الإسلام ودور المرأة في النّظام الأحسن

الإسلام ودور المرأة في النّظام الأحسن

مقدّمة:

كما الشّمس في رابعة النّهار، بات الجميع اليوم يذعنون أنّ هناك خصائص مختلفة بين الرّجل والمرأة ما لا تطالها يد الإنكار والتّرديد. أُولاها: الخصائص الجسديّة من الجهاز التّناسلي، ودورة الحيض، ونعومة الملمس، ومقاومة الأمراض، وغيرها. ثانيتها: الخصائص النّفسيّة من العواطف والأحاسيس والانفعالات، والحماية، والرّغبة في الاهتمام، وغيرها. ثالثتها وأخيراً: الخصائص التشريعيّة والحقوقيّة من الطّهارة، والصّلاة، والصّيام، والجهاد، والحجاب، والحاكميّة، والقواميّة، والقضاء، والشّهادة، والطّلاق، والإرث، والدّية، وغيرها. وعليه، راح الجميع يبحثون عمّا تُخفيه هذه الخصائص خلفها من اللّغز المحيِّر؛ إذ من غير المنطقيّ أنّ تختلّف الخصائص بين الرّجل والمرأة دون علّة وسبب؛ لأنّ الخصائص لا تُوضَع إلاّ في مرحلة متأخّرة عن مرحلة تعيين الغاية والهدف، فكثر فيما بينهم اللّغط والاختلاف، كلّ يُدلي بدلوه مدَّعِياً حلّ هذا اللّغز المعضِل بمعرفة فلسفة اختلاف الخصائص بينهما، وكشف موقع الجنسَين المذكورَين في هندسة النّظام.

ولم يكن الإسلام مجانِباً في خِضمّ هذه الرّؤى والأنظار، فقد كشف فيما تنازعوا فيه نقابه، وأماط لثامه، فأتى بالبديع من القول في حلّ هذا اللّغز المستور: دور المرأة في النّظام الأحسن. وما سَعينا في هذه المقالة إلاّ الإعراب عن رأي الإسلام مع ما يستلزم ذلك من مقدَّمات ونتائج. فمن الله التوفيق، وعليه التكلان.

الكمال والطريق إليه:

اِنطلاقاً من الهدفيّة التّكامليّة للخِلقة فإنّ الإنسان هو ذلك الموجود الذي خُلق ليبلغ كماله المرسوم له، المُفصَح عنه في قوله تعالى: {إنّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَات وَنَهَر فِي مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِيك مُقْتَدِر}[1]. وحين نُجمل التّطرّق للكمال وأهميّته لنسلِّط الضوء على الطّريق إلى الكمال فإنّ أوّل ما يترصّد لنا هو: هل طريق الكمال واحد أم متعدّد؟. ومع ملاحظة الآثار الشرعيّة من الكتاب والسُّنّة يظهر التنافي فيما بينها، المُحوَج إلى وجه جمع.

فتارة يُقال: إنّ الطريق واحد، والمعبَّر عنه غالباً بالصّراط المستقيم من بين مفاهيم القرآن الكريم في آيات متعدّدة، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}[2]. وكذلك ما ورد عن أبي عبداللهg في قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}[3] قال: >هو أمير المؤمنينg ومعرفته<[4]. والمعبَّر عنه أحياناً بالصّراط الأقوم، كما ورد في شأنهمi في الزّيارة الجامعة الكبيرة: >أنتم الصّراط الأقوم<[5]. ولا يخفى أنّ الطّريق إلى الكمال بهذا المعنى المتقدّم لا يحتمل تعدّده وكثرته. ولعلّه لهذه النّكتة لم يرد لفظ الصّراط مجموعاً، إنّما لازم الإفراد دائماً.

وتارة أخرى يُقال: إنّ الطّريق متعدّد، والمعبَّر عنه غالباً بالسُّبُل وفق مفاهيم القرآن الكريم في آيات متعدّدة، كقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}[6]. وكما ورد في مناجاة الإمام زين العابدين g: >إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك<[7]. والمعبَّر عنه كثيراً بالطُّرُق على لسان العلماء -وليس بحديث-: الطرق إلى الله بعدد أنفاس -أو نفوس- الخلائق[8].

وإذا كان الأمر كذلك، يلزم أنّ يصالحهما وجه جمع دون أنّ نطرح أحدهما، خلافاً لمن تُوهِّم أنّ القول بتعدُّد الطّريق -وفق الكلام المشهور- ليس إلا مقدِّمة لنتيجة فاسدة، لا يستقرّ معها حجر فوق حجر، ألا وهي: التّعدّديّة الدّينيّة. وليس الأمر كما تُوهِّم.

فبعيداً عن كلّ ما قيل في التوفيق بينهما، نحذو حذواً يصب في غرض ما نحن بصدده، فنقول: إنّ الطّريق -بمعنى الصّراط المستقيم- واحد؛ لأنّه تعبير عن الإيمان بالثّقلين، الثّقل الأكبر كتاب الله، والأصغر إمامتهم. فهذا طريق واحد، الآخذ به ناجٍ، والمُعرِض عنه هالك. وإنّ الطّريق المتعدّد -بمعنى السّبل- فعبارة عن الطّرق الفرعيّة المتكثّرة التي تتخلَّل الصّراط، باعتباره طريقاً عامّاً واحداً. فإذا لوحِظ الصّراط قيل واحد، وإذا لوحِظت السّبل قيل متعدّد. وهذا ما احتمله العلاّمة الطّباطبائي+ بالترديد بينه وبين معنى آخر، يناسب كلّ منهما ما تقدّم بشكل وآخر. قال ما لفظهS: "فَعُدّ السّبل كثيرة والصّراط واحداً، وهذا الصّراط المستقيم إمّا هي السّبل الكثيرة، وإمّا أنّها تؤدّي إليه باتّصال بعضها إلى بعض واتحادها فيه"[9].

ما هي السّبل؟:

إنّ تكثّر السّبل من جهة، ووحدة الصّراط من جهة أخرى، يعني أنّ السّائرين يجمعهم الإيمان بالثّقلين كجهة اشتراك، مع وجود ما يفرِّقهم من الطّرق الفرعيّة كجهة تمايز. وكأنّ لكلّ واحد منهم دوراً وتكليفاً، يشكّل هذا الدور والتكليف لكلّ منهم سبيلاً وطريقاً من تلك الطرق التي تتخلَّل الصّراط المستقيم. فالحاكم المؤمن، والقاضي المؤمن، والمبلِّغ المؤمن، والمجاهد المؤمن، والمربِّي المؤمن، كلّ هؤلاء يسيرون في الصّراط المستقيم نحو الكمال بأدوار مختلفة، وتكاليف متعدّدة، وغايات متفاوتة.

أهميّة كشف الدّور:

لم تكن لِتخفى على الله خافية؛ إذ قد علم استعداداتنا وقابليّاتنا منذ الأزل، فقدَّر لكلّ قابليّة دوراً وسبيلاً، ووجهة إليه تولّيها. ممّا يعني أنّ بين الدّور والقابليّة علاقة وطيدة جداً، وليس تحجيم الدور إلا ناشئاً من مساحة القابليّة. وعليه، فإنّ لم نكتشف ذلك الدّور الملقَى علينا، فلا جرَم أنّ تحقيق الكمال سيحجبه التّعذّر والضّلال، أو يعرقله التّعسُّر والتّأخير. لذلك أعقب الإمام زين العابدين g بعد ذكره للسّبل: >وسيّرنا في أقرب الطّرق للوفود عليك<[10].

فلا بدّ لزاماً من معرفة ما خُلقنا له خاصّة؛ لأنّه باب الوصول إلى الكمال، فقد ورد عن أمير المؤمنينg: >من عرف نفسه فقد عرف ربّه<[11]. أي: من عرف نفسَه، ولأيّ شيء خلقها الله خاصّة، والتزم به، فإنّه لا محالة سيرقى في مدراج المعرفة التّكامليّة الشّهوديّة. كما لا يخفى شأن الدّعاء والتّضرّع ليدفعه الله إلى حيث سبيله، ويستفرغه له، على غرار دعاء السّيدة فاطمة الزّهراءj: >اللَّهُمَّ فَرِّغْنِي لِمَا خَلَقْتَنِي لَهُ<[12].

علاقة الدّور والخصائص:

إنّ العلاقة التي تربط الدّور والخصائص هي علاقة الملزوم ولوازمه الخاصّة، فحيثما يتغيّر الملزوم تتغيّر لوازمه تِباعاً. فلا جدوى للحِجاج في الخصائص دون اعتبار الدّور إلا كالبناء دون أساس. فللحاكم المؤمن من حيث دوره خصائص تخصّه، وللقاضي المؤمن خصائص أخرى، وللمبلِّغ المؤمن كذلك، وهكذا.

وما رسالة الحقوق للإمام زين العابدينg إلا تلك الحقوق المبنيّة على مختلف الأدوار في النّظام الأحسن، فللأئمة من حيث دورهم حقوق، وللمعلِّم من حيث دوره حقوق، وللأب والأمّ حقوق أيضاً.

وإذا دقّقنا أكثر فإنّنا سوف نُدرك بأنّ الخصائص المختلفة بشأن الأئمةi ما هي إلا بملاحظة دور وتكليف كلّ واحد منهمi أيضاً، قال الشّهيد الصدرO: ".. اختلافاً في الحالات، وتبايناً في السّلوك، وتناقضاً من النّاحية الشّكليّة بين الأدوار التي مارسها الأئمةi، فالحسنg مثلاً هادن معاوية، بينما حارب الحسينg يزيدَ حتى قُتل، وحياة عليّ بن الحسين السّجادg قائمة على الدّعاء، بينما كانت حياة الباقرg قائمة على الحديث والفقه، وهكذا" [13].

نظريّات مختلفة في دور المرأة:

وقبل الانجرار إلى سياق الخصائص المختلفة بين الرّجل والمرأة، لا بدّ أنّ ندفع بعجلة الملزوم (الدّور) أولاً، لتتحرّك لوازمه (الخصائص) بالتّبع ثانياً.

اختلفت الرؤى والنظريّات كثيراً حول دور المرأة في هذا النّظام، وعليه، تكون الخصائص من لوازم هذه الرّؤى، والتّابعة لها، وسنذكر أهم هذه النّظريّات.

إحدى النّظريّات القديمة تذهب إلى أنّ دور المرأة هو دور شيطانيّ خبيث وشرّير، لخداعها الرّجال وانحرافهم، ولعلاقتها مع الشّيطان، وكونها مظهراً من مظاهره، ونوعاً من أنواع الأرواح المؤذية، بحيث إنّ روحها عُجِنت مع الخباثة والحيلة. معتقدين أنّها السّبب الرّئيس وراء الرّعد والبرق والصّاعقة والزّلزلة والطّوفان. وكانوا إذا ماج بهم البحر وهاج، يسألون: هل هناك امرأة على ظهر السّفينة؟

تظهر هذه الرؤية التشاؤميّة للمرأة في اليونان آنذاك، والرّوم، والهند، وكذلك في الجوامع المسيحيّة في القرون الوسطى، وغير ذلك.

ومن الطّبيعيّ وفقاً لهذه الرّؤية لدور المرأة أنّ يعتقدوا بأحكام وحقوق تناسبان هذا الدور الشيطانيّ لها، فضلاً عن أنّ الخصائص الجسديّة والنّفسيّة لم تُفسَّرا وفق دور مناسب لهما. لذلك لم يكن للمرأة في اليونان حقّ الحياة بعد حياة زوجها، وكانت محجورة، وممنوعة من التدّخل في أيّ شيء سوى تلبية رغبات الزّوج الشّهويّة، وكانوا يؤذونها في الرّوم، ويمنعونها من الحديث والضّحك، ولا تكون إلا تحت كفالة وليّ قيّم، وكانت تعدّ من الإرث الذي ينتقل إلى الآخر بعد وفاة زوجها، وكانوا لا ينفردون بأمّهاتهم وأخواتهم في الهند، مقرّين أنّ الوباء والموت والجحيم وسمّ الأفعى خير منها. وما زالوا في الجوامع المسيحية يجتنبونها اجتناب الخباثة والانحراف والشرّ، وكما قال الشّهيد المطهّريS: "يقول أحد زعماء العصر الحديث: اقلعوا شجرة الزّواج بمطرقة البكارة، .. وأساس فكرة الرياضة الجنسيّة والعزوبة ما هو إلا سوء الظنّ بالعنصر النّسائي، واعتبار الميل نحو المرأة من المفاسد الأخلاقيّة العظمى"[14]، وقد قالوا على لسان الكنيسة والدّين: "المرأة يجب أنّ تخجل من كونها امرأة". وكانت لنحوستها وشيطنتها تُلقى من ظهر السّفينة، وكانت الذّبيحة التي يتقرّبون بها إلى أصنامهم. هذه هي الخصائص التّشريعية والحقوقيّة التي كانت المرأة تتمتّع بها وفق هذه الرّؤية تجاهها.

ومن النّظريّات الأخرى هي أنّ دورها مجرّد آلة ينتفع بها الرّجل فحسب، فليست المرأة إلا مقدّمة لوجود الرّجل، وأنها خُلقت لراحة الرّجل فقط. وصرّح الفيلسوف الألماني نيتشه: "ينبغي أنّ يربَّى الرّجل للحرب، والمرأة لاستراحة المحارب، و كلّ ما عدا ذلك فحمق"[15]. ويُنقَل عن فرويد: "أنّ المرأة لا تصلح إلا لإشباع رغبات الرّجل". وكذلك كان وضع عرب الجاهلية، فكما قال الشّهيد المطّهريS: "فقد كان عرب الجاهلية وبعض الأمم الأخرى ينظرون إلى المرأة على أنّها وعاء لنطفة الرجل، ولا يعدو دورها الاحتفاظ بهذه النّطفة وإنمائها"[16].

لذلك كانت خصائص المرأة الجسديّة أسيرة هذه الرّؤية، كما كانت خصائصها التّشريعيّة والحقوقيّة على غرارها. فكانت المرأة تُجبَر على الفحشاء تكسّباً للرّجل. قال العلامة الطّباطبائيS: "وأمّا النّساء فقد كنّ محرومات من مزايا المجتمع الإنساني، لا يملكن من أنفسهنّ إرادة ولا من أعمالهم عملاً، ولا يملكن ميراثاً، ويتزوج بهنّ الرّجال من غير تحديد بحدّ كما عند اليهود وبعض الوثنيّة، ومع ذلك فقد كنَّ يتبرّجنَ بالزّينة ويدعون من أحببنَ إلى أنفسهنّ، وفشا فيهنّ الزّنا والسّفاح، حتى في المحصنات المزوَّجات منهنّ، ومن عجيب بروزهنّ أنهنّ ربّما كنَّ يأتينَ بالحجِّ عاريات"[17]، ولا تخفى ظاهرة وَأْد البنات في تلك الحقبة المظلمة، وما ذلك إلا لاستحقار وجودها ودورها، واستشعار الخزي والعار من حين ولادتها[18]. ومن منطلق الانتفاع من بالمرأة، كانت المرأة في بعض المجتمعات وسيلة استثمار بكلّ ما للكلمة من معنى، فقد كانوا يحمّلونها الأعمال الشّاقة والوظائف المرهقة، مثل حرث المزارع. كما قد استغلّوها للعمل والكدح في الثّورة الصّناعيّة بمال زهيد لا يرقى إلى مدخول الرّجل.

وأمّا عالم اليوم، فإنّ النّظرة النّفعيّة تجاه المرأة قائمة بحدّ ذاتها، فالمرأة في الغرب ليست سوى الآلة واللّعبة التي يلتذ بها الرّجل فحسب، فهي اليوم تُخدَع بالحريّة المطلقة والتّجمّل والتّزيّن والتّعطّر والاختلاط حتى يلتذّ الرّجل من كلّ ذلك، وكما يقول الإمام الخامنئيB: "عرَّفوا المرأة على أنّها وسيلة لالتذاذ الرّجال وأسموها حرّيّة المرأة! في واقع الحال هذه حرّيّة الرّجال الفاسدين للاستمتاع بالمرأة"[19].

ومن النّظريّات أيضاً أنّ دورها دور وسطي بين الإنسان والحيوان؛ لأنّها ليست إنساناً ولا حيواناً، كما قيل: المرأة نقلة بين الحيوان والإنسان. والسّوي منها نظريّة أخرى تزعم أنّ دورها حيوانيّ، لا أقلّ ولا أكثر، كما تبنّاها شوبنهاور حيث قال: "المرأة حيوان طويل الشّعر وقصير الفكر"[20]، وقيل أيضاً: "المرأة آخر موجود وحشيّ دجنه الرّجل".

وغير خاف كيف ستُفسَّر حينئذٍ خصائص المرأة الجسديّة والنّفسية والحقوقيّة على ضوء هاتين النّظريتين.

خالقها أعلم بها:

إنّ النّظريّات المتقدّمة وغيرها تتّفق أنّ للمرأة دوراً تحمله، وأمّا النّزاع فناظر إلى ماهيّة هذا الدّور وحقيقته، وحتى نميِّز الحقّ والباطل من بين هذه النّظريّات وغيرها لا بدّ أنّ نتوقّف قبل كل شيء في بيان ضابطة ذلك. فما هو الطّريق الآمن لكشف دور المرأة؟

انطلاقاً من الرؤية الكونيّة الإلهيّة فإنّ للمرأة خالقاً قدَّر لها دوراً وفق استعداداتها وقابليّاتها، فهو بالطّبع أعلم بها من غيره، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيف الخَبير}؟![21]. لذلك فإنّ الطريق الآمن السّهل وفق هذه الرؤية هو الالتجاء إلى بارئها لمعرفة دورها، وكلّ طريق آخر لا يُستثنى من التّعذر والتّعسر.

وأمّا بناءً على الرّؤية الكونيّة المادّيّة فإنّ المرأة وليدة الصّدفة، والانفجار العظيم، والتّكامل الدّاروينيّ، دون أنّ تكون وراءها يد التّقدير والتّدبير، لذلك يعدّون أنفسهم معيار الكشف عن دورها، فنتج جرّاء ذلك تخبّط وزَلْق متشبّثين بطريق التّجربة، وملاحظة ظاهر المرأة، ومماشاة مع الأعراف الذّكوريّة. ولعلّ تجربتهم على غرار الاتّفاق في نزول البلاء دعتهم إلى تلبيسها ثوب النّحوسة، محمِّلين إيّاها الأضرار الكونيّة، ولعلّ ملاحظتهم الظّاهريّة المُثيرة لها تسبَّبت في توظيفها كأداة بين مخالبهم، ولعلّ جذابيّتها وسحر محبّتها وحنانها دفعهم إلى اتّهامها بالرّوح الخبيثة الشيطانيّة، ولعلّ ضعفها ورقّتها برّرت لروحهم السّلطويّة الاستيلاء عليها بيعاً وشراءً، وإرثاً منتقَلاً بينهم.

فكانت المرأة "عند العرب في الجاهليّة سلعة تباع وتشترى، ليس لها أيّ اعتراض على حياة الذّلّ، وعند الفرس: يُنظر إليها نظرة كلّها احتقار وازدراء، وفي الصّين: المرأة شيء تافه بالنّسبة للرّجل، تتلقّى الأوامر وتنفّذها، وعند المصريين: بغاية الانحطاط والذلّ، وعند اليونان: إنّها رجس من عمل الشّيطان، وعند الرّومان: على جانب عظيم من الذلّ والاحتقار، وعند الآشوريين: مادّة الإثم، وعنوان الانحطاط، كذلك كانت المرأة السّومرية، والبابليّة، والأكاديّة، والساسانيّة وغيرهم من الشّعوب الّتي كانت لها حضارات"[22]. أليست هذه الرّؤى السّلبيّة نتيجة الابتعاد عن الطّريق الإلهيّ الآمن السّهل؟!

وما دام الطّريق إلى كشف دورها هو التّجربة وما يشببها بناءً على النّظرة المادّيّة، فإنّ الخلل الأساس إذاً ليس في دور المرأة، إنّما في البنية التّحتيّة التي يتشكّل دورها على أساسها. وعليه، فإنّ البلوى في لائحة الأمم المتّحدة وغيرها من المؤسّسات الحقوقيّة العالميّة ترجع إلى تلك النّظرة البنيويّة لها، وقد أجاد الشّهيد المطهّريS حيث قال: "لائحة حقوق الإنسان يجب أنّ يصدرها الشّرق الّذي يؤمن بمبدأ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة}[23]، ويرى في الإنسان مظهراً من مظاهر الألوهيّة، والّذي ينادي بحقوق النّاس يجب أنّ يعتقد بالغاية من وجود الإنسان {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[24]" [25].

دور المرأة في الإسلام:

وبالرّجوع إلى بارئ المرأة وخالقها، يوقفنا رأي الإسلام البديع، إذ يذعن بأنّ دور المرأة في هذا النّظام الأحسن هو كدور القرآن الكريم. فكما أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتربية فكذلك المرأة، فإنّ دورها هو الهداية والتربية. كما عبَّر بذلك الإمام الخمينيS: "القرآن يربّي الإنسان، والمرأة أيضاً تربّي الإنسان"[26].

 وذلك بتقديمها العظماء الصّالحين ليدفعوا المجتمعات والأمم نحو الاستقامة، والقيم الإنسانيّة العليا[27]. فإذا افترضنا أنّ العالم مصنع عظيم فإنّ دور المرأة فيه هو دور التّأهيل والتّدريب للموظّفين، حتى يُوظَّفوا في تلك الأقسام التي تناسبهم، محقّقين ثورة صناعيّة كبرى، من مدير ومراقب وعامل وحارس. فالمجتمع رهين تربية الأمّ، وهو وزمامها بيدها، وعلى ذمّة مسؤوليّتها، فإنّ أدّت دورها التّربوي عاد النّفع على المجتمع وعليها، وإنّ أساءت عاد الضّرر على المجتمع وعليها.

ولا يتبادر من دورها بنظر الإسلام لزومُ الاقتصار عليه وضرورته، كلا؛ لأنّ المراد ممّا تقدّم هو الدّور الأساس لها، فبالإمكان طبعاً أنّ يجتمع مع أدوار أخرى. ونعني بالدّور الأساس هو ما يَلزَمُها القيام به، والمرجّح على سائر الأدوار في فرض التّزاحم. فإذا حصل التّزاحم بين المسؤوليّات الاقتصاديّة، والسيّاسيّة، والثّقافيّة، وبين دورها الأساس هذا، فلا جرم عليها أنّ ترجّح دورها في العائلة والتربية إلا ما استُثني.

وهذا ما نجده في الإسلام أنّ المرأة غير ملزَمة بالعمل، كما أنّها غير ملزَمة بالاقتصار على دورها الأساس. فللإسلام رأي متوازن في هذا الشّأن. كما قال الإمام الخامنئيF: "رأي الإسلام هو رأي وسطيّ، بمعنى أنّه لو أتيحت الفرصة للمرأة، ولم تمنعها تربيتها لأبناءها، وكانت لها الرّغبة والميل، مع قدرتها الجسميّة، وعزمت على أنّ تدخل الميادين الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، فلا مانع من ذلك. وأمّا أنّها تُجبَر على أنّ تقبل عملاً ما، وكذا من السّاعات يومياً لتتحمّل قسماً من تأمين مصروفات العائلة، فلا، فهذا ما لم يطلبه الإسلام من المرأة أيضاً"[28].

وبملاحظة أدائها للدّور الأساس، فليس الإسلام قد أذِن لها بالتّرقي العلمي فحسب، إنّما دفعها نحوه ورغّبها فيه أيضاً؛ إذ كانت النّساء يعرضن أسئلتهنَّ على الرّسول الأكرمe فيجيبهنّ، كزينب العطّارة[29]، وأسماء بنت عميس[30] وغيرهما. كما لم يك دورهنّ الاستفسار والاستفتاء فقط، بل اعتلين منبر الإجابة على أسئلة الصّحابة أيضاً. وقد عرضوا أسئلتهم على السّيدة فاطمة الزّهراءj فتجيبهم عليها. فيما كتب الزركشيّ كتاباً في استدراك عائشة على الصّحابة في روايتهم، وأسماه: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصّحابة. ومن هذا المنطلق أوصى الإمام الخامنئيF الأسر أنّ تأذن لبناتها بالتّعلّم والتّرقّي العلميّ، وصرّح بأنّ الفعاليّة العلمية للمرأة مرجّحة على سائر الفعاليّات الأخرى: "أنا أوصي الأسر أنّ تأذن لبناتها بالتّعلّم، فلا يتصور الأب والأمّ على أساس التّعصب أنّه يجب منع البنت من التّرقيّ العلميّ العالي، لا، فالدّين لم ينطق بمثل هذا"[31].

وكذلك المرأة في المشاركة السّياسيّة، فإنّ الإسلام يدفعهنّ إلى ذلك أيضاً ـ دون تهميش وتساهل في الدّور الأساس-، إذ كان للمرأة دور في بيعة الرّسول الأكرمe، وقد ذكر ابن سعد البغدادي أسماء تلك المبايعات للرّسول الأكرمeفي تاريخه[32]، وكذلك دورهنّ في الهجرة، فلم تكن الهجرة للرّجال خاصّة[33]، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكنّ يتمتعن بوظيفة المراقبة العامّة[34]، فيما اُستُفيد من ذكر القرآن الكريم لقصّة بلقيس ملكة سبأ إمضاءُ القرآن الكريم لتصدّي المرأة لأعلى المسؤوليات السياسيّة. قال الإمام الخمينيS: "مثلما يجب على الرّجال المساهمة في القضايا السياسيّة والحفاظ على مجتمعهم، يجب على النّساء أيضاً المشاركة والحفاظ على المجتمع، يجب على النّساء أيضاً المشاركة في النّشاطات الاجتماعية والسياسيّة على قدم المساواة مع الرّجال، بالطّبع مع المحافظة على الشّؤون التي أمر بها الإسلام، والّتي هي بحمد الله متحقّقة بالفعل في إيران"[35]. وسنتطرق إلى حاكميّة المرأة فيما بعد.

وكذلك المرأة في الجهاد، فإنّ الإسلام وإنّ لم يفرض عليها الجهاد الابتدائي إلا أنّ الجهاد الدّفاعي يشملها ما لم يبلغ الكفاية، إلا أنّ النّساء رغم ذلك كنّ يأتين مع المجاهدين لإعداد الطّعام، ومداواة الجرحى وردّهم إلى المدينة، وما شابه ذلك، وكنّ إذا رأينَ الخطر متوجّهاً إلى جبهة الإسلام يأتين إلى الميدان مبادرات، ليدافعن عن الإسلام وهنّ نساء! "وشهدت أمّ عُمارة بنت كعب أحُداً مع زوجها غَزِيَّة بن عمرو وابنَيها، وخرجت معهم بشَنّ[36] لها في أوّل النّهار، تريد أنّ تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاءً حسناً، وجرحت اثني عشر جُرحاً بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، فكانت أمّ سعيد بنت سعد بن ربيع تقول: دخلتُ عليها فقلتُ: حدِّثيني خبرك يوم أُحُد. قالت: خرجتُ أوّل النّهار إلى أُحُد وأنا أنظر ما يصنع النّاس، ومعي سِقاء فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول اللهe وهو في أصحابه والدّولة والرّيح للمسلمين، فلمّا انهزم المسلمون انحزتُ إلى رسول اللهe، فجعلتُ أباشر القتال، وأذبُّ عن رسول اللهe بالسّيف وأرمي القوس، حتى خلَصَت إليَّ الجراح"[37]، ولنعم ما قال الإمام الخمينيّS: "عندما أشاهد في التلفزيون هذه النّساء المحترمات الّلاتي يعملن في مناصرة الجيش ودعم القوّات المسلحة، أشعر بمكانة لهنّ في نفسي، لا أشعر بها تجاه أيّ شخص آخر، إنّ هذه النّسوة يؤدين عملاً لا ينتظرن من ورائه شيئاً أو مكافأة من أحد، إنّهن جنديّات مجهولات يتواجدن في جبهات القتال، بل منهمكات فيه"[38].

كما لا يخفى علينا دور النّساء في حادثة كربلاء وما بعدها. فإنّ ما يقال من انتصار الدم على السّيف، هو حقّاً كذلك، إلا أنّ هذا الانتصار كان رهين وجود ودور وفعّاليّة السّيدة زينب j.

وكذلك هي المرأة في المشاركة الاقتصاديّة والعمل، فبالحفاظ على دورها الأساس لم يمنعها الإسلام من المشاركة الاقتصاديّة في المجتمع، فزينب العطّارة[39] ومليكة الثقفيّة[40] كانتا تبيعان العطر، وكذلك أسماء بنت مخربة[41]، وأمّا سلامة فكانت ترعى غنم أهلها[42]، بينما كانت زينب طبيبة قبيلة بني أود، تعالج المرضى وحازت على شهرة بين العرب[43]، وكذلك كانت قيلة الأنماريّة تبيع وتشتري السّلع[44]، وكذلك ما أشار القرآن الكريم إلى ابنتي النّبيّ شعيبg إذ كانتا ترعيان الغنم[45]، وإلى غير ذلك من النّماذج.

ومخض القول ما تفضّل به الإمام الخمينيS: "إنّ التّشيّع -ليس فقط- لا يعزل النّساء عن ميدان الحياة الاجتماعيّة، بل يؤهلهنّ لاحتلال مكانتهنّ الإنسانيّة السامية في المجتمع"[46]. ورغم مشاركة النّساء الفعّالة في ميادين النّهضة الإسلامية الإيرانيّة إلاّ أنّ الإمامS يوجّههنّ في موضع آخر إلى دورهنّ الأساس ومهمّتهنّ الأصيلة، لتتاح لهنّ هذه الفعاليّات ما لم تؤدِّ إلى الغفلة عن ذلك الدّور، فقالS: "أنتنّ أيتها النّساء الّلاتي شاركتنّ في هذه النّهضة وحفظكنّ الله، مدعوّات للتّقدم بهذه النّهضة، وإنّ مسؤوليتكنّ المهمّة هي تربية أبناء صالحين، لقد أرادوا لهذه النّسوة أنّ يبتعدن عن أطفالهنّ، فبعض من يدعو النّساء للعمل في الدوائر لا يهدف لتطوير العمل، بل يعمل ذلك من أجل إفساد الدّوائر، ويسعى على إبعاد الأطفال عن أحضان أمّهاتهنّ فسوف ينشؤون معقّدين، حافظنَ على أطفالكنّ جيّداً، ربّينَ أطفالكنّ تربية صالحة"[47].

احتقار دور المرأة:

ينطلق الإسلام في بيان هذا الدّور للمرأة على أساس النّظام الأحسن، والهدفيّة الموجودة للخلقة مع اختلاف الأدوار، فدور المرأة هو السّبيل والطّريق الذي تبلغ به المرأة كمالها وقربها من بارئها كما تقدّم، لذلك لا يوجد في الإسلام تفضيل بملاحظة دور الرّجل ولا تحقير بملاحظة دور المرأة، ولا دخل لاختلاف الأدوار بمقولة الأفضليّة، إنّما التّفضيل الواقع بينهما أو بين رجلين أو بين امرأتين هو لشيء آخر، المعبَّر عنه في القرآن الكريم بالتّقوى، قال الله تعالى: {إنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[48]. وهذا دقيقاً مثل أعضاء الجسد الواحد، فالأعضاء تختلف في أدوارها ووظائفها، من العين والأذن والعمود الفقري إلى سائر أعضاء الجسد، فهل من الممكن أنّ يكون لعضو من هذه الأعضاء تفضيل ومزيّة على آخر لمجرّد دوره؟ كلا، كذلك لا تستطيع العين أنّ تستحقر وتلوم الأذن على دورها لمجرّد أنّ دورها هو الرّؤية ودور أختها السّماع والاستماع، وهذا ما ورد عن أبي عبدالله g: >لو علم النّاس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يَلُم أحد أحداً<[49].

وأمّا ما ذكره القرآن الكريم من قواميّة الرّجل على المرأة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[50]، فقد يُدّعى أنّ القواميّة من لوازم دور الرّجل، وبها فضّله الله تعالى على المرأة، ولا ربط لهذا التّفضيل بالتّقوى وفق ظاهر الآية. ولكنّا نقول: إنّ القواميّة هنا -رغم اختلاف الآراء- ليست بمعنى تسلّط الرّجل وتحكّمه وصدارته بحيث تعدّ المرأة من الدّرجة الثّانية، لا بتاتاً، إنّما القواميّة هنا بمعنى المسؤوليّة وإدارة شؤون الأسرة على أساس المعايير الحقوقيّة والأخلاقيّة، وما أجمل تعبير الشّهيد المطهّريS: "إنّ الإسلام قد أعطى الرّجل حقّ الحاكمية لا حقّ التّحكّم، ويجب عدم الخلط بين الحكومة والتّحكّم، فالحكومة تعني السّلوك على أساس العدل، والتّحكّم يعني التّعسّف، ولم يمنح الإسلام الرّجل حقّ التعسّف، بل منحه حقّ الحكومة والرئاسة العادلة"[51]. وهذا الحق أعطي للرجل على أساس (دور الرّجل في هذا النّظام الأحسن) المبتني على (الرّؤية الكونيّة الإلهيّة)، كما أنّ حقوق المرأة وأحكامها مبتنية على أساس (دورها في النّظام الأحسن) أيضاً، ولكن نتساءل: هل حقّ القواميّة للرّجل تفضيل له على المرأة؟ كلا. إذاً كيف ينسجم مع تعبير القرآن الكريم {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ}؟ إنّ التّفضيل هنا ليس بمعنى التّفضيل القيميّ، إنّما هو التّفضيل الوضعيّ التّكوينيّ؛ لأنّ التفضيل القيميّ يبتني على (التّقوى) كما مرّ، وأمّا التّفضيل الوضعيّ فهو بمعنى أنّ للرّجل مميزات لا توجد في المرأة بلحاظ وضعه ودوره في هذا النّظام، كما أنّ للمرأة مميزات أيضاً لا توجد في الرّجل بلحاظ وضعها ودورها في هذا النّظام، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم بما فضّل الله الرّجال على النّساء، أو العكس؛ لأنّ التّفضيل الوضعي تابع للدّور، ومع اختلاف دورهما، يكون لكلّ منهما تفضيل وخصوصية في مقابل الآخر.

وأمّا ما ذكره القرآن الكريم من أنّ للرّجل مرتبة تفوق مرتبة المرأة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[52]، ألا يُعدّ هذا التّعبير أنّ للرّجال -وبمقتضى رجولتهم دون ملاحظة التّقوى- مرتبة تفوق مرتبة النّساء؟ كلّا؛ لأنّ الدّرجة هنا بمعنى أنّ للرّجال بلحاظ الدّور والمسؤوليّة التي يتحمّلونها مرتبة تسمو على مرتبة النّساء، فمسؤوليّة الرّجل هي الإدارة والحكومة دون المرأة، ولا شكّ أنّ لدور الإدارة شأناً مضاعفاً. إلا أنّ هذه المزية لدور الرّجل لا ربط لها بالتّفضيل القيميّ على المرأة كما تقدّم؛ إذ من الممكن أنّ تكون المرأة أفضل من الرّجل بالتّفضيل القيميّ. كما نلاحظ تعدّد الأدوار في شركة ما، فلا شكّ أنّ لدور المدير ميزة وخصوصيّة، ولكن هل يعني ذلك أنّ المدير أفضل من غيره في الشّركة بالتّفضيل القيميّ ضرورة؟ لا بتاتاً. لذلك فإنّ الدّرجة التي أُعطِيت للرّجل دون المرأة إنّما هي بملاحظة دوره في الأسرة، ومن جهة أخرى فإنّ المميزات التي أُعطِيت للمرأة إنّما هي بملاحظة دورها أيضاً.

وأمّا ما ذكره أمير المؤمنينg في ذمّ النّساء بعد فراغه من حرب الجمل: >معاشرَ النّاس، إنّ النّساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول، فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصّلاة والصّيام في أيّام حيضهنّ. وأمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد، وأمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرّجال<[53]. فإنّه فاقد للحجيّة نظراً لسندها الضّعيف أو المرسل[54]، ومع التسليم فإنّ دلالة الحديث لا تنصبّ في إثبات أفضلية الرجل على المرأة؛ لأنّ النقصان المذكور -بمصاديقه المتعددة- ليس بمعنى النقصان القيميّ للمرأة بتاتاً، إنّما هو النقصان التكوينيّ والحقوقيّ المبتنيان على دور المرأة في هذا النظام الأحسن، فللمرأة بلحاظ دورها مميزات ونواقص -في قبال الرجل- ، وللرجل بلحاظ دوره مميزات ونواقص -في قبال المرأة-، فتأمّل.

إذاً، حينما ينظر الإسلام إلى أنّ دور المرأة الأول والأبرز هو في إطار العائلة والاهتمام بشؤون التربية فإنّه ينظر إلى ذلك بنظرة تكريم وتقديس، دون أنّ يشوبه أيّ تحقير، بناءً على الرؤية الكونية الإلهية والنظام الأحسن، بخلاف أولئك المفكرين الغربيين الذين وإنّ كانت آراؤهم شبيهة وقريبة من رأي الإسلام ظاهراً، إلا أنّها بعيدة كلّ البعد عنه حقيقة، كرأي الفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو، إذ يقول: إنّ المرأة وُلِدَت من أجل الجنس ومن أجل الإنجاب فقط. وكرأي عالم التاريخ الطبيعيّ تشارلز داروين: "المرأة لا تصلح إلا لمهام المنزل وإضفاء البهجة على البيت، فالمرأة في البيت أفضل من الكلب". فهؤلاء وإنّ قالوا بأنّ دور المرأة هو العائلة والتربية بشكل وآخر، لكنهم انطلقوا من منطلقات دونيّة تحقيريّة، فهم يعتقدون أنّ المرأة دون الرجل، وهي من الدرجة الثانية، كما يعتقدون أنّ وظيفة التربية ورعاية العائلة هي وظيفة حقيرة تناسب المرأة لأنها موجود من الرتبة الثانية بالنسبة للإنسان، على قاعدة أنّ المسؤولية الشريفة تناسب الشّريف، والوضيعة تناسب الوضيع. وأنتم تجدون هذا المنطلق الدونيّ في رأي تشارلز داروين، إذ يقول: "المرأة أدنى في المرتبة من الرجل، وسلالتها تأتي في درجة أدنى بكثير من الرجل". هذا؛ والإسلام بالإضافة لما سبق يدعوهنّ إلى أدوار أخرى على مستوى المجتمع والعالم، ما لم توجب الإهمال في دورهنّ الأساس. فهل نجد مثل هذا الكلام في آراء هؤلاء! أم يرونها لا تصلح إلا لمهام المنزل والجنس!.

ثمّ لا يخفى الحصاد الغربيّ مما زرعته مثل هذه الآراء التحقيريّة لدور المرأة في التربية والعائلة على مرّ السنين الطويلة. فشهد الغرب (حركة نسوية) عارمة تدعو إلى محاربة الذكورية والأنظمة والمجتمعات البطريركية بكل الأشكال كردّة فعل قوية في سبيل تحرير المرأة، واختلفوا بين من يدعو إلى رفض فكرة الزواج والعائلة مطلقاً، وبين من يقبلها شريطة الإصلاح، بأن تتمتع المرأة بمكانة جيدة، ومساحة حقوق واسعة. فذهبت النسوية الليبرالية إلى قبول مسألة الزواج وتشكيل العائلة، وتقدير دور الأم فيها شريطة إصلاح دور المرأة في الزواج والعائلة والأمومة، وإنّ كانت ايزادورا دانكن قد قضت حياتها محاربة للزواج والعائلة، معتقدة أنّ ذلك ينصبّ في سبيل تحرير المرأة.

فيما ذهبت النسوية الراديكالية إلى ضرورة تدمير بناء العائلة والزواج حتى دور الأمومة أيضاً، معترفة بالعشق الحرّ بشكل رسمي، فقد صرّحت المفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار: كان الزواج غالباً ما يسحق المرأة.

كما أذعنوا بأنّ حرية المرأة تتلخّص في أمور ثلاث، نسخ الدور المنزلي للمرأة أولاً، ونسخ العائلة ثانياً، ونسخ الأدوار الجنسيّة ثالثاً.

كما ذهبت النسوية الماركسية إلى تطبيق الاشتراكية في العائلة، مقرّة أنّ العائلة لم تنصبّ إلا في جهة تأمين منافع الرأسماليّة دون أنّ تكون لها جذور طبيعية. لذلك فإنّ النضال من أجل تحرير المرأة لا ينفصل عن النضال لإنهاء المجتمع الطبقيّ وتحقيق المجتمع الاشتراكيّ برأي ماركس وانجلز[55].

وفي خضم هذه الصراعات والرؤى فإننا حينما نرجع إلى رؤية الإسلام لدور المرأة في هذا النظام الأحسن، نجدها رؤية متزنة تمتاز بين كل هذه الآراء التي لا تخرج من حدّي الإفراط والتفريط، فالإسلام يعتقد بإنسانيّة المرأة حقيقة، وإنّها خُلقت لتكون خليفة الله تعالى في الأرض[56]، وبأهمية دورها الأساس في التربية والعائلة، مع إتاحة الفرصة لها في أدوار أخرى مهمة جداً والتشجيع عليها، مع مساحة من الحقوق مناسبة للدور الذي تؤديه، دون أنّ يهب الرجل مجالاً في التعسّف والتحكم بأي شكل من الأشكال. فلا الاستحقار مفروض في رأي الإسلام، ولا ردّة الفعل تحكمه.

خصائص دور المرأة:

إنّ طبيعة دور التربية والعائلة تُفرض على المرأة أنّ تكون لها خصائص جسدية تناسب هذا الدور، فالجمال والجذابية، والملمس الناعم، والبنية الضعيفة، ولوازم الحمل والإنجاب والإرضاع، ودورة الحيض والنفاس، ومقاومة المرض، إلى غير ذلك من الخصائص الجسدية لها، لا يمكن أنّ نلتمس لها تفسيراً واضحاً إلا على ضوء دورها في التربية والعائلة. ومن المؤسف ما يشاع في الغرب بتغيير الخصائص الجسدية للأنثى إلى خصائص ذكورية أو العكس، من باب حقّ تغيير الجنس وتحويله. وذلك لعدم اعتقادهم أنّ هذه الخصائص تنسكب في دور يناسبها. والغريب ما تنقله الكاتبة أرزولا شوي عن كتاب (ذكري أنثوي) بأنّه قد تم تحويل الخصائص الذكورية الجسدية الجنسية لمولود حديث إلى خصائص جنسية أنثوية، وعومل معه معاملة الأنثى، فترعرع أنثى بمعنى الكلمة، تمتاز بجميع خصائص الأنثى![57].

وكذلك يظهر تناسب الخصائص النفسيّة للمرأة مع ما لها من دور في التربية والعائلة. وعلى حدّ تعبير الشهيد المطهريS نجد أنّ: "مشاعر المرأة أموميّة وتظهر فيها منذ الطفولة، وحبّها للأسرة، وإدراكها الطبعيّ لأهميّة المؤسسة العائليّة أكثر من الرجل"[58]، على خلاف ما ادّعته الكاتبة المتقدمة أرزولا شوي: "إنّ الخصائص الأنثويّة، التي كانت تعتبر أصيلة، مثل عاطفة الأمومة والعاطفية والاهتمام الاجتماعيّ والسّلبية، ليست أنثوية بالطبيعة ولا فطرية، بل مكتسبة ثقافياً"[59]. وما ذلك إلا لأنّها تستحقر دور المرأة في التربية والعائلة ـ كردّة فعل-، فتريد أنّ تجرّد المرأة من هذا الدور العظيم، وتؤوِّل كل خصائصها الجسدية والنفسية في سبيل دور آخر!.

وعلى إثر دورها الأساس، فإنّ عاطفة الأم الشديدة، ومشاعرها الجيّاشة، لا بدّ أنّ تفسر على أساسه أيضاً؛ لأنها (أم). وما دامت هذه العاطفة ضرورية لدورها الملقى عليها فلا بد أنّ تكون المرأة أكثر انفعالاً من الرجل. كما أنّ العاطفة الشديدة والانفعالات النفسية هذه تستدعي أنّ تكون المرأة أقل قدرة على التعقل وبُعد الرؤية والحزم لطبيعتها النفسية غالباً. ولأنّها عاطفيّة جداً فإنها تشعر بحاجة للاهتمام بها. كما أنّ البنية الضعيفة التي تمتلكها المرأة كخصيصة جسدية ـ بملاحظة دورها- تستدعي أنّ تتمتّع المرأة بحالة نفسية أخرى، ألا وهي: الشعور والرغبة في الحماية.

وكذلك هي الأحكام التشريعية، فإنّها تناسب دورها الذي على عاتقها أيضاً، فاختلاف أحكام الطهارة والصلاة والصيام بشأنها، مبتن على ما يعتريها من الدماء الثلاثة، التي هي من الخصائص الجسدية فيها جرّاء دورها في العائلة من الزواج والحمل والإنجاب.

وهكذا في اختلاف حكم الجهاد؛ لأنّ المسؤولية التي تتحمّلها المرأة في العائلة والتربية، والبِنية الضعيفة التي تملكها بملاحظة دورها هذا، لا تساعداها على تحمّل مسؤولية الجهاد في المجتمع أولاً، ولا على تحمّل مشاق الجهاد ثانياً. وحرصاً على ألا يفوتها عظيم ثواب الجهاد دعاها الإسلام إلى جهاد من نوع آخر، يتناسب مع دورها الأساس في هذا النظام الأحسن، فدعاها إلى ثواب الجهاد من طريق حُسن التبعُّل[60]، وطلبها مرضاة الزوج[61]، والصّبر على أذاه وغيرته[62]، وقيامها بوظائفها البيتية[63]. ولم نجد أنّ الإسلام دعاها إلى جهاد آخر لا يمت لدورها بصلة. وحتى يتمّ إلفات الزوج إلى تحمّل مسؤوليّاته العائلية والتربويّة، وترغيبه فيها، للحفاظ على بقاء كيان العائلة وترقيّها وتوازنها، ولئلا تمنعه من ذلك غفلته وتهاونه لطبيعة انشغالاته الاجتماعية غالباً، دفعه الإسلام إلى كل ذلك والقيام بمسؤوليّاته في العائلة من النفقة على الزوجة وما يصلح به حال عياله بإعطاءه فضلَ الجهاد أيضاً، بل أعظم أجراً من ثواب المجاهدين[64].

وكذا الأمر في حكم الحجاب لها، إذ قد سبق أنّ المرأة تتمتّع بالجمال والإثارة والجذابية كخصيصة جسدية، وقد جُعلت لها هذه الخصيصة بملاحظة دورها في الزواج، لذلك فإنّ إبرازها لجمالها وجذابيتها في المجتمع سيؤول إلى مفاسد كثيرة تؤثّر سلباً على دورها الأساس بشكل كبير. فالمرأة التي لها دور كدور القرآن الكريم في تربية الإنسان سوف تتحول لعدم مراعاتها للحجاب إلى وسيلة التذاذ الشّارع العام، وشيئاً فشيئاً لا تُلبَس المرأة إلا دور (وسيلة التذاذ)، فتهوي المرأة من كرامة دورها المحوري في التربية والعائلة إلى حضيض دور تلبية رغبات الآخرين. وهذا يعني تسلل الانحراف إلى دورها، الضامن لسعادتها الدنيوية والأخروية. فالذي خلق المرأة لهذا الدور علماً منه بأنّ استعداداتها وقابليّاتها تناسب هذا الدور، لا بدّ أنّ يحول دون أنّ ينحرف هذا الدور إلى دور آخر. بالإضافة إلى أنّ دور (تلبية رغبات الآخرين) سيمنع الرجال أو يبطئهم عن الزواج وبناء العائلة والتربية؛ لأنّه يبقى هناك طريق لإخماد فورة الدافع الجنسي والاضطراب النفسيّ بشكل وآخر. وحتى مع فرض كونهم متزوجين، فإنّ تبرّج المرأة وكشف زينتها أمامهم سيؤثّر في خمول وفساد علاقتهم مع زوجاتهم عادة. وعليه، ينبغي على البشرية أنّ تدفع ثمناً باهظاً جرّاء تعطيل وتأخير وفساد قسم التأهيل والتربية دون أنّ يسلم للبشرية أفراد صالحون يديرونها إلى التكامل. والمؤسف حقاً حينما نرى أنّ هذا كله قد حصل في المجتمعات الغربية على مرّ السنين الطويلة وما زال يحصل حتى اليوم. فلم يكن دور المرأة هذا بذي أهمية لديهم، فلا يفترض أنّ نتوقع منهم الحذر والحيلولة دون أنّ ينحرف هذا الدور إلى دور آخر، وها هم اليوم يشيعون الحرية الجنسية للمرأة كحقّ من حقوقها من العشق الحرّ، والارتباط اللامشروع، والمثليّة، وغيرها.

وكذا في حاكمية الرجل، وقواميته عليها دونها، وفي اختصاصه بالقضاء على المشهور، وأنّ شهادتها لا تعدل شهادة الرجل، وأنّ الطلاق بيده دونها، فإنّ لكل ما ذُكر علّة مشتركة، تناسب دورها الأساس في التربية والعائلة بلا شك، وهي أنّ المرأة بملاحظة دورها تمتاز بالعاطفة الشديدة والانفعال وردّة الفعل كما سبق، والحاكمية والقواميّة والقضاء والشهادة والطلاق لا بدّ أنّ تبتني على أكبر قدر من التعقّل، بعيدة عن العاطفة والانفعال وردّة الفعل. وحينما وهب الإسلام الرجل هذه المسؤوليات والحقوق جعل له حدوداً لا يستطيع أنّ يتجاوزها تعسّفاً وتحكّماً، فإنه يؤاخذ على أدنى ظلم وتجاوز يصدر منه أشدّ المؤاخذة، في الدّنيا أو الآخرة.

وهكذا حقّها في الإرث بنصف حقّ الرجل؛ فالإسلام جعل للمرأة حقّاً في الإرث، على خلاف بعض القوانين القديمة التي لم تهب المرأة هذا الحقّ، على أساس أنّ الثروة ينبغي أنّ تنتقل إلى العائلة نفسها، لا إلى عائلة أخرى، إذ كانت المرأة وأولادها يُعدّون من عائلة أخرى، فلم يكن يحقّ لهم الإرث حفاظاً على ثروة العائلة ونصيبها، وعلى خلاف عرب الجاهلية الذين رفضوا توريث المرأة أيضاً، على أساس ضعف قدرتها القتالية، وأنها لا تمتلك إنجازات بطولية في المعارك، إذ قيمة الإنسان عندهم تنحصر في البطولات القتالية. وأمّا حقها بنصف حقّ الرجل كما عبر القرآن الكريم عنه: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْن}[65]، فلأنّ الإسلام لا يرى المرأة إلا في الدور الذي وُضع لها، ولا يخفى أنّ دورها في الأسرة ليس دوراً يتحمّل المسؤوليّة المالية فيها، إنّما ذلك دور الرجل الملزَم بتحمّل هذه المسؤوليّة، من المهر والنفقة وتسديد أجرة أعمال المرأة من قبيل الرضاعة وحضانة الطفل والاهتمام بالبيت في حال مطالبتها، إلى غير ذلك من المصروفات، لذلك كان سهم الرجل ضعف سهمها في الإرث. طبعاً هناك حالات يتساوى سهم المرأة مع الرجل فيها، وحالات يكون سهمها ضعف سهمه فيها.

وهذا ما ورد عن الأحول قال: قال لي ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين، قال: فذكر بعض أصحابنا لأبي عبداللهg فقال: >إنّ المرأة ليس عليها جهاد، ولا نفقة، ولا معقُلة[66]، وإنما ذلك على الرجال، ولذلك جعل للمرأة سهماً واحداً وللرَّجل سهمين<[67].

وكذلك الحال في دية المرأة التي هي نصف دية الرجل، فإنّ ذلك لا يخرج عن ملاحظة دورها في التربية والعائلة أيضاً؛ لأنّ المرأة لا تعول ولا تُنفِق ولا تتحمل المسؤوليّة الاقتصادية في الأسرة، إنّما الرجل هو من يتحمّلها. والدية عبارة عن الضرر البدني المتوجه للرجل والمرأة، فيما لا يمكن أنّ يكون هذا الضرر بينهما على مستوى واحد قطعاً؛ لأنّ الضرر الذي يتحمّله الرجل يؤثر سلباً في تحمل مسؤوليته الاقتصادية فيما لو جُرح وما شابه ذلك، وأمّا لو قُتِل فإنّ الفراغ الاقتصادي الذي ينشأ بموت المعيل أكبر من الفراغ الذي يعقب موت المرأة التي لا شأن لها بالشأن الاقتصادي للأسرة، لذلك ناسب الدية في شأنه ضعف المرأة. طبعاً هناك موارد تكون الدية متساوية بينهما فيما لو كانت أقل من الثلث.

وينبغي أنّ نلتفت إلى أنّ الصيحات التي تدعو إلى مساواة الحقوق الماليّة بين الرجل والمرأة تبتني على أنّ القيمة والفضيلة لا تنفكّ عن القيمة المادّية لها، بل المادّة تساوي القيمة عندهم. ووفق رؤيتهم المادّية للعالم والإنسان استهجنوا أنّ يكون إرث المرأة وديتها نصف إرث الرجل وديته، وأذعنوا أنّ ذلك تحقير لقيمة المرأة ومنزلتها في هذا النظام. ويلاحظ عليه أولاً: أنّ الإسلام لا يقيِّم شيئاً ويفضِّله من منطلق مادي بتاتاً، ولا توجد في الإسلام تلك المعادلة التي تقول بتساوي القيمة مع المادة. كما يلاحظ عليه ثانياً: أنّه لو سلّمنا بأنّ القيمة تساوي المادّة، وأنّ الإسلام ينظر إلى المرأة دون الرجل في القيمة، فلماذا نجد أنّ في الإرث والدية موارد يتساوى نصيبهما فيها، أو يزيد نصيب المرأة على الرجل أحياناً!.

المساواة ظلم للمرأة:

بكلّ صراحة، وبملاحظة أنّ للرجل والمرأة دوراً خاصّاً في هذا النظام الأحسن، تُعدّ دعوة أولئك الذين ينادون بمساواة المرأة في حقوقها وأحكامها مع الرجل ظلماً لها؛ لأنّه وَضْع شيء في غير محلّه، مما يلزم أنّ تكون لها حقوق وأحكام لا تناسبان الدور الذي تحمله، وهذا عين الظلم، لاستلزام التهافت بين الحقوق والتكليف بشأنها حينئذ.

 إلا إذا كان القصد وراء ذلك -وليس كذلك- أنّ مقولة التساوي تختلف عن مقولة التشابه؛ لأنّ التساوي في حقوقهما وأحكامهما بالنظر إلى دورهما وهدفهما أمر لا بدّ منه وهو حاصل، وأمّا التشابه بينهما في حقوقهما وأحكامهما فهو محض الظلم، ومخالف للعدالة وحريّة المرأة وسعادتها. ومثّل له الشهيد المطهريS: "فيمكن مثلاً أنّ يقسِّم أب ثروته بين أولاده بالتساوي، ولا يقسِّمها بشكل متشابه. ففي هذا المثال يمكن أنّ يكون للأب عدة أنواع من الثروات، يكون أحدها متجراً، وثانيها أرضاً زراعية، وثالثها أملاكاً مؤجرة، ولكن بما أنّه كان قد اختبر مقدّماً استعدادت كل من أولاده، فوجد أنّ لأحدهم قابلية في العمل التجاري، وللثاني رغبة في الزراعة، وللثالث قابلية في إدارة الأملاك المؤجرة، فإذا أراد أنّ يقسِّم ثروته بين أولاده في حياته فإنه -مع الأخذ بنظر الاعتبار مراعاة التساوي في القيمة عند التقسيم- سيمنح أولاده من ثروته كُلاً حسب ما وجد فيه من الاستعداد لإدارته والنجاح فيه"[68].

ولا يتبادر من ذلك أنّ المرأة والرجل لا يشتركان في الخصائص، فليس الأمر كذلك؛ لأنّ كل واحد منهما إنسان، فيشتركان في النوع الإنساني، ولهذه الوحدة النوعية الإنسانية خصائص إنسانية شاملة. كما ينفرد كل منهما في خصائص جسدية ونفسية وتشريعية بملاحظة الدور الذي لهما.

خاتمة:

إنّ كل هذه الزوبعات التي نشهدها في عالم الغرب والشرق في حقل المرأة وحقيقتها وحقوقها وتحريرها وحريّتها، لا بدّ أنّ يُماط شرّها بالإذعان لدور المرأة في هذا النظام الأحسن. فما دام دورها مجهولاً أو متجاهَلاً فلا جرم أنّ تكون لمظلوميتها حكاية مستمرة منذ العهود السّالفة، إلا أنّ مظلوميّتها اليوم أشدّ من كل مظلوميّة سمعتها المرأة على مرّ التاريخ؛ لأنّها تُظلَم دون أنّ تشعر هي بذلك، فتحسب النقمة نعمة، والبلاء عافية، إذ تُنتَهك بإفراط، على خلاف انتهاكات التاريخ المفرِّطة بها. وبما أنّ غايات الخلائق وأدوارها لا يعلمها إلا مُبدِعها وخالقها فإنّ كلّ النزاع في هذا الحقل حاصِلُ نظرتَي التوحيد والكفر، والنتيجة: إنّ المرأة لا تُصَان إلا وفق الرؤية التوحيدية فحسب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة القمر: 54 ـ 55.

[2] سورة الأنعام: 153.

[3] سورة الفاتحة: 6.

[4] بحار الأنوار، ج24، ص12.

[5] مفاتيح الجنان: 653.

[6] سورة المائدة: 16.

[7] ميزان الحكمة، ج3، 2541.

[8] بحار الأنوار، ج64، ص137. حقائق الإيمان، 174.

[9] تفسير الميزان، ج1، ص31.

[10] ميزان الحكمة، ج3، 2541.

[11] ميزان الحكمة، ج3، 1877.

[12] مهج الدّعوات ومنهج العبادات، ص141.

[13] أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف، ص80 ـ 81.

[14] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص122.

[15] فريديريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، منشورات الجمل، ترجمة إلى العربية علي مصباح.

[16] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص123.

[17] تفسير الميزان، ج4، ص152.

[18] سورة النحل: 58 ـ 59.

[19] نكته هاي ناب، ج5، ص48.

[20] حيات زن، ص48.

[21] سورة الملك: 14.

[22] المرأة في ظل الإسلام، ص30 ـ 31.

[23] سورة البقرة: 30.

[24] سورة الانشقاق: 6.

[25] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص143.

[26] المرأة في فكر الإمام الخمينيّ، ص37.

[27] المرأة في فكر الإمام الخمينيّ، ص40.

[28] نكته هاي ناب، ج5، ص59.

[29] التوحيد: 276.

[30] ميزان الحكمة، ج9، ص 94 ـ 95.

[31] نكته هاي ناب، ج5، ص59.

[32] الطبقات الكبرى، ج8، ص222.

[33] سورة النساء: 97ـ 98. سورة الممتحنة: 10.

[34] سورة التوبة: 70.

[35] المرأة في فكر الإمام الخميني، ص45.

[36] أي: قربة.

[37] الأحاديث الطبية، الممرضات في غزوات النبي، ص125.

[38] المرأة في فكر الإمام الخميني، ص50.

[39] التوحيد: 276.

[40] أسد الغابة، ج5، ص548.

[41] أسد الغابة، ج5، ص452.

[42] أسد الغابة، ج5، ص477.

[43] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج8، ص211.

[44] أسد الغابة، ج6، ص245.

[45] تفسير الميزان، ج16، ص24.

[46] المرأة في فكر الإمام الخميني، ص43.

[47] المرأة في فكر الإمام الخميني، ص40.

[48] سورة الحجرات: 13.

[49] الكافي، ج2، ص44.

[50] سورة النساء: 34.

[51] أضواء على خطبة ذم النساء في نهج البلاغة، ص 39 ـ 40.

[52] سورة البقرة: 228.

[53] ميزان الحكمة، ج10، ص 460.

[54] أضواء على خطبة ذم النساء في نهج البلاغة، ص18.

[55] راجع: انديشه سياسي واجتماعي إمام خمينى، ج4، ص249 ـ 255.

[56] سورة البقرة: 30.

[57] أصل الفروق بين الجنسين، ص12.

[58] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص170.

[59] أصل الفروق بين الجنسين، ص11.

[60] تحكيم خانواده از نگاه قرآن وحديث، ج1، ص206.

[61] المصدر السابق.

[62] المصدر السابق، ج1، ص236.

[63] المصدر السابق، ج1، ص206.

[64] المصدر السابق، ج1، ص304.

[65] سورة النساء: 11.

[66] أي: لا تصير علي العاقلة في دية الخطأ.

[67] الكافي، ج7، ص85.

[68] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص115 ـ 116.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا