الاستبدال والأبدال

الاستبدال والأبدال

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

تمر على الإنسان كثيراً في الدروس أو المحاضرات أو من خلال القراءة أو الحوارات والمناقشات مفردات ومصطلحات جديدة يحب التعرُّف عليها، وينقدح في الذهن التساؤل عنها، إلا أنَّ بعضها تتميز عن غيرها بأنها تمرُّ في ظروف مؤثرة وخاصة وبشكل متكرر مما يلفت العقل ويشدّه لمعرفة حقيقتها، و هكذا بسبب غريزة (حب الاستطلاع) التي تدفعه كذلك للبحث عنها ومعرفة حقيقتها، والبحث عن مفردة كهذه ليس ترفاً فكرياً أو مضيعة للوقت -كما قد يُتوهّم-وإنما حقيقة هذا المصطلح وموارد استعماله في موضوعات مهمة في حياة المؤمن، وكذلك من خلال وروده في النصوص الشرعية يبعث على البحث عنه بداعي المعرفة، حتى أنّه يأخذ من عقلك وقلبك ما يجعلك تفكّر فيه لأنه يمسُّ دينك وآخرتك.

و من هذه المفردات مفردة (الأبدال)؛ وهي مفردة وردت بالنص في جملة وافرة من الروايات عند الفريقين -وسيأتي الحديث عنها- ولها أيضاً جذور قرآنية سيما عند الحديث عن سُنَّة الاستبدال. وقد كان البحث حول (الأبدال) بالأصالة، ولكن من باب (الكلام يجر الكلام) ومن خلال البحث عنه كان لابد من البحث عن نظرية قرآنية كمقدمة للبحث، ألا وهي (الاستبدال) التي هي عبارة عن سنّة كونية وتاريخية تعرّض لها القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات الكريمة –وسيأتي الحديث عنها-، ولكن الظاهر أن المقدمة قد تكون أطول من ذي المقدمة، والفرع أطول من الأصل، أو قل: أصبح البحث قسمين، الأول: حول سنة الاستبدال، والثاني: مَن هم الأبدال؟

ولا يفوتني هنا أن أنوّه بأنني لم أجد –في حدود ما بحثت وقرأت- مَن طرق هذا البحث –سواء سنة الاستبدال أو الأبدال- بشكل خاص إلا كإشارات عابرة أو في جانب واحد من جوانب هذا العنوان.

سنة الاستبدال

قد جعل الخالق الحكيم(سبحانه وتعالى) للكون قوانين ونُظُم تسير عليها حركته الطبيعية، وتعيش فيه كائناته ومنها الإنسان، وقد ضمّن سبحانه القرآنَ الكريم بهذه المعاني على نحو الإشارة والتلميح من خلال عرض قصص الأنبياء والأقوام السابقين ووصف الكون وما فيه من مخلوقات بالدقة والنظم وو.. الخ، على أنّها سنن كونية قد جرت على من سبق كحقائق تاريخية أو أنّها موجودة نلاحظها في آياته الآفاقية، والسنّة يمكن أن نعرِّفها بأنها: قانون كوني ثابت لا يختلف ولا يتخلّف، متى ما توفرت شروط تحقُّقِه تحقَقَ. والاستبدال يمكن أن نقول عنه أنّه سنة إلهية كونية تاريخية قد جعلها الله(سبحانه وتعالى) في خلقه، لأنّ شروط كون الظاهرة سنة من السنن الكونية والتاريخية(1) قد تحققت وتوفرت في ظاهرة (الاستبدال)، وهذه الشروط هي:

1. الاطراد: بمعنى أنّ السنة التاريخية مطّردة ليست علاقة عشوائية، وليست رابطة قائمة على أساس الصدفة و الحظ والاتفاق، و إنما هي علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلّف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة.

2. ربانية السنة التاريخية: أن السنة التاريخية مرتبطة بـمشيئة الله(سبحانه وتعالى)، وأنَّ الاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم ليس ذلك انعزالاً عن الله(سبحانه وتعالى)؛ لأنَّ الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، و لأن هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، و هي ممثلة لحكمة الله و تدبيره في الكون.

3. اختيار الإنسان ودوره في السنن التاريخية: وقد أكّد(سبحانه وتعالى) على أن المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنما هو إرادة الإنسان. فلا تعني السنن الكونية جبر الإنسان وتسييره.

والاستبدال قانون مطرد كلما تحقق شرطه –على ما سيأتي بيانه- تحققت آثاره ونتائجه، وهو قانون إلهي وضعه الله بمشيئة وهيَّأَ مقتضياتِه، ولا يكون ولا يتحقق إلا بإرادة الإنسان و اختياره وأنّه يُحقق الشرط حتى يَتحقق الجزاء.

ما هي سنّة الاستبدال؟

وردت آيات متعددة في القرآن الكريم تجمعها فكرة واحدة حاصلها: أنَّ الله (سبحانه وتعالى) ليس محتاجاً لأحد وهو الغني المطلق، فأيما قوم انحرفوا عن جادة الطريق، بعد أن كانوا على الصراط القويم وحَمَلة لراية الدين أو على الأقل كانوا ملتزمين بأوامر الله ونواهيه في الجملة، ثم بدّلوا دينَهم كان مصيرهم هو الزوال وأن يبدّلهم الله بخيرٍ منهم، وأهم وأبرز آية هي الآية الثامنة والثلاثون من سورة محمد(ص) وهي قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم}.

وقفة مع الآية الكريمة:

للسنن التاريخية في القرآن الكريم أشكال مختلفة(2)منها: شكل القضية الشرطية، وقد وردت هذه الآية على هذا الشكل؛ فهي سُنَّة معلّقة على شرط متى ما تحقَّقَ وُجدت؛ والكلام حول الآية على قسمين:

القسم الأول: قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وهو صدر الآية الذي يحوي أداة الشرط وفعله وجزاءه، وتفصيل الكلام فيها:

أمّا أداة الشرط وهي (إن) فقد ذكر علماء البلاغة أنّها تستعمل –حسب الأصل- في الأمر المحتمل المشكوك فيه، بخلاف (إذا) التي تستعمل فيما يجزم وقوعه، وهذه النكتة تنفعنا في طيات البحث عند البحث عن تحقق هذا الأمر -الاستبدال- من عدمه. وأمّا فعل الشرط فهو: (تتولوا) من (تولّى) بمعنى أعرض، قال ابن منظور في لسان العرب: والتولي يكون بمعنى الإعراض ويكون بمعنى الاتباع، قال الله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي أن تعرضوا عن الإسلام.

أقول: فالتولي هنا جاء بمعنى الإعراض ولكنه –أي الإعراض- على مستويات وبدرجات متفاوتة شدة وضعفاً، فلا يمكن أن نقول أن أدنى درجة من درجات الإعراض موجبة للخروج من ربقة الإسلام ومحققة لشرط الاستبدال، لأن ما يقابل الإعراض هو التسليم المطلق، الذي هو أعلى وأقصى درجة من درجات الإيمان الذي لا يتوفر عليه من المسلمين، بل حتى من المؤمنين إلا القلة القليلة جداً، فلا يمكن أن نتصوّر أن يكون معيار الاستبدال هو أدنى درجات الإعراض؛ لأن غالبية المتلبسين بالإسلام يحملون درجة ولو بسيطة من الإعراض والتولي وعدم التسليم المطلق.

ومما يدلل على ذلك- أولاً: عطف قوله تعالى: (وإن تتولوا) على قوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا) والمعنى: إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم وإن تتولوا وتعرضوا يستبدل قوماً غيركم(3)، فالمقابلة هنا تفيد أن معنى التولي هنا يقابل الإيمان، وهل يقابل الإيمان إلا الكفر.

ثانياً: إن الله(سبحانه وتعالى) لم يمثّل في القرآن الكريم مفسِّراً لمعنى التولي والإعراض بالمخالفة في جزئية من الجزئيات الفقهية أو في سلوكية أو أخلاقية من أخلاقيات الإسلام بل فسّره بالكفر والارتداد عن الدين كما في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ}(4)، ومثّل له كذلك في آية أخرى بالإعراض المطلق عن الدعوة وعدم الاستجابة بشكل كلي للنداء الإلهي من خلال صدّ الرسول، وذلك في قوله تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(5).

أضف إلى ذلك أنّا نرى أنه قد وقعت مخالفات على المستوى العملي من الناحية الفقهية والأخلاقية في الصدر الأول للإسلام سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، ولكن لم يكن ذلك موجباً ومحققاً للتولي والإعراض الذي تحدّثت عنه الآية مورد البحث. وعلى هذا لم يذْكر أي من المفسرين في تفسير هذه المفردة في هذه الآية بهذا المستوى من التولي والإعراض، بل أكثرهم فسّرها بـ: الإعراض عن الدين(6) أو عن طاعة الله وأمر رسوله(7).

ومما يصلح كقرينة مؤيّدة على مرادنا هو نفس استعمال كلمة (تتولوا) في القرآن الكريم، فهي كما أسلفنا تأتي لأحد معنيين الإعراض أو الاتباع، ومجموع ما ورد من لفظ (تتولوا) في القرآن أربعة موارد ثلاثة منها بمعنى الإعراض وواحد بمعنى الاتباع، فإذا لاحظناها في هذه الموارد الثلاثة نجدها جاءت لإعطاء معنى التولي والإعراض بدرجاته العالية ففي قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} جاء لفظ (تتولوا) في خطاب نبي الله هود(ع) لقومه بأن آمنوا بالله واستغفروه، فاستعملت في مقابل الإيمان وفي مقابل الدخول في الدين والاستجابة لنداء السماء، وكذلك في قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(8)، فقد جاءت في مقابل الطاعة التي تعني طاعة الله ورسوله والتسليم لما يأمران به، إلا أنَّ مورد هذه الآية ليس الايمان في مقابل الكفر الصريح؛ لأن المخاطبين فيها هم مجموعة من المسلمين، وهم الأعراب الذين تكرر منهم التخلّف عن حضور ميادين الحرب، وقد أصرّوا على معصية الله ورسوله ومخالفة تشريع سماوي مهم ألا وهو الجهاد فجاءهم هذا التهديد الذي يبين أهمية هذه الفريضة وأن التخلّف عنها -خصوصا بين يدي المعصوم- موجب للعذاب والعقاب الأليم، ولكن لقاعدة (المورد لا يخصص الوارد) أو (العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد) يمكن استفادة أن في الآية مقابلة بين الطاعة و التولي.

أما بالنسبة لكون هذا اللفظ (تتولوا) جاء في الآية بصيغة الجمع فلأن الآية في سياق مخاطبة مجموع المسلمين، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ تحقق الشرط والجزاء متوقفان على تولي وإدبار مجموع المسلمين حتى يستبدل الله بهم قوماً آخرين، بل توجد قرائن تصرف المعنى عن أن يكون للمجموع فقط، منها: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، فإنها جاءت على نحو القضية الحقيقية المقدّرة التي لا تعني الجمع بل تتحقق بفرد واحد، وأمّا عن (قوم) التي جعلت في مقابل (من) في الآية فيمكن صرفها عن معناها الحقيقي وهو اسم الجمع الدال على الجمع من ثلاثة فما فوق إلى دلالتها على الواحد، بحيث تدل على واحد في هذا المورد على غرار صرف معنى (طائفة) عن الجماعة إلى الواحد في بعض الروايات وصرف معنى (أمّة) عن دلالته على الجماعة إلى دلالتها على واحد، ومنها: الدليل على ذلك، وهو أيضاً دليل على أن سنة الإستبدل ليست على نحو العموم المجموعي بل على نحو العموم الاستغراقي بحيث تنحلّ إلى كل فرد فرد من المسلمين ما روي عن الإمام الصادق(ع): (لا يخرج من شيعتنا أحد إلا أبدلنا الله به مَن هو خير منه، وذلك لأنَّ الله يقول: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ})(9).

وأمّا فعل جواب الشرط وهو: (يستبدل) من بدّل يبدِّل استبدالاً، بمعنى (لغة): أحلّ شيئاً محل شيء آخر مطلقاً سواء كان البدل أفضل من المبدل منه أو لا كما، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(10)، أمّا المعنى قرآنياً: فيمكن أن نلاحظ عدة ملاحظات:

الأولى: أنّ القرآن الكريم لم يستعمل لفظ (استبدل) إلا عندما يكون البدل أفضل من المبدل منه، كما في الآية مورد البحث، وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(11)، فلذلك جاء على لسان نبي الله موسى(ع) مستنكرا على قومه: كيف يجعلون البدل أسوأ وأدنى من المبدل منه في قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}(12).

الثانية: هي استعمال لفظ مشتق من (البدل) دون غيره من مرادفاته من التحويل أو التعويض، وذلك لأن التبديل يعني وضع شيء مكان شيء آخر، أمّا التحويل فيعني نقل شيء يستحقه المنقول عنه إلى شيء آخر لا يستحقّه، وأمّا التعويض فيعني أن يكون الثاني عوضاً عن الأول فهو مساوٍ له في القيمة.

الثالثة: هي استعماله لخصوص لفظ (يستبدل) بصيغة المضارع، الذي يفيد الاستمرار متى ما تحقق شرطه فإنه يتحقق.

القسم الثاني: وهو قوله تعالى: {قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم} وهي عبارة عن نتيجة الاستبدال أو قل: صفة القوم الذين سيحلّون محل القوم الذين تولّوا، فقوله: (غيركم) يبيِّن أن هناك مغايرة وتباين بين القوم الذين تولّوا وبين (أبدالهم)، ومن هنا ندخل إلى بحثٍ آخرٍ له نحو ارتباط بالبحث الأول وله كذلك جهات افتراق عنه وهو:

مَن هم الأبدال كما ورد في الروايات؟

تمهيد:

وردت في مصادر الفريقين عدة روايات وردت فيها كلمة (الأبدال)، ولكنَّ مسار واتجاه الروايات واستعمال هذا التعبير فيها يختلف من طائفة إلى أخرى، الذي يبيّن أنّ كلمة (أبدال) إمّا أنّها مشترك لفظي أو أنّها وضعت لمعنى واحد من تلك المعاني واستعملت في غيره على نحو التجوّز أو التنزيل أو التشبيه أو توسعاً، أو استعملت تارة بمعناها اللغوي وأخرى بمعناها الاصطلاحي.

 

سير البحث:

أولاً: اختيار أفضل تعريف بعد ذكر التعريفات التي ذُكرت لـ(الأبدال).

ثانياً: تقسيم الروايات على أساس موضوعاتها.

ثالثاً: بما أنّ البحث حول الروايات فلا بد أن يكون البحث على مستويين، الأول: السندي، والثاني: الدلالي، وستكون العمدة في البحث والتي سينصب الكلام عنها هي روايات الإمامية التي أوردها علماؤنا (قدس الله أسرارهم) في كتبهم، أمّا الروايات التي رواها غيرنا فسنتعرّض إليها بالتبع، كمؤيدات ليس إلا.

أولاً: معنى الأبدال:

الأبدال (لغة): هي جمع بَدَل: وهو شيء يُستعاض به عن شيء آخر من نوعه(13). أمّا اصطلاحاً: فقد عرّفه جملة من أصحاب المعاجم منهم:

العلامة الطُريحي في مجمع البحرين: الأبدال قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر. و في القاموس: الأبدال قوم يقيم الله بهم الأرض و هم سبعون، أربعون بالشام و ثلاثون بغيرها، لا يموت أحدهم إلا قام مقامه آخر من سائر الناس(14). و للراغب الإصفهاني في مفرداته تعريف آخر حيث قال: و الأبدال قوم صالحون يجعلهم الله مكان آخرين مثلهم ماضين -و قد أنكر بعض الناس وجودهم-، ثم يضيف قائلاً: و حقيقته هم الذين بدلوا أحوالهم الذميمة بأحوالهم الحميدة، و هم المشار إليهم بقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ...} (15).

أقول: هذه التعريفات لا تناسب ما سنذكره لاحقاً، لأن هذه التعريفات هي في الحقيقة عبارة عن روايات أوردها بعض العامة لا يعوّل عليها، لدخولها في شبهة الوضع لاضطراب متونها ودلالاتها، فضلاً عن أسانيدها المخدوشة أو المقطوعة، وإن تنزلنا نقول: إنَّ هذه التعريفات تعبّر عن معنى ألِفَه المسلمون؛ لأنَّ هذا التعبير لا يطلق إلا على الصالحين أو العظماء، ولكن سيتضح معنى (الأبدال) بعد سبر غور الروايات الشريفة التي وردت عن أهل بيت العصمة والطهارة.

ثانياً: روايات الأبدال على أساس موضوعاتها من طرقنا:

الطائفة الأولى: أنّ الأبدال هم الأئمة المعصومون(ع) أو خواص أصحابهم:

فقد رُوِيَ في الاحتجاج عن الخالد بن الهيثم الفارسي أنه قال: قلت لأبي الحسن الرضا(ع): إن الناس يزعمون أن في الأرض أبدالا، فمن هؤلاء الأبدال؟ قال: «صدقوا، الأبدال هم الأوصياء، جعلهم الله(عزّ وجلّ) في الأرض بَدَلَ الأنبياء، إذ رفع الأنبياء و ختمهم محمد(ص)»(16).

قال العلامة المجلسي( قدَّس الله نفسه الزَّكية) معلِّقاً على هذه الرواية بعد أن ذكرها: ظاهر الدعاء المروي من أم داود عن الصادق(ع) في النصف من رجب -حيث قال-: («اللهم صل على محمد و آل محمد، و ارحم محمدا و آل محمد، و بارك على محمد و آل محمد، كما صليت و رحمت و باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صل على الأوصياء و السعداء و الشهداء و أئمة الهدى، اللهم صل على الأبدال و الأوتاد و السياح و العباد و المخلصين و الزهاد و أهل الجد و الاجتهاد»، -إلى آخر الدعاء- يدل على مغايرة الأبدال للأئمة(ع)، لكن ليس بصريح فيها، فيمكن حمله على التأكيد. ثم أضاف قائلاً: و يحتمل أن يكون المراد به في الدعاء خواص أصحاب الأئمة(ع)...).

الطائفة الثانية: أنّهم أصحاب الإمام المهدي المنتظر(عج):

فقد رَوى طارق بن شهاب عن حذيفة قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: «إذا كان عند خروج القائم ينادي منادٍ من السماء أيها الناس قطع عنكم مدة الجبارين، وولي الأمر خير أمة محمد، فالحقوا بمكة، فيخرج النجباء من مصر والأبدال من الشام وعصائب العراق رهبان بالليل ليوث بالنهار، كأن قلوبهم زبر الحديد، فيبايعونه بين الركن و المقام...» (17).

وَرُوِيَ عن جابر الجعفي أنه قال: قال أبو جعفر(ع): «يبايِع القائمَ بين الركن و المقام ثلاثمائة ونيف عدة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، و الأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء الله أن يقيم»(18). وروى المفيد، بسنده عن محمد بن سويد الأشعري، قال: «دخلت أنا وفطر بن خليفة، على جعفر بن محمد، فقرب إلينا تمراً فأكلنا، وجعل يناول فطراً منه.. ثم قال له: كيف الحديث الذي حدثتني عن أبي الطفيل(ره) في الأبدال؟ فقال فطر: سمعت أبا الطفيل يقول: سمعت علياً أمير المؤمنين(ع) يقول: الأبدال من أهل الشام، والنجباء من أهل الكوفة، يجمعهم الله لشر يوم لعدونا.. فقال جعفر الصادق: رحمكم الله، بنا يبدأ البلاء ثم بكم. وبنا يبدأ الرخاء ثم بكم، رحم الله من حببنا إلى الناس، ولم يكرِّهنا إليهم»(19).

الطائفة الثالثة: وهي الروايات التي تشير إلى أنّهم نخبة خاصة من صالحي المؤمنين:

روى ابن الفتّال في روضة الواعظين عن رسول الله(ص) قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى اختار من كلّ شيء أربعة... واختار من أُمّة محمّد أربعة أصناف: العلماء والزهّاد والأبدال والغزاة»(20). وجاء في وصايا النبي(ص) لعلي(ع): «... وَإِنْ جَامَعْتَهَا فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنَ الأبْدَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى...»(21). وَرُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) أنَّهُ قال: قال رسول الله(ص): «مَنْ دَعا للمؤمنين و المؤمنات في كل يوم خمساً و عشرينَ مرة، نَزَعَ اللهُ الغِلَّ من صدره، وَ كَتَبُه من الأبدال إن شاء الله»(22).

ثالثاً: البحث حول أسانيد الروايات:

أمّا الطائفة الأولى: وهي رواية الخالد بن الهيثم الفارسي فهي مرسلة وهو مجهول، وأمّا الطائفة الثانية: فالرواية الأولى -وهي رواية طارق بن شهاب عن حذيفة- قد نقلت عن الاختصاص وطريقها: حدثنا محمد بن معقل القرميسيني عن محمد بن عاصم عن علي بن الحسين عن محمد بن مرزوق عن عامر السراج عن سفيان الثوري عن طارق بن شهاب عن حذيفة(23).

وأما الرواية الثانية -وهي رواية جابر الجعفي- فقد نقلها الشيخ الطوسي في كتابه (الغيبة) وطريقه إليها: الفضل عن أحمد بن عمر بن مسلم عن الحسن بن عقبة النهمي عن أبي اسحاق البناء عن جابر الجعفي(24).

وأمّا الرواية الثالثة -وهي رواية محمد بن سويد الأشعري- فناقلها هو الشيخ المفيد في مجالسه أي الآمالي وطريقها: الجعابي عن ابن عقدة عن عمر بن عيسى بن عثمان عن أبيه عن خالد بن عامر بن عباس عن محمد بن سويد الأشعري(25).

وقفة مع رواية:

في ذيل هذه الآية أورد أكثر المفسّرين من الفريقين رواية عاميّة عن أبي هريرة وهي: (حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد العدني، قال: حدثنا مسلم بن خالد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: نزلت هذه الآية وسلمان الفارسي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحك ركبته ركبته {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قالوا: يا رسول الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا، قال: فضرب فخذ سلمان ثم قال: هذا وقومه) وفي نقل: «ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» وفي نقل: عن مجاهد {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} من شاء، وقال بعضهم: هم النصارى، وقال آخرون: هم أهل اليمن.

بغض النظر عن سند هذه الرواية ومصدرها يمكن المناقشة في دلالتها:

أولاً: غاية ما يمكن أن تثبته هذه الرواية بتفسيرها للآية أنه على تقدير بدّل المسلمون دينهم وتولوا عن شريعة سيد المرسلين وأهل بيته(ع) كان الجزاء هو إحلال غيرهم مكانهم وهم الفرس، لا أنّه قد تحقق وثبت الانحراف –الذي دون اثباته خرط القتاد- وقد أبدل الله المسلمين بأهل فارس، وهو ما يذكره بعض المفسرين المعاصرين على أنّه من المسلَّمات الثابتة. فإنه لا بد من إثبات الشرط وأنّ المسلمين بدّلوا حتى يتحقق المشروط.

ثانياً: إن اختلاف النقل في حدِّ ذاته يورث التشكيك بصدورها.

ثالثاً: إن هذه الرواية تبيِّن إمكان تولي وانحراف جميع العرب حتى يستبدل الله بهم سلمان(ع) وقومه التي فسّرته بعض النقولات بأهل فارس، مما يعني أن أهل فارس سيصبحون خير وأفضل من كل من أسلم آنذاك من عرب وغيرهم، وهذا مما لا يقبله مسلم فضلاً عن مؤمن.

رابعاً: إن هذه الرواية العاميّة تتنافى مع ما روي عن الإمام الصادق(ع) -التي ذكرناها آنفاً-؛ لأنّ جواب النبي(ص) في هذه الرواية يسلِّم بأنّ الانحراف إذا كان سيحصل فسيحصل لكل المسلمين من دون ملاحظة إمكان انحراف بعض دون بعض، وأن الاستبدال يكون على نحو العموم الاستغراقي وليس بالضرورة أن يكون على نحو العموم المجموعي الذي أثبتته-العموم الاستغراقي-رواية الإمام الصادق(ع). بعبارة أخرى: السؤال من بعضهم للنبي(ص) خطأ؛ لأنّه ليس الانحراف من المسلمين لا يكون إلا جماعيا بل قد يكون فردياً والجواب على السؤال بشكل جماعي لا يثبت أن الانحراف إذا حصل لا يحصل إلا جماعياً وهذا ما تثبته الرواية.

خامساً: أن المعيار النهائي ومقياس الكرامة والإيمان على مستوى كل فرد فرد هو (التقوى)، فعِرق الإنسان وقوميته ولونه ولغته ليست معياراً وليس لها مدخلية أصلاً في تحديد قيمة الإنسان وكرامته عند الله(سبحانه وتعالى).

 

 * الهوامش:

(1) على ما أفاده السيد الشهيد الصدر(حفظه الله) في كتابه المدرسة القرآنية.

(2) كما ذكرها الشهيد الصدر في كتابه المدرسة القرآنية: 89.

(3) تفسير الميزان: ج18 ص253.

(4) المائدة:54.

(5) فاطر: 14- 17.

(6) كما عن الطبري.

(7) كما عن مجمع البيان وابن كثير.

(8) الفتح: 16.

(9) تفسير البرهان: ج7 ص225.

(10) إبراهيم: 28.

(11) التوبة: 38- 39.

(12) البقرة: 61.

(13) المنجد في اللغة العربية المعاصرة: ص71.

(14) مجمع البحرين: 5/ 319، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي، المولود سنة: 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق، و المتوفى سنة: 1087 هجرية بالرماحية، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق، الطبعة الثانية سنة: 1365 شمسية، مكتبة المرتضوي، طهران / إيران).

(15) هامش: المفردات: ص112.

(16) بحار الأنوار: ج27 / ص48، من كتاب الاحتجاج ج2 ص183.

(17) بحار الأنوار: 52 / 304.

(18) الغيبة: 476، للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، المولود بخراسان سنة: 385 هجرية، و المتوفى بالنجف الأشرف سنة: 460 هجرية، و بحار الأنوار: 52 / 334.

(19) الأمالي للمفيد ص31 والبحار ج52 ص347.

(20) روضة الواعظين: 405.

(21) من لا يحضره الفقيه: 3 / 553، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، المولود سنة: 305 هجرية بقم، و المتوفى سنة: 381 هجرية، طبعة انتشارات إسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الثالثة، سنة: 1413 هجرية، قم / إيران.

(22) الجعفريات: 223، باب فضل الدعاء للمؤمنين و المؤمنات).

(23) بحار الأنوار: 52 / 304.

(24) بحار الأنوار: 52 / 334.

(25) البحار ج52 ص347.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا