الإعجاز العلمي

الإعجاز العلمي

مقدّمة

يُعنى هذا البحث بدراسة الضوابط التي وضعها العلماء والمتخصصون فيما يرتبط بمسألة الإعجاز العلمي، ولا بدَّ من التنويه إلى أنَّ الإعجاز العلمي ينقسم إلى قسمين: الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز العلمي في السنة، وما ستطاله هذه الدراسة هو القسم الأوّل فقط، والجدير بالذكر أنَّ أكثر الضوابط بين القسمين متطابقة إلى حدٍّ كبير.

ويمكن تبسيط خطّة البحث بأنَّها تتكون من مقدّمة وثلاثة مباحث وخاتمة، أمَّا المبحث الأوّل فهو عبارة عن مباحث تمهيديَّة، وفيها مطلبان: الأول يتناول تعريف بعض المفردات ذات الصلة بعنوان البحث، والثاني يستعرض أهميَّة تقنين مسألة الإعجاز العلمي في القرآن.

وأمَّا المبحث الثاني فتحت عنوان: ضوابط الإعجاز العلمي، ويضمُّ تحت كنفه مطلبان، الأوّل يستعرض الضوابط العامّة للإعجاز العلمي، والثاني يناول الضوابط الخاصّة.

أمّا المبحث الثالث فعنوانه: تقييم الضوابط ومحاكمتها، وفيه مطلبان، الأوّل عبارة عن تنبيهات وإشارات إلى الضوابط، والثاني يستعرض الضوابط الأخرى ويناقشها.

وأمَّا الخاتمة فهي في نتائج البحث.

المبحث الأول: مباحث تمهيدية

المطلب الأول: تعريف بعض المفردات ذات الصلة بالعنوان

أولا: الإعجاز العلمي: وهو عبارة عن مفهوم مركب من مفردتين ولذلك كان من اللازم عند تعريفه تعريف أجزاءه ثم بيان المقصود الكلي منه.

* الإعجاز لغة: أصلٌ من «عجز» يدل على الضعف، يعجز عجزاً فهو عاجز أي ضعيف، وقولهم إنّ العجز نقيض الحزم فمن هذا لأنّه يضعف رأيه، ويقولون المرء يعجز لا محالة(1)، ويقال: عَجَزَ يَعْجِزُ عن الأمر إذا قَصَر عنه، والمُعْجِزَةُ: واحدة معجزات الأنبياء (عليهم السلام)(2).

ويلاحظ أنّ لفظتا «الإعجاز» و «المعجزة» لم تردا في معاجم اللغة القديمة ككتاب العين ومعجم مقاييس اللغة، مما يدلّل على كونهما مصطلحين متأخرين، إلا أنَّ الواضح أنَّهما مشتقّان من مادَّة «عجز» الدّالة لغةً على الضعف.

* الإعجاز اصطلاحاً: ويُعرَّف الإعجاز -أي المعجزة- عند بعض العلماء، بأنَّه "أمر خارق للعادة، مقرون بدعوى النبوة، مع المطابقة، وعَجْزِ الغير عن الإتيان بمثله"(3)، وإعجاز القرآن يُقصد به عجْز الناس على أن يأتوا بسورةٍ مثله.

* العلم لغة: يقول ابن فارس: "العين واللام والميم أصل صحيح واحد يدل على أثرٍ بالشيء يتميز به عن غيره، من ذلك العلامة وهي معروفة، والعلم نقيض الجهل(4)، ورجل عالم وعليم، وعلَّامٌ وعلَّامةٌ إذا بالغتَ في وصفه بالعلم أي عالم جدَّاً"(5)، والياء في «العلمي» ياء للنسبة.

* العلم اصطلاحاً: للعلم تعاريف عديدة، حيث يُعرّف العلم عند بعض الفلاسفة غير الماديين بأنَّه: "حضور وجود مجرد لوجود مجرد" ويعرّفه آخر بأنّه: "حالة إضافية بين العالم والمعلوم"، ويعرفه ثالث بأنّه: «صورة منطبعة عند العقل»(6)، بينما يعرّفه أصحاب الفلسفة المادية بأنّه: "مجموعة من القضايا الحقيقيّة القابلة للإثبات عن طريق التجربة والحس"(7).

ومن الواضح أنَّ العلم ينقسم وفق اعتبارات معينة إلى أقسام عديدة، كتقسيمه إلى حسي ونظري، والمقصود بالعلم في المقام هو العلم الحسي القائم على التجربة، إذاً فالتعريف المتوافق مع ما نقصده من العلم في الإعجاز العلمي هو تعريف الفلسفة المادية.

وبعد أن تناولنا أجزاء هذا المفهوم لابدَّ من الوقوف عليه بشكل كليّ مركّب لنفهم المعنى الاصطلاحي المراد منه، فالإعجاز العلمي كما يعرّفه الدكتور زغلول النجار هو: "سبق هذا الكتاب العزيز بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره التي لم تتمكن العلوم المكتسبة من الوصول إلى فهم شيء منها إلا بعد قرون متطاولة من تنزل القرآن الكريم"(8)، ويعرّفه الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المصلح بأنَّه: "إخبار القرآن الكريم أو السنّة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله)"(9).

ثانياً: الضوابط

* الضابط لغة: الضابط مأخوذ من الضبط، وهو لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء، وضبط الشيء: حفظه بحزم، والرجل ضابطٌ أي حازمٌ، ويقال الضابط: أي القويّ على عمله(10).

* الضابط اصطلاحاً: والضابط عند العلماء كما في المعجم الوسيط هو: «حكم كليٌّ ينطبق على جزئياته»(11).

المطلب الثاني: أهمية الضوابط في الإعجاز العلمي

تمثل عملية تقنين أيٍّ من المواضيع العلميَّة أهميَّة بالغة ودقيقة، وذلك لما تمثله من صياغة الإطار العام الذي يتّجه نحوه الموضوع وكذلك النتائج المتوخاة المبنية على ذلك، فالضوابط إذاً تمثل المسار الذي ينبغي أن يتّجه على وفقه الموضوع، والسور الذي لا يجب أن يخرج عنه سياق البحث، وذلك لضمان سلامة النتائج، وليس استثناء من ذلك، أهميَّةُ تقنين مسألة الإعجاز العلمي، تظهر أهميَّة ذلك من خلال العرض التالي:

أولاً: مع تقادم الزمن وتطور العلم الحديث نشأت الحاجة إلى وجود أسلوب جديد في التبليغ ونشر ثقافة التوحيد يتناسب مع التطور العلمي والتكنولوجي الحاصل في هذا العصر، وبسبب اقتناع الكثير من العلماء والباحثين بنجاعة الإعجاز العلمي كطريق للإقناع؛ نتج عن ذلك كثرة خوضهم في هذا المجال مما سبب حالة من العشوائية في التعامل مع الإعجاز العلمي، من هنا كانت الحاجة إلى وضع قواعد وأسس تنظم عملية الإعجاز العلمي في القرآن وتقضي على حالة العشوائية وعدم التنظيم.

ثانياً: مع كثرة المهتمين بهذا الشأن وتسابق المختصين وغيرهم بالخوض في الأبحاث المتعلقة بالإعجاز العلمي، نتج عن ذلك الوقوع في الكثير من الأخطاء والمزالق، وذلك بسبب عدم وضوح الإطار الذي يحدّد عملية البحث في الإعجاز العلمي، هذا الإطار تمثله الضوابط التي يجب أن تراعى عند التعامل مع مسألة الإعجاز العلمي.

ثالثاً: إذا ما سلّمنا باعتبار التفسير العلمي -الذي يتشابك كثيراً مع الإعجاز العلمي- كمنهج من مناهج التفسير المعتمدة في فهم النصوص القرآنية، فهذا بحدِّ ذاته يمثل أهمّ الأسباب التي تستدعي عملية تقنين الإعجاز العلمي لكونه يتناول النصوص المقدّسة للقرآن الكريم، فعدم التقنين يمثل خطورة كبيرة لما يعنيه من فتح المجال على مصراعيه أمام الجميع للخوض في كلام الله.

رابعاً: وضع القواعد والأسس والضوابط العلمية لعملية التفسير العلمي يرفع الكثير من الإشكالات والالتباسات التي وجّهها ووقع فيها مخالفو الإعجاز العلمي، حيث إنَّ كثيراً من الإشكالات التي أطلقها المخالفون كانت نتيجة عشوائية البحث في مجال الإعجاز العلمي، ووقوع كثير من المؤيدين في أخطاء فادحة بسبب غياب الضوابط في ذلك، فوضع الضوابط يحدُّ كثيراً من الخلاف الحاصل بين المؤيدين والمعارضين لمسألة الإعجاز العلمي.

هذه بعض النقاط التي يمكن ذكرها لبيان أهمية عملية تقنين الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

المبحث الثاني: ضوابط الإعجاز العلمي

أشرنا سابقا إلى أن بحث الإعجاز العلمي يتشابك كثيراً مع منهج التفسير العلمي(12)، لذا فإنَّ القواعد والضوابط التي وضعها العلماء للتفسير العلمي هي نفسها القواعد التي تجري في مسألة الإعجاز العلمي في القرآن، وهذه الضوابط على نحوين: الضوابط العامة التي لا بدَّ من وجودها في جميع المناهج التفسيرية، والضوابط الخاصّة التي لا بدَّ من توافرها في قسم خاص من أقسام التفسير.

المطلب الأوّل: الضوابط العامّة

وهي عبارة عن الضوابط والقواعد التي يجب مراعاتها والتوفّر عليها عند عملية التفسير بحسب جميع المناهج التفسيرية، وسنورد في هذا الشأن ما تبنّاه العلامة معرفة من ضوابط تفسيرية عامة في كتابه «التفسير والمفسرون»:

الأوّل: التوفّر على بعض العلوم المتعلّقة باللغة العربية: معرفة الألفاظ، وهو علم اللغة، مناسبة بعض الألفاظ إلى بعض، وهو علم الاشتقاق، معرفة أحكام ما يعرض الألفاظ من الأبنية والتصاريف والإعراب، وهو النحو، معرفة ما يتعلق بذات التنزيل، وهو معرفة القراءات.

الثاني: ما يتعلق بالأسباب التي نزلت عندها الآيات، وشرح الأقاصيص التي تنطوي عليها السور، من ذكر الأنبياء (عليهم السلام) والقرون الماضية، وهو علم الآثار والأخبار.

الثالث: التوفّر على علم السنن، وهو ذكر السنن المنقولة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وعمّن شهد الوحي، وما اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه، ممّا هو بيان لمجمل، أو تفسير لمبهم.

الرابع: معرفة الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والإجماع والاختلاف، والمجمل والمفسَّر، والقياسات الشرعية، والمواضيع التي يصح فيها القياس، والتي لا يصحّ، وهو علم أصول الفقه.

الخامس: أحكام الدين وآدابه، وآداب السياسات الثلاث التي هي سياسة النفس والأقارب والرعيّة؛ مع التمسك بالعدالة فيها، وهو علم الفقه والزهد.

السادس: معرفة الأدلّة العقليّة، والبراهين الحقيقيّة، والتقسيم والتحديد، والفرق بين المعقولات والمظنونات وغير ذلك، وهو علم الكلام.

السابع: علم الموهبة، وذلك علم يورّثه الله من عمل بما علم.

الثامن: أن يراعي تقوى الله (عزَّ وجلَّ)، فلا يقول في شيء بغير علم ولا كتاب منير(13).

المطلب الثاني: الضوابط الخاصة:

هي عبارة عن الضوابط التي لا بدَّ من توافرها عند الخوض في خصوص مسألة الإعجاز العلمي، وقد ذكر العلماء والباحثون الكثير من الضوابط للتفسير والإعجاز العلميين إلا أنَّ كثيراً مما ذكروه متداخل مع الضوابط العامة، أو أنَّه يشوبه بعض الملاحظات، وسنورد في هذا القسم ما نعتقد بدخالته ومقوميته لعملية البحث في الإعجاز العلمي، وسنترك مناقشة بعض الضوابط الأخرى في المبحث اللاحق.

أما الضوابط العلمية فهي:

الأوّل: أن يكون الاعتماد على النظريّة العلميّة التي وصلت إلى حدِّ الحقيقة العلميّة القاطعة أو ما يسمّى بالقانون العلميّ، وعدم المصير إلى الفرضيات والنظريات الاحتماليّة(14).

الثاني: أن تكون دلالة ظاهر الآية واضحة لا مرية فيها بالنسبة إلى الحقيقة العلميّة، بحيث لا يدخل التأويل وتحميل الآية على الحقيقة العلميّة بصورة جبريّة، ممّا يُلجئنا إلى التفسير المخالف للظاهر(15).

الثالث: عدم حصر الآية على الحقيقة العلميّة الواحدة، فبما أنَّ الإحاطة بكلام الله بشكل مطلق محال؛ فالقول بانحصار الآية في خصوص هذه الحقيقة العلميّة أو تلك أمر مشكل، فكم من الآيات التي فهمت بشكل معين ثم جاء العلم الحديث فأوجد لها معنى أوسع.

يقول مروان وحيد شعبان في كتابه «الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث»: "إنَّ الإحاطة بمراد كلام الله بشكل مطلق أمر محال... وعند إحاطتنا بالدلالات اللغوية الحقيقية والمجازية واستعمالات العرب لها، إن وجدنا أن حقيقة علمية تؤيد إحدى هذه الدلالات، لا بأس عندئذ أن نرجح الدلالة التي أيدتها الحقيقة العلمية، على أن لا نحكم بالبطلان والفساد على الدلالات الأخرى للكلمة من جهة، وأن لا نحصر معنى الآية على الدلالة التي رجّحناها من جهة أخرى، فقد تكون الحقيقة العلمية التي رجّحنا على ضوئها هذه الدلالة إحدى دلالات الآية، وظلالها ممتدة إلى حقائق أخرى لم نتمكن من التوصل إليها حسب ثقافة عصرنا..."(16).

الرابع: اتّباع المنهج الصحيح في تثبيت الإعجاز العلمي، والابتعاد عن اتّباع المناهج الخاطئة في بيان أوجه الإعجاز، مثل استخراج العلوم من القرآن، وتحميل النظريات على القرآن(17).

الخامس: أهميَّة التخصّص العلميّ، حيث إنَّه من الأهمية بمكان أن يكون الخائض في مسألة الإعجاز العلمي من أهل الاختصاص، فلا يكفي كونه متمكّناً في العلوم الشرعيّة واللغويّة وغيرها، دون التخصّص في العلوم الطبيعيّة والكونيّة التي لها دخالة في تثبيت الإعجاز وفهم النصوص القرآنية، ومع تعسّر الجمع بين العلوم يُرجع إلى المختّص في المجال العلميّ شرط إحراز ثبوت الحقيقة العلميّة(18).

 

المبحث الثالث: تقييم الضوابط ومحاكمتها

المطلب الأوّل: إشارات وتنبيهات على الضوابط

سنتناول في هذا المطلب بعض التوضيحات والتنبيهات على بعض الضوابط المتقدّمة بما يناسب المقام.

الضابط الأوّل: يقول الدكتور محمد علي رضائي في كتابه «دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية»:

توجد عدّة احتمالات بالنسبة إلى القضايا العلمية:

أ- القضية العلمية التي تورث اليقين المطابق للواقع وذلك إذا كانت التجربة مصحوبة بالاستدلال العقلي (الوصول إلى مرحلة البداهة).

ب- القضية التي تورث الاطمئنان ولكن لا تعدم الاحتمال المخالف وهي كأكثر القضايا التجريبية.

ج- النظرية العلمية الظنّية التي لم تصل إلى مرحلة الثبوت بعد.

أمّا بالنسبة إلى الحالة الأولى، فيكون التفسير العلمي جائزاً، لأنّه لا يوجد تعارض أصلاً بين القرآن والقطع العلمي -الذي يرجع إلى القطع العقلي-، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية، فلا إشكال في نسبة العلوم إلى القرآن بصورة احتمالية...، أمّا في الحالة الثالثة فإنَّ التفسير به غير جائز؛ لأنَّ أكثر الإشكالات الواردة على هذا التفسير مثل (تطبيق العلوم على القرآن، واستخراج العلوم من القرآن)(19) تكون غير منتفية(20).

إذاً فالقدر المتيقن حسب رأي الدكتور رضائي أنَّ الثابت من الحقائق العلمية التي يمكن تثبيت الإعجاز بها هي القضية العلميّة القطعيّة التي يكون مرجعها إلى القطع العقلي، وأمّا أكثر النظريات العلميّة التي ثبتت عن طريق الاستقراء فلا يمكن إسنادها إلى القرآن بنحو قاطع، وأمّا النظريات الظنيّة التي لم تثبت بعد، فالأمر فيها واضح؛ حيث لا يمكن الاعتماد عليها في تثبيت الإعجاز لا بنحو القطع ولا الاحتمال.

إلّا أنَّه يمكن أن يفرّق فيما يرتبط بالنظريات العلميّة المستندة إلى الاستقراء؛ بين ما إذا كانت معتمدة على الاستقراء بحسب الاستقراء الأرسطي الذي لا يؤدّي إلى اليقين فيما إذا كان ناقصاً، وبين الاستقراء المعتمد على نظرية حساب الاحتمالات التي اعتمدها الشهيد الصدر (رحمه الله)، وذلك أنَّ الاستقراء الثاني يمكن أن يحصل معه الاطمئنان المتاخم لليقين، وعندئذٍ قد يمكن القول بالصيرورة إلى قبول الاستفادة من النظريات العلمية المستندة للاستقراء في تثبيت الإعجاز العلمي بنحو قاطع.

إلّا أنّ مقتضى الاحتياط في مثل هذه المسائل يقتضي عدم الجزم بتطبيق الحقائق العلمية على القرآن، والاكتفاء بالتطبيق الاحتمالي لما يتوصل إليه، بحيث يكون المفسر دائم الاتّهام لنفسه في فهم الحقائق القرآنيّة.

الضابط الثاني: تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الضابط لا يلغي الضابط الأول القائل بجواز الاعتماد على الحقيقة العلمية في بعض صورها بشكل قاطع، بل غاية ما يفيده هو عدم حصر الآية في حقيقة علمية واحدة.

الضابط الثالث: ولبيان هذا الضابط بشكل أعمق، لا بدَّ من التطرّق إلى بعض المناهج المرتبطة بمجال بحثنا(21):

المنهج الأول: وهو القائل بإمكانيّة استخراج كل العلوم من القرآن الكريم، حيث يعتقد أرباب هذا المنهج باشتمال القرآن على جميع العلوم، حيث يذكرون الآيات التي توافق ظاهراً القوانين العلمية، ويؤولون الآيات التي لا تتوافق معها.

ومن الواضح أنَّ هذا النمط من البحث يؤدّي إلى التأويل الفاسد، وذلك بالابتعاد عن ظواهر القرآن ومعانيه اللغوية، بتجيير النص باتّجاه النظرية العلمية.

المنهج الثاني: تطبيق النظريات العلمية على القرآن الكريم، حيث حاول أصحاب هذا المنهج أن يُطبِّقوا الآيات والنصوص القرآنية على بعض القوانين والنظريات العلميّة، ويؤوّلوا الآيات المخالفة، وذلك بتجيير النص ولَيِّه لصالح النظرية العلمية المتبناة، وهذا ما يؤدي إلى الوقوع في منحدر التفسير بالرأي المنهي عنه شرعاً.

المنهج الثالث: استخدام الحقائق العلميّة لفهم وتبيين مقاصد القرآن وتثبيت إعجازه العلمي، وفي هذه الطريقة من التفسير لا بدَّ من رعاية الضوابط والقواعد التي يلزم اتّباعها لتفادي الوقوع في الاشتباهات من قبل المتخصّص، هذا النَّمط من التفسير يسعى بالاستفادة من الحقائق القطعية والظواهر القرآنية الموافقة للعلوم، إلى اكتشاف المعنى المجهول للآية فيما يرتبط بالتفسير، وتثبيت الإعجاز العلميّ للقرآن فيما يرتبط بمسألة الإعجاز، وهذا هو المنهج الصحيح الذي ينبغي اتّباعه.

المطلب الثاني: محاكمة الضوابط الأخرى

سنعرض في هذا المطلب بعض ما ذكره العلماء والمتخصّصون من ضوابط أخرى للإعجاز العلمي -غير ما ذكرناه في المبحث السابق- نعتقد بعدم مقوميّتها  للإعجاز العلمي، أو رجوعها في الحقيقة إلى الضوابط العامة لكل المناهج التفسيرية، أو عدم صوابيّتها من الأساس، وذلك مع بيان بعض الملاحظات، وسنكتفي بذكر بعض النماذج(22):

محاولة فهم النّصّ الواقع تحت الدّراسة وفق فهم العرب إبّان نزول الوحي وذلك لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت، ولهذا يقتضي الأمر الإلمام بمسائل تعين على فهم النّصّ والتّمكن من تقديم معنى على آخر.

الاعتماد على المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها كأمّهات التّفسير والحديث وكتب غريب القرآن والسنة، مع الإشارة إلى جهود الدراسات السابقة إن وجدت.

الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل، لأن القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر... بل الواجب اتباع السلف (رضي الله عنهم)، وخصوصاً الصحابة لأنّهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الصالحين....

 فهم العمدة والعدول بخبر الله تعالى، وعنهم أخذ التّابعون وعلى نهجهم ساروا، فمن عدل عن تفسيرهم إلى ما يخالفه كان مخطئاً بل ومبتدعاً لأنّهم كانوا أعلم بتفسير كتاب الله من غيرهم وأورع وأتقى.

إنَّ هناك أموراً من قبيل المتشابه لا مجال لفهمها أو تناولها بالبحث.

جمع النّصوص القرآنيَّة المتعلّقة بالموضوع وردِّ بعضها إلى بعض لتخرج بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النّصوص بل يؤيدها.

محاكمة الضوابط

أوّلاً: بالنسبة إلى الضابط الأوّل المذكور، فهو يرجع إلى الضابط الأوّل من الضوابط العامة التي ذكرناها في المبحث الثاني، فهذا الضابط ليس مختصاً بمسألة البحث في الإعجاز العلمي.

ثانياً: أمّا بالنسبة إلى الضابط الثاني ففيه:

1- المقطع الأول يرجع إلى الضوابط العامّة المذكورة في المبحث الثاني.

2- أمّا المقطع الثاني الذي يحتوي على الإشارة إلى الجهود السابقة، فهذا ليس مختصاً بمسألة الإعجاز العلمي وإنَّما يجري في كلِّ البحوث والدراسات، ولا بأس بالالتزام من باب الأمانة العلمية، ومنشأ هذا المعيار أخلاقيّ.

ثالثاً: وأمَّا بالنسبة إلى الضابط الثّالث والرّابع، ففيهما:

أمَّا ما يرجع إلى "الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل"، فهذا أمرٌ أخلاقيٌّ ينبغي الالتزام به، فالاستهزاء والسخرية بالآخرين وآرائهم ليس من تعاليم الإسلام ولا من أخلاقيات الدين، إلَّا أنَّ ذلك لا يُعدّ ضابطاً مقوّماً لعملية البحث في الإعجاز العلمي، وإنَّما له دخالة في تركيب الشخصية المسلمة الملتزمة في كل جوانب الحياة.

وأمَّا ما يرجع إلى وجوب اتّباع السلف وخصوصاً الصحابة، وأنَّ من عدل عن تفسيرهم إلى ما يخالفه كان مخطئاً بل ومبتدعاً، فهو في شدَّة الوهن والضعف، وذلك أنَّ لازمه:

أ- عصمة السلف مما يعني عدم جواز مخالفة آرائهم التفسيرية.

ب- التخلي عن فكرة الإعجاز العلمي، وذلك أنَّ ما ذهب إليه السلف في تفسير الآيات العلميَّة إمَّا مطابق لما جاء به العلم الحديث وإمَّا لا، فإن كان مطابقاً فموضوع الإعجاز منتف، وإن كان غير مطابق فمخالفتهم تعني الوقوع في الخطأ والابتداع!!

رابعاً: بالنسبة إلى الضابطين الخامس والسادس فهما يرجعان إلى الضابط الثاني من الضوابط الخاصة للإعجاز العلمي.

الخاتمة

 في نتائج البحث:

أوّلاً: أنَّ المقصود من العلم في الإعجاز العلمي هو خصوص العلم القائم على التجربة، وأنَّ مسائل هذا العلم لا تتّصف بالقطع، إلّا عند رجوعها إلى القطع العقلي، أو اعتمادها على الاستقراء المستند إلى نظرية حساب الاحتمالات.

ثانياً: أنَّ عملية تقنين الإعجاز العلمي ترفع الكثير من الإشكالات التي وجّهت إلى موضوع الإعجاز العلمي في القرآن.

ثالثاً: عدم مراعاة الكثير من المختصين التفريق بين الضوابط الخاصة والعامة في مسألة الإعجاز العلمي.

رابعاً: تركيز الكثير من المختصين على ذكر الضوابط الأخلاقيَّة على الرغم من عدم مقوميَّة الكثير منها لعملية تثبيت الإعجاز العلمي.

خامساً: إدخال بعض الباحثين ضوابط غير منطقية في الإعجاز العلمي.

سادساً: وجود مناهج عديدة في الإعجاز العلمي والصحيح منها ما يعتمد على استخدام الحقائق العلمية لفهم وتبيين مقاصد القرآن وتثبيت إعجازه العلمي.

سابعاً: يمكن إضافة بعض الضوابط في المستقبل بحسب الحاجة، كون عملية الإعجاز العلمي في حالة تطوّر وتوسع(23).

***

* الهوامش:

(1) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، ج4 ص232، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج1 ص215، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي.

(2) لسان العرب، ابن منظور، ج9 ص58، تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب، محمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

(3) دروس في العقيدة الإسلامية، الشيخ مصباح اليزدي، ص215، المشرق للثقافة والنشر، 1427هـ، طهران، إيران. بداية المعرفة، حسن مكي العاملي، ص208، ذوي القربى، 2005م، قم، إيران.

(4) معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج4 ص109-110.

(5) لسان العرب، مصدر سابق، ج9 ص371.

(6) بداية الحكمة، السيد محمد حسين الطباطبائي، ص175، تحقيق: الشيخ عباس علي الزارعي، مؤسسة النشر الإسلامي، 1426هـ، قم، إيران.

(7) دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، محمد علي الرضائي الأصفهاني، ص183، تعربي: قاسم البيضاني، مركز المصطفى العالمي، 1432هـ، قم، إيران.

(8) مقالة/مفهوم الإعجاز العلمي وضوابط البحث فيه، ملتقى أهل التفسير http://www.tafsir.net/vb/tafsir25379/.

(9) الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه، مصدر سابق، ص22.

(10) كتاب العين، مصدر سابق، ج7 ص23، تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، ج3 ص1139، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، 1407هـ، لسان العرب، مصدر سابق، ج8 ص16.

(11) المعجم الوسيط، مجموعة من اللغويين، ج1 ص533، المكتبة الإسلامية.

(12) ليس هناك فرق جوهري بين الإعجاز والتفسير العلميين، وإنّما هنالك فرق لحاظي، فالقواعد التي توصل إلى الهدف من التفسير والإعجاز العلميين واحدة، وإنّما الغايات والأهداف المرجوة من التفسير تختلف في بعض جوانبها مع الأهداف والغايات المرجوة من الإعجاز العلمي، فمثلاً يلحظ الإعجاز مسألة التحدي في إثبات تطابق الحقيقة العلمية مع النص القرآني، بخلاف التفسير فإنّه لا يلحظ ذلك، وإنّما الغاية منه الوصول إلى فهم النص القرآني.

(13) التفسير والمفسرون (تاريخ التفسير) التمهيد في علوم القرآن، العلامة محمد هادي معرفة، ج9 ص50-52، ذوي القربى، 1428هـ، قم، إيران. بتصرف.

(14) الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه، مصدر سابق، ص30، دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، مصدر سابق، ص183. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان، ص91، دار المعرفة.

(15) الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه، مصدر سابق، ص30، دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، مصدر سابق، ص184.

(16) الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مصدر سابق، ص92-93.

(17) دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، مصدر سابق، ص184.

(18) الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مصدر سابق، ص93.

(19) سيأتي إيضاحه قريباً.

(20) دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، مصدر سابق، الهامش ص183.

(21) هذا التقسيم مستفاد من تقسيم الأستاذ رفيعي للتفسير العلمي، حيث قسّم التفسير العلمي إلى الأقسام الثلاثة المذكورة، راجع دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، مصدر سابق، ص179.

(22) هذه النماذج مأخوذة مما ذكره الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المصلح في ضوابط الإعجاز العلمي، راجع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه، مصدر سابق، ص30-34.

(23) من مصادر هذا البحث:

1- الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان، دار المعرفة.

2- بداية الحكمة، السيد محمد حسين الطباطبائي، تحقيق: الشيخ عباس علي الزارعي، مؤسسة النشر الإسلامي، 1426هـ، قم، إيران.

3- بداية المعرفة، حسن مكي العاملي، ذوي القربى، 2005م، قم، إيران.

4- تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، 1407هـ.

5- التفسير والمفسرون (تاريخ التفسير) التمهيد في علوم القرآن، العلامة محمد هادي معرفة، ذوي القربى، 1428هـ، قم، إيران. بتصرف.

6- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، محمد علي الرضائي الأصفهاني، تعريب: قاسم البيضاني، مركز المصطفى العالمي، 1432هـ، قم، إيران.

7- دروس في العقيدة الإسلامية، الشيخ مصباح اليزدي، المشرق للثقافة والنشر، 1427هـ، طهران، إيران.

8- كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج1 ص215، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي.

9- لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب، محمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

10- معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون.

11- مقالة/مفهوم الإعجاز العلمي وضوابط البحث فيه، ملتقى أهل التفسير http://www.tafsir.net/vb/tafsir25379.

12- المعجم الوسيط، مجموعة من اللغويين: إبراهيم مصطفى، أحمد حسم الزّيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجّار، المكتبة الإسلامية.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا