الألسنة الآبية عن التقييد

الألسنة الآبية عن التقييد

تقديم واعتذار

ممّا لا شك فيه أن مجموع العلوم التي ندرسها إنّما هي مقدمات تصوريّة لفهم النصوص الشريفة -القرآنية والروائية- ومن هنا تكون الدراسات التي تتناول هذه البحوث من الأهمية بمكان كما لا يخفى.

ورغم هذه الأهمية إلا أنك لا تكاد تجد كتاباً أو مؤلَفاً يجمع في طيّاته هذه النكات التي بثها الفقهاء في كتبهم، ويكفي في المقام أن أنقل ما ذكره وحيد العصر سـيد المحققين الخوئي في تقديمه لكتاب قواعد الحديث، قال: "إنّ البحث عن الحديث وقواعد العمل به من أهمّ الأبحاث التي يحتاج الفقيه إلى تنقيحها والاجتهاد فيها كاجتهاده في أصول الفقه، ومع كثرة ما كتب في الأصول نرى الكتابة في شؤون الحديث نادرة جداً"(1).

إذا قالت حذام فصدقوها    فإن القول ما قالت حذام

والأشد من هذا هو وجود مصطلحات كثُر تداولها في طرق الاستنباط الحديثة عند فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقد أُهمل ذكرها في كتب الدراية -الحديثة منها فضلاً عن القديمة- ومنها مصطلح (الإباء عن التقييد) أو (الإباء عن التخصيص)، فإنه تعبير مشهور في كتب الفقهاء ومع ذلك لا تجد له أدنى ذكر في الكتب المعدّة لهذا الغرض.

ولا أبوح سرّاً إذا قلت بأني قد عانيت أثناء مروري على هذا المصطلح وأمثاله في فهم حقيقته بحيث يسهل عليّ تطبيقه في موارده المختلفة وتمييز الصحيح من السقيم من تطبيقاته.

وقد قمت بحمد الله بإعداد عدة دراسات في هذه المصطلحات(2) على أساس التتبع في كلمات الأعلام واستخراجها، وغير خفي ما للكتابة في مسألة تشتت صغرياتها هنا وهناك ولم تجمع تحت عنوان مستقل من صعوبة؛ ولذا فالخروج بنتيجة قطعية في مثل هذه الأبحاث لا يقل صعوبة عن أصل البحث فيها، أضف إلى ذلك تفاوت استظهارات الفقهاء فيما بينهم أنفسهم وما بينهم وبين الروايات والأبواب، وكيف ما كان فقد بذلت جهدي في تتبع مواردها وصياغتها بما يناسب المستوى المطروح في كلماتهم، ولكن القصور والتقصير معاً كانا حليفيّ في ذلك، فجاء هذا البحث بالمستوى الموجود؛ ولذا سيجد القارئ بعض التسامحات في التعبير، خصوصاً في تداخل بعض العناوين أو المعنونات مع بعضها، ولكن هذا غير ضارّ -إن شاء الله- بما هو المهمّ من هذا البحث وهي تجلية ما أُبهم وجمع ما فُرّق من كلمات الأعلام(أعلى الله مقامهم)، والهدف من ذلك هو الوقوف على تلك القرائن بما يساعد -كثيراً- في إعطاء ذوق في فهم كلمات الفقهاء وبالتالي تمهيد الطريق لفتح آفاق واسعة في فهم النصوص الشريفة.

ويقع الكلام حول هذا المصطلح في ثلاثة محاور كالآتي:

● تاريخ هذا المصطلح.

● تطبيقاته.

● تنبيهات مهمة حوله.

تاريخ هذا المصطلح

لا يُعلم بالدقة متى ظهر هذا المصطلح ولكن بحسب الظاهر فإنه موجود عند متأخري فقهائنا كالمحقق الثاني(3)، ثمّ صار له شيءٌ من الشياع عند متأخري المتأخرين منهم(4)، ثمّ كثُر استعماله في زمن الشيخ الأعظم حتى شاع واشتهر بعده على ألسن الفقهاء بحيث لا تعدم الكتب الفقهيّة ذكره، وقد أشار الشيخ المظفر إشارة خاطفة إلى هذا المصطلح وذكر موردين من موارده فقط(5).

تطبيقات المصطلح

وهذا هو لبّ الدراسة، وسأعنون كلَّ قرينة بعنوان مع شيء من التوضيح لها، ثم أذكر بعض التطبيقات التي وجدتها من كلماتهم وهي كالآتي:

كون الخطاب في سياق الحصر:

الحصر أو القصر هما بمعنى التضييق(6)، ولكن مدى سعة هذا التضييق ومعرفة حدوده يرجع إلى استظهار الفقيه الناشئ من خصوصيات كلّ مورد على حدة، فتارة يستظهر كون الحصر حقيقياً وأخرى إضافياً، وتارة يستفيد ثبوت مفهوم للحصر في مورد دون القول بكبراه والعكس بالعكس، كما لو فهمنا منه التحديد والتعيين فإنه "إذا كان أحد العامين من وجه وارداً مورد التحديدات كالأوزان والمقادير والمسافات فإنّ مثل هذا يكون موجبا لقوة الظهور على وجه يلحق بالنص؛ إذ يكون ذلك العام أيضا مما يقال فيه إنه يأبى عن التخصيص"(7).

ويمكن أن تذكر له عدة موارد:

منها: حمل ما تقرّر في الفقه من بطلان الصلاة بنقصان تكبيرة الافتتاح، والقيام المتّصل بالركوع، ونقصان قصد الخصوصيّة المنوّعة، كالظهريّة والعصريّة وهكذا، ونقصان القربة والخلوص، ونسيان نجاسة الثوب والستر، حيث ورد في الأخبار أنّه «لا صلاة بغير افتتاح»، و«لا صلاة لمن لم يقم صلبه» على الحكومة على دليل «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة...» بدل حملها على التقييد؛ حيث عُلّل ذلك بكونها في مقام الحصر؛ ففي كتاب الخلل في الصلاة للعلامة السيد مصطفى الخميني: "إنّ القضايا المشتملة على‏ مثل هذا الحصر، آبية عن التقييد، بحسب الفهم العرفي"(8).

ومنها: ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين في بحث مفطرية التقيؤ فقد ذهب المشهور إلى مفطريته وذلك عن طريق الجمع بين صحيحة الحلبي «إذا تقيأ الصائم فقد أفطر...»، وصحيحة محمد بن مسلم «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال» -حيث أن المورد من موارد الجمع بالتقييد، ومع إمكانه لا تصل النوبة إلى الجمع بالحمل على الاستحباب؛ وذلك باعتبار أن صحيحة محمد بن مسلم مطلقة فهي تقول: لا يضر الصائم إذا اجتنب عن الأُمور الثلاثة، سواء كان غير الثلاثة هو القيء أو غيره من سائر الأمور، فيقيد هذا الإطلاق بقرينة صحيحة الحلبي، وتكون النتيجة أن غير الثلاثة لا يضر إذا لم يكن قيئاً، فالمورد من موارد الإطلاق والتقييد- ثمّ أشكل عليهم بأن ما ذُكر وجيه لو فرض أن لسان صحيحة محمد بن مسلم لم يكن آبياً عن التقييد، ولكنه أبٍ عن ذلك عرفاً، فإنّ ذكر كلمة (ثلاث) وحصر المفطرات بها، والتعبير بأنه: «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال» يأبى عن التقييد عرفاً.

ولمّا كان التعبير الوارد في صحيحة الحلبي «إذا تقيأ الصائم فقد أفطر...»، لا يقبل الحمل على الاستحباب؛ إذ أن كلمة (أفطر) لا تقبل الحمل على الاستحباب بل لا معنى لاستحباب المفطرية، فيدور الأمر بين ثبوتها وعدمه ولا معنى لشق ثالث، وهو ثبوتها بنحو الاستحباب وعليه فلا بدّ من حمل كلمة (أفطر) على معنى يناسبها، والمناسب لها في مقامنا أن تحمل على الإشارة إلى القضاء، فالمفطرية ليست شيئاً آخر وراء القضاء، ومن المعلوم أن من الوجيه أن يكون ثبوت القضاء بنحو الاستحباب دون اللزوم، وعليه فالحمل على الاستحباب لا إشكال فيه من هذه الناحية(9).

وجود قرينة عقلية:

من الواضح أن الأحكام العقليّة آبية عن التقييد، وكذلك ما يكون من الخطابات في مقام الإرشاد إلى حكم العقل؛ فإنه يأخذ حكمه، ويتبعه في الإباء.

وله موارد:

منها: ما ذكره سيد المحققين الخوئي في نفي توجيه تقدم الأمارات على الاستصحاب من أن أخبار الاستصحاب آبية عن التخصيص؛ حيث علّل ذلك بأن المنع عن نقض اليقين بالشك إرشادي إلى ما استقل به العقل من عدم رفع اليد عن الأمر المبرم، بغير المبرم وهو-حكم العقل- غير قابل للتخصيص، خصوصا إذا كان الإرشاد بهذا اللسان، أي بقوله (عليه السلام): «لا ينبغي لك، أو ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»، فهذا يؤكد إباءها عن التخصيص(10).

ولكن يمكن أن يقال: إن غاية ما يمكن أن يقال في الاستصحاب أنه ناشئ من ارتكازات عقلائية -وهو لا يسلّم حتى بهذا المقدار(11)- ومن الواضح أن الارتكازات العقلائيّة لا تنشأ من حاقّ العقل، بل هي خليط من العواطف والعادات والتقاليد بالإضافة إلى بعض النكات العقلائية، وعليه فما هو ممتنع التقييد وهو حكم العقل غير موجود، وما هو موجود وهو الارتكازات -على فرض التسليم بها- غير ممتنع.

وقد يوجّه ما ذكره (رحمه الله) بأن مقصوده من الارتكاز المذكور هو ما عبّر عنه بالأمر الفطري أو القاعدة الارتكازية وهي عدم نقض الأمر المبرم -وهو اليقين- بالأمر غير المبرم -وهو الشك-(12)‏ وتطبيقها في مورد الاستصحاب بأن نقول: إن اليقين والشك بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأموناً من الضرر والآخر محتمل الضرر، ومن الواضح أنه لا إشكال في أن المرتكز في هذه الحالات هو اختيار الطريق المأمون.

وبهذا يرتفع التنافي بين إنكار استناد حجية الاستصحاب للارتكازات العقلائية وبين قولهم أن تعميم روايات الاستصحاب لغير موردها معتمد على كون الروايات مشيرة إلى الارتكازات العقلائية، والسرّ في ذلك كما يوضحه السيد الخوئي هو أن "ما أنكرناه سابقاً إنما هو تطبيق هذه الكبرى الكليّة -نقض اليقين بالشك- على الاستصحاب، لعدم صدق نقض اليقين بالشك عرفاً، لأن اليقين متعلق بالحدوث فقط، والشك متعلقٌ بالبقاء فلم يتعلق اليقين بما تعلق به الشك، حتى لا يجوز نقض اليقين بالشك فلا يصدق نقض اليقين بالشك عرفاً.

فتطبيق هذه الكبرى الارتكازية على الاستصحاب إنما هو بالتعبد الشرعي لأجل هذه الصحيحة وغيرها من الروايات الآتية(13) ولا مانع من كون الكبرى مسلمةً ارتكازية، مع كون بعض الصغريات غير واضحة، فإن اجتماع الضدين مما لا إشكال ولا خلاف في كونه محالاً، مع أنه وقع الخلاف بينهم في جواز اجتماع الأمر والنهي في شي‏ء واحد من جهة أنه هل يكون اجتماعهما من قبيل اجتماع الضدين أم لا؟"(14) انتهى.

هكذا ذكر (رحمه الله)، وبغضّ النظر عن الإشكال في كلامه وعدم نفع ما تفضل به في رفع التنافي فقد نقل عنه السيد محيي الدين الغريفي -والظاهر كون النقل مشافهةً- ما ينافي بظاهره ما ذكره هنا، وهذا نصّه "إن التعليل تارة يكون بأمر عقلي تكويني، كما لو قال: هذا محال؛ لأنّ لازمه الدور؛ فلا يقبل التخصيص؛ لأن المستحيل مستحيل في جميع الأفراد والأوقات، والممكن ممكن كذلك، فحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد؛ فتثبت الاستحالة في كلّ مورد لزم الدور. وأخرى يكون بأمر تشريعي ولا مانع من تخصيصه؛ لأن الذي شرّع كون الأمر الفلاني علة لحكم خاصّ له أن يخصص علّيته بفرد أو حال دون آخر.

وقد مثّل لذلك بتعليل البناء على الحالة السابقة في الاستصحاب بأن المكلف كان على يقين فشك ولا ينبغي له نقض اليقين بالشك، ومقتضى عموم التعليل أنه لو شك في الإتيان ببعض أجزاء الصلاة يبني على عدمه، لكنّه خُصص بقاعدتي الفراغ والتجاوز، فإن مقتضاهما البناء على الإتيان بالجزء المشكوك لو عرض الشك بعد الفراغ من الصلاة أو بعد تجاوز محل ذلك الجزء"(15).

وكلامه هذا واضح في إمكان تخصيص أدلة الاستصحاب، وكيف ما كان(16) فأدلة الاستصحاب آبية بلسانها من جهة التعبير بـ(لا ينبغي لك) وغيره كما ذُكر. وسيأتي نظيره تحت عنوان (الإباء العرفي).

ومنها: ما ذكره السيد الخوئي (رحمه الله) أيضاً كنظير لما تقدم من أن أدلة حرمة العمل بالظن آبية عن التخصيص أيضاً، فإن مثل قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} غير قابل للتخصيص، إذ مرجعه إلى أن الظن الفلاني يغني عن الحق. ولا يمكن الالتزام به، كما هو ظاهر(17). ولا بدّ من حمل كلامه (رحمه الله) على فهم الإرشادية من الآيات، وأنها إرشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالمؤمّن من العقاب، وعدم جواز الاكتفاء بالظن به، بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل إن كان أخرويا، وإلا فقد ذكر في موضع متقدم من مصباح الأصول(18) أن أدلة حجية خبر الثقة متقدمة على الآيات الشريفة الناهية عن العمل بالظن بالحكومة أو التخصيص. ولعلّ ذكره كنظير لما سبق شاهد على ذلك.

ومن الواضح أن المراد من التخصيص في الموردين هو التقييد، وكذا في كثير مما سيأتي من الموارد، أو لا أقل ما يعمّه، فليلاحظ.

تكثّر العمومات أو المطلقات:

مجيء الخطاب بصورة شمولية ومن ثمّ تخصيصه بفردٍ من أفراده أمرٌ مقبولٌ عرفاً وشائع في خطابات الشارع، وأمّا أن تتكثر الخطابات العامة أو المطلقة بصورة يظهر منها أن الإطلاق هو المراد جدّاً ثمّ تُخصص أو تُقيد فهذا أمرٌ مستهجنٌ عند العرف، والعرف ببابك، ومن الشواهد على ذلك هذه الموارد الآتية.

منها: ما ذكره الشيخ الأعظم في المكاسب المحرّمة من عدم إمكان تقييد الروايات الدالّة على جواز الاستصباح بالدهن المتنجس مطلقاً بمرسلة الشيخ المقيدة للاستصباح بكونه تحت السماء دون السقف، وقد ذكر في تعليل هذا المنع الأخبارَ المتقدمة على كثرتها وورودها في مقام البيان ساكتة عن هذا القيد(19) وفي مصباح الفقاهة: "محصل كلامه: أن المطلقات حيث كانت متضافرة، وواردة في مقام البيان فهي آبية عن التقييد"(20).

وقد استشكل عليه السيد الخوئي (رحمه الله): "بأن غاية ما يترتب على كون المطلقات متضافرة أن تكون مقطوعة الصدور لا مقطوعة الدلالة، وإذن فلا مانع عن التقييد؛ إذ هي لا تزيد على مطلقات الكتاب القابلة للتقييد حتى بأخبار الآحاد، وأوهن من ذلك دعوى إبائها عن التقييد من جهة ورودها في مقام البيان؛ فإن ورودها في مقام البيان مقوم لحجيتها، ومن الواضح أن مرتبة التقييد متأخرة عن مرتبة الحجية في المطلق، ونسبة حجيته إلى التقييد كنسبة الموضوع إلى الحكم، ولا يكون الموضوع مانعاً عن ترتب الحكم عليه".

أقول: أمّا ما ذكره أولاً من إشكال فالجواب عليه ما تقدم من استهجان العرف لتخصيص أو تقييد مثل هذه الخطابات المتكثرة خصوصاً مع ملاحظة مجيء الرواية ابتداء من الإمام، ألا ترى استهجان العرف لطلب المولى من عبده أن يأتيه بماء الفرات بقوله (ائتني بماءٍ) عشر مرات أو أكثر ثم يقول (مقصودي من الماء هو خصوص ماء الفرات)!!؟، وأمّا الإشكال الثاني فسيأتي بيان ما فيه.

ومنها: ما ذكره الفقيه السبزواري في مهذبه في مسألة الصلاة بالإيماء حيث اختلفوا في كيفية السجود بين قائل بكفاية الإيماء وقائل بوجوب وضع شيء على الجبهة وقائل بالتخيير بينهما "جمعا بين موثق سماعة (عن المريض لا يستطيع الجلوس، قال (عليه السلام): فليصلّ وهو مضطجع، وليضع على جبهته شيئا إذا سجد، فإنّه يجزئ عنه، ولن يكلّف اللّه ما لا طاقة له به) ومطلقات الإيماء؛ فإنّ كلّ واحد منهما ظاهر في الوجوب التعييني فيرفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بقرينة الآخر، ويحمل على التخييري"(21).

فقد أشكل (رحمه الله) على هذا القول بما نصّه: "أنّ المطلقات الكثيرة في الأبواب المتفرقة من المحكمات الآبية عن التقييد"(22).

بيان (في معنى المحكمات):

في مجمع البحرين "المحكمات جمع المحكم وهو في اللغة: المضبوط المتقن وفي الاصطلاح -على ما ذكره بعض المحققين-: يطلق على ما اتضح معناه وظهر لكل عارف باللغة، وعلى ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص، أو منهما معاً، وعلى ما كان نظمه مستقيماً خالياً عن الخلل، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً. قال: ويقابله بكل من هذه المتشابه(23).

وعرّفه في (لب اللباب): "بأنه ما علم المراد به من ظاهره من غير قرينة تقترن إليه، ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه"(24).

وحُكي عن مستدركات مقباس الهداية زيادة "ما سلم عن مجيء ما يضادّه".

فيظهر مما تقدم أن تكثر الخطابات في بيان أمرٍ واحد يصيّر مجموعها محكماً آبياً عن التقييد أو التخصيص، والنكتة في ذلك ما تقدم من الاستهجان العرفي.

كون الإطلاق في سياق الامتنان:

والمقصود منه أن رفع الامتنان عن مورد من الموارد بعد كون ما دلّ على الامتنان مطلقاً مستهجنٌ صدوره من الشخص العادي، فكيف به إذا كان صادراً ممن شأنه أن يصدر منه مثل هذا الامتنان؛ فإن الاستهجان في مورده يكون أشدّ.

ومن موارده: ما ذكره جمعٌ منهم المحقق الرشتي من إباء آية نفي السبيل عن التخصيص وإن اختلفوا في توجيه ذلك إلا أنه قد علل ذلك بكونها في سياق الامتنان وذلك حيث منع حجّة من قال بصحة تملك الكافر للعبد المسلم مع وجود خيار يصحح فسخ البيع وبالتالي لا يتحقق السبيل له عليه بقوله: "لعدم مقاومة أدلة الخيار مع أدلة نفي السبيل، إذ أدلة نفي السبيل مسوقة للامتنان وآبية عن التخصيص فتكون مقدمة على سائر الأدلة التي ليست بتلك المثابة والسَوق"(25).

ومنها: ما ذكره المحقق النائيني في بيان النسبة بين قاعدة لا ضرر وأدلة الأحكام الأولية، وسرّ تقدم القاعدة عليها من أن القاعدة باعتبار وردها مورد الامتنان والإرفاق على الأمّة فتتقدم على إطلاقات سائر الأدلة(26)، وتمّمه السيد الشهيد -بعد الإشكال عليه بأن هذا المقدار في هذا التقريب لا يحقق وجهاً فنيّاً للتقديم-‏ بأن سياق الامتنان والإرفاق يأبى عن التخصيص أو يكون ظهوره أقوى من إطلاقات الأدلة الأولية فتقدم عليها بالأظهرية(27).

غاية الظهور في الإطلاق وبيان الحدّ:

استفادة الإطلاق عادة يكون ببركة مقدمات الحكمة؛ فإنها قرينة عامّة على إرادة الاستيعاب من الخطابات غير المقيّدة، وقد ينضمّ إليها قوة ظهور نفس الخطابات في إرادة الشمول والاستيعاب، فهنا يرتكز الإطلاق على مجموع هذين الأمرين ممّا يشكّل خصوصية زائدة عن بقية الإطلاقات وهي إباؤه عن التقييد، بل قد يستفاد الإطلاق بدون الحاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة وذلك لخصوصية المورد من احتفافه بقرائن لبيّة أو غيرها فيكون أقوى ظهوراً من الإطلاق المستفاد من القرينة العامة وله موارد:

منها: ما ذكره المحقق الخوئي في مسألة ما إذا دفع الإنسان إلى غيره مالاً ليصرفه في قبيلٍ يكون المدفوع إليه منهم. فهل يجوز له الأخذ أم لا؟ من منع ما قد يقال من الجمع بين الروايات المجوّزة -مثل صحيحة ابن الحجاج سألته عن رجلٍ أعطاه رجلٌ مالاً ليصرفه في محاويج أو في مساكين وهو يحتاج أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه؟ قال (عليه السلام): «لا يأخذ شيئا حتى يأذن له صاحبه»- والروايات المانعة -مثل رواية ابن الحجاج سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يُعطى الدراهم ليقسمها ويضعها في مواضعها وهو ممن تحل له الصدقة؟، قال (عليه السلام): «لا بأس أن يأخذ لنفسه كما يعطى لغيره...»- بحمل المانعة على فرض تعيين المالك مواضع مسماة لصرف المال؛ فإنه لا يجوز للمتصدي أن يأخذ لنفسه، وحمل المجوّزة على فرض أن لا يعين المالك للمال مواضع خاصة فإنه يجوز له الأخذ لنفسه فقد ذكر "أن هذا الجمع بعيد عن ظاهر الرواية المانعة أعني رواية ابن الحجاج فإنها آبية عن ذلك سؤالاً وجواباً فإن قوله (عليه السلام): في جواب السائل عن رجل أعطاه مالاً ليصرفه في محاويج أو مساكين وهو يحتاج أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه هو قال: لا يأخذ شيئا حتى يأذن له صاحبه مطلق، وكذلك السؤال فيبعد حملهما على فرض تعيين المالك مواضع للمال المعطى"‏(28).

وجود محذور لغوي:

اللغة هي طريق التواصل بين العقلاء، ولمّا كان الشارع سيداً لهم فإنه يمضي على ما هم عليه؛ فلم يخترع طريقة أخرى غير ما هم عليه؛ ومن هنا فإن من مقومات الأخذ بالنصّ عدم وجود مخالفة لغوية فيه.

وهذا بغض النظر عن حجيّة قول اللغوي وعدمها؛ فإن هناك من القواعد اللغوية ما لا يحتاج فيه إلى الرجوع إلى اللغوي فضلاً عن القول بحجية قوله.

وله موارد كثيرة:

منها: ما ذكره المحقق الخوئي في مسألة كفاية الظن النوعي في الحكم بدخول الغروب والإفطار إذا لم يتمكن من تحصيل العلم أو ما بحكمه، حيث ذكر أنه يوجد احتمالان في النصوص الواردة في جواز تعويل الصائم لدى عدم تمكنه من معرفة استتار (أنه (عليه السلام) قال لرجل ظنّ أن الشمس قد غابت فأفطر ثم أبصر الشمس بعد ذلك قال (عليه السلام): ليس عليه قضاء) ونحوها غيره، بتقريب أن هذه الأخبار إمّا أنها مخصصة لدليل وجوب الإمساك إلى الليل فيجوز الإفطار قبل الاستتار حتى واقعاً فيما إذا ظن به، وإما أنه لا تخصيص بل مفادها حجية الظن وكونه طريقاً إلى الواقع لدى العجز عن تحصيل العلم وما بحكمه من بينة ونحوها، ثمّ استبعد الاحتمال الأول معللاً ذلك "بأنّ لسان ما دل على وجوب الإمساك إلى الليل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} في قوة الاستمرار بحيث يكاد يأبى عن التخصيص، فلا يحتمل جواز الإفطار قبل الغروب في مورد ما ليستوجب ارتكابه -التخصيص- كما لا يخفى، إذن فيتعين الثاني، ومقتضاه حجية الظن وإحراز الواقع به شرعاً وثبوت الوقت تعبداً، فإذا ثبت ترتبت عليه جميع آثاره الشرعية"(29).

ومن الظاهر أن قوة ظهور الآية في الاستمرار لمكان (إلى) فيها.

ومنها: ما ذكره جمعٌ من الفقهاء الأعاظم في قاعدة نفي السبيل من أنّ الآية المباركة الدالة على نفي سبيل الكافر على المسلم بنفي الأبد الذي هو مدلول كلمة (لن) في قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ}، آبية عن التخصيص إذ لا معنى لأن يقال: لا سبيل للكافر إلا في مورد كذا وكذا، وبعبارة أخرى مقتضى النفي بلن التأبيديّة هو نفي السبيل من الكافر على المسلم في آن من الآنات وهذا المعنى غير قابل للتخصيص بوجه(30).‏

ومنها: ما ذكره المحقق الخوئي في منع الجمع بين الروايات التي تجوّز السجود على القطن والكتان -وهما مما يلبس- كموثقة(31) داود الصرمي قال: (سألت أبا الحسن الثالث (عليه السلام): هل يجوز السجود على القطن والكتّان من غير تقية؟ فقال: جائز) وبين الروايات المانعة كصحيحة هشام بن الحكم (أنه قال لأبي عبد اللَّه (عليه السلام): أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعما لا يجوز، قال: السجود لا يجوز إلا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أُكل أو لبس. فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: لأنّ السجود خضوع للَّه (عزّ وجلّ) فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللَّه (عزّ وجلّ) فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها) بحمل أخبار الجواز على مادة اللباس وهي القطن والكتّان قبل الغزل والنسج، وأخبار المنع على ما بعدهما المتصف باللباس فعلا.

حيث ذكر في منع ذلك ما نصّه: "أنّ أخبار المنع في نفسها آبية عن هذا الحمل، فإنّ ما أكل أو لبس استثناء عن نبات الأرض، فلا بد من صدق عنوان النبات عليه رعاية لاتصال الاستثناء الذي هو الظاهر منه، ولا يتحقق ذلك إلا قبل معالجته بالنسج أو الطبخ، وإلا فبعد العلاج لا يصدق عليه نبات الأرض وإنما هو شي‏ء متخذ منه مع مباينته معه فعلاً، فلا يكون الاستثناء متصلاً، ومرجع ذلك إلى إرادة القابلية مما أُكل أو لبس، فكما أنّ الحنطة مثلاً لا يجوز السجود عليها لكونها من نبات الأرض القابل للأكل وإن لم يكن مأكولاً فعلاً، فكذا القطن فإنه قابل للبس بحسب طبعه وإن لم يكن كذلك فعلًا إلا بالعلاج من غزل ونسج"(32). وقال: "(و يؤيد) ما ذكرناه: التعبير عن المستثنى بما أُكل أو لبس بصيغة الماضي دون المضارع الدالة على تحققه خارجاً، فانّ ما أكل قد انعدم، فلا موضوع له كي يسجد عليه، فيكشف عن أنّ المراد ما أكله الناس خارجاً أو لبسه بعد إعمال العلاج، لكونه بحسب طبعه قابلاً لذلك قبال ما يكون فاقداً لهذه القابلية من سائر أنواع نبات الأرض، فيكون مصداقه نفس القطن أو الكتّان قبل اتصافهما بالملبوسية، فتتحقق المعارضة لا محالة بينها وبين ما دلّ على الجواز"(33).

ومنها: ما ذكره المحقق الخوئي من التفصيل في قبول توبة المرتدّ الفطري بين إسلامه -فتقبل مطلقاً أيّ يحكم له بتمام أحكام المسلمين كطهارة البدن، وصحة العبادات المشروطة بها، وجواز التزويج بالمسلمة وتملّك المال إلى غير ذلك؛ لصدق المسلم عليه بعد التوبة- وبين توبته عن معصية كفره السابق؛ فيقتل من جهة، دون جهة، حيث ذكر "أنه لما كانت التوبة ندامة ورجوعاً عن الذنب السابق (الارتداد) كان مقتضى الآيات الكريمة قبولها مطلقاً؛ لأن التائب، ولو كان مرتداً تشمله الآيات الواردة في التوبة، إذ لسانها آبٍ عن التخصيص، كقوله تعالى {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}"(34) وبالتالي لا يعارض عمومها ما توهم من دلالة بعض الأخبار بأن الفطري (لا يستتاب) كما في بعض الروايات أو أنه (لا توبة له) كما في بعضها الآخر؛ فيتعين حملها على جهات أخرى من التوبة حفظاً لعموم الآيات.

ولعلّ وجه إبائها هو التعبير فيها بـ(عبادي) -الذي يشمل المرتدّ الفطري- من جهة والتعبير ب(جميعاً) -الذي يشمل الارتداد- من جهة أخرى.

ويمكن أن يكون من جهة"استحالة أن يرد الله أو يغلق بابه في وجه من آمن وتاب إليه فضلاً عن أن يعذبه عذاب الكفار، بل لعل ذلك مخالف لأصول العدلية" كما يرى الإمام الخميني(35). فيندرج هذا المثال في العنوان الآتي.

ويتضح من هذا المثال إمكان التفكيك في قبول العموم للتخصيص، فقد يقبله من جهة ويأباه من أخرى.

لزوم محذور في التقييد أو التخصيص:

من الوضوح بمكان أن وظيفة الجمع هي رفع التنافي والتنافر بين مداليل الأدلة؛ فلا يمكن رفع التنافي بإيجاد تنافٍ آخر -ولو من خارج الرواية-.

وله موارد:

منها: الحكم ببطلان الصلاة بالرياء مطلقاً ولو وقع في بعض أجزائها وعدم تخصيص أدلة حرمته بأدلة لا تعاد أو غيرها مع أنه مقتضى الصناعة؛ فإن نسبةَ دليل (لا تعاد) إلى مثل رواية علي بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) (قال اللّه (عزّ وجلّ): أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً)، مما يظهر منها أن إدخال الرياء في عمل يوجب بطلانه؛ فمن صلّى وأدخل الرياء في ركوعه مثلاً أو في قراءته أو في شي‏ء من المستحبات التي فيها فقد أشرك في صلاته غيرَ اللّه، وأدخل فيه مثقال ذرة من الرياء فبطل عمله ولم يقبل اللّه منه وجعله لشريكه. نسبةُ الخاصّ إلى العام؛ فحقّه التقدم عليه، ولكن "من الواضح أن أدلة حرمة الرياء آبية عن التقييد والتخصيص سواء كان المقيد والمخصص بلسان لا تعاد أم كان بلسان الرفع، بل الظاهر انصراف الدليلين عن الرياء بعد مثل قوله (عليه السلام) في جملة من الروايات (كلّ رياء شرك) ونظير ذلك ما ذكر في روايات أخر، فالخروج عن الدليلين في مورد الرياء بالانصراف والتخصص لا بالتقييد والتخصيص"(36).

وكأنّ وجه الاستشكال هو لزوم الترخيص في الشرك؛ وهذا واضح البطلان.

ومنها: ما إذا لزم من التخصيص مخالفة ما ثبت بالضرورة كما هو الحال في الأخبار التي دلّت على طرح الخبر المخالف للكتاب، فإنه "لو قلنا بعمومها وشمولها لعامة أقسام المخالفة من الخصوص المطلق ومن وجه والتباين الكلي، يلزم خلاف الضرورة؛ فإن الأخبار المقيدة أو المخصصة للكتاب قد صدرت من النبي والخلفاء من بعده (صلّى الله عليه وآله) بلا شك؛ فلا بدّ من حملها على المخالف بالتباين الكلي"(37).

ومنها: ما إذا لزم من التخصيص خروج أكثر الأفراد شيوعاً كما في مورد حمل بعض مطلقات باب النفاس على النساء غير ذوات العادة كما في صحيحة محمد بن مسلم الظاهرة في التحديد حسب المتفاهم العرفي قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن النّفساء كم تقعد؟ فقال: إن أسماء بنت عميس أمرها رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله) أن تغتسل لثمان عشرة، ولا بأس أن ‏تستظهر بيوم أو يومين) حيث حملها كثير من الفقهاء على التقية دون بيان الحكم الواقعي معللين ذلك بأنه "لو كانت بصدد بيان الحكم الواقعي للزم تخصيصها بذات العادة، وهي آبية عن التخصيص بذلك؛ لأن ذوات العادة من النساء كما قالوا أكثر من غيرهن، ومعه كيف يمكن حمل الصحيحة الواردة لبيان أكثر النّفاس على غير الغالب من النساء ولا تكون متعرضة للغالب منهن وهي في مقام البيان، وهذا يؤيد حملها على التقية أيضاً"(38).

و في قوله (بذلك) إشعارٌ بإمكان التفكيك في القابلية أيضاً.

كون العام أو المطلق في مقام البيان:

والمقصود منه كون الخطاب ناظراً لجهة ما لا يمكن صرفه عنها بأي نحوٍ من الأنحاء، فإن الخطابات الشرعية تارة تأتي لبيان الحكم ابتداءً وأخرى تأتي في واقعة خارجية، وقد تبين الحكم بصورة خاصة مقتصرة على مورد الحادثة وقد تبينه بشكل مستوعب لها ولغيرها، وفي هذه الحالة من المستهجن عدم شمول العام لمورده بل ذكر المحقق النائيني: "العام بالنسبة إلى المورد كالنصّ وكأنه مذكور في العام ‏بالنصوصية"(39) فيكون بمثابة النصّ في هذه الجهة لا بشرط عدم نظره إلى جهة أخرى، ومن الواضح أن هذا غير اشتراط حجيّة المطلق بكونه في مقام البيان؛ إذ المقصود منه إحراز "كون المتكلم في مقام بيان مراده الاستعمالي أيّ تفهيم اللفظ"(40). وبتعبير أدقّ وأوضح أن الشرط المذكور "لا يعيّن أنَّ المتكلم في مقام بيان أيّ شي‏ء وإنما يعيّن أنَّ الشي‏ء الّذي هو في مقام بيانه يكون هو بصدد بيان تمامه، فإنَّ كل كلام يصدر من المتكلم لا بدَّ وأن يكون بصدد معنى وبعد أن يتعيّن ذلك المعنى بالظهورات اللفظية يأتي دور ظهور حال المتكلم في أنّه في مقام بيان تمام ذلك"(41)‏.

ثم لا يخفى أن هذا غير ما ذهب إليه في الكفاية من مانعيّة القدر المتيقن في مقام المحاورة من التمسك بالإطلاق؛ فإنّ ما ذكره مانع عن أصل انعقاد الإطلاق لا أنه منعقد ويمتنع تقييده كما فيما نحن فيه. فليلاحظ(42).

وهذه بعض موارده:

منها: ما تقدم عن الشيخ الأعظم تحت عنوان (تكثّر العمومات أو المطلقات) حيث ذكر سببين في منع التقييد، الكثرة وكون الخطاب في مقام البيان.

ومنها: ما ذُكر أخيراً عن سيّد المحققين الخوئي تحت عنوان (لزوم محذور).

أقول: ما ذكره هنا يأتي فيه ما تقدم من إشكاله على الشيخ الأعظم نقضاً، وأما الحلّ فبما تقدم بيانه في العنوان بشيء من التفصيل. فليلاحظ جيداً.

الإباء العرفي:

خطابات الشارع من العرف إلى العرف؛ فما يستهجنه العرف بذوقه السليم من تصرف في مدلول ما يعتبر قرينة إنيّة على عدم صحة هذا التصرف. وبما أنّ التقييد والتخصيص من القرائن العرفيّة العامة فإن هذا الشرط لازم لهما؛ ومن هنا نجد الفقهاء يمنعون من التقييد أو التخصيص متى ما وجد محذور عرفي فيه.

فمن أمثلة ذلك: ما ذكره السيد الإمام في منع التخصيص الحكمي في قوله تعالى‏ {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض‏}، معللا ذلك بأنّ "الآية آبية عن التخصيص الحكمي، فمن المستهجن عرفاً أن يقال: (لا تأكلوا ما حصل بالباطل إلا هذا الباطل) فلا يحتمل تجويز الباطل تخصيصاً"(43).

ويترتب عليه أن ما يفرض خروجه عن الآية لا بدّ من حمله على الخروج الموضوعي التخصصي.

ومنها: ما ذكره في تهذيب الأصول في الجواب على ما ذكره الأخبارييون من الاستدلال على الاحتياط بمثل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله عزّ اسمه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وقوله عزّ شأنه: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} حيث ذكر أنه يتعين في المقام التصرف في هيئة فعل الأمر الظاهرة في الوجوب؛ لخصوصية في المقام؛ لأن الآية شاملة للشبهات الموضوعية والوجوبية الحكمية ولو حملنا الآية على الوجوب بلا تصرف في مفاد الهيئة، يستلزم تقييد الآية، وإخراج بعض الأقسام، مع أن لسانها آبٍ عن التقييد. بل التقييد يعدّ أمراً بشيعاً، وكيف يقبل الطبع أن يقال: (اتقوا اللَّه حق تقاته إلا في مورد كذا وكذا)؛ فلا مناص عن التصرف في مفاد الهيئة بحمل الطلب على مطلق الرجحان حتى يتم إطلاقه(44).

ومنها: ما ذكره المحقق الأصفهاني في بيان لزوم الوقف ولو وقع بالمعاطاة حيث استظهر من الأخبار الدالة على عدم جواز الرجوع في الوقف، أنّ اللزوم كاللازم الغير المفارق، وذلك مثل قولهم (عليهم السلام): «ما كان للّه فلا رجعة فيه»؛ فإنّ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ ما كان لله لا يلائمه الرجوع، ومثله يأبى عن التخصيص، بأن يقال ما كان للّه فلا رجعة فيه إلا إذا كان بالمعاطاة(45).

ومنها: ما ذكره الفقيه السبزواري في دفع توهم تقييد أدلة العصر والتعدد لمطلقات التطهير بالماء المعتصم كقوله (عليه السلام) في مرسل‏ الكاهلي المنجبر: «كلّ شي‏ء يراه ماء المطر فقد طهر»، وذلك في مسألة ما إذا تقاطر المطر على الثوب أو الفراش النجس ونفذ في جميعه، فإنهم ذكروا أنه يطهر ولا يحتاج إلى العصر أو التعدد، وذكر السيد أن "عمدة الدليل: إطلاق أدلة مطهّرية الماء المعتصم واعتصامه ما لم يتغير، وسياق تلك الأدلة آبية عن التخصيص والتقييد بالعصر، والتعدد، إلى قوله: والمرتكز في الأذهان أنّ العصر والتعدد لانفصال الماء المنفعل، ولا انفصال للماء المعتصم إلا بالتغير، فلا يشمل إطلاق دليل العصر والتعدد الماء المعتصم أصلاً"(46).

فإن قوله: والمرتكز في الأذهان يعني به أذهان العرف؛ إذ لا يتصور غير ذلك.

كون الخطاب بلسان التعليل:

والمراد من العلّة والتعليل هنا هو العلامة التي متى ما توفّرت في موضوع كشفت عن ثبوت حكم موردها له، فمتى ما أحرزنا وجودها سواء بالتصريح بها في الخطاب أو من أمر آخر كان ذلك مصححاً للتعدي من موردها إلى كلّ مورد يكون متوفراً عليها، ولها موارد كثيرة.

منها: ما ورد من الروايات في حكم التكلم في الإقامة حيث وردت روايات مانعة كمعتبرة أبي هارون المكفوف (قال أبو عبد اللَّه (عليه السلام): يا أبا هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلم، ولا تؤم بيدك). والذي ظاهرها تنزيل الإقامة منزلة الصلاة في المنع من الكلام، وقد وردت في قبالها روايات أخرى مجوّزة كصحيحة حمّاد بن عثمان قال: (سألت أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن الرجل يتكلم بعد ما يقيم الصلاة، قال (عليه السلام): نعم).

وقد جُمع بينهم بحمل المانعة على الكلام الأجنبي غير المرتبط بالصلاة، والمجوّزة على المرتبط.

وأشكل عليه السيد المحقق الخوئي (رحمه الله) "أنّ بعض المانعة كرواية المكفوف آبية عن ذلك، ضرورة أنّ مقتضى تنزيل الإقامة منزلة الصلاة المنعُ عن مطلق التكلم كنفس الصلاة، فالتخصيص بصنف لا ينسجم مع هذا التنزيل الذي هو بمثابة التعليل كما لا يخفى"(47).

ومنها: ما ذكره المحقق النائيني في جواب الإشكال المعروف على آية النبأ من أنّ ظهور التعليل فيها في العموم قرينة على عدم دلالة القضيّة الشرطيّة في الآية على المفهوم،  حيث ذكر أنه لا وقع لأصل الإشكال‏؛ لأن النسبة بين العموم والمفهوم هي نسبة الحكومة بجعل المفهوم حاكماً على العموم، وبالتالي لا يكون عموم التعليل معارضاً للمفهوم بل لا يعقل أن يقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل؛ لأنّ المحكوم لا يعارض‏ الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أو كانت النسبة بينهما العموم من وجه؛ لأنّ المفهوم يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزاً له وكاشفاً عنه -بحسب مبناه- فلا يشمله عموم التعليل.

وبعبارة أخرى: مقتضى الحكومة هو خروج خبر العادل عن أفراد العموم؛ لأنّ أقصى ما يقتضيه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي أن يكون خبر العدل علماً في عالم التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل، لأنّ المحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أو كانت النسبة بينهما العموم من وجه.

ثم أشكل (رحمه الله) على من جعل النسبة بينهما نسبة العامّ إلى الخاصّ بكون آية النبأ آبية عن التخصيص وذلك "لأنّ عموم التعليل يأبى عن التخصيص؛ فانّ إصابة القوم بالجهالة لا تحسن في حال من الحالات"(48).

تنبيهات مهمة

في عدم معارضة قرينة التقييد مع قرينة الإباء:

وتوضيح ذلك بأن يقال: إن كلاً مما تقدم من القرائن معارض بقرينة المقيد؛ لما ثبت في محله من كون القيد قرينة عامة على عدم إرادة الإطلاق ومن هنا قُدم عليه أو لأنه أظهر منه، وإن شئت قلت: إن من شروط تحقق الإطلاق عدم وجود قرينة متصلة أو منفصلة وإلا لمنع ذلك من تحقق الإطلاق، فكيف يأبى الإطلاق عمّا هو في وجوده مفتقر إليه؟؟

أقول: هذا صحيح فيما إذا كانت القرينة متصلة فإنها تمنع عن أصل انعقاد الإطلاق وكذا إذا قلنا: بأن القرينة المنفصلة كذلك، أما إذا قلنا: بأن القرينة المنفصلة تمنع عن خصوص حجية الإطلاق فلا تتحقق المعارضة بين إباء الإطلاق والقيد، ولا يكون هذا القيد مانعاً عن انعقاد الإطلاق، والسرّ في ذلك هو أن ما تقدم من القرائن المانعة عن انعقاد الإطلاق قرائن ناشئة من نكات عرفية أو عقلية؛ فهي قرائن لبيّة تحف بالنصّ فينتج عنها الإطلاق لوحدها من دون الحاجة إلى الرجوع إلى قرينة الحكمة، وبكلمة: إن قرينة الحكمة ليست إلا طريقاً من طرق إحراز الإطلاق، فإذا أمكننا أن نحرز الإطلاق من جهة أخرى لم تبق أي حاجة إليها؛ فلم يمتنع الإطلاق عمّا هو متوقف عليه.

وإذا كان كذلك فلا بد من علاج التعارض بين المطلق الآبي والقيد، ومن الواضح أن القرائن الداخليّة للنصّ مقدمة على بقية القرائن لأظهريتها.

في عدم جريان بعض الأحكام الخاصة بالمطلق على المطلق الآبي عن التقييد:

وهذا مترتب على ما قد سبق فقد ذكر الأعلام بعض الأحكام المترتبة على الإطلاق لحيثية كونه ناشئاً من مقدمات الحكمة.

منها: تقدّمُ العام على المطلق عند التعارض؛ حيث ذكروا أن السرّ في تقدم العام هو كون ظهوره في السريان تنجيزياً غير متوقف على شيء خارج عنه، بخلاف المطلق فإن سريانه تعليقي متوقف على عدم بيان القيد، ومرجع هذا التنجيز والتعليق هو أن "احتجاج العقلاء في المطلق لما كان متقوماً على جعل الطبيعة بنفسها موضوعة وعدم ذكر قيد لها يكون أمد هذا الاحتجاج إلى زمان ورود القيد، فإذا ورد ينتهي احتجاجهم ويرتفع موضوعه، فتقدم العام الأصولي على المطلق إنما هو لكون العام غاية لاحتجاج العقلاء بالإطلاق لكونه بياناً للقيد، فلا يمكن أن يكون الإطلاق مخصصاً للعموم لحصول غايته بوروده"(49).‏

وبعبارة أوضح إن الشمول في المطلق ليس مدلولاً لدليل لفظي كما في العام، وإنما هو مدلول لعدم البيان، فما دام عدم البيان متحققاً وهو الدليل كانت الدلالة أيضا ثابتة، فينكشف بها الإطلاق، وإذا لم تبدل بالبيان انتفت الدلالة والمنكشف لا محالة، فثبوت الإطلاق في كل آن متوقف على عدم البيان في ذاك الآن، وبانتفائه ينتفي الإطلاق حقيقة، فهو نظير الأصول العملية مع الأمارة، فإذا لم تكن الأمارة متحققة كان الأصل العملي جارياً حقيقة، وإذا قامت الأمارة انتفى موضوع الأصل العملي لا محالة، وهذا هو الحال في الإطلاق، فما لم يوجد بيان يكون الإطلاق ثابتاً حقيقة، وبمجرد تحقق البيان ينتفي الإطلاق، لأنه كما عرفت مدلول عدم البيان، وليس مدلولا للفظ(50).

ومن الواضح هنا على ما تقدم أن الإطلاق ليس تعليقياً؛ إذ لا يتوقف على مقدمات الحكمة، وإنما ينشأ الإطلاق كما تقدم من قرائن لبية؛ فلا ينفع هذا الوجه في تقديم العام على المطلق.

وكذلك إذا قلنا بتقديم العام لأقوائية ظهوره -كما لا يبعد- بتقريب "وجود ظهورين حاليين كاشفين عن الإرادة الجديّة للمتكلم، أحدهما الظهور السلبي في أن ما سكت عنه ولم يذكره في مرحلة الإثبات غير ثابت في مرحلة الثبوت والجدّ، فليس هناك شي‏ء قد قصده ولم يقله، وهذا هو أساس الظهورات الإطلاقية في المطلقات، والآخر الظهور الإيجابي في أن ما ذكره في مرحلة الإثبات ثابت في مرحلة الثبوت أيضاً، فليس هناك شي‏ء قد قاله ولم يقصده، وهذا هو أساس الظهورات التقييدية في المقيدات والظهور الأول من هذين الظهورين الحاليين التصديقيين أضعف من الثاني بشهادة تقديم المقيد على المطلق"(51).

فإن الإطلاق ليس مدلولاً سلبياً هنا بل حاله حال العموم؛ لرجوعه إلى قرينة وجودية هي القرينة اللبيّة؛ فيشكل تقديم العام على المطلق لمجرد ذلك بل لا بد من ملاحظة النسبة بينهما وترتيب بقية الآثار المترتبة على التعارض.

ومنها: عدم عدّ المطلق من المخالف للقرآن، فلا ينفع في مورد الترجيح؛ وذلك لأن اسم الجنس إنما يدل على ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيد كما تقدم، وإنما يستفاد الإطلاق ببركة مقدمات الحكمة -أي عدم نصب المتكلم قرينة على التقييد مع كونه في مقام البيان- فعدم القرينة على التقييد هو الدال على الإطلاق لا اسم الجنس المصرح به في الكلام، ومن الواضح أن هذا الأمر العدمي ليس قرآنا ليكون المخالف له مخالفاً للكتاب الكريم‏.

وهذا المبنى وإن أمكن الخدشة فيه -بعدم عرفيتّه؛ إذ من الواضح أن العرف ينسب الخبر المطلق إلى المخالفة بدون أدنى تجوز في ذلك- ولكن لو سلمنا به فإنه من الواضح لا يجري فيما نحن فيه؛ فإن الإطلاق هنا ليس مدلولاً عدمياً كما تقدم.

في عدم إباء الإطلاق مع الإباء عن التقييد في مقام الإثبات:

بعد ثبوت أن التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات هو تقابل الملكة وعدمها، فهل يمتنع الإطلاق إذا امتنع التقييد؟؟

الظاهر العدم؛ وذلك لأن القابلية المطلوبة في محلّ الملكة هي القابلية العقلية وهي موجودة هنا، غايته أن هناك عدم قابلية عرفي وهو لا يمنع عن ذلك، نعم فيما إذا كان الإباء ناشئاً من محذور عقلي يتجه المنع.

في الجواب على ما ذكره بعض الأعلام:

ذكر في جامع المدارك أنه يمكن أن يقال أن المطلقات بمنزلة القوانين والقوانين غير آبية عن التخصيص(52)‏، وذكر السيد الخوئي في قاعدة منجسية النجس أنها ليست من القواعد العقلية غير القابلة للتخصيص، وإنما هي من القواعد التعبدية وهي غير آبية عن التخصيص(53). وذكر في مورد آخر أن أقصى ما في المطلقات أنّها مطلقات غير آبية عن التقييد الذي هو ليس بعزيز في الفقه(54). ويمكن صياغة الإشكال بعبارة أدق فنقول: كيف يمكننا الجمع بين وسم الأحكام بأنها أحكام اعتبارية، وبين حمل سمة الإطلاق والعموم وعدم قابلية الحكم للاستثناء والحال أنه ليس هناك من حكم اعتباري في عالم الوجود وهو يأبى عن التقييد والتخصيص؛ فإن الاعتبار وأحكامه لا يمكن أن تكون أحكاماً مطلقة وعامة ولا تقبل التخصيص. وتكون في الوقت ذاته أحكاماً اعتبارية؛ فإن الإطلاق والسعة من شأن الأحكام الواقعية.

أقول: تارة يُفهم من كلامهما أن المطلقات في نفسها تنقسم إلى ما يقبل التقييد وما لا يقبل فهذا حقٌ لا مرية فيه كما ظهر مما تقدم، وأخرى يُفهم -بقرينة تعليلهم بكونها ليست قواعد عقليّة- أن المطلقات دائماً قابلة للتقييد إلا إذا كانت إرشاداً إلى حكم العقل فإنها خارجة عن تعليلهم كما هو واضح، ففيه نظرٌ واضح بل هو غريبٌ جداً ويكفي في الجواب عليه نقضاً التأمل فيما تقدم خصوصاً منهما، وأمّا الحلّ فمختصره هو القول بعدم امتناع ذلك؛ فإنه وإن قام البرهان على استحالة تخصيص الأحكام العقلية إلا أنه لم يقم على تخصيصها بهذا الحكم دون غيرها، ودعوى عدم إمكان مثل هذا الإطلاق في الأحكام الاعتبارية مدفوع؛ من جهة أن الملاك في صحّة الأمور الاعتبارية اجتماع أمرين:

أ- وجود الأثر للاعتبار؛ فلو لم يكن له أثر اجتماعي عاد لغواً.

ب- أن لا يكون المعتبر مناقضاً في اعتباره كأن يعتبر الزوجية وعدمها في آن واحد؛ لأنّ التناقض يوجب سلب الاعتماد على الاعتبار.

وكلاهما موجود في المقام كما هو واضح.

في الشك في الإباء عن التقييد وعدمه:

لو شُكّ في مورد ما أن الإطلاق آبٍ عن التقييد أم لا، فهل يمكن الأخذ بالقيد والعمل به؟؟

من الظاهر أن مجرد الشك غير مانع من الأخذ بالقيد وذلك لما ثبت في محله من أن بناء العقلاء على حجية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقليّة على إرادة خلافها. ومجرد احتمال الإباء بل الاستحالة لا يعد قرينة على ذلك، والذي يشهد لذلك هو أن من ترك العمل بظاهر خطاب المولى، لمجرد هذا الاحتمال استحالة لا يعدّ معذوراً عند العقلاء، ونظير هذا ما ذكره الشيخ في مبحث التعبد بالظن من أنه إذا أمر المولى بإتباع خبر الثقة وترتيب الأثر عليه، واحتملنا استحالة حجيته، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال أو الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، أو غير ذلك مما ذكروه في استحالة العمل بالظن، لا يكون هذا الاحتمال عذراً في مخالفة ظاهر كلام المولى، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان(55)‏.

والمقام من هذا القبيل بعينه، فلا مانع من الأخذ بالقيد لمجرد الشك.

هذا ما وسعنا ذكره في توضيح هذا الاصطلاح، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا اليسير مورداً للقبول والانتفاع، وأن يتكفله لي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد لله رب العالمين. «إلهي كيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك».

 

* الهوامش:

(1) قواعد الحديث للسيد محيي الدين الغريفي/المقدمة.

(2) منها (السياق) و(القيد الوارد مورد الغالب) و(الألسنة الإرشادية) و( الألسنة الواردة في مقام الإهمال) وغيرها.

(3) حكاه عنه في مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج‏7، ص: 7.

(4) لاحظ مثلا روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج‏2، ص: 627،  ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، ج‏1، ص: 156، مفاتيح الشرائع، ج‏1، ص: 378.

(5) أصول‏الفقه، ج 2، صفحه 235.

(6) مجمع البحرين، ج‏3، ص: 272.

(7) أصول‏الفقه، ج 2، صفحه 235.

(8) ص71.

(9) ذكره سماحة آية الله الشيخ باقر الإيرواني في الدرس 89 من دروسه في كتاب الصوم.

(10) دراسات في علم الأصول 4/245.

(11) ولذا يرفض الاستدلال بالسيرة العقلائية على حجية الاستصحاب.

(12) مصباح الأصول3/14.

(13) المقصود من الصحيحة هي صحيحة زرارة الأولى، وبالروايات الأٌخر روايات الاستصحاب الأخرى.

(14) المصدر المتقدم 3/19.

(15) قواعد الحديث 1/342.

(16) وقد خرجنا هنا عن الهدف الموضوعة له هذه الرسالة بهدف تجليّة الاصطلاح أكثر ومعرفة مدى الدقة في تطبيقه.

(17) مصباح الأصول  3/248.

(18)2 /152.

(19) كتاب المكاسب1/43.

(20) مصباح الفقاهة 1/126.

(21) مهذب الأحكام6/233.

(22) المصدر المتقدم.

(23) للفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي6/43.

(24) للمحقق الشيخ علي الغفاري ص50  والكتاب تلخيص لمقباس الهداية للمامقاني.

(25) فقه الإمامية/قسم الخيارات ص64، نهج الفقاهة، ص: 315، القواعد الفقهية (للفاضل)، ص: 246.

(26) فوائد الأصول.

(27) بحوث‏في‏علم‏الأصول، ج 5، صفحه 509.

(28) مصباح الفقاهة (المكاسب)، ج‏5، ص:491.

(29) موسوعة الإمام الخوئي، ج‏11، ص: 390.

(30) مصباح الفقاهة (المكاسب)، ج‏5، ص: 85، ويلاحظ المكاسب والبيع، للمحقق النائيني 2/344، وحاشية كتاب المكاسب (للأصفهاني)، ج‏2، ص: 445، وهدى الطالب في شرح المكاسب، ج‏6، ص: 300.

(31) بناءً على مبناه القديم في توثيق رجال كامل الزيارت.

(32) موسوعة الإمام الخوئي، ج‏13، ص: 133.

(33) المصدر السابق 13/134.

(34) فقه الشيعة، ج‏6، ص: 22.

(35) (كتاب الطهارة 3/632) الطبعة القديمة.

(36) كتاب الخلل في الصلاة،للامام الخميني ص: 42.

(37) تهذيب‏الأصول، ج 2، ص 177.

(38) موسوعة الإمام الخوئي، ‏8/165.

(39) فوائدالأصول‏للنائيني،  3/ 170.

(40) دراسات في علم الأصول 2/339.

(41) بحوث في علم الأصول 3/419.

(42) كفاية الأصول247  وأصول الفقه1/186.

(43) كتاب البيع،للامام الخميني1/172.

(44) تهذيب‏الأصول، ج 2، صفحه 258.

(45) حاشية كتاب المكاسب (للأصفهاني، ط-الحديثة)، ج‏1، ص: 192.

(46) مهذب الأحكام (للسبزواري)، ج‏1، ص: 210.

(47) موسوعة الإمام الخوئي، ج‏13، ص: 356.

(48) فوائد الأصول ‏للنائيني، ج 3، ص 171 -174.

(49) الرسائل، ج 2، صفحه 24.

(50) دراسات‏في‏علم‏الأصول، ج 4، صفحه 368.

(51) بحوث‏في‏علم‏الأصول، ج 7، صفحه 284.

(52) جامع المدارك في شرح مختصر النافع، ج‏3، ص200.

(53) موسوعة الإمام الخوئي، ج‏2، ص: 510.

(54) المصدر المتقدم، ج‏22، ص 103.

(55) فرائد الأصول، ج 1، ص41.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا