إمكان رؤية الإمام (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة

إمكان رؤية الإمام (عجّل الله فرجه)  في عصر الغيبة

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد الطَّيبين الطَّاهرين.

تتِّخذ مسألة إمكانيَّة رؤية الإمامx مكانة مهمَّة في عقيدتنا؛ وذلك باعتبار ما يكتنفها من تساؤلات كثيرة، من أهمِّها سؤال الاستفادة من الإمام في زمان غيبته وعدم توفُّر سفير أو نائب خاصٍّ يتَّصل من خلاله المجتمع المؤمن بالإمام.

وهذا البحث يتناول مسألة إمكانيَّة اللِّقاء بالإمام من عدمها؛ اعتماداً على ما ورد من نصوص روائية في المسألة، وذلك بعد تقديم مقدِّمتين.

المقدِّمة الأولى: في المقصود من عنوان الغيبة

ظاهر النُّصوص -كما يأتي- أنَّ المقصود من الغيبة هو "غياب تشخيص الأمَّة للإمامl".

وإيضاح ذلك بإيضاح ما يترتَّب على هذا التَّعريف:

أوّلاً: لا إشكال ولا مانع من رؤيتهl ولكن من دون معرفته؛ وقد دلَّت على ذلك جملة من الأخبار المعتبرة منها: صحيحة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ محمّد بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: >وَاللَّهِ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ يَحْضُرُ الْمَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَيَرَى النَّاسَ وَيَعْرِفُهُمْ، وَيَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ"([2]).

والصَّحيحة صريحةٌ في أنَّ الرُّؤية التي لا تتضمَّن معرفة أنَّ هذا المرئي هو الإمامl واقعة وحاصلة.

وكون الرِّواية منتهية بالعمريO غير ضائر بعد أن ثبتت نيابته الخاصَّة عن الإمامl المساوقة لجعله حجَّة فيما ينقله من أحوالٍ للإمام.

وبمثل هذا يتَّضح ما ورد في بعض الأخبار من تنظير غيبتهl بغيبة نبيِّنا يوسفg؛ مثل معتبرة فَضَالَةَ عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الصَّادِقَg يَقُولُ:‏ >وما ينكر النَّاس أَنْ يَكُونَ صَاحِبُكُمُ الْمَظْلُومُ الْمَجْحُودُ حَقُّهُ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمْ، وَيَمْشِي فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَيَطَأُ فُرُشَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَهُ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ نَفْسَهُ، كَمَا أَذِنَ‏ لِيُوسُفَ‏ حَتَّى قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ:‏ {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ}‏<([3]).

ووجه التَّشبيه أنَّ النبيّ يوسفَg كان يتولَّى المناصب في مصر، ويدير الكثير من شؤون المجتمع، وكانg معروفاً بشخصه عندهم إلا أنَّهم لم يعرفوا صفته وعنوانه وهو عنوان النُّبوَّة والولاية.

وهذا معنى ما يقال في كلمات الأعلام من أنَّ الغيبة غيبة عنوان وليست غيبة شخص، فإنَّ معناها أنَّ الإمام يمارس الأدوار الموكلة إليه من التَّسديد والتَّأييد، ولكنَّ ممارسته لهذه الأدوار ليست بعنوان كونه إماماً، أي: لا ينكشف أنَّ هذا الذي يمارس هذا الدَّور هو الإمامl.

ومن خلال هذا المعنى يُفهم الوجه أيضاً في تشبيه الاستفادة منهl في عصر الغيبة بالاستفادة من الشَّمس عندما يحجبها السَّحاب، فهو يمارس أدواراً بلا إشكال ولا ريب، وتصلنا فوائد وجوده المبارك إلّا أنَّه لا يظهر لنا أنَّ من قام بها هو الإمامl.

نعم، دور التَّبليغ الظَّاهري وتبليغ الأحكام بشكلٍ مباشرٍ أو بشكلٍ خفيٍ ليس مناطاً به في عصر الغيبة الكبرى.

يقول الشَّيخ المجلسيO في البحار: "إنَّ نور الوجود والعلم والهداية يصل إلى الخلق بتوسطه×، إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنَّهم العلل الغائية لإيجاد الخلق، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم، وببركتهم والاستشفاع بهم والتوسّل إليهم يظهر العلوم والمعارف على الخلق، ويكشف البلايا عنهم، فلولاهم لاستحق الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، ولقد جرَّبنا مراراً لا نحصيها أنَّ عند انغلاق الأمور وإعضال المسائل والبعد عن جناب الحقِّ تعالى وانسداد أبواب الفيض لما استشفعنا بهم وتوسَّلنا بأنوارهم فبقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت تنكشف تلك الأمور الصَّعبة، وهذا معاين لمن أكحل اللهُ عين قلبِه بنور الإيمان، وقد مضى توضيح ذلك في كتاب الإمامة([4]).

تتمَّة: الدَّليل على الغيبة العنوانيّة

وقد اشتهر عند أعلامنا التَّعبير عن هذه الغيبة بالغيبة العنوانيَّة؛ جمعاً بين ضرورة وقوع الغيبة وبين ما دلَّ الدَّليل عليه في علم الكلام -بقاعدة اللطف- من ضرورة وجود إمامٍ في كلِّ عصرٍ يقوم بمهام الإمامة التي منها ما يتعلّق بتبليغ الأحكام وأخرى تتعلّق بمبدأ الوجود واستمرار الفيض، وارتباط الناس بالله سبحانه وتعالى، هذا المهام بتمامها تثبتها قاعدة اللطف.

ولمزيد من التوضيح نلاحظ أموراً ثلاثة: 

1ـ لا بدَّ من وجود إمامٍ يمكن معرفته لكي يصحَّ التَّكليف بمعرفة الإمام كما ورد في الحديث: >مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة<([5])، حيث يُثبت أنَّ هناك تكليفاً بمعرفة الإمام، وأنَّ المكلَّف إذا لم يعرفه مات ميتةً جاهليةً.

2ـ  إنَّ المصحِّح لهذا التَّكليف وجود الموضوع الذي نكلّف بمعرفته وهو الإمام.

3ـ  إنَّ المعرفة المطلوبة في معرفة الإمامg هي أن نعرف شخصه ومشخصّاته ومقام إمامته المجعولة من قِبل الله تعالى، وما يترتَّب عليها من لزوم إطاعته ومتابعته.

ومن المطلوب أيضاً معرفة مقاماتهم الأخرى -ولو على نحو الإجمال-، وهي مقاماتi صعبة الإحصاء فضلاً عن الإدراك، فمنها ما ورد في الزِّيارة الجامعة الكبيرة >وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماء أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ إِلاّ بِإذْنِهِ<، يعني متى ما وجد ترتبت هذه الآثار، ومنها: أنَّ ارتباطنا بالله تبارك وتعالى يكون عن طريقهم >بِكُمْ يُسْلَكُ إلَى الرِّضْوانِ<، وكذا من مقاماتهمi: >بِمُوَالاتِكُمْ عَلَّمَنَا اللَّهُ مَعَالِمَ دِينِنَا، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ فَسَدَ مِنْ دُنْيَانَا<، وغير ذلك من المقامات.

ونتيجة ذلك: إنَّ معرفة الصِّفات وتوفرّها في شخصٍ فرعُ رؤية آثارها، فإنَّا إذا لم نرَ آثارها لم نجد سبيلاً لمعرفة هذا الشَّخص، فلو قلنا بالغيبة الشخصيّة للإمام بمعنى نفي أيِّ حضورٍ أو وظيفة يقوم بها، فسيكون خلف ما فرض من ضرورة وجود الإمام وتسنّمه للمقامات التي سبق ذكرها بحسب قاعدة اللطف، فلأجل ذلك نقول: إنَّ غيبة الإمام ليست غيبة شخص تنقطع معه تمام المهام، وإنَّما هو# ينزل إلى الناس ويطأ بسطهم كما ذكرت الرِّواية، ويطّلع على أحوالهم ويسدّدهم ويشفع لهم، ويقضي حوائجهم، سواء عرف النَّاس من الذي قام بهذا الفعل أم لم يعرفوه، فإنَّ معرفة وتشخيص النَّاس من قام بها الفعل ليس دخيلاً فيما يقوم به من أعمالٍ.

وهذا التَّقريب مستفاد من الرِّوايات الكثيرة، منها معتبرة أحمد بن إسحاق قال: "دخلت على أبي محمَّد الحسن بن عليّh وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: >يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدمg، ولا يخليها إلى أن تقوم السَّاعة من حجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزّل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض<. قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهضg مسرعاً فدخل البيت، ثمَّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثَّلاث سنين، فقال: >يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله! وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا ...<، ([6]) الرِّواية.

وخلاصة هذه المقدِّمة: أنَّ الإمام يرى النَّاس ويرونه، ولكن مكمن المشكلة أنَّهم إذا رأوه لا يعرفونه، فغيبته لا تتنافى مع ما ذكر في علم الكلام من ضرورة وجود إمام في كلِّ عصر.

المقدِّمة الثَّانية: في المقصود من السَّفارة

والمستفاد من النُّصوص الدالَّة على تعيين السُّفراء الأربعة، والوظيفة التي أُنيطت بهم هو أنَّ السَّفارة: "وساطة خاصَّة بين الإمام والنَّاس في تبليغ الأحكام".

وبهذا تختلف السَّفارة عن الوكالة، وعن النِّيابة العامّة، وهذا المعنى للسَّفارة قامت الضَّرورة المذهبية وتواترت الرِّوايات على بطلانه، وعلى تكذيب مَن يدَّعيه في عصر الغيبة الكبرى([7]).

والمترتِّب على هاتين المقدِّمتين أمورٌ:

الأمر الأوّل: كون الإمامl مسدِّداً ومتصرِّفاً مع عدم معرفته بعنوانه ممّا لا إشكال فيه، لأنَّ الانقطاع من جهتنا وليس من جهته.

الأمر الثَّاني: أنَّ كلَّ دعوى مشاهدة تتضمّن دعوى الوساطة بين الإمامl وبين النَّاس فإنَّها دعوى كاذبة.

الأمر الثَّالث: أنَّ كلَّ دعوى ظهور علنيّ للأمّة كافة من قِبل الإمامl فإنَّها دعوى كاذبة قطعاً.

تحرير محلِّ النِّزاع:

وبحسب المقدّمتين فإنَّ محلَّ النِّزاع هو دعوى اللقاء والمشاهدة الحسّيّة الشخصيّة من دون دعوى الوساطة، فهل هي ممكنةٌ أم لا؟ وهل وقعت أم لم تقع؟

كلمات الأعلام في مسألة الرُّؤية:

ويجدر بنا أن نلاحظ بعض كلمات القدماء من أعلامنا في هذه المسألة؛ لكي يتجلَّى لنا كيفية تلقّيهم لهذه المسألة، ولما يترتَّب على ذلك من تحصيل قرائن على مفاد الرِّوايات سلباً أو إيجاباً.

ومن أقدم ما وصلنا حول هذا الموضوع ما ذكره السيِّد المرتضىO حيث قال:  "إنّه غير ممتنع أن يكون الإمام× يظهر لبعض أوليائه ممَّن لا يخَشى من جهته شيئاً من أسباب الخوف، فإنَّ هذا ممَّا لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه، وإنما يعلم كلُّ واحد من شيعته حال نفسه، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره"([8]).

وحاصل ما أفاده+:

 أنَّ الإمامl يمكن أن يظهر لبعض أوليائه ظهوراً فردياً، وليس لكلِّهم على نحو الظُّهور العلنيّ للأمَّة.

 يشترط أن يكون هذا الوليّ ممَّن لا يُخشى من جهته، كأن يأتي بأحكامٍ بعد ذلك، أو يُعرِّف النَّاس بمكان الإمامl، أو يدَّعي لنفسه مقاماً ليس له، وما شابه ذلك.

وقد أضاف السيّد المرتضىO في الكتاب نفسه في موضع آخر:

"إنّا غير قاطعين على أنَّ الإمام لا يصل إليه أحد ولا يلقاه بشر، فهذا أمر غير معلوم ولا سبيل إلى القطع عليه"([9]).

ومفاد عبارته إمكانية اللقاء بالإمامl وعدم امتناع ذلك، وذلك من جهة عدم الدَّليل على الامتناع؛ فيكون الإمكان المقصود هنا هو الإمكان العامّ، من غير تعرّض لوقوعه من عدمه.

وذكر شيخ الطائفة الشّيخ الطوسيّO: "إنَّ الأعداء وإن حالوا بينه وبين الظُّهور على وجه التَّصرّف والتَّدبير، فلم يحولوا بينه وبين لقاء من شاء من أوليائه على سبيل الاختصاص، وهو يعتقد طاعته ويوجب اتّباع أوامره"([10]).

وأضاف: "إنَّا لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه، بل يجوز أن يظهر لأكثرهم"([11]).

وعبارته صريحة في إمكان رؤية الإمامl وعدم امتناع ذلك، ومقصوده من المنع عن التصرّف والتدبير هو التصرّفات بصورة علنية يُعرف من خلالها كونه الإمام.

والمراد من جواز ظهوره للأكثر هو الظهور لهم فرداً فرداً أو جماعة لكن لا على نحو الظهور العلنيّ الذي يتوقَّف على حصول العلامات المنصوصة.

والمتحصَّل: إنَّ علماءنا الأوائل الذين يمثّلون الطَّائفة في تلك الفترة عباراتهم واضحة في إمكان الرُّؤية، ويمكن من خلال كلمات هذين العلمين أن نستكشف أنَّ علماء الطَّائفة في الطَّبقة الأولى من عصر الغيبة الكبرى كيف تلقَّوا هذه المسألة، كما ينبغي الالتفات إلى أنَّ غاية ما ذكروه هو عدم امتناع ذلك لا وقوعه.

وهذه قرينة مهمَّة في كيفية فهم النُّصوص التي صدرت في تلك الفترة، لأنَّنا نريد أن نعرف كيفية تلقّي الأصحاب له في تلك الفترة، وأكثر ما ينفع في ذلك أن نرى القريبين من هذه الأجواء من الشخصيات العلميّة كالسيّد المرتضىO والشّيخ الطوسيّO وكيفية تلقّيهم للحديث، خصوصاً مع ملاحظة أهمية هذين الكتابين، أعني: كتاب تنزيه الأنبيّاء للسيّد المرتضىO الذي أكثره في المناقشة مع العامَّة، حيث يبيّن فيه رأي الإمامية في قبال آراء العامة الذين قالوا بعدم عصمة الأنبيّاء وإمكان صدور الخطأ منهم إمَّا في غير التبليغ أو قبل النبوّة، وكتابَ الغيبة للشّيخ الطوسيّO الذي يمثّل أهمّ كتاب كتبه عالم إماميّ في الحديث عن الغيبة وأحوال السُّفراء ومن ادَّعى السَّفارة زوراً([12])؛ ممَّا يعني أنَّ هذين الكتابين ذكرا في مقام التحدّي والاحتجاج على الفرق الأخرى، وهذا يعطي خصوصيّة للكتاب والآراء المطروحة فيه.

البحث حول الرِّواية:

إذا تنقّح ذلك فيقع البحث حول الرِّواية المشهورة التي تنفي المشاهدة في عصر الغيبة وكذلك أيضاً -من جهة أخرى- تلزمنا بتكذيب من يدّعي المشاهدة؛ فهي تتضمّن أمرين: 

الأمر الأوّل: أنَّ مَن يدّعي المشاهدة غير صادق.

الأمر الثَّاني: أنَّ مَن يدّعي المشاهدة يجب علينا تكذيبه. 

ونتعرّض لخصوص الأمر الأوّل، وأمّا الثاني فهو موكول للأبحاث الفقهيّة، وذلك في عدّة مقامات.

الأوّل: مصدر الرِّواية:

إنّ المصدر الأوّل لهذه الرِّواية -وهي من الرِّوايات المشهورة التي يكثر نقلها- هو كتاب كمال الدِّين وتمام النِّعمة للشيخ الصَّدوقO، ونصّها:

حَدَّثَنَا أَبُو محمّد الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المكتِّب قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشّيخ عليّ بْنُ محمّد السَّمُرِيُّ(قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى النَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ: >بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، يَا عليّ بْنَ محمّد السَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَت الْغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللَّهِ!، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ ادَّعَى الْمُشَاهَدَةَ قَبْلَ‏ خُرُوجِ‏ السُّفْيَانِيِ‏ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعليّ الْعَظِيمِ<- قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا التَّوْقِيعَ، وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِلَّهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَمَضَى›، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ([13]).

وأمَّا المصادر التي جاءت من بعد كتاب كمال الدِّين فكلُّها مصادر طوليّة بالنسبة إليه([14])، فلا أثر لتعدّدها في إثبات صدور الخبر، وإن كانت تشكّل قرينة على تلقّيها بالقبول من قِبل الأعلام.

الثَّاني: ملاحظات المحدِّث النوري، ومناقشتها

ثمّ إنّ المحدِّث النوريO -صاحب المستدرك- بعد أن نقل هذا التوقيع قال: 

"هذا الخبر بظاهره ينافي الحكايات السَّابقة وغيرها ممَّا هو مذكور في البحار، والجواب عنه من وجوه"([15]).

وقبل أن نذكر الوجوه التي ذكرها المحدِّث النُّوريO ننقل مميَّزات الكتاب بحسب ما ذكرها في مقدّمته: 

الميزة الأولى: أنَّه كتبه كاستدراك على ما نقله صاحب البحارO من قصص اللقاء بالإمامl، فقد قال: "وقع في خاطري أنَّه قد سقط عن قلم العلامة المجلسي(رضوان اللّه عليه) في باب من رآهg في الغيبة من المجلد الثَّالث عشر من البحار جماعةٌ فازوا بشرف اللقاء، وحازوا السَّبق الأعلى والقدح المعلى، فلو ضبط أساميهم الشريفة، ونقل قصصهم الطريفة، وغيرهم من الأبرار الذين نالوا المنى بعد صاحب البحار، فيكون كالمستدرك للباب المذكور، والمتمِّم لإثبات هذا المهم المسطور".

الميزة الثانية: اعتماده خصوص الأخبار التي وصلته عن الثِّقات؛ فقد ذكر: "وما سمعته فلا أنقل منه إلا ما تلقيّته من العلماء الرَّاسخين، ونواميس الشَّرع المبين، أو من الصُّلحاء الثُّقات الذين بلغوا من الزهد والتقوى والسداد محلاً لا يحتمل فيهم عادةً تعمُّد الكذب والخطأ، بل سمعنا أو رأينا من بعضهم من الكرامات ما تنبئ عن علو مقامهم عند السَّادات، وقد كنَّا ذكرنا جملة من ذلك متفرِّقاً في كتابنا دار السلام"([16]).

وفي التعقيب على هذه الميزة يحسن أن نذكر آراء بعض الأعلام في منهج المحدِّث النوريّ في جمع الأخبار؛ فقد ذكر السيِّد الإمام الخمينيّ عند حديثه عن دعوى تحريف القرآن كلاماً في حقِّ المحدِّث النوري(أعلى الله مقامه) ينفع أن ننقله هنا، ونصّه: "لو كان الأمر كما توهَّم صاحب فصل الخطاب(الشّيخ النُّوريّ) الذي كتبه لا تفيد علماً ولا عملاً، وإنَّما هو إيراد روايات ضعاف أعرض عنها الأصحاب، وتنزّه عنها أولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثَّلاثة المتقدِّمين¢، هذا حال كتب روايته غالباً كالمستدرك، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجدّ، وهوO شخصٌ صالحٌ متتبِّعٌ، إلا أنَّ اشتياقه لجمع الضِّعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبلها العقل السَّليم والرَّأي المستقيم، أكثر من الكلام النافع، والعجب من معاصريه من أهل اليقظة كيف ذهلوا وغفلوا حتى وقع ما وقع ممَّا بكت عليه السماوات، وكادت تتدكدك على الأرض؟!"([17]).

وقال العلّامة البلاغيّ في حقّه أيضاً: "وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدِّثين المكثرين المجدِّين في التتبّع للشواذ، وأنَّه ليعدّ أمثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالته المنشودة"([18]).

والمقصود من هذا النَّقل ليس إلا بيان أنَّ منهج الشّيخ النوريS في نقل الحديث لم يكن مرضياً، وإن كان هوS في أعلى مراتب الوثاقة والإيمان؛ فهو بالتعبير الرجاليّ "ضعيف في الحديث"، أي: مبانيه في قبول الحديث ضعيفة، وغير مقبولة.

وكيف ما كان فقد ذكر بعد نقل هذه القصص -وهي تسعة وخمسون قصَّة- فائدتين، وما يهمنا منها هو الفائدة الأولى، قال: 

الفائدة الأولى: روى الشّيخ الطوسيّO في كتاب الغيبة عن الحسن بن أحمد المكتِّب والطبرسيO في الاحتجاج مرسلاً أنَّه خرج التوقيع إلى أبي الحسن السمري: >يَا عليّ بْنَ محمّد السَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، الخ..<، وهذا الخبر بظاهره ينافي الحكايات السابقة وغيرها مما هو مذكور في البحار والجواب عنه من وجوه: الأوّل: أنَّه خبر واحد مرسل..الخ".

تصنيف إشكالات الشّيخ النُّوريS

ذكر المحدِّث النُّوريO عدَّة إشكالات حول الرِّواية، ويمكن تقسيمها لثلاثة أقسام:

1ـ ضعف السَّند "جهة الصُّدور".

2ـ عدم تمامية الدَّلالة "جهة الظُّهور".

3ـ معارضتها بأخبار أخرى "جهة الحجّيّة".

القسم الأوَّل: ملاحظاته حول السند

الإشكال الأوّل: أنَّ هذا الخبر خبر واحد وأنَّه مرسل.

والجواب: إنَّ تعبيره بكونه مرسلاً فيه غرابة؛ إذ أنَّه إذا كان مقصوده من الإرسال ما ورد في الاحتجاج، فهذا صحيح؛ لأنَّ كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسيO لم يذكر أسانيد الرِّوايات.

ومع قطع النَّظر عن الكلام حول كتاب الاحتجاج -حيث إنّه تعهّد بأن لا ينقل الرِّواية إلا إذا كان يطمئن بصدورها، ولذلك يذكر بعض العلماء بأنَّ كتاب الاحتجاج ممَّا يؤخذ برواياته؛ لأنَّ الشّيخ الطبرسيO تعهّد بألّا ينقل إلا الرِّوايات المشهورة والرِّوايات المعتمدة- فهنا عدَّة تعليّقات:

التعليّق الأوّل: إنَّ المصدر الأوّليّ لهذه الرِّواية -كما تقدّم - هو كتاب كمال الدّين وتمام النعمة، فكان من المفترض -من ناحية صناعيّة- على المحدِّث النوريO أن يرجع إلى الرِّواية في مصدرها الأوّل.

التعليّق الثاني: إذا رجعنا إلى كتاب كمال الدّين وتمام النعمة فإنَّنا نجد أنّ الرِّواية ليست مرسلة، بل سندها متّصل إلى السمريّ.

 نعم، في سندها الشّيخ المكتِّبO (يعني: معلِّم الكتابة)، وهو ممّن لم يرد في حقّه توثيق خاصّ، ولكن يمكن توثيقه من خلال طرق متعدّدة، من أهمّها:

1ـ أنَّه من مشايخ الشّيخ الصدوق الذين ذكرهم كثيراً مترحِّماً مترضِّياً عليه، وهذا واحد من أمارات الوثاقة، وهذا هو الوجه المشهور في توثيقه.

2ـ أنَّه من المعاريف، ولم يرد في حقِّه أي قدح أو ذمّ؛ فيكون دليلاً على الوثاقة أيضاً.

وهذان الوجهان -على فرض تماميّة صغراهما- غاية ما يدلّان عليه أنّه شخصيةٌ صالحة لها مقام عالٍ، وهذا المقام يمكن أن يجتمع مع عدم الوثاقة بالمعنى الاصطلاحيّ؛ فإنّ الوثاقة مأخوذ فيها كون الراوي غير متعمِّدٍ للكذب ضابطاً في نقله، وما يثبته هذان الوجهان من حسن الحال أو حتى العدالة غايته إثبات أنّه لا يتعمّد الكذب، ولكن لا يثبت أنّه ضابطٌ في النَّقل بل هو بحاجة لمؤنة زائدة على ذلك؛ كتتبّع رواياته والرُّواة عنه، وما شابه ذلك من أمور تثبت ضبطه في النقل.

([19]): أنَّه كان ممن ترد عليه المكاتبات من الناحية المقدّسة، وقد ذكر الشّيخ الطوسيّO في كتاب الغيبة أنَّ التوقيعات كانت تصدر من الإمامl إلى جماعة كلّهم من الثقات، قال الشّيخ الطوسيّ O: "وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل"([20]).

وهذا الوجه غير تامّ؛ فإنّ المقصود ممّن ترد عليهم التوقيعات هم الشخصيات التي يخصّها الإمامl بالمكاتبة، ولذا جعل الشّيخ من أمثلته الشّيخ محمّد بن عليّ بن نوبخت، قال: ".. عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن نوبخت قال: عزمت على الحجّ وتأهبّت فورد عليّ: >نحن لذلك كارهون<".([21])

والشّيخ المكتِّبO لم يُذكر في حقّه ورود توقيع خاصّ عليه، والرِّواية التي ينقلها والتي هي محلّ كلامنا ليس فيها إلّا كونه حاضراً حين قراءة التوقيع الشريف، والتوقيع إنما خرج إلى أبي الحسن السمريّ، وهذا لا علاقة له بما ذكره الشّيخ الطوسيّ من التوثيق. وعليه فإنّ هذه الوجوه غير نافعة في التوثيق.

وجه اعتبار الرِّواية

والوجه المختار في اعتبار الرِّواية ووثاقة الشّيخ المكتِّب هو نقلها من قِبل الأعلام من دون توقّفٍ فيها أبداً مع كون مضمونها ذا تأثير كبير جداً وأساسيّ في مسار وعقيدة الإماميّة الإثني عشريّة، أعني: وقوع الغيبة الكبرى، ومثل هذا المضمون لا يقبل إلّا مع الاستيثاق التامّ بصدوره، وقد انحصر هذا المضمون فيها؛ فلو كان ثمّة تشكيكٌ أو توقّفٌ في النقل أو الناقل لبان وانتشر؛ لأنّ طبيعة هذا النقل وطبيعة الظرف الذي نُقلت فيه تفرض ذلك.

وهذه نكتة عامّة يمكن الاستفادة منها في الكثير من الموارد، وتطبيقها بحاجة لدقّة.

إذن فالرِّواية لا محلّ للتوقّف في صدورها.

الإشكال الثَّاني: للمحدِّث النوري

ثمَّ قال: "فكيف يجوز الإعراض عنها لوجود خبر ضعيف.

وقد تقدّم أنَّ الرواة الواقعين في سلسلة سند الخبر السابق كلّهم من الأجلّاء، -وهذا للإنصاف من الغرائب-، فبالرغم من تتبّع وخبرة المحدِّث النوريO الكبيرة جداً في الحديث وفي الرجال فإنَّه يصف هذا الخبر بالضعيف! ولم أجد وجهاً لحمل كلامه على محمل صحيح، فإن كان يريد بالضَّعف إرساله على ما ورد في الاحتجاج فهو كلام صحيح، لكن الرِّواية وردت في مصدرها وهو كمال الدين وتمام النعمة، فمن المقصود بالضعف؟ الشّيخ الصدوق أم المكتِّب أم السمري؟ فيتعيّن أن يكون مراده من الضعيف هو المكتِّبO، وقلنا بأنّه وإن لم يرد في حقه توثيق خاص، إلا أنّ التوثيقات العامّة تشمله، فتعبيره بكون الرِّواية مرسلة وضعيفة في غير محلّه. 

ثم لو سلّمنا وقلنا بأنَّ المكتِّب لم يثبت له توثيق، فإن توصيف الرِّواية بأنها ضعيفة غير صحيح، بل حينئذٍ توصف بأنّها حسنة، فإنّه لا إشكال في كون المكتِّب من علماء الإمامية الممدوحين.

الإشكال الثالث: للمحدِّث النوري

قالO: "لم يعمل به ناقله، وهو الشّيخ في الكتاب المذكور كما يأتي كلامه فيه، فكيف بغيره"، أي أنَّ الرِّواية مُعرض عنها.

وهذه الملاحظة من المحدِّث النوريO أيضاً مبنية على أنَّ مَن نقل الرِّواية هو الشّيخ الطوسيّO، وقد ذكرنا أنَّ مصدر هذه الرِّواية ليس هو الشّيخ الطوسيّO، فلا يقال: إنَّ مَن نقل الرِّواية لم يعتمد عليها، إذ مصدر الرِّواية هو الشّيخ الصدوقO، والشّيخ الطوسيّO إنما ينقلها عن الشّيخ الصدوقO، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فهل أنَّ الشّيخ الطوسيّO قد أعرض عن الرِّواية أم لم يعرض عنها؟ 

استفاد المحدِّث النوريO أنَّ الشّيخ الطوسيّO قد أعرض عن الرِّواية من خلال العبارة التي ذكرناها سابقاً عن الشّيخ الطوسيّO وهي قوله: "إنّا لا نقطع على استتاره عن جميع أوّليائه، بل يجوز أن يظهر لأكثرهم، ولا يعلم كل إنسان إلا حال نفسه"، وهنا عدّة ملاحظات: 

الملاحظة الأولى: أنَّ الإعراض يعني نظر الفقيه إلى الرِّواية ثمَّ تركها، فالإعراض الكاسر لحجّيّة الرِّواية لا بد فيه أن تكون الجهة التي كانت الرِّواية في صدد إفادتها هي الجهة التي ينظر إليها المعرضون عن الرِّواية.

 والشّيخ الطوسيّO عندما ذكر هذه العبارة لم يكن في صدد محاكمة الرِّواية أو في صدد الردّ على الرِّواية، وإنما كان في مقام بيان إمكان رؤية الإمامl وليس له أي نظر للرواية.

الملاحظة الثانية: أنَّ هناك فرقاً بين مفاد الرِّواية ومفاد كلام الشّيخ الطوسيّO، فإنَّ مفاد كلام الشّيخ الطوسيّO هو إمكان الرُّؤية، بينما الرِّواية -على أحد تفسيراتها كما سيأتي- ناظرة إلى مقام المشاهدة الفعليّة، أي نفي الوقوع لا نفي الإمكان.

الملاحظة الثالثة: إنّ هذا الإعراض -لو سلّم به- ليس كاسراً لحجّيّة الرِّواية؛ فإنّه إعراض نشأ عن نكتة صناعية بنظر الشّيخ، ومثل هذا لا يكشف عن وجود خللٍ في النقل يستوجب التوقّف عن الأخذ بالرِّواية.

 هذا، والرِّوايات التي دلّت على عدم رؤية الإمامl في زمن الغيبة الكبرى لا تختص بهذه الرِّواية، بل الرِّوايات في هذا الباب إن لم تكن متواترة فهي مستفيضة، كالرِّوايات التي شبَّهت الإمامl بالشمس حين يحجبها السحاب، فالوجه في هذا التشبيه عدم مشاهدته مع الاستفادة منه، والرِّوايات التي شبّهت غيبته بغيبة نبيّنا يوسفg، فوجه التشبيه فيها أنَّه يُرى ولكن لا يعرف، والرِّوايات التي تفيد بأنه >حَتَّى يُقَالَ مَاتَ أو هَلَكَ فِي أَيِّ وَادٍ سَلَك<([22])‏، لأنَّنا لا نراه ولا ندركه، وكذا ما دلَّ على حضوره الموسم وأنّه يرى الناس ولكن لا يرونه؛ فهذه الرِّوايات بمجموعها تنتج لنا أنَّ نفي المشاهدة عنهl أمرٌ مستفيض، فليس الخبرُ خبرَ واحد لا يوجب علماً، بل مجموع هذه الرِّوايات ممَّا يفضي إلى الاطمئنان أو القطع بصدور هذا المعنى، بأنَّهg لا يمكن أن يراه أي شخص، ولا يمكن أن يشاهد بصورة عامة، فمناقشات المحدِّث النُّوريO من ناحية السند ليست واردة.

القسم الثَّاني: ملاحظات المحدِّث النوري على مضمون الرِّواية

ثمَّ ذكر مناقشتين حول المتن، ويمكن صياغتهما بصياغة صناعيّة([23])، بأن يقال: إنّ نفي المشاهدة في هذا الحديث يواجَه بمحذور شرعيّ، وبمحذور عقليّ. 

المحذور الشَّرعيّ: وهو الرِّوايات التي بيَّنت أنَّ هناك خاصّة من أوّليائه× يلتقون به.

المحذور العقليّ: وهو وجود تواتر في رؤية الإمامg ومشاهدته وجريان الكرامة على يدهg. 

وبالتَّالي لا بدَّ من التصرُّف في كلمة "المشاهدة".

وبعبارة أخرى: لا إشكال ولا ريب أنَّ الظَّاهر من كلمة "المشاهدة" هو المشاهدة الحسّيّة، إلا أنَّ كثيراً من أعلامنا حملوا هذه الكلمة في الرِّواية على أنَّ المقصود بها هو دعوى السَّفارة، والقرينة على ذلك هي المحذوران الشرعيّ والعقليّ، فلا بدَّ من رفع اليد عن ظهور الكلمة في المشاهدة الحسّيّة وحملها على ما تقتضيه القرينة، وهو دعوى السَّفارة.

والجواب على ما أفاده:

أمّا المحذور الأوَّل(الشرعي): 

فإنَّ النِّسبة بين الطَّائفتين من الرِّوايات ليست هي التَّعارض المستقر؛ لكي نلتزم برفع اليدّ عن ظهور كلمة المشاهدة في معناها، ونصرفها إلى معنى آخر، بل النِّسبة بينهما هي العموم المطلق الذي يتقدّم فيه المقيِّد على المطلق؛ فإنّ الرِّوايات التي دلَّت على إمكان لقائه(عجَّل الله فرجه) هي:

الأولى: صحيحة إِسْحَاق بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ×: >لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ، وَالْأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الْغَيْبَةُ الأولى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ،‏ وَالْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ"([24]).

الثَّانية: معتبرة -أو صحيحة([25])أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِg قَالَ: >لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي غَيْبَتِهِ مِنْ عُزْلَةٍ، وَنِعْمَ الْمَنْزِلُ طَيْبَةُ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ"([26]).

الثَّالثة: خبر الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ الصَّادِقِg قَالَ: "إِنَّ لِصَاحِب‏ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا تَطُولُ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ مَاتَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ ذَهَبَ، فَلَا يَبْقَى عَلَى أَمْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَوْضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا الْمَوْلَى الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ"([27]).

والظاهر أنَّ المقصود بالمولى ليس شخصاً واحداً وإنَّما هو اسم جنس، ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم في صحيحة إسحاق.

والنِّسبة بين الرِّوايات الثَّلاث ورواية المكتِّب التي تنفي المشاهدة نسبةُ المطلق إلى المقيِّد، فيكون مفاد الرِّوايات -بمجموعها- أنَّه من ادَّعى المشاهدة فهو كاذب إلا إذا كان من خاصة مواليه، أو من الثَّلاثين الذين يرفعون الوحشة عن الإمامl.

وهكذا نرى بأنَّنا حافظنا على إطلاق الرِّواية، كما حافظنا على ظهور لفظة المشاهدة وإمكان رؤيته# بما يتلاءم مع الرِّوايات التي دلَّت على حصول المشاهدة.

وأمَّا المحذور الثَّاني(العقلي): فالجواب عليه من جهات:

الجهة الأولى: عدم التَّسليم بحصول التَّواتر؛ وذلك باعتبار أنَّ التواتر من فروع الحسّيّات في علم المنطق، ولذا أضاف الشيخ المظفَّر على تعريف المشهور عبارة "ويمتنع اتّفاق خطئهم في فهم الحادثة"([28]).

والنُّقولات التي نقلها المحدِّث النوريO والمحدِّث المجلسيO أو غيرهم من الأعلام إذا راجعناها سنجد أنَّ أكثرها حدسيّة وليست حسّيّة، أي أنّها ناتجة من تطبيق الرَّائي عنوان الإمام على من رآه؛ فمثلاً لو أنَّ شخصاً طلب حاجةً ما، فصلَّى أربعين ليلة في مسجد الكوفة، ثمَّ أتى له رجل وقضى حاجته سيقوم هذا الشَّخص بحدسِ أنَّ الذي رآه هو الإمامl.

وأكثر القصص المنقولة من هذا النَّوع([29]).

ومثل هذه الحدسيّات لا يحصل تواترٌ بها.

وبعبارة أخرى: أنَّ هذا الشَّخص الذي ذهب إلى مسجد السَّهلة أو جمكران أو غيرها من الأماكن، ثمَّ جاء رجلٌ وقضى حاجته -ولا شكَّ أنَّ هذه الأعمال من المجرَّبات في قضاء الحاجة- كيف يمكنه أن يحدِّد أنَّ الذي جاء وقام بقضاء الحاجة هو الإمامl؟ فلعلَّه شخصٌ مبعوث من قِبل الإمام وليس الإمام نفسه؛ فلا طريق لنا للجزم بأنَّ الذي أدَّى هذا الفعل هو الإمامl.

وهذه الملاحظة إذا رجعنا إلى أكثر قصص اللقاء سنجد هذا التَّساؤل مطروحاً  فيها، ممَّا يعني عدم حصول القيد المأخوذ في حقيقة التَّواتر، وهو امتناع اتّفاق خطئهم في فهم الحادثة.

نعم، قد يجزم الرائي بأنَّ من ظهر له هو الإمامl، ولكن ليس من خلال الرُّؤية الحسّيّة بل من خلال الرُّؤية القلبيّة -وهي أعلى رتبة من الحسّيّة-؛ كما ينقل السيّد ابن طاووسO -وهو ممن نُقِلَ عنه نقولات متعدّدة في لقائه بالإمامl- في رسالته إلى ولده؛ حيث قال ما نصُّه:

"فإن أدركت يا ولدي موافقة توفيقك لكشف الأسرار عليك عرّفتك من حديث المهدي(صلوات الله عليه) ما لا يشتبه عليك، وتستغني بذلك عن الحجج والمعقولات ومن الرِّوايات، فإنَّه(صلّى اللّه عليه) حيٌّ موجودٌ على التحقيق، ومعذور عن كشف أمره إلى أن يؤذن له بتدبير اللّه الرحيم الشفيق، كما جرت عليه عادة كثير من الأنبياء والأوصياء، فاعلم ذلك يقيناً، واجعله عقيدةً وديناً، فإنَّ أباك معرفته أبلغ من معرفة ضياء شمس النهار([30]).

وقال: "وقد احتجنا عند حوادث حدثت لك إليه، ورأيناه في عدّة مقامات في منامات، وقد تولّى قضاء حوائجك بإنعام عظيم في حقّنا وحقّك لا يبلغ وصفي إليه"([31]).

وقال أيضاً: "وممَّا أقول لك يا ولدي محمّد، ملأ اللّه جلَّ جلاله عقلك وقلبك من التصديق لأهل الصدق والتوفيق في معرفة الحقِّ، أنَّ طريق تعريف اللّه جلّ جلاله لك بجواب مولانا المهدي صلوات اللّه وسلامه على قدرته جلّ جلاله ورحمته"([32]).

والتأمّل في هذه الرِّسالة يعطي بأنَّ بعض اللقاء الذي يلتقي به الأوّلياء ليس لقاءاً حسياً، وإنَّما يشاهدونه بمشاهدة خارجة عن حدود عالم المادّة.

ومن هذا القبيل القصص التي تُنقل بما لا يتلاءم مع الجسم المادّي ولا تدخل في نطاق المحسوس، كما لو نقل شخصٌ رؤيته مع عدم حصول الرُّؤية لمن كانوا معه في مجلس الرُّؤية، فمثلُ هذه القصص لا تدخل في دائرة التَّواتر أيضاً؛ لأنَّها خارجة من الأمور المحسوسة، إذ الجسم المحسوس من طبيعته أن يراه الجميع إذا كان في مكانٍ واحدٍ، فإذا رآه شخصٌ واحدٌ فقط نكتشف أنَّه لم يكن قد ظهر له بجسمٍ محسوسٍ.

والنَّتيجة: أنَّ هذه الرِّوايات والقصص التي نُقِلَت على أربعة أقسام:

القسم الأوَّل: رؤية حدسية واجتهاد من نفس الشَّخص.

القسم الثَّاني: رؤية قلبية.

القسم الثَّالث: رؤية لجسم غير مادي.

القسم الرَّابع: رؤية حسّيّة وعددها قليلٌ جداً لا يحصل به تواتر.

تنبيه: إنَّ المحدِّث النوري(أعلى الله مقامه) عنون كتابه بـ "جنَّة المأوى في ذكر مَن فاز بلقاء الحجّة أو معجزته في الغيبة الكبرى"، ممَّا يعني أنّه لم يخصّ الكتاب بذكر حكايات اللقاء، بل نقل فيه حكايات من نالتهم ألطاف الإمام أيضاً.

الجهة الثَّانية: إنَّ التواتر المذكور -لو سلّمنا بحصوله - من قسم التواتر المعنويّ؛ لكون  النقولات المذكورة تشترك في مدلول تحليليٍّ واحد، أعني: المدلول الالتزاميّ لهذه القضايا، وهو إمكان رؤية الإمامl، والمتحكِّم في حصول هذا النَّحو من التَّواتر بشكل أساس هو افتراض عدم وجود مصلحة لدى كلِّ مخبر، وهو غير متوفِّر في كثيرٍ من هذه القضايا؛ ذلك أنَّ جملةً وافرةً منها لم يعرف فيه صاحب القضية ولا ناقلها لكي نتمكَّن من اكتشاف وجود مصلحة خاصَّة من عدمه.

نعم، التَّعبير الصَّحيح عن هذه النُّقولات هو أنَّنا نقطع بصدق بعضها، وهناك فرق كبير بين التعبيرين، أي: تعبير التَّواتر، وتعبير القطع بصدق بعضها؛ فمثلاً لو أمسكنا بكتاب صحيح البخاري فإنَّ لنا أن نقول: إنَّ فيه روايةً صحيحة، فنقطع بوجود أمرٍ صحيحٍ فيه، إذ من البعيد جداً أن لا تكون فيه رواية صحيحة، إلا أنَّ القطع بصحَّة بعضها ولو بقضيةٍ واحدةٍ لا يساوق حصول التَّواتر كما هو واضح.

الجهة الثَّالثة: أنَّنا لو سلّمنا بالتَّواتر، وحصول الرُّؤية إلا أنّ هذا لا يسوّغ لنا أن نرفع اليد عن ظهورٍ ونتصرّف فيه بتحويله إلى معنى آخر، -كما نحوّل لفظة المشاهدة إلى معنى السَّفارة - بل توجد مرتبة أسبق للتصرّف في اللفظ وهي حملها على معنى مقبولٍ مع المحافظة على هذه اللفظة، وقد تقدّم أنّ بالإمكان المحافظة على عموم المنع من المشاهدة مع القول بإمكانية حصوله، بل وقوعه لخاصّة أوليائه؛ كما دلّت عليه الرِّوايات.

القسم الثَّالث: ملاحظات المحدِّث النُّوري على حجّيّة الرِّواية

وحاصل هذه المناقشة منهO: أنَّ الرِّواية لو تمّت سنداً ودلالة فهي معارضة بنصوص أخرى؛ فقد ذكرO أنّها معارَضة بخبر الجزيرة الخضراء: 

قال: "ويمكن الجواب عنه من وجوه.. الثَّالث: ما يظهر من قصَّة الجزيرة الخضراء، قال الشَّيخ الفاضل عليّ بن فاضل المازندراني: فقلت للسيّد شمس الدين محمّد وهو العقب السادس من أولاده×: يا سيدي قد روينا عن مشايخنا أحاديث رويت عن صاحب الأمرg أنّه قال: لماَّ أمر بالغيبة الكبری: من رآني بعد غيبتي فقد كذب، فكيف فيكم من يراه؟

فقال: صدقت إنهg إنما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه من أهل بيته، وغيرهم من فراعنة بني العباس، حتى أنَّ الشِّيعة يمنع بعضها بعضاً عن التحدّث بذكره، وفي هذا الزمان تطاولت المدة وآيس منه الأعداء، وبلادنا نائية عنهم، وعن ظلمهم وعنائهم"([33]).

وبعبارة أخرى: أنَّنا لو سلمنا بظهور التوقيع في تكذيب المشاهدة، فإنَّ هذا الحديث مختصّ بالزمن الذي فيه خوف على الإمامl، بحيث لو قال شخص أنَّه رأى الإمامl يؤخذ بهذا القول، وقد يفشي الأمر ويدلَّهم على مكانهl، فحينئذٍ يطال الأعداء الإمامl ويعرفون مكانه، وأمّا في زمان أو مكان ارتفاع هذا الخوف فيمكن أن يراه.

وبعبارة أدقّ: قضية الجزيرة الخضراء مقيِّدة للتوقيع؛ فهي تفصّل ما تمّ إجماله في النصّ.

التعليق على خبر الجزيرة الخضراء

وقبل أن نذكر الملاحظات على هذه المناقشة ننقل تعليقة للشيخ البهبوديO على هذه القضية ذكرها في تعليقته على البحار في هامش هذا الخبر نصّها:

"هذه قصّة مصنوعة تخيّليّة، قد سردها كاتبها على رسم القصّاصين، وهذا الرسم معهود في هذا الزمان أيضاً يسمّونه رومانتيك، وله تأثير عظيم في نفوس القارئين لانجذاب النفوس إليه فلا بأس به، إذا عرف الناس أنّها قصّة تخيّليّة"([34]). 

أقول: ونعم ما علَّق على هذه القصة.

ونضيف إلى ذلك عدّة أمور يمكن التوقّف من جهتها:

أوّلاً: إنَّ الأشخاص الذين ذكروا هذه القصّة ليسوا معروفين؛ فعلى أي أساس يمكن الاعتماد على نقولاتهم؟!

ثانياً: إنّ ما ذكره من التقييد غريبٌ جداً، فإنّا لو سلّمنا بصحّة هذه القضية لم يصح ارتكاب التقييد في الرِّواية بسببها؛ إذ المقيِّد لا بد أن يكون حجّة لكي يصح رفع اليدّ عن الحجّة الأخرى.

وبعبارة أوضح: شمس الدين المذكور كونه العقب السادس للإمامl لا حجّيّة لقوله بتقييد الرِّواية في زمان دون آخر، فإنَّه ليس إماماً مفترض الطاعة، وهو ليس نائباً خاصّاً للإمامl، فحتى لو كان فقيهاً ومجتهداً فإنَّ هذا القول منه لا حجّيّة له، خصوصاً مع كونه بلا قرينة وبلا شاهد.

هذا عمدة ما ذكره المحدِّث النوريO في مناقشته للرِّواية، وقد ذكر أموراً أخرى الأولى الأعراض عن ذكرها، وصرف الكلام في مدلول الرِّواية.

البحث في مفاد الرِّواية

مفاد التوقيع الشريف: فقد يدّعى أنَّ سياقه دالٌّ على انتفاء السَّفارة أيضاً؛ وذلك بتقريب أنَّ التوقيع في مقام البيان من جهة انقطاع السَّفارة في عصر الغيبة الكبرى بوفاة السّمريO، بحيث تتميَّز الغيبة الثانية عن الغيبة الأولى بذلك، فما كان يميّز الغيبة الصغرى هو وجود السفراء الأربعة، فيريد الإمامg أن يبيِّن أنّه بوفاة عليّ بن محمّد السّمريO ستنقطع هذه الظَّاهرة؛ وأنَّه لا نصَّ على الإيصاء لأحدٍ بأن يقوم مقامه.

فالمقصود من السِّياق هنا هو: ما سيق لأجله الكلام، فإذا كان ما سيق لأجله الكلام بيان انتفاء السَّفارة، فكلمة المشاهدة الواردة في التوقيع تكون قابلة لأن تحمل على المعنى المناسب لهذا السياق وهو حملها على السَّفارة، فيكون المعنى هكذا: "فمن ادّعى السَّفارة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر".

وهذا الحمل للرواية خلاف الظاهر جداً؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: إنّ ملاحظة الرِّواية وظروف صدورها يفيد بأنَّها إعلان لانتهاء الغيبة الصغرى، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا تنتهي إلا بظهور العلامات الحتميّة التي لا يمكن التشكيك فيها، من خروج السفياني والصيحة، وهذا المعنى أجنبيٌّ عن مسألة السَّفارة وعدمها.

وشاهد ذلك تعليّل عدم الإيصاء بوقوع الغيبة الثَّانية: >وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ<؛ أي أنَّه بيان لعدم وجود المقتضي للسفارة الخاصّة في هذه الغيبة؛ لما في الغيبة الثانية من خصوصية التكتّم والتستّر.

الثاني: إنّ الرِّواية في مقام البيان من جهة وقوع الغيبة الثانية، وليس من جهة انقطاع السَّفارة.

والشاهد على ذلك:

قرينة المقابلة؛ فإنّ قولهl: >فلا ظهور إلا بعد إذن الله<، ثمَّ تعقيبه بقوله: >وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة..< ظاهرٌ في المقابلة بين الأمرين.

تعليق عدم كذب دعوى المشاهدة بذكر العلامات المحتومة، من خروج السفياني وحصول الصيحة؛ فإنّها علامات على انتهاء الغيبة الثانية، لا على ابتداء سفارات خاصّة أخرى.

وأمّا قوله: >فلا توصِ..<، فهو مجرَّد تمهيد للمطلب الأساس المراد بيانه، وهو حصول الغيبة الكبرى.

على أنّه لا يصحُّ الاعتماد على قرينة السِّياق بعد وجود قرينة المقيِّد التي تقدّمت؛ إذ لا يصحّ التعويل عليه مع وجود قرينة أقوى منه، فإنّ التقييد قرينة نوعيّة أقوى ظهوراً من قرينة السياق.

هذا من ناحية السياق، وأمّا من ناحية كلمة المشاهدة ذاتها فالتأمّل فيها من جهة مادّتها وهيئتها يفيد أنّ المقصود منها هو الظهور العلنيّ للإمامl المقابل لحالة التَّكتُّم في العمل، أي الحالة التي ذكرتها الرِّوايات بلسان >يرونه ولا يعرفونه<.

أمَّا من جهة المادَّة فإنَّ الظَّاهر من موارد استعمالها تضمّنها لمعنى الوضوح وعدم الريب؛ كقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ..}(البقرة:133)؛ حيث جاءت في سياق نفي وجود أي دليل عند من يرغب عن ملّة إبراهيمg، وكون عمله سفهياً، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..}(البقرة:143)؛ فإنَّها دالَّة على أنَّ الشَّهادة -وهي هنا بمعنى إقامة الحجَّة- لا بدَّ أن يكون فيها وضوح وجلاء، بأن تكون الأمَّة وسطاً لكي تكون شهيدةً قادرة على بيان الحجَّة للأمم الأخرى، وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}(آل عمران:70)؛ دلَّت على مذمتّهم بعد وضوح الأمر إليهم.

ويشهد لدلالتها على ذلك ما ذكره ابن فارس من أنَّ "(شَهِدَ) أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرج شيءٌ من فروعه عن الذي ذكرناه"([35])، وكذا قولهم بأنَّ الشهيد هو العالم إذا أُضيف إلى الأمور الظَّاهرة، وأنَّ الشهادة خبرٌ قاطع([36]).

وأمَّا من جهة الهيئة فإنَّ الأغلب في صيغة المفاعلة دلالتها على التشارك في المادّة؛ فمفاد المشاهدة على هذا هو رؤية كلٍّ من الطرفين الآخرَ مع وضوح وعدم ريبٍ.

وبتعبير آخر: تقدّم في صدر البحث أنّ الرِّوايات دلّت على أنَّ من خواصّ غيبتهg أنَّه يرى النَّاس ويرونه، ويعرفهم ولا يعرفونه، والمشاهدة -مادّة وهيئةً- تختلف عن الرُّؤية بزيادة الوضوح والظُّهور، وصدور الفعل من الطَّرفين عن معرفة؛ فالمقصود من دعوى المشاهدة ما يقابل الوارد في تلك الرِّوايات من أنّهg يعرفهم ولا يعرفونه.

ويؤيّد هذه الاستفادة ما ذكره العسكريّ في الفروق اللغويّة من أنَّ "المشاهد للشيء هو المدرك له رؤيةً"([37])، وأنَّ "الشَّاهد نقيض الغائب في المعنى"([38]).

والمتحصّل ممَّا تقدَّم: أنّ الرِّواية في صدد تكذيب أي دعوى للظهور العلني للإمامl قبل الصيحة والسفياني، وأنّ مدّعي هذا الأمر كاذب مفترٍ.

نعم، قام الدَّليل القطعيّ على انتفاء السَّفارة والوساطة بينه وبين النَّاس في عصر الغيبة الكبرى بأدلَّة أخرى؛ فحمل التَّوقيع على هذا المعنى لا يستلزم انفتاح باب ادّعاء السَّفارة. 

النتيجة

تمَّ التوصُّل في هذا البحث إلى النَّتائج التَّالية:

إنَّ رواية تكذيب المشاهدة معتبرة، بل يمكن دعوى حصول الاطمئنان بصدورها.

إنَّ دعاوى المشاهدة ورؤيا الإمامl لا تصل إلى حدِّ التواتر، بل غايتها هو العلم بصحَّة بعضها.

إنَّ حمل الرِّواية على مدّعي السَّفارة غير تامّ، بل هي بمعنى المشاهدة الحسّيّة.

إنَّ مفاد الرِّواية هو تكذيب أي دعوى للظهور العلنيّ للإمامl قبل العلامات.

إنّ الرُّؤية ممكنة، بل واقعة وهي خاصَّة بـ "خاصّة مواليه"، "الذين يرفعون عنه الوحشة في غيبته".

ملحق:

في بيان الحكايات التي نقلها المحدِّث النوريO في كتابه جنَّة المأوى، وقد تمَّ اعتماد الطبعة الصادرة في شهر شعبان من عام1427 هـ عن مركز الدِّراسات التخصّصيّة في الإمام المهديl.

والمتحصَّل من هذه الحكايات أنَّ سبعاً منها يمكن القول بكونها حسّيّة، ثلاثُ منها([39]) منسوبة إلى السيِّد بحر العلوم، وواحدة لم يعرف الرَّائي فيها([40]).

ومن خلال هذا العرض يعرف وهن دعوى حصول التَّواتر بها.

الرقم

عنوان الحكاية

حسّيّة/حدسيّة

ملاحظات

1محمود  الفارسيّمنام 
2السيّد ابن طاوسSمنام ومكاشفة 
3مدنٌ يحكمها أبناء الإمام "الجزيرة الخضراء".-ليس فيها دعوى باللقاء، والقضية لا يمكن التصديق بها، والمذكور في هامشها من محقِّق الكتاب مهم جداً، فليراجع.
4دعاء العبراتمنام 
5الحاج عليّ المكيّمنام 
6دعاء للشفاء من المرض-لم تذكر كيفية اللقاء، ولا صاحب القضية.
7دعاء لدفع الظلممنامقال: دعاءٌ علّمه سيّدنا المؤمَّل صلوات الله عليه رجلاً من شيعته وأهله في المنام.
8قصّة بناء مسجد جمكرانمنام 
9مكاشفة للسيّد بحر العلومSحدسيّةالحدس من سامع القضية، وحدسه غير مصيب؛ لأنّ الشخص الذي رآه السيّد كان يقول: "مهدي بيا"؛ فلا يصح أن يكون هو الإمام نفسه.
10 جواب استفتاء للسيّد بحر العلومSحسّيّةفيها نقل بأنّ السيّد رأى رؤية حسّيّة، وليس من السيّد مباشرة.
11مكاشفة ثانية للسيّد بحر العلومSحسّيّة 
12تشرّف وكرامة للسيّد بحر العلومSحدسيّة 
13مكاشفة ثالثة للسيّد بحر العلومS-ليس فيها دعوى بالرُّؤية، بل مجرد مناجاة من السيّد للإمام.
14السيّد بحر العلوم+ في مسجد السهلة-ليس فيها دعوى بالرُّؤية.
15الشيخ محمّد حسَنَ السريرةحدسيّة 
16 الحاج عبد الواعظ-ليس فيها دعوى بالرُّؤية.
17السيّد جعفر القزوينيّحسّيّة 
18الحلّاقحدسيّة 
19البدوي في الحرم العلويحدسيّة 
20 السيّد محمّد عليّ العامليّحدسيّة 
21السيّد محمّد عليّ العاملي، والبطيخات الثلاثحدسيّةفي حاشيتها: "ويأتي في ذيل الحكاية الثالثة والخمسين دفع ما ربما يتوهّم في هذه الحكاية وأمثالها من عدم وجود شاهد فيها على كون المستغاث هو الحجّةl".
22الإمام الحجّة# يتم نسخ الكتابمنامذكر في خاتمتها: "ظاهر العبارة يوهم أنّ الملاقاة والمكالمة كان في اليقظة، وهو بعيد، والظاهر أنّه في المنام".           
23المعمِّر بن غوث السنبسي وزوال ملك بني العبّاس-ليس فيها دعوى بالرُّؤية.
24الشيخ إبراهيم القطيفيحدسيةلقاء بغير الجسد المادّيّ
25الإمام الحجّة يرثي الشيخ المفيدS-ليس فيها دعوى بالرُّؤية، بل حدس برؤية خطّهl.
26فارس الصحراء-ليس فيها جزم بأنّ المرئيّ هو الإمام، وفيها أنّهم قالوا: "فلا يمتنع أن يكون هو الإمامl أو أحد الأبدال".
27نور في سرداب الغيبة-ليس فيها دعوى بالرُّؤية، وإنما رؤية نور.
28الشيخ الدخنيّحدسيّة 
29البغدادي الغريق-ليس فيها ذكرٌ للإمام، والتصديق بهذه القضية بعيدٌ.
30جماعة من أهل البحرينحدسيّة 
31إشعاع في فضاء مسجد الكوفة حدسيّة 
32المريض البورميّ-ليس فيها دعوى بالرُّؤية، وإنما شفاء المريض ببركة الإمام l.
33المسك في سرداب الغيبة-ليس فيها دعوى بالرُّؤية.
34مقام الإمام l في النعمانيةحسّيّة 
35الحجّة#يزور الأميرg يوم الأحدحسّيّةلم يُذكر من هو الرائي.
36استخارة منسوبة لصاحب الأمرl-ليس فيها ذكر لكيفية الرُّؤية، ولا الرائي.
37إخبار الإمامlلشخص بمدّة عمره.منام 
38الشيخ الحرّ العامليّمنام 
39مصطفى محمود الخادم في سرداب الغيبةمنام 
40دعاء علّمه الإمام لشخصحدسيّةلم يذكر في القضية كيفية تعرّفه على الإمام إلا ما في ختامها (وكان يشير لصدره) وهو من الراوي، وليس من صاحب القضية، والدعاء المقصود هو : "اللهم عظم البلاء..."
41المتوِّكل بن عمر ورؤيته للإمام lمنامالرائي هو الشيخ محمّد تقي المجلسي، وذكر القضية في ترجمته للمتوكّل بن عمر في شرح مشيخة الفقيه.
42معمَّر بن أبي الدنيا صاحب أمير المؤمنين g-

قال راويها: ولكنّي لا أضمن وقوع الأمر في الواقع على ما حكيت.

 وفيها –أيضاً- أنّ معمَّراً قد شرب من ماء الحياة!.

43ترزق علم التوحيد بعد حينحدسيّةقال: تشهد القرائن بكونه المنتظر المهديّl
44فتح السليمانيةحدسيّة 
45تعريفه l بقبر حمزة بن القاسمحدسيّةفيها ظهور الإمامl بصورة أحد رجال القرية.
46يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزؤامحدسيّة 
47ياقوت السمّانحدسيّةفيها الاستغاثة بأبي صالح، وحدسه خاطئ؛ فإنّ صالحاً أو أبا صالح رجلٌ من الجنّ يغيث الضائع في الصحراء؛ كما دلّت بعض الرِّوايات، لاحظ: وسائل الشيعة، ج: 11، ص: 443
48معاقبة مؤذي الزائرين-ليس فيها دعوى أنّه الإمام (عجّل الله فرجه).
49الشهيد والقافلة-ليس فيها دعوى أنّه الإمام (عجّل الله فرجه).
50كرامة للشيخ محمّد ابن الشيخ حسن-ليس فيه أي ذكرٍ للإمام (عجّل الله فرجه).
51شفاء مريض ببركة الصاحب (عجّل الله فرجه)-ليس فيها دعوى باللقاء، وإنما شفاء لشخص ببركة التوسّل بالإمام.
52أتحب أن ألحقك برفقائك-استغاثة بالإمام وقضاء حاجته.
53الحاجّ والبدويّ-فيها استغاثة بأبي صالح [لاحظ القصّة 47]، وقد ذكر المحدّث نفسه في ذيلها احتمال كونه أحد أعوان الإمام، وليس الإمام نفسه.
54كم هو عذب صوت القرآنحسّيّةعن السيّد بحر العلوم.
55صاحب الزمان يدعو للشيعةحسّيّةمسندةٌ إلى السّيّد ابن طاوس أنّه سمع الإمام يدعو لشيعته.
56نورٌ في الليلة المظلمةحسّيّةأظهر نفسه للمولى عبد الرحيم الدماوندي.
57الهندي الغريق-قريبة جداً من الحكاية التاسعة والعشرين، وفي حاشية محقّق الكتاب: "الظاهر بل المسلّم اتحادهما"، وقال: "من حقّ البعض أن يتوقّف إزاء مثل هذه الحكايات فهي أقرب للأسطورة منها إلى الواقع".
58تفضّل فقد فتحت البابحدسيّة 
59زائر الكاظمين (عليهما السلام)حدسيّة 

 

 


([1]) هذه مجموعة من الدُّروس حول القضيَّة المهدويّة، وقد قام بتقريرها الأخوان سماحة الشَّيخ مفضَّل الشهركانيّ، وسماحة السيِّد أحمد الموسويّ، وقد راجعته بتمامه، فلهما الشُّكر الجزيل، وأسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى ما يحبُّ ويرضى بحقِّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدٍ وآلِه الطَّاهرين.

([2]) بحار الأنوار، ج: ‏52، ص: 152.

([3]) الغيبة للنعماني، ص: 163.

([4]) بحار الأنوار، ج: ‏52، ص: 93.

([5]) كمال الدِّين وتمام النِّعمة، الصَّدوق، ص409.

([6]) كمال الدين وتمام النعمة، ج: 1، ص: 412

([7]) تمّت دراسة هذا التعريف، وإقامة الدليل على ضرورة انقطاع السفارة في عصر الغيبة الكبرى في دروس أخرى.

([8]) تنزيه الأنبياء، ص: 238.

([9]) تنزيه الأنبياء، ص: 308.

([10]) الغيبة، ص: 98.

([11]) الغيبة، ص: 99.

([12]) تنبيه:هناك كتابان بعنوان الغيبة أحدهما للشيخ النعمانيO والآخر للشيخ الطوسيّO، والشّيخ الطوسيّO لا إشكال في كونه شيخ الطائفة فآراؤه التي ينقلها في هذا الكتاب مع توفّر الملكات الشخصية فيه تجعل مما يذكره قابلاً أن نستند إليه بأن نقول إنَّه رأي علمائنا في تلك الفترة

([13]) كمال الدين وتمام النعمة، ج‏2، ص: 516.

([14]) المصادر العرضية: هي التي تنقل رواية واحدة ولا يعتمد أحدها على المصدر الآخر في نقل الرواية، وهذا النوع من المصادر يساهم برفع مستوى الوثوق بصدور الرواية، بينما المصادر الطولية: هي التي تنقل رواية واحدة ويعتمد بعضها على مصدر أسبق منها في نقل الرواية.

([15]) جنة المأوى، ص: 160 .

([16]) جنة المأوى، ص: 13.

([17]) الإمام الخميني، أنوار الهداية في التعليّق على الكفاية، ج: 1، ص: 244 -245

([18]) البلاغي، الشيخ محمّد جواد، تفسير آلاء الرحمن، ج: 1، ص: 25

([19]) ذكره سماحة السيّد ضياء الخبّاز في المهدّويّة الخاتمة، ج: 1، ص: 203

([20]) الغيبة، ص: 415

([21]) المصدر المتقدّم، ص: 416

([22]) الكافي، الكليني، ج1، ص339.

([23]) المهدويّة الخاتمة، ج: 1، ص: 158-159

([24]) الكافي (ط - الإسلامية)، ج‏1، ص: 340.

([25]) على الخلاف في توثق عليّ بن أبي حمزة البطائني.

([26]) الكافي (ط - الإسلامية)، ج‏1، ص: 340.

([27]) الغيبة للنعماني، ص: 171.

([28]) المنطق، ص: 333

([29]) لاحظ الملحق في نهاية الرسالة.

([30]) كشف المحجّة لثمرة المهجة، ص: 104.

([31]) المصدر المتقدِّم، ص: 209.

([32]) المصدر المتقدِّم، ص: 211.

([33]) جنة المأوى، ص: 160.

([34]) بحار الأنوار، ج: ‏52، ص: 159.

([35]) ابن فارس، مقايسس اللغة، ج: 3، ص: 221

([36]) ابن منظور، لسان العرب، ج: 3، ص: 239، ومثله في: الجوهري، الصحاح، ج: 2، ص: 494

([37]) العسكري، الفروق اللغوية، ج: 1، ص: 96

([38]) المصدر المتقدّم، ج: 1، ص: 95

([39])  وهي الحكايات 10، 11، 54.

([40]) وهي الحكاية 35.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا