلها ببعض مكارم الأخلاق، كما يذكر لنا التاريخ.

- ومنها: أنّها تمثّل مركزاً تجارياً، وثقافياً، ودينياً فكان يجتمع فيها حجاج بيت الله الحرام وأصحاب الفنون والطقوس والوجاهة وغيرهم.

وما يُثبت من جهة أخرى أن لحاظها جغرافياً هو أنّ جيرانها حقاً «شر جيران» كما يقول بعضهم عن هذه الحيثية: 

"كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها امبراطورية الروم وهي نصرانية أيضاً، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك مصر والهند وَثنيَّتان، وفي أرضهم طوائف من اليهود، وهم وثنيُّون يعيش أكثرهم عيشة القبائل، وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعاً همجياً بدوياً فيه أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وهم سكارى في جهالتهم"(14).

ثانياً: مولد النبي (صلّى الله عليه وآله) وما رافقه من كرامات

 بما أنّ لمولد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) مدخلية في مسألة البعثة النبوية من جهة أنّه كان من الممهدات المهيئة لتثبيت أمر البعثة والإسلام، وقد يطرح سؤال في المقام، ما الهدف من وقوع بعض الحوادث عند ولادة نبينا (صلّى الله عليه وآله)؟ ويجاب أنه يتلخص الهدف من ذلك في أمرين:

الأول: إنّها تدفع الجبابرة والوثنيِّين وعبدة الأصنام إلى التفكير فيما هم فيه (كهزّة تذكيريَّة).

الثاني: إنّ هذه الحوادث جاءت لتبرهن وتدلّل على جلالة شأن المولود وعظمته.

 ولا يفوتنا أن نذكر هنا وقبل الدخول للمبعث الشريف بعض ما صاحب وواكب ميلاد خير البشر من حوادث وعلامات وكرامات:

1- انطفاء نيران فارس التي بقيت ولم تنطفئ لعشرات السنين وهي تُعبَد.

2- ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربعة عشر شرفةً منه.

3- تساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وتنكّست كل أصنام الدنيا.

4- جفاف بحيرة ساوة.

5- رؤية أنوشيروان (مَلِك الفرس) ومؤيِّدوه رؤيا مخيفة.

6- أنّ إبليس رنّ (صوّت بحزنٍ وكآبة) أربع رناتٍ: رنّة حين لُعن، ورنّة حين أُهبط، ورنّة حين ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والرنّة الرابعة يوم مبعث النبي(15) (صلّى الله عليه وآله).

ثالثاً: نفحات من تاريخ شباب النبي (صلّى الله عليه وآله)

طيّاً لشيء من تاريخ حياته (صلّى الله عليه وآله) نتجاوز تاريخ طفولته حتى صباه؛ مختصرين عرض الأحداث وصولاً لمبتغانا وهي فترة البعثة وما رافقها، والكلام -فعلاً- في أهم الأحداث التي مرّت به في فترة شبابه قبل بعثته (صلّى الله عليه وآله) مباشرة.

نحن نعلم من حيث المبدأ أن قادة المجتمع يجب أن يكونوا أقوياء شجعان، ومتميزين في كل أبعاد شخصيتهم، بحيث يمتلكون قوةً روحيةً كبرى، ويتمتعون بصدر رحب، وإرادة قوية، فإنّ لعظمة القائد الروحية ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً على أتباعه وأنصاره؛ ولقد كانت شخصية عزيز قريشٍ نبينا محمد  (صلّى الله عليه وآله) تتميّز في شتى أبعادها بالبطولية والمثالية ومن هذا أمثلة كثيرة في شبابه قبل البعثة، وبعد شبابه- قبل وبعد البعثة- نذكر منها:

ما روي عن مشاركته مع قريش في حرب الفجار -قبل البعثة- مع قبيلة هوازن، على الاختلاف الدائر في صحة ذلك وعدمه، ولكن إن كان صحيحاً فإنّه في مثل الرواية المروية عن الحادثة قد بيّن أنّ الحرب كانت نوع من إنصاف المظلوم على الظالم، ومحل شاهدنا: هو إنْ صحّت الرواية على أنّه شارك ولم يتجاوز عمره العشرين فهذا دليل واضح على شجاعته وقوته وجرأته قبل البعثة.

أمّا بعد البعثة فالأدلة على ذلك كثيرة ولكن لسنا بصددها ولكن نذكر رواية جميلة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كمثال واحدٍ وهو قوله (عليه السلام): «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول (صلّى الله عليه وآله)، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدو منه»(16).

 مشاركته (صلّى الله عليه وآله) في حلف الفضول:

وهو حلف شريف حميد كان يفضي إلى نصرة المظلوم والنهي عن المنكر، وقد عقد في دار أبي جدعان بغمس أيدي المجتمعين في ماء زمزم وقد أثنى عليه (صلّى الله عليه وآله) بعد نبوته وأمضاه بقوله: «ما أُحبّ أن لي بحلفٍ حضرته في دار أبي جدعان حمر النعم، ولو دعيت به أو لمثله لأجبت»(17).

رعيه (صلّى الله عليه وآله) للأغنام:

وفي هذا ورد في الخبر عنه (صلّى الله عليه وآله): «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم»، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «أنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط»(18).

عمله في التجارة:

 بعد أن اشتهر النبي (صلّى الله عليه وآله) بالصادق الأمين، بلغ خديجة ذلك وكانت آنذاك صاحبة رصيد مالي كبير وكانت تحرّكه في التجارة عن طريق المضاربة -وهي دفع أحد الطرفين مالاً وتحريك شخص آخر لهذا المال بالعمل ويسمى (عاملا) لتكون الأرباح بينهما بالنسبة المتفقة والخسارة على صاحب المال- فبعثت إليه فوراً قائلة: «إنّي دعاني إلى الحديث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظيم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيتك ضعف ما أُعطي رجلاً من قومك، وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في هذا السفر»(19). وكانت هذه عبارة عن مضاربة للرسول (صلّى الله عليه وآله) بأموال خديجة وليس إجارة النبي لخديجة، لأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يكن أجيراً لأحدٍ قط.

زواجه (صلّى الله عليه وآله) من السيدة خديجة (عليها السلام):

 بعد أن عزم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على الزواج وأقدم على زواج خديجة بنت خويلد تلك المرأة الثرية المعروفة بكثرة مالها؛ والتي رفضت كل طلبات الزواج ومن أكبر الشخصيات ثراءً آنذاك من أمثال: أبي جهل بن هشام وأبي سفيان، ولكن الغيب يخفي عنا السرّ في قبولها له مع الفارق الشاسع بين وضعهما المعيشي، وبعض المؤرخين يصرّح بأنها هي التي عرضت نفسها للزواج منه، بل أكثر من ذلك وهبت كل ما تملك بعد ذلك فداءً للنبي (صلّى الله عليه وآله) والإسلام، ولا شك أنّ هذا النوع من الفداء والتفاني لا يتحقق إلا بوجود إيمانٍ بفكر، ومعتقد له جذور قوية في نفس خديجة تجاه عزيز قريش الأمين محمد (صلّى الله عليه وآله)، لا سيما وأنّ هذا ليس أمراً مألوفاً -على الأقل- في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على وجه الخصوص.

رابعاً: ماذا كان دين النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل البعثة؟

مما يثبته المعتقد الإمامي أنّ النبوة ثابتة لشخوص الأنبياء وعصمتهم كذلك من ولاتهم، وإنما الفعلية للبعث أو الرسالة تتفاوت بالنسبة لكل نبي،  ونحن هنا لسنا بصدد إثبات هذه الحيثية بالدقة، وإنما لإثبات أمر متعلقٍ بها بشكل وثيق، وهو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يدين بدينٍ إلهي توحيدي وعن طريق دليل نبوته قبل البعثة يمكننا إثبات مرادنا، ولكننا سوف نذكر أدلة أخرى:

الدليل الأول: ويحتاج لمقدمتين.

- المقدمة الأولى: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أوتي الفضائل والكرامات التي هي لجملة الأنبياء السابقين (عليهم السلام)  بدليل قول أحد الأئمة (عليهم السلام): «إنّ الله تعالى لم يُعطِ نبياً فضيلةً ولا كرامةً ولا معجزةً إلاّ أعطاها نبيّنا محمداً (صلّى الله عليه وآله)»(20).

-المقدمة الثانية: ورد أنّ يحيى وعيسى (عليهما السلام) كانا حجتين وهما صغيران بدليل قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.

- النتيجة: أنّ الله -وبشكل طبيعي- ما دام قد أعطى فضيلة وكرامة ومعجزة الحُكم والكتاب والنبوة لنبيَّين من أنبيائه فهي للنبي محمد (صلّى الله عليه وآله) لصدق الحديث الشريف في المقدمة الأولى.

الدليل الثاني: إنّ بغضه (صلّى الله عليه وآله) للأصنام وتجنبه عن الأوثان واضح من الروايات الصحيحة المعتبرة والمعتمدة وإليك بعض أمثلتها:

- جاء في حديثٍ طويل: "أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لمّا تمّ له ثلاث سنين، قال لأمّه (مرضعته) حليمة السعدية: «ما لي لا أرى أخَوَيَّ بالنهار؟» قالت له: يا بُنيّ إنهما يرعيان غُنيمات،             قال: «فما لي لا أخرج معهما»، قالت له: أتحبُّ ذلك؟ قال: «نعم»، فلما أصبح محمد دهّنته -والكلام لحليمة- وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزعٌ يمانيٌ –كحرز-، فنزعه ثم قال لأمّه: «مهلاً يا أمّاه فإنّ معي مَن يحفظني»"(21).

- روي أنّه وقع بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وبين رجل اختلاف في سفرته الثانية إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها (ميسرة) بعد أن باع (صلّى الله عليه وآله) سلعته، فقال له الرجل: احلف باللات والعزّى، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ما حلفت بهما قطّ، وإنّي لأمُرُّ فأعرض»، وفي رواية أخرى: «إليك عنّي ثكلتك أمّك فما تكلمت العرب بكلمة أثقل عليّ من هذه الكلمة»، فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة: هذا نبي"(22).

 أمّا ما هو الدين الذي كان يدين به، هل كانت المسيحية التي سبقت رسالته مباشرة؟ وهذا ما لم يحدثنا التاريخ به، أما لماذا لم يحدثنا التاريخ به رغم أن المفروض أنه اتبع الدين الذي سبقه، بل وأخبرنا التاريخ بأنه كان ملتزماً بدين إبراهيم الحنيف (عليه السلام)، وهذا قد يُطرح كإشكال في المقام ولكن قد يجاب عليه: بأن جميع الأنبياء والمرسلين يتفقون في الدعوة لمضامين واحدة من: وجود إله واحد لا شريك له ولا نظير، والحث على الخير والإحسان ومحاربة البغي والعدوان، ونحو ذلك مما يعود على الناس جميعاً بالخير.

المقام الثاني: البعثة النبوية الشريفة

البعثة لغة: بَعَثَ بعثاَ، تبعاثاً: أرسله وحده(23)، أما اصطلاحاً: هي إرسال نبي الإسلام محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) أو فعلية نبوة ورسالة خاتم الأنبياء والمرسلين (صلّى الله عليه وآله).

والبحث في جهات:

الجهة الأولى: متى بُعث النبي (صلّى الله عليه وآله) برسالة الإسلام؟

أما بالنسبة لليوم والشهر لبدء البعثة الشريف قد اختلف المؤرخون في تحديدهما فقال اليعقوبي: كان مبعثه (صلّى الله عليه وآله) في شهر ربيع الأول، وقيل: في رمضان،  ومن شهور العجم: في شباط. قال: أتاه جبرائيل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين(24). وقال غيره غير ما ذهب إليه، ولكن الصحيح عندنا -الشيعة الإمامية- هو ما ورد لنا في روايات أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) في تعيين يوم المبعث الشريف: أنه في يوم السابع والعشرون من شهر رجب الأصب فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «في اليوم السابع والعشرين من رجب نزلت النبوة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»، فأصبح هذا يوم مبارك وفضيل عند الشيعة، فيستحب فيه الصيام والقيام بآداب وعبادات تخصّه وعنه أيضاً (عليه السلام): «لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد (صلّى الله عليه وآله)»، لأننا نعتقد بأنّ أبواب الرحمة والبركة تتفتح لأهل الأرض عامة، لأن النبي بُعث رحمة للعالمين أجمعين(25).

وأمّا بالنسبة لسنة البعثة فقال بعضهم: أنها كانت بعد بنيان الكعبة بخمسين عاماً، وعلى رأس عشرين سنة مضين من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وعلى رأس مائتي عام من يوم التحالف بالربذة، وكانت في سنة 609  من تاريخ ميلاد المسيح (عليه السلام)، أي بعد ميلاده (صلّى الله عليه وآله) بأربعين سنة على رواية ميلاده في عام الفيل سنة 570 بعد ميلاد المسيح (عليه السلام).

الجهة الثانية: كيف بدأت البعثة:

أمّا حول كيفية بدء البعثة والنبوة لنبينا  (صلّى الله عليه وآله)فقد كانت عن طريق الوحي، والتي بها تحركت عجلة تاريخ الإسلام المحمدي، كان ذلك في غار "حراء" الواقع في شمال "مكة"، فقد كان (صلّى الله عليه وآله) ولمدة طويلة يقضي كثيرا من وقته فيه بالعبادة ومناجاة ربه، وبالخلوة بنفسه بعيدا عن أنظار الناس.

الجهة الثالثة: كيف عرف النبي أنّه نبي؟ وكيف عرفَ الوحي وحياً؟

 كان لرسول (صلّى الله عليه وآله) قبل فعلية نبوته المباركة أمارات وعلامات واضحة على أنّه نبي ومرسل من الله تعالى، ولم يكن الأمر خفياً أو جديداً على النبي (صلّى الله عليه وآله) بنزول جبرئيل بالوحي في غار حراء فيصطدم بذلك الحدث فيخاف فيلتجأ إلى زوجته خديجة حتى تستعين هي بورقة بن نوفل وما إلى ذلك مما تقوّله البعض في حقه (صلّى الله عليه وآله)، فمن الأمارات والعلامات التي يذكرها لنا التاريخ ما نقله الشيخ الجليل الثقة علي بن إبراهيم القمي: "أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله! ومضت برهة من الزمان وهو على ذلك يكتمه، وإذا هو في بعض الأيام يرعى غنماً لأبي طالب (عليه السلام) في شعب الجبال، إذ رأى شخصاً يقول له: يا رسول الله! فقال له: من أنت؟ قال: أنا جبرائيل، أرسلني الله إليك ليتّخذك رسولا، فجعل يعلّمه الوضوء والصلاة. ذلك عندما تمّ له أربعون سنة"(26).

وفي تاريخ الطبري: "كان رسول (صلّى الله عليه وآله) من قبل أن يظهر له جبرائيل (عليه السلام) برسالة الله إليه، يرى ويعاين آثاراً وأسباباً من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله"(27).

الجهة الرابعة: محاكمة ما ورد في بداية البعثة:

في هذه الجهة نقف وقفة نظام تجاه ما دوّن من تاريخ حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشكل عام، وفترة بعثته الشريفة بشكل خاص، فمن خلال قراءتي لهذا الشطر المهم في حياته (صلّى الله عليه وآله) وحياة الإسلام الحنيف، استوقفتني -كما استوقفت أرباب التاريخ من علمائنا الإمامية- مجموعة من الروايات والمؤرخات التي يخجل الإنسان المؤمن من قراءتها فضلاً عن قبولها في حق أشرف الأنبياء وأفضلهم (صلّى الله عليه وآله) ولا يقبلها لا العقل ولا النقل، ولا مقام النبوة والرسالة الشامخ، فمن هنا نقف قليلاً مع بعضها محاولين الرد عليها مما يرتبط بزمن البعثة:

الرواية الأولى: والتي تروى في أول نزول الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) وملخصها: أنه (صلّى الله عليه وآله) عندما كان مختلياً بنفسه في حراء سمع  هاتفاً يدعوه فرفع رأسه فإذا به يرى صورة رهيبة، ففزع فزعاً شديداً وامتلئ قلبه رعباً وهلعاً، حتى عاد إلى خديجة وأخبرها فآوته، وهدّأت من روعه وثبّتت قلبه وطمأنته بحديثها المرهب له، بعدها جاءه مثل من جاءه سابقاً فقامت بتهدءته مرة أخرى، وقالت له اجلس فجلس على فخذها الأيسر ثم الأيمن فلم يذهب ثم قالت له اجلس في حجري فجلس وتحسّرت وألقت خمارها، فذهب فعرفت أنه ملك وليس شيطان، فقالت: يا ابن عم ابشر واثبت، فو الله إنه لملك وما هو بشيطان. كذلك وتوكيداً لتجربة خديجة، انطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وهو نصراني قارئ إلى الكتب، فقصت عليه ما جرى على النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال ورقة: لئن كنت صدقتني يا خديجة، فقد جاءه الناموس الأكبر الذي جاء موسى. فقولي له: فليثبت، وأنه لنبي هذه الأمة، فعادت وأخبرت الرسول (صلّى الله عليه وآله) بما قال ورقة، فعند ذلك اطّمأن باله، وذهبت روعته، وأيقن أنه نبي(28). ويرد على هذه الرواية إيرادات عدة،

أمّا من ناحية سند الرواية فهو عامي محض، فلم يروها لنا إمامي أصلاً.

وأمّا من ناحية متن ودلالة الرواية فيؤخذ عليها مآخذ متعددة فمنها: التفاوت والتهافت في عبارتها خصوصاً فيما يتعلق بموضوع ورقة، ففي بعضها: انطلقت خديجة لوحدها له، وفي أخرى: انطلقت بي إلى ورقة، وفي ثالثة: لقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالبيت، وفي رابعة: أن نوفل هو الذي بدأ الحديث عن ما ينزل على الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وفي خامسة: أن أبا بكر دخل على خديجة، فقالت: انطلق بمحمد إلى ورقة، وفي هذا وضوح إلى عدم الالتئام بين النقولات.

ومنها: كيف يمكن أن نفضل عقلية امرأة(وإن كانت عظيمة) على عقلية إنسان كامل قد بلغ القمّة التي أهّلته لحمل رسالة الله، ثم تقوم بتجربتها التي يجهلها النبي وتطمئنه. 

ومنها: كيف يعتمد النبي (صلّى الله عليه وآله) على قول رجل(ورقة بن نوفل) لمجرد أنه كان يقرأ كتبا لا يُضمن عدم تحريفها، وما الذي وجده (صلّى الله عليه وآله) في قول فكان منشأ اطمئنانه؟، ولم يجده في الحق النازل عليه.

ومنها: إن في دسّ هذه الرواية يدٌ إسرائيلية أخطأت في الوضع؛ لأنّ ورقة كان مسيحياً وهذا مقطوع به، ولكنه حين أراد أن يزيل عن النبي (صلّى الله عليه وآله) الشك والاضطراب ذكر نبوّة موسى، ألا يدلّ هذا على أنّ ثمّة يداً إسرائيلية وراء هذه الرواية هي التي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة كما يدين به ورقة بطلُ القصة.

ومنها: إنّه لو صحت هذه الرواية فلماذا لم يؤمن ورقة بالنبي وهو يعلم ما يعلم بحال نبوته.

ومنها: إن الرواية فيها شيء مما يُستقبح ذكره خارج إطار الزوجية، ولكنهم جعلوه دليلاً على نبوّة أعظم الخلق وأشرفهم، وهذا ما يوضّح لنا صحة دسّه وتزويره وافترائه وكذبه.

وأمّا من الناحية العقلائية: فإننا لتقييم هذه المزاعم يجب أن نلقي نظرة فاحصة لتاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم. فإنّ القرآن الكريم قد قصّ علينا قضاياهم وسيرهم، بالإضافة إلى ما ورد من روايات وأخبار كثيرة في هذا المجال، وإنّا لا نجد أيَّ أثرٍ لمثل هذه القصص المشينة في حياة واحد منهم.

إنّ القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول (الوحي) على موسى (عليه السلام) بشكل كامل ويبين جميع التفاصيل في قصته (عليه السلام) ولا يذكر فيها أي نوع من الخوف والارتعاش والوحشة والفزع، بحيث يتمنى الموت أو ما شابه ذلك، مع أن أرضية الخوف والفزع في قصة موسى كانت متوفرة أكثر، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية؛ نداء من الشجرة يخبره بأنه نبي مرسل.

ولكن موسى -كما يصرح القرآن الكريم- حافظ على هدوئه وسكونه، حتى أنّ خوفه عندما ألقى العصا من جهة أنها تبدلت إلى ثعبان لا من جهة الإيحاء إليه.

فهل يمكن، أو يجوز لنا أن نقول: كان موسى لحظة الوحي مطمئناً هادئاً ساكناً بينما يفزع أفضل الأنبياء والمرسلين ويضطرب عند سماع كلام الملك إلى درجة غريبة؟ ووصل إلى ما وصل إليه، فهل هذا كلام معقول؟

 الرواية الثانية: رواية كسابقتها فيها استنقاص واضح لمقام النبوة والنبي (صلّى الله عليه وآله)، وبطلانها واضح مردود، وهي رواية "الغرانيق" ومفادها: أن النبي (صلّى الله عليه وآله) كان في حشدٍ من مشركي قريش، بفناء الكعبة، أو في نادٍ من أنديتهم وكانت تساوره نفسه لو يأتيه شيء من القرآن يقارب بينه وبين قومه الألدّاء؛ إذ كان يتألّم من مباعدتهم، فعند نزول سورة النجم أخذ يتلوها حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}(29)، حتى ألقى عليه الشيطان وجعله يقول: (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) فحسبها وحياً، وقد قرأها في ملأ من قريش، ثم مضى وقرأ بقية السورة، حتى أكملها فسجد وسجد المسلمون، وسجد المشركون، تقديراً لما وافقهم محمد (صلّى الله عليه وآله) في تعظيم آلهتهم ورجاء شفاعتهم(30). ويلاحظ على هذه الرواية عدة ملاحظات تُثبت زورها، وأنها مفتعلة صنعتها قرائح القصاصين ومن هذه الملاحظات:

على صعيد السند: لم يتصل تسلسل سند هذه الرواية إلى صحابي إطلاقاً؛ وعليه فهي مرسلة وغير موصولة السند إلى مَن شاهد القضية، وأمّا أنهم رووها عن ابن عباس فهذا الأكثر حماقة من قطع السند، إذ أنّ ولادة ابن عباس كانت في السنة الثالثة قبل الهجرة، فلم يشهد القصة بتاتاً.

وأمّا على صعيد المدلول: فإن مضمونها باطل على كل التقادير: (أولاً) مناقضته الصريحة مع كثير من النصوص القرآنية المباركة والتي تمثل المقياس والميزان لصحة الروايات وعدمه، ومن الآيات الصريحة التي تبطل هذه الرواية، قوله تعالى في بداية سورة النجم التي يفترون الإدخال فيها: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُو إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}(31)، وكذلك فقد ضمن الباري (عزّ وجلّ) حفظ وسلامة القرآن الكريم من تلاعب أيدي المبطلين وذلك في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(32). (ثانياً) منافاته لمقام العصمة، فالعصمة مما اتفق المسلمون جميعاً عليها -على الأقل- في حدود التبليغ، وعدمها فيه نقض لغرض المولى من بعثه، ولولا العصمة الملحوظة في أداء رسالة الله، لزالت الثقة فيما بينهما وعدمها في التبليغ مخالف لمقتضى بعثهم، ولأخذت الشكوك تتوارد في جميع الأحكام والتكاليف والتشريعات التي يبلغها النبي (صلّى الله عليه وآله) عن الله سبحانه وتعالى، وفي هذا تجرّءٌ على ساحة الحق سبحانه وتعالى أن يبعث مَن يعجز عن إبلاغ ما يريد أو-والعياذ بالله- لا يحسن بعث من يناسب وبالمواصفات المناسبة. 

وأمّا على الصعيد العقلائي: فإن ظاهر الكلام بعيد الالتئام، ومتناقض الأقسام، ممتزج المدح والذم، متخاذل التأليف، فهل يعقل أن النبي (صلّى الله عليه وآله) ومن بحضرته في ذلك الموقف من مسلمين ومشركين -وهم مَن اتسع باب بيانهم ومعرفتهم فصيح الكلام وغيره- أن يخفى عليهم ذلك والذي لا يخفى على أدنى متأمّل بسيط، أم كيف يقتنع المشركون -وهم كما قلنا أهل نقد وفصاحة- بتلك المجاملة المفضوحة: التي اقترن فيها مدح مشكوك، مع ذلك القدح الصارم؛ ليأخذوه تقارباً مبدئياً بين شركهم ودعوته (صلّى الله عليه وآله)، والتي قامت على محق الشرك والإخلاص لله والدين الحنيف القيّم. ولا سيما مع تعقيبها بقوله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا}(33)، فهل يلتئم هذا الكلام التوحيدي الخالص مع تلك الأكذوبة: (وإن شفاعتهن لترتجى)؟! ويأخذ على هذه الرواية أيضاً كثيراً من المآخذ ولكننا اختصاراً نكتفي بذلك.

الخاتمة

إن هذا المقال لا يمكنه أن يفي ويحتوي على أفضل وأعظم يوم أو فترة مرّت على الإنسانية أجمع، لأنّنا سواء قيمنا الأيام بما تشتمل عليه من أحداث أو بما تتمخض عنه من نتائج، فإن هذا اليوم -يوم البعثة المباركة- هو اليوم الأول في تاريخ الإنسانية، وهذا يرجع لأسباب عديدة يفترض أنها اتضحت منه -أو لا أقل اتضح شيء منها- أيضاً لأنّه اليوم الذي استطاع فيه الإنسان أن يبلغ الذروة التي رشّحته لها عشرات الآلاف من الرسالات والنبوات فأصبح قاب قوسين أو أدنى، وهذا الإنسان أو أعظم البشرية على الإطلاق هو شخص النبي محمد (صلّى الله عليه وآله).

كذلك إذا لاحظنا ما تمخض عنه هذا اليوم العظيم، يمكننا أن نتصور المقدار العظيم من الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة النبيلة؛ الزاخرة بكل معاني النبل والأخلاق، التي ظهرت بعد هذا اليوم، ويمكننا أن نتصور مما تمخض منه العروش التي حُطمت والجبابرة الذين قُضي عليهم، وعهود الظلم والطغيان، التي قوضت بعد هذا اليوم.

فهذا يجعلنا نقف وتقف عقولنا وأقلامنا حائرة، ومعترفة بعجزها أمام الفائض الكمِّي والكيفي لهذا اليوم وما تمخض عنه وما جرى فيه وبعده... ولا يسعنا في نهاية هذا البحث المتواضع إلا أن نحمد الله ونثني عليه أولاً وأخيراً أن وفّقنا لترتيبه وجمعه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحبّ ويرضى بحق محمد وآله (عليهم السلام)، وصلى الله عليهم أجمعين.

 

* الهوامش:

(1) آل عمران: 164.

(2) الشيخ المالكي في كتابه تاريخ ما قبل البعثة ص 10.

(3) الشيخ اليوسفي الغروي في كتابه موسوعة التاريخ الإسلامي ص 75.

(4) سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله): ج1 ص72.

(5) نهج البلاغة، الخطبة: 91.

(6) سورة التكوير: 8-9.

(7) نهج البلاغة، الخطبة: 95.

(8) سورة النحل: 57.

(9) سورة الإسراء: 31.

(10) سورة الحجرات: 13.

(11) سورة آل عمران: 195.

(12) سورة النساء: 25.

(13)كتاب سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله): ص74-77.

(14) موسوعة التاريخ الإسلامي، محمد هادي اليوسفي، ص70.

(15) تاريخ ما قبل البعثة: في درس (الحوادث التي رافقت مولد النبي (صلّى الله عليه وآله)).

(16) نهج البلاغة: فصل غريب كلامه رقم (9).

(17) تاريخ ما قبل البعثة: ص 319.

(18) المصدر السابق: ص 326.

(19) المصدر السابق: ص 334.

(20) تاريخ ما قبل البعثة: ص388.

(21) سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله): ج1 ص293.

(22) نفس المصدر السابق.

(23) قاموس المنجد: ص42.

(24) التاريخ اليعقوبي: ج2  ص22. 

(25) التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص106.

(26) التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص102.

(27) المصدر السابق.

(28) التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص78.

(29) سورة النجم: 19-20.

(30) التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص86.

(31) سورة النجم: 1-5.

(32) سورة الحجر: 9.

(33) سورة النجم: 26


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا