إحرام الحسين (ع) بين العمرة المفردة وعمرة التمتع

إحرام الحسين (ع) بين العمرة المفردة وعمرة التمتع

 الحسين(ع) فلسفة نُقشت بأقدس الدماء على تراب كربلاء في يوم عاشوراء، فأضحت قلبا ينبض بالأمل بين ضلوع المظلومين، وسيفا ضاربا يقض مضاجع الظالمين.

فكم عاثت أقلام التاريخ المأجورة، وتجرأت أفواه وعاظ السلاطين لإطفاء هذا النور الإلهي المتأجج في قلوب المؤمنين على مر العصور والأزمان، ولكن {َيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(1).

فمن هنا تأتي لابدية أن تُقرأ ملحمة كربلاء الإنسانية قراءة شمولية تنسجم مع الأسس الاعتقادية والأبعاد الأخلاقية والمباني الفقهية؛ لكي تكون كربلاء -كما أرادها الإمام الحسين(ع)- ثورة إصلاحية ينتصر فيها الدم المظلوم على السيف الظالم.

ومن تلك المفردات التي تناولتها المصادر التاريخية مفردة إحلال الإمام الحسين(ع) من إحرامه قبل خروجه من مكة المكرمة، حيث إن يزيد بن معاوية(لعنه الله) أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر وأمَّره على الحاج وولاه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين(ع) أينما وجد(2)، وقد جدوا في إلقاء القبض عليه وقتله غيلة ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة(3)، بيد أن الإمام الحسين(ع) تعجل في الخروج حتى لا يستباح به حرمة بيت الله الحرام(4).

فهل أحل الإمام الحسين(ع) من إحرامه للعمرة المفردة أم لعمرة التمتع؟

فيما يلي سوف أتناول هذه المفردة بما ينسجم مع الرؤية الفقهية مبرزا للحدث التاريخي الذي يتناسب مع مسار البحث.

الحسين (ع) في مدينة جده (ص):

بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى(ع) كتب أهل العراق إلى الإمام الحسين(ع) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع(ع) وذكر أن بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فإن مات معاوية نظر في ذلك.

فلما مات معاوية -وذلك في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة- كتب يزيد بن معاوية(لعنه الله) إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -وكان على المدينة من قبل معاوية- أن يأخذ الحسين(ع) بالبيعة له، ولا يرخص له في التأخر عن ذلك، فأنفذ الوليد إلى الحسين(ع) في الليل فاستدعاه، فعرف الحسين(ع) الذي أراد، فدعا(ع) جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: «إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه مني».

فصار الحسين(ع) إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين(ع)، ثم قرأ كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال له الحسين(ع): «إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرا حتى أبايعه جهرا، فيعرف الناس ذلك، فقال الوليد له: أجل، فقال الحسين(ع): فتصبح وترى رأيك في ذلك، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس. فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين(ع) وقال: أنت -يا ابن الزرقاء- تقتلني أو هو؟! كذبت والله وأثمت، وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله»(5).

خروج الحسين(ع) من المدينة ودخوله مكة:

أقام الحسين(ع) في منزله تلك الليلة، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، فلما كان آخر نهار يوم السبت بعث الوليد بن عتبة الرجال إلى الحسين بن علي(ع) ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية(لعنه الله)، فقال لهم الحسين(ع): «أصبحوا ثم ترون ونرى»، فكفوا تلك الليلة عنه ولم يلحوا عليه، فخرج(ع) من تحت ليلته -وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب- متوجها نحو مكة ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه وجل أهل بيته، وكان دخوله إليها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان(6).

أي أن الإمام(ع) بقي في المدينة بعد أن استدعاه الوليد بن عتبة ليلتين، وما ذكره الشيخ المفيد(ره) في الإرشاد يوافق ما في تذكرة الخواص، حيث جاء: «وخرج الحسين في الليلة الآتية بأهله وفتيانه، وقد اشتغلوا عنه بابن الزبير، فلحق مكة»(7)، إلا أن السيد ابن طاووس(ره) في كتاب اللهوف يقول: «قال رواة حديث الحسين(ع) مع الوليد بن عتبة ومروان: فلما كان الغداة توجه الحسين(ع) إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة»(8)، وهذا يعني أن الإمام الحسين(ع) لم يبقَ في المدينة بعد لقائه بالوليد إلا تلك الليلة نفسها، حيث إنه خرج من أول الصباح إلى مكة، بلحاظ أن الغداة تعني التبكير في الخروج، فهي من الغدوة بالضم: أي البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس(9)، وقد يقال بأن الصحيح ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد من أنه(ع) بقي في المدينة ليلة أخرى بعد لقائه بالوليد؛ وذلك لقرينتين:

الأولى: أن لقاء الإمام الحسين(ع) بالوليد بن عتبة كان في ساعة متأخرة من الليل؛ حيث إن الوليد قد أنفذ إلى الحسين(ع) في الليل(10)، وهذا ما توحي به كلمات الإمام الحسين(ع) حينما استدعاه الوليد في تلك الليلة باعتبار أنه استدعاء غير متوقع من حيث الوقت، ولا يكون ذلك غالبا إلا إذا كان في وقت متأخر، حيث قال(ع): «إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون»، ويؤيد هذا المعنى ما ذكره الطبري في تاريخه وابن الأثير في كامله، حيث قالا -مع تفاوت بسيط في العبارة-: «فأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان -وهو غلام حدث- إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، فقال: أجيبا الأمير. فقالا: انصرف، الآن نأتيه، وقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟ فقال الحسين: أظن أن طاغيتهم -يعني معاوية- قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر»(11)، إضافة لما ذكرته بعض الأخبار من أنه(ع) ذهب لزيارة قبر جده المصطفى(ص) مرتين، وذهب لزيارة قبر أمه الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء(ع)، وذهب لزيارة قبر أخيه الإمام الحسن(ع)، وقد التقى(ع) بأم سلمة(رض)، وبمحمد ابن الحنفية(رض)، وبعمر الأطرف، وبنساء بني هاشم، وبمروان بن الحكم، وبغيرهم(12)، فهذه الأحداث لا تتسع -من حيث الزمان- لكل ذلك في تلك الليلة، مضافا لمسألة الاستعداد للرحيل.

الثانية: انشغال الوليد بن عتبة بابن الزبير، يقول أصحاب السير: «واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن الزبير من ليلته من المدينة متوجها إلى مكة، فلما أصبح الوليد سرح في أثر ابن الزبير الرجال فبعث راكبا من موالي بني أمية في ثمانين راكبا فطلبوه ولم يدركوه ورجعوا، فلما كان آخر النهار من يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين[(ع)] ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسين: «أصبحوا ثم ترون ونرى»، فكفوا تلك الليلة ولم يلحوا عليه، فخرج[(ع)] من تحت ليلته، وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة»(13). وذلك بملاحظة أن ابن الزبير خرج من المدينة قبل الإمام الحسين(ع)، وبعد أن خرج ابن الزبير، بعث الوليد بجلاوزته مجددا إلى الإمام الحسين(ع) لأخذ البيعة، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن لقاء الحسين(ع) بالوليد كان في ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، وأن خروجه -كما تصرح أغلب كتب السير- كان في ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب(14).

هذا ما يرتبط بخروج الإمام الحسين(ع) من المدينة، أما بالنسبة لدخوله مكة فقد كان في ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بها بقية شعبان و تمام شهر رمضان وشوال وذي القعدة(15).

عمرة مفردة أم عمرة تمتع؟

يظهر من بعض النقولات التاريخية أن الإمام الحسين(ع) قد بدل إحرامه من عمرة التمتع إلى العمرة المفردة، حيث قال الفتال النيسابوري -وهو يتحدث عن خروج الإمام الحسين(ع) من مكة-: «ولما أراد الحسين(ع) التوجه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحل من إحرامه وجعلها عمرة؛ لأنه لا يتمكن من إتمام الحج»(16).

وقال الشيخ الطبرسي في إعلام الورى: «لما أراد الخروج إلى العراق، طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل من إحرامه وجعلها عمرة؛ لأنه لم يتمكن من إتمام الحج مخافة أن يقبض عليه بمكة فينفذ إلى يزيد بن معاوية»(17).

إلا أن الشيخ المفيد في الإرشاد عبر بكلمة «التمام» بدل «الإتمام»، حيث قال: «لأنه لم يتمكن من تمام الحج»(18)، وهي لا تفيد بأنه أحل من إحرام الحج.

وقد فرق بعض المحققين المعاصرين بين كلمتي «تمام» و«إتمام»، فذهب إلى أن مفاد الإتمام هو أنه(ع) قد تلبس بإحرام الحج، بينما مفاد التمام ليس كذلك(19).

وقد صرحت بهذا الأمر -أي التبديل إلى العمرة المفردة- بعض النقولات التاريخية الأخرى، حيث قال القندوزي في ينابيع المودة: «واليوم الذي قتل فيه مسلم بن عقيل -وهو يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة -يوم التروية-- كان فيه خروج الحسين(ع) من مكة إلى العراق، بعد أن طاف وسعى وأحل من إحرامه، وجعل حجه عمرة مفردة؛ لأنه لم يتمكن من إتمام الحج مخافة أن يُبطش به ويقع الفساد في الموسم وفي مكة؛ لأن يزيد أرسل مع الحجاج ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية وأمرهم بقتل الحسين على كل حال»(20).

موقف بعض العلماء من هذه النقولات:

وقد استشكل صاحب مستمسك العروة الوثقى -وغيره- على هذه النقولات التاريخية التي أشارت إلى أن الحسين(ع) قد بدّل عمرته إلى عمرة مفردة، حيث قال: «وأما ما في بعض كتب المقاتل من أنه(ع) جعل عمرته عمرة مفردة -مما يظهر منه أنها كانت عمرة تمتع وعدل بها إلى الإفراد- فليس مما يصح التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل الحديث»(21).

وقال السيد السبزواري في مهذب الأحكام: «كما يسقط بهما -أي رواية اليماني وخبر معاوية، وسوف يأتي ذكرهما قريبا- ما في بعض المقاتل من أن الحسين(ع) بدل حجة التمتع إلى العمرة المفردة؛ لظهورهما في أنه(ع) لم يكن قاصدا للحج من أول الأمر، بل كان قاصدا للعمرة المفردة، فلا يبقى موضوع للتبديل حينئذ»(22)، ومثل هذا السياق تبناه علماء آخرون(23).

وقال السيد الخوئي: «لا ريب في أن المستفاد من الخبرين أن خروج الحسين(ع) يوم التروية كان على طبق القاعدة لا لأجل الاضطرار، ويجوز ذلك لكل أحد وإن لم يكن مضطرا، فيكون الخبران قرينة على الانقلاب إلى المتعة قهرا، والاحتباس بالحج إنما هو فيما إذا أراد الحج، وأما إذا لم يرد الحج فلا يحتبس بها للحج ويجوز له الخروج حتى يوم التروية»(24)، أي أنه لا حاجة إلى التبديل.

وأشار إلى ذلك بعض المؤرخين المعاصرين أيضا، حيث قال: «وهذا -أي التبديل- لا يخلو من تأمل، فإن المصدود عن الحج يكون إحلاله بالهدي حسب ما نص عليه الفقهاء، لا بقلب إحرام الحج إلى عمرة، فإن هذا لا يوجب الإحلال من إحرام الحج»(25).

ولمعرفة ما هو الحق لابد من استعراض الروايات الواردة في المقام، وهي على طوائف، وقبل التعرض لتلك الروايات ينبغي تحرير محل النزاع في المسألة، فالعمرة تارة تقع في غير أشهر الحج، فحينئذ تكون مفردة ولا تتبدل إلى المتعة، وإن بقي المكلف إلى زمان الحج، ولا يوجد قائل بوجوب البقاء عليه إلى الحج، وتارة تقع في أشهر الحج -كما هو محل البحث-، حيث إن الحسين(ع) قد اعتمر في ذي الحجة، وخرج من مكة يوم التروية -الثامن من ذي الحجة-، وقد صرحت بذلك معتبرة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع): «وقد اعتمر الحسين(ع) في ذي الحجة، ثم راح يوم التروية إلى العراق»(26).

طوائف الروايات الواردة في المقام:

الطائفة الأولى: ما دلت على أن المعتمر بالمفردة في أشهر الحج -ولو في شهر شوال- يجب عليه البقاء إلى أن يحج:

منها: صحيحة يعقوب بن شعيب، قال: «سألت أبا عبد الله(ع) عن المعتمر في أشهر الحج، قال: هي متعة»(27). ومقتضى إطلاق هذه الرواية شمولها للعمرة المفردة، فمن اعتمر في أشهر الحج ولو بعمرة مفردة فليس له الخروج من مكة؛ لأن عمرته تحسب متعة، والمعتمر بعمرة التمتع محتبس بالحج ليس له الخروج إلى أن يحج(28).

ويؤيدها: رواية علي بن أبي حمزة، قال: سأله أبو بصير وأنا حاضر عمن أهل بالعمرة في أشهر الحج أله أن يرجع؟ قال: «ليس في أشهر الحج عمرة يرجع منها إلى أهله، ولكنه يحتبس بمكة حتى يقضي حجة؛ لأنه إنما أحرم لذلك»(29).

ويؤيدها أيضا: خبر موسى بن القاسم قال: أخبرني بعض أصحابنا أنه سأل أبا جعفر(ع) في عشر من شوال فقال: إني أريد أن أفرد عمرة هذا الشهر، فقال له: «أنت مرتهن بالحج»(30).

والعمدة هي صحيحة يعقوب بن شعيب، وأما الخبر الثاني فضعيف بعلي بن أبي حمزة البطائني، والثالث بالإرسال(31).

الطائفة الثانية: ما دلت على جواز الخروج لمن اعتمر عمرة مفردة في أشهر الحج:

كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: «لا بأس بالعمرة المفردة في أشهر الحج ثم يرجع إلى أهله»(32).

ومنها: صحيحة اليماني ومعتبرة معاوية بن عمار الآتيتان في روايات إحرام الإمام الحسين(ع).

الطائفة الثالثة: الروايات المقيدة في الخروج، وهي على ضربين:

1) المقيدة بالبقاء إلى هلال ذي الحجة، فمن بقي إلى ذي الحجة فليس له الخروج.

كرواية إسحاق عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله(ع) قال: «من دخل مكة بعمرة فأقام إلى هلال ذي الحجة فليس له أن يخرج حتى يحج مع الناس»(33)، ولم يرد بهذا العنوان في الأخبار إلا هذه الرواية.

2) المقيدة إلى يوم التروية، فمن بقي إلى يوم التروية فليس له الخروج.

كصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله(ع) قال: «من اعتمر عمرة مفردة فله أن يخرج إلى أهله متى شاء، إلا أن يدركه خروج الناس يوم التروية»(34).

الروايات الواردة في إحرام الإمام الحسين(ع):

هناك بعض النصوص المعتبرة التي أشارت إلى إحرام الإمام الحسين(ع) -وهي تندرج ضمن الطائفة الثانية من الطوائف السابقة- منها:

1) صحيحة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله(ع): أنه سئل عن رجل خرج في أشهر الحج معتمرا ثم خرج إلى بلاده؟ قال:«لا بأس وإن حج من عامه ذلك وأفرد الحج فليس عليه دم، وإن الحسين بن علي(ع) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمرا»(35).

2) معتبرة معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال: «إن المتمتع مرتبط بالحج، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين(ع) في ذي الحجة ثم راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج»(36).

الجمع بين الروايات:

مقتضى الجمع العرفي بين الطائفة الأولى -التي دلت على أن المعتمر بالعمرة المفردة في أشهر الحج يجب عليه البقاء إلى أن يحج- وبين الطائفة الثانية -التي دلت على جواز الخروج لمن اعتمر عمرة مفردة في أشهر الحج- هو الحمل على استحباب البقاء إلى أن يحج، أما بالنسبة للروايات المقيدة بالبقاء إلى هلال ذي الحجة، فمن بقي إلى ذي الحجة فليس له الخروج، كما في رواية إسحاق عن عمر بن يزيد -المتقدمة في الطائفة الثالثة- فهي ضعيفة السند بالحسين بن حماد الواقع في السند، فإنه مجهول الحال(37)، حيث لا توثيق له في كتب الرجال، نعم، الصحيح أن الحسين بن حماد ثقة لرواية ابن أبي عمير عنه، إضافة لوجود موسى بن سعدان في سند الرواية، وقد ضعفه النجاشي، ولا توثيق له سوى وروده في تفسير القمي، ولكن حتى لو قبلنا وثاقته من هذه الجهة فإنها معارضة بتضعيف النجاشي له، فلا يمكن القبول بوثاقته، فهذه الرواية لا تصلح كشاهد جمع، وإن أغمضنا النظر عن سند الرواية فمقتضى الجمع حملها على الاستحباب.

وأما الروايات المقيدة إلى يوم التروية فمن بقي إلى يوم التروية فليس له الخروج، كصحيحة عمر بن يزيد -المتقدمة في الطائفة الثالثة- فلا يمكن حملها على الوجوب؛ وذلك لأمرين:

أولا: الإجماع المدعى على الخلاف(38)، ولا يضر ما حكي عن القاضي ابن البراج من القول بوجوب الحج على من أدرك يوم التروية(39)؛ لأنه قول نادر كما صرح بذلك صاحب الجواهر(40)، فلو كان الوجوب ثابتا لكان واضحا جدا، ولقال به الكثيرون، والحال أنه لم يقل به سوى ابن البراج.

ثانيا: ما دل من النصوص المعتبرة على جواز الخروج وإن كان في يوم التروية، كصحيحة إبراهيم بن عمر اليماني -المتقدمة- «وإن الحسين بن علي(ص) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمرا»(41)، وكذلك معتبرة معاوية بن عمار المتقدمة: «وقد اعتمر الحسين(ع) في ذي الحجة ثم راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج»(42).

فمقتضى الجمع حملها على الاستحباب أيضا؛ من باب الاختلاف في مراتب الفضل والاستحباب، فمن بقي إلى هلال ذي الحجة يستحب له الإتيان بالحج، ومن بقي إلى يوم التروية يكون استحباب الحج عليه مؤكدا.

وقد يورد على ما ذكر بإيرادين:

الإيراد الأول: ما حكي عن القاضي ابن البراج يوافق قاعدة حمل المطلق على المقيد، حيث إن الطائفة الثانية مطلقة، والطائفة الثالثة مقيدة، فتحمل المطلقة على المقيدة.

وجواب هذا الإيراد ما ذكره صاحب الجواهر من أن المحكي عن القاضي ابن البراج قول نادر، فلمكان ندرته لا يكافئ المطلق، فيتجه الحمل على الكراهة والندب بالمراتب المزبورة(43).

الإيراد الثاني: خروج الإمام الحسين(ع) كان للضرورة، فلا يصح الاستدلال به في المقام.

وجواب هذا الإيراد ما ذكره صاحب مستمسك العروة الوثقى من أن الإمام الصادق(ع) استدل على هذا الحكم في حال الاختيار فيكون حجة، حيث قال صاحب المستمسك: «واحتمال الضرورة في فعل الحسين(ع) -كما في كشف اللثام، وحكاه في الدروس عن بعض- خلاف، ظاهر الخبرين من الاستدلال بفعله(ع) على الحكم حال الاختيار، فلو فرض ثبوت الاضطرار -كما هو المظنون، وتشهد به بعض الأخبار- فليس دخيلا في الحكم»(44)، وقال السيد الخوئي: «لا ريب في أن المستفاد من الخبرين أن خروج الحسين(ع) يوم التروية كان على طبق القاعدة لا لأجل الاضطرار، ويجوز ذلك لكل أحد وإن لم يكن مضطرا»(45)، وقال أيضا: «والاحتباس بالحج إنما هو فيما إذا أراد الحج، وأما إذا لم يرد الحج فلا يحتبس بها للحج، ويجوز له الخروج حتى يوم التروية»(46)، مضافا إلى أن حكم المصدود عن الحج هو الذبح أو النحر مكان الصد بنية التحلل عن الإحرام، قال صاحب الحدائق: «لو صد في إحرامه ذلك عن الوصول إلى مكة أو الموقفين ولا طريق غير موضع العدو، أو كان ولا نفقة لسلوكه، ذبح هديه أو نحره بمكان الصد بنية التحلل فيحل على الإطلاق سواء كان في الحرم أو خارجه، ولا ينتظر في إحلاله بلوغ الهدي محله، ولا يراعى زمانا ولا مكانا في إحلاله»(47).

وقد ذكرت المتون التاريخية أن الإمام الحسين(ع) لما أراد الخروج إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل من إحرامه»(48)، ولم تذكر تلك المتون التاريخية أنه(ع) ذبح أو نحر بنية التحلل من إحرامه.

والمتحصل مما ذكر هو أن الإمام الحسين(ع) قد عقد إحرامه للعمرة المفردة في ذي الحجة، وتحلل من إحرامه في يوم التروية بعد أن طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وقد كان ذلك على طبق القاعدة.

 

 * الهوامش:

(1) التوبة: 32.

(2) مقتل الحسين(ع)، المقرم: 165.

(3) الخصائص الحسينية: 32.

(4) اللهوف: 128.

(5) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص32.

(6) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2 ص34.

(7) تذكرة الخواص، ص214.

(8) اللهوف على قتلى الطفوف، ص21.

(9) القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ج4، ص369.

(10) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص32.

(11) تاريخ الطبري, الطبري، ج4، ص251، أيضاً الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج4، ص14.

(12) الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج5، ص16.

(13) روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص171.

(14) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص34.

(15) البداية والنهاية، ابن كثير، ج8، ص171.

(16) روضة الواعظين، النيسابوري، ص177.

(17) إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، ج1، ص445.

(18) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص67.

(19) وقعة الطف، ص149، نقلاً عن الشيخ نجم الدين الطبسي من كتاب الإمام الحسين(ع) في مكة المكرمة، ص93.

(20) ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي، ج3، ص59.

(21) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج11، ص192.

(22) مهذب الأحكام، السبزواري، ج12، ص349.

(23) تقريرات الحج للشاهرودي، ج2، ص312، وتقريرات الحج للكلبيكاني، ج1، ص58.

(24) المعتمد في شرح العروة الوثقى، الخوئي، ج27، ص186.

(25) حياة الإمام الحسين(ع)، باقر شريف القرشي، ج3، ص50.

(26) الوسائل 14: 310/ أبواب العمرة، ب7، ح3.

(27) الوسائل 14: 311/ أبواب العمرة، ب7، ح4.

(28) المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج27، ص183.

(29) الوسائل 14: 312/ أبواب العمرة، ب7، ح7.

(30) الوسائل 14: 312/ أبواب العمرة، ب7، ح8.

(31) المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج27، ص184.

(32) الوسائل 14: 312/ أبواب العمرة، ب7، ح1.

(33) الوسائل 14: 312/ أبواب العمرة، ب7، ح6.

(34) الوسائل 14: 313/ أبواب العمرة، ب7، ح9.

(35) الوسائل 14: 310/ أبواب العمرة، ب7، ح2.

(36) الوسائل 14: 310/ أبواب العمرة، ب7، ح3.

(37) المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج27، ص184.

(38) المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج27، ص185.

(39) المهذب، ابن البراج، ج1، ص211.

(40) جواهر الكلام، ج20، ص460.

(41) الوسائل 14: 310/ أبواب العمرة، ب7، ح2.

(42) الوسائل 14: 310/ أبواب العمرة، ب7، ح3.

(43) جواهر الكلام، ج20، ص462.

(44) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج11، ص192.

(45) المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج27، ص186.

(46) المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج27، ص187.

(47) الحدائق الناضرة، ج16، ص7.

(48) إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ج1، ص445.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا