أميرنا -عليه السلام- (القسم الثاني)

أميرنا -عليه السلام- (القسم الثاني)

بسم الله الرحمن الرحيم، وصل الله على محمد وآله الطاهرين، ذكرنا في القسم الأول من مقالة أميرنا (عليه السلام) في العدد السابق عدة عناوين أهمها فيما يتعلق بمنصب الإمامة وأنه اختيار من الله تعالى، وذكرنا شروط الإمام، ثم ذكرنا أموراً تتعلق بأمير المؤمنين (عليه السلام)، وإليكم القسم الثاني:

أميرنا (عليه السلام) والبيعة

إن في أحكام البيعة بحوثاً مختلفة، وإن كانت مسائل هذا البحث محاطة بهالة من الإبهام في الفقه الإسلامي، وبالنسبة للنبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) المنصوبين من قبل الله تعالى لا حاجة لهم بالبيعة، أي أنّ طاعةَ النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم والمنصوب من قبل الله واجبةٌ على الجميع؛ من بايع ومن لم يبايع.

وبتعبير آخر: إنّ لازم مقام النبوة والإمامة وجوب الطاعة كما يقول القرآن الكريم: {يا أيهَا الَّذينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمرِ مِنكم}(1).

فهنا تناول القرآن مسؤولية السلطة ولكنّها ليست لها قيمة بذاتها، إنما هي وسيلة لتحقيق العدالة، التي تعني حصول كل شخص على حقه كاملاً غير منقوص.

وهذه القيمة يحققها سلطان الله في الأرض المتمثل في قيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأولي الأمر من بعده الذين يجسّدون رسالته، وهم أهل بيته.

والسلطات الأخرى تمثل الطاغوت الذي يدعمه الشيطان وقد أُمرنا بالكفر به والتمرد عليه. ومخالفة الرسول وأولي الأمر من بعده هي من عمل المنافقين، الذين سوف يكتشفون أن قيادة الرسول أفضل لهم، وذلك حين تنزل عليهم المصائب بسبب إنتمائهم إلى سلطات الطاغوت، وعلى الرسول أن يستغل الفرصة ويعظهم.

كل رسل الله جاؤوا ليتسلموا قيادة الناس، ولو عاد الناس إلى قيادة الرسل وصححوا مسيرتهم لأصلح الله حياتهم، وغفر لهم سيئاتهم.

أما الذين يخالفون رسل الله، فإنهم ليسوا بمؤمنين، لأنهم يخالفون بذلك هدف الرسالة أساساً، وقيادة الرسول ليست محصورة بالصلاة والصيام، بل في كل الشؤون، وعلى المسلم عدم التفريق بين الموضوعات، ويتبع الرسول في القضايا البسيطة فقط، بل حتى لو أمره الله بأن يقتل نفسه فعليه أن يطيعه، لأن ذلك خير له وأقوم؛ خير له لأنه سوف يحصل بسببه على أجر عظيم، وأقوم له لأنه سوف يهتدي إلى الصراط المستقيم وسوف يحشر عند الله مع الصفوة من خلقه، وهم النبيون والصدّيقون والشهداء والصالحون وهذا هو التطلع الأسمى الذي يجب أن يسعى من أجله الإنسان.

إن هذه الآية أوضحت لنا ضرورة الطاعة للرسول وللقيادة التي عيّنها من بعده لتحقيق المسؤولية الاجتماعية وهي العدالة. التي تتحقق من خلال المحاكم الشرعية.

ولكن الرقابة الاجتماعية لا تردع كثيراً من الناس من الاعتداء على حقوق الآخرين، وهي لا تستطيع أن تكون فيصلاً حاسماً في كثيرٍ من المشاكل المعقدة التي يظن كلُّ طرف أنه صاحب الحق فيها، ويورد أدلة كثيرة على ظنه، هنالك نرى ضرورة وجود السلطة الشرعية القوية التي يلتزم الجميع بحكمها، وهي متمثلة في النبي وأولي الأمر من بعده.

{يا أيها الَّذِينَ آمنُوا أطيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمرِ مِنكم}.

إن أولي الأمر هم الامتداد الطبيعي للرسول (صلّى الله عليه وآله) وهم أهل بيته (عليه السلام) من بعده، والعلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، الأكفاء على القيام بأمره، الصابرون المتقون، وبالتالي هم أكثر الناس طاعة لله، وأقربهم إلى نهج الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة وهي أن مقام نيابة الولي الفقيه في نظرنا مقام منصوص عليه من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ولا حاجة له إلى البيعة، وبالطبع فإنّ اتباع الناس للولي الفقيه وطاعتهم له يمنحه الاستفادة من هذا المقام ويعطيه -كما هو مصطلح عليه- بسط اليد، لكن هذا لا يعني أنّ مقامه مشروط بتبعية الناس له، ثم إن اتباع الناس إياه لا علاقة له بالبيعة، بل هو عمل بحكم الله في شأن ولاية الفقيه، فلاحظ عزيزي القارئ بدقة.

البيعة في كلام الإمام علي (عليه السلام)

هناك في نهج البلاغة كلمات تؤكد على البيعة وقد عوّل الإمام علي (عليه السلام) عليها مراراً.

ومن جملتها قوله في بعض خطبه: «أيها الناس إنَّ لي عَلَيكم حَقًّا، ولَكم عَلَي حَقٌ، فَأمّا حَقُّكم عَلَيَّ: فالنَّصِيحَةُ لَكم وتَوفيرُ فَيئِكم عَلَيكم وتَعلِيمُكم كيلا تَجهَلُوا، وتَأدِيبُكم كيما تَعلَمُوا، وأمَّا حَقَّي عَلَيكم: فَالوَفاء بالبيعة والنَّصيحَةُ في المَشهَدَ والمَغِيبِ، وَالإجابَةُ حينَ أدعُوكم والطَّاعةُ حينَ آمُرُكم»(2).

وشرح وتوضيح هذه العبائر الكريمة نستفيده بتصرف مما خطته اليد المباركة لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي مد الله في عمره الشريف.

حَقّي عَلَيكم وحَقُّكم عّليّ

يتعرض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيها لأهم القضايا المرتبطة بالحكومة والتي تكمن في حق الإمام (عليه السلام) على الأُمة وحق الأُمة على الإمام (عليه السلام) فيوجزها بعبارات قصيرة عظيمة المعاني، حيث يشير إلى أربعة حقوق متبادلة لكل منهما، فقد تحدث بادئ ذي بدء عن حقوق الأُمة، ومن شأن تقديم حقوق الأمة على الإمام وليس العكس، أنه مدعاة للتأثير في نفوس السامعين إلى جانب كشفه عن البعد الشعبي والجماهيري للحكومة الإسلامية كما يفيد عمق الفارق بين هذه الحكومة والحكومات المستبدة الغاشمة والحكام الطغاة الذين يرون أنفسهم مالكي رقاب الأمة فيعاملونها معاملة المالك والمملوك.

فقد قال (عليه السلام): «أيها الناسُ إنَّ ليَّ عَلَيكم حَقًّا ولَكم عَلَيَّ حَقٌ». والحق وإن ذكر بصورة مفردة إلا أنّه يفيد معنى جنس الحق الذي ينطوي على مفهوم عام، أما تنكيره فيشير إلى عظمة هذه الحقوق لأن الإتيان بالنكرة قد يفيد التعظيم أحياناً.

فيتطرق الإمام (عليه السلام) إلى الحق الأول للأمة فيقول: «فَأمَّا حَقُّكم عَلَي: فالنَّصِيحَةُ لَكم».

المراد من النصيحة: هو الخلوص، ومن هنا يصطلح على العسل المصفى أو الخالص بالناصح. ثم أطلقت على كل عمل خيِّر خالص خال من الغل والغش.

وقد ورد في بعض المصادر اللغوية أن هذه المفردة تشتمل على معان متفرقة، فمثلاً النصيحة لله تعني الاعتقاد بوحدانيته وإخلاص النية له في العبادة ونصرة الحق، والنصيحة للقرآن تعني التصديق به والعمل بأحكامه والدفاع عن آياته تجاه تأويل الجهلاء وتحريف الغلاة، والنصيحة للنبي هي التصديق بنبوته ورسالته وطاعة أوامره.

ومن هنا يبدو أن المراد بالنصيحة في العبارة العمل من أجل الارتقاء بالجوانب المادية والمعنوية للأمة من خلال البرامج والمشاريع الصحيحة حيث تشكل هذه المشاريع الخطوة الأولى لتحقيق خير الأمة، وعليه فلا بدّ أن يكون للإمام والولي والزعيم مشروعاً صحيحاً وجامعاً يتضمن تأمين المصالح المادية والمعنوية لأفراد الأمة ويأخذ بأيديهم إلى الكمال المنشود.

والحق إن هذه المسألة لمن المسائل الحيوية المهمة في عالمنا المعاصر والتي تحظى بأهمية فائقة، حيث يعتقد أغلب العلماء والمفكرين أن العراقيل التي تنطوي عليها المسيرة الاجتماعية إنما أفرزتها بالدرجة الأساس مشكلة عدم وجود المشاريع والخطط الصحيحة. ثم يشير (عليه السلام) إلى الحق الثاني -ذي الصلة بالجانب الاقتصادي- فيقول: «وتَوفِيرُ فَيئِكم عَلَيكم».

تعدّ العدالة الاجتماعية في المجال الاقتصادي من أهم مشاكل المجتمعات البشرية، فأغلب الحروب والنزاعات الدموية ومعظم المفاسد الاجتماعية إنما تعزى إلى تغييب العدالة الاجتماعية.

ومن هنا فإنّ إعادة الأمن والسلام والنظام والاستقرار والوقوف بوجه المفاسد الأخلاقية ومختلف الانحرافات إنما تتطلب بادئ ذي بدء إحياء العدالة الاجتماعية وتفعيلها في المجتمع. واستناداً إلى أنّ مفردة «فيء» حسب أرباب اللغة هي العودة والرجوع إلى حالة الخير والإحسان، فإنها تطلق أيضاً على الظل حين يرجع من طرف الغرب إلى الشرق.

وتطلق هذه المفردة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على الأموال التي تصل المسلمين من الكفار، فقد تطلق على الأموال التي تصل دون القتال وحتى على مثل هذه الأموال والأنفال التي تعني الثروات الطبيعية للحكومة الإسلامية التي ليست لها ملكية شخصية.

والفيء في العبارات المذكورة تعني جميع أموال بيت المال، فقوله (عليه السلام) توفير فيئكم تعني أنّ وظيفة الحاكم الإسلامي تعني أداء الأموال العامة إلى المحتاجين والمعوزين وأصحاب الحق، أي تنظيم الأمور الاقتصادية والمعاشية للأمة.

أما الحق الثالث الذي أشار إليه الإمام (عليه السلام) فيرتبط بالتعليم والشؤون الثقافية «وَتَعلِيمُكم كيلا تَجهَلُوا»، نعم فالإمام لا بد أن يعتمد الأسلوب التعليمي الصحيح ويهب لمكافحة الجهل والأميّة ويرفع المستوى الثقافي لدى الناس ويستأصل جذور الجهل التي تقود الأُمة إلى التخلف والانحطاط. وأما الحق الرابع والأخير فهو: «وتَأدِيبُكم كيما تَعلَمُوا».

فالواقع أنّ الإمام (عليه السلام) أوجز الحقوق المهمة للأُمة في أربع هي:

1ـ المشاريع والخطط الصحيحة.

2ـ العدالة الاجتماعية في المجال الإقتصادي.

3ـ التعليم.

4ـ التربية والتهذيب والقضاء على الفساد الأخلاقي.

جدير بالذكر أنّ الإمام عبّر عن الحقّ الثالث بقوله: «وتَعلِيمُكم كيلا تَجهَلُوا» والحق الرابع: «وتَأدِيبُكم كيما تَعلَمُوا». والحال أن نتيجة التعليم هي العلم والمعرفة بينما يقود التأديب إلى تربية الخصال الأخلاقية لا العلم والمعرفة، إلا أنّ مراد الإمام (عليه السلام): لا بدّ أن تقفوا على آثار الفضائل وأضرار الرذائل لتتحلوا بالأولى وتواجهوا الثانية فالحق الثالث يشير في الواقع إلى العقل النظري بينما يشير الحق الرابع إلى العقل العملي ثم تطرّق الإمام (عليه السلام) إلى حقوق الإمام على الأمة الإسلامية وأوجزها هي الأخرى في أربع فقال (عليه السلام): «وأما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة».

والبيعة هي العهد بين الأمة والإمام، العهد الموثق الذي يجب العمل به، وعلى ضوء هذا العهد فإنّ الإمام والحاكم لا بدّ أن يأخذ بنظر الاعتبار مصالح الأُمة ويرسي دعائم الأمن والاستقرار ويقاتل العدو ويمهد السبيل أمام الأمة للسمو والتكامل، كما يجب على الأمة أن تشدّ أزره وتقف إلى جانبه وتتجنب كل ما من شأنه المساس بهذا العهد والميثاق.

الحق الثاني الذي ذكره الإمام (عليه السلام): «والنصيحة في المشهد والمغيب» فلا يكونوا منافقين يظهرون المحبة والإخلاص في حضوره، فإن غاب عاثوا الفساد وسلكوا الخيانة. فقد لا يكون الإمام حاضراً بينهم على الدوام، إلا أنّ الله حاضرٌ لا يخفى عليه شيء ولا ينبغي أن يعيش المؤمن الغفلة عن هذا الأمر.

أما الحق الثالث الذي ذكره الإمام (عليه السلام): «وَالإجابَةُ حِينَ أدعُوكم» فلا ينبغي أن تتعللوا ببعض الذرائع فراراً من مواكبتي، لا بدّ أن تطيعوا أوامري وتقتفوا أثري.

والحق الرابع والأخير: «وَالطّاعَةُ حينَ آمُرُكم» فلعل البعض يلبي دعوة الإمام، إلا أنه لا يطيع ما يصدّره من أوامر، وعليه فإجابة الدعوة لا بدّ أن تكلل بطاعة الأوامر.

وبالطبع فإنّ حقوق الإمام على الأمة إنما تعود بالنفع مباشرة على الأُمة، وعليه فلا ينبغي لهم أن يمنّوا على الإمام بل الإمام يمنّ على الأمة بأنه يعتمد هذه الحقوق لإعادة الأمن والاستقرار إلى الأمة وإعمار بلادها، وقد صرّح بعض شرّاح نهج البلاغة بأنّ هذه الحقوق المتبادلة إنما تختص بالإمام العادل المنصوب من جانب الله سبحانه، لا لكل إمام صالحاً كان أم طالحاً، ومن هنا قال الإمام (عليه السلام): «إنّ لي عليكم حقاً»(3).

لكن يبدو أنّ عبارة الإمام شاملة عامة وهذا ما يفهم من قوله (عليه السلام): «لا بُدَّ للنّاسِ مِن أميرٍ بَرٍّ أو فاجِرٍ» معللاً في هذا القول ضرورة تشكيل الحكومة والحاكم، حيث فيها فوائد تترتب على قيام الحكومة بعضها يتصل بالجانب المعنوي والبعض الآخر بالجانب المادي وهي:

أولاً: «يعمَلُ في إمرتِهِ المُؤمِنُ»(4).

ثانياً: «ويستَمتِعُ فيها الكافِرُ».

ثالثاً: «ويبَلِّغُ اللهُ فيها الأجَلَ».

رابعاً: «ويجمَعُ بهِ الفَيء».

خامساً: «ويقاتَلُ بِهِ العدو».

سادساً: «وتَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ».

سابعاً: «ويؤخَذُ بِهِ للضعيف مِنَ القَوِي».

ثم تفضي هذه الوظائف السبع إلى هذه النتيجة النهائية المترتبة على الحكومة، «حَتَّى يستَريحَ بَرٌّ ويستَراحَ مِن فاجِرٍ».

من هنا يتضح لنا ضرورة تشكيل الحكومة، فلولاها لما عمّ الاستقرار، فقد رأينا بأم أعيننا وسمعنا بملئ آذاننا مدى الأخطار الجسام التي يواجهها المجتمع إبّان انهيار الحكومة ولو لساعات من قبيل قتل الأنفس وإراقة الدماء وعمليات السرقة والسلب والنهب التي تتعرض لها المؤسسات بل حتى بيوت الناس وانتهاك الأعراض والنواميس وانعدام الأمن والاستقرار وسيادة الفوضى والهرج والمرج والاضطراب وشلّ حركة كافة النشاطات الاجتماعية، كما تصبح البلاد لقمة سائغة للأعداء الذين يعيثون في الأرض فساداً فلا يسلم المؤمن من شرهم ولا الكافر، فتهضم جميع الحقوق ويعيش الناس الخوف والذعر، فمما لا شك فيه أن ألف باء الحياة إنما يكمن في استتباب الأمن والنظام، ثم وجود العناصر المقتدرة التي تقف كالطود الشامخ بوجه العدو الخارجي وعملائه في الداخل، ولا يتيسر مثل هذا الأمر إلا في ظلّ الحكومة.

وهنا يبرز هذا السؤال:

هل يسع الحاكم الفاجر أن يقوم بالوظائف السبع المارّة الذكر التي يقوم بها الحاكم البرّ والعادل؟

فقد ذكرها الإمام (عليه السلام) لكليهما، بحيث يقوم كل منهما بهذه الوظائف، وللإجابة على هذا السؤال لا بدّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ الحاكم البرّ إنما يقوم قطعاً بمثل هذه الوظائف، إلا أنها ليست كذلك بالنسبة للفاجر بصورة مطلقة، نعم يمارسها بصورة نسبية فهو مضطر لاستمرار حكومته أن يراعي النظام، ويقف بوجه العدو الخارجي ويحول نسبياً دون ظلم الظلمة، وإن كان في حدّ ذاته ظالماً، وإلا فإن الناس ستخرج عليه وتتزلزل دعائم حكومته فيطيح به الأعداء، ومن هنا فإن أغلب الحكومات مهما كانت فهي تسعى جاهدة للقيام بتلك الوظائف المذكورة.

ويتلخص لنا مما سبق: أن أيّة حكومة تتساهل في الوظائف المذكورة إنما تكون قد مهدت السبيل إلى تصدع كيانها وانهيارها.

السؤال الآخر هو أن الإمام (عليه السلام) قد فرّق بين المؤمن والكافر، فقال (عليه السلام) بشأن المؤمن«يعمل» والكافر«يستمتع» فما علة ذلك؟

والجواب: هو أن المؤمن لا يهدف في حياته إلى الإستفادة من الإمكانات المتاحة من أجل التمتع العابر، بل هدفه الأصلي الفوز برضى الله، وما استفادته من متع الدنيا إلا بالتبع وكونها مطلوباً ثانوياً، وليس الحال كذلك بالنسبة إلى الكافر، فهو ليس فقط لا ينشد رضى الله، بل يقصر همّه على هذه الحياة الدنيا ليتمتع فيها وإن كان ذلك من خلال الحرام والطرق اللا مشروعة، ومن هنا صرّح الإمام (عليه السلام) بأن الحكومة ضرورة للطرفين المؤمن والكافر، يعمل فيها هذا ويتمتع فيها ذاك، ولولا الحكومة لما وسع المؤمن العمل ولا الكافر الاستقرار والتمتع.

ويقول أميرنا (عليه السلام) حول بيعته أيضاً

وهو يشير فيها إلى كون بيعته (عليه السلام) لم تكن صدفة بعيدة عن تفكير الناس وتخطيطهم، وعليه فلا يحق لأحد نقضها لأنها بيعة عامّة، فقال (عليه السلام) في أمر البيعة: «لَم تَكن بَيعَتُكم إيّاي فَلتَةً»(5).

والمراد من الفلتة هو العمل الذي يقع بغتة دون رويّة وتدبّر، ومن هنا أراد الإمام (عليه السلام):

1ـ يوضّح أن بيعته كانت دقيقة جداً وقد حصلت بعد مشورة الأُمة وزعماء القبائل مع بعضهم.

2ـ التلميح إلى بيعة أبي بكر التي حصلت في أجواء متوترة مغلقة من قبل قلّة قليلة حتى قال عمر بهذا المضمون: "إنَّ بَيعةَ أبي بكرٍ كانت فلتَةً وَقى اللهُ شرّها"(6)، كما ورد في بعض الروايات في ذيل هذا الحديث: "فَمَن عادَ إلى مثلِها فاقتُلُوه"(7).

وفي الخطبة التي خطبها قبل حرب الجمل والتحرك من المدينة نحو البصرة أشار إلى بيعة الناس إيّاه وأن يثبتوا على ما بايعوه فقال (عليه السلام): «وَبَايعَني النَّاسُ غَيرَ مُستَكرَهينَ ولا مُجبَرِين، بَل طَائِعِينَ مُخَيّرينَ»(8).

ونقرأ في بعض كتبه لمعاوية حين لم يبايع الإمام علياً وكان يريد الانتقام من علي (عليه السلام) قوله: «بايعَني القومُ الَّذِينَ بَايعوا أبَا بَكرٍ وعُمَر وعثمانَ عَلَى ما بايعُوهُم عَلَيه، فَلَم يكن للشَّاهِدِ أن يختارَ، ولاَ لِلغَائبِ أن يرُدَّ»(9).

ويستفاد من بعض عبارات النهج أنّ البيعة ليست أكثر من مرة واحدة ولا سبيل لتجديد النظر فيها وليس فيها اختيار الفسخ، ومن يخرج منها فهو طاعن، ومن يتريث ويفكر في قبولها أو ردّها فهو منافق.

فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «إنَّها بَيعَةٌ واحِدَةٌ لا يثَنَّي فِيها النَّظَرُ(10) ولا يستَأنَفُ فيهَا الخِيارُ، الخَارِجُ مِنها طَاعِنٌ والمُرَوِّي(11) فِيها مُداهِنٌ»(12).

ويستفاد من مجموع هذه التعابير أنّ الإمام (عليه السلام) استدل على من لم يقبلوا بأن إمامته منصوص عليها من قبل النبي (صلّى الله عليه وآله) -وكانوا يتذرعون بحجج واهية- بالبيعة التي كانت عندهم من المسلّم بها، ولم تكن لهم الجرأة على أن يرفضوا طاعة الإمام ويسمعوا لمعاوية وأمثال معاوية، فكما أنهم يرون مشروعيّة الخلافة للخلفاء الثلاثة السابقين، فعليهم أن يعتقدوا بأنّ خلافة الإمام مشروعة أيضاً وأن يذعنوا له، بل إنّ خلافته أكثر شرعيّة لأنّ بيعته كانت أوسع وكانت حسب رغبة الناس ورضاهم.

فبناءً على هذا لا منافاة بين الاستدلال بالبيعة ومسألة نصب الإمام بواسطة الله والنبي (صلّى الله عليه وآله) وتأكيد البيعة.

لذلك فإنّ الإمام يشير في مكان من نهج البلاغة نفسه بحديث الثقلين الذي هو من نصوص الإمامة حيث يقول: «أَلَم أعمَل فِيكم بالثَّقلِ الأكبَرِ، وأترُك فِيكمُ الثَّقلَ الأَصغَرَ»(13).

والمراد من الثَّقل هنا، أي: النفيس من كل شي، وفي الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «تركت فيكم الثَّقَلين، كتاب الله وعترتي» أي: النفيسين(14).

فقوله: «ألَم أعمَل فِيكم بالثَّقلِ الأكبَرِ» يدل على أن سيرة الإمام (عليه السلام) ولا سيما زمان حكومته كان محورها القرآن الكريم في كافة أقواله وأفعاله، الأمر الذي أشار إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين قال: «عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا عليًّ الحوض»(15).

ثم قال (عليه السلام): «وأترُك فِيكمُ الثَّقلَ الأصغَرَ».

وشاهد ذلك الحوادث التي وقعت أبّان حياته (عليه السلام) بحيث أنه كثيراً ما كان يتعرض أبناء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبقية الثقل الأصغر كالإمام الحسن والحسين (عليها السلام) إلى الأخطار، بينما كان يسعى الإمام (عليه السلام) جاهداً للحفاظ عليهما، ومن ذلك أنه شاهد الإمام الحسن (عليه السلام) وهو يسارع إلى الميدان في معركة صفّين فقال: «أملِكوا عني هذا الغلام لا يهُدَّني(16) فَإنَّنِي أنفَسُ(17) بِهذَينِ -يعني الحسن والحسين (عليها السلام)- على الموت لِئَلاَّ ينقَطِعَ بِهِما نَسلُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».

كما يشير الإمام (عليه السلام) في مكان آخر إلى مسألة(الوصِية والوراثَةُ)(18).

ووصية النبي (صلّى الله عليه وآله) بأهل البيت (عليه السلام) واستخلافهم من بعده لا تستند على أساس القرابة والنسب، ولا يخفى أنّ المراد بالوصية والوراثة هنا الخلافة والنبوة، بل حتى لو افترضنا أن الوراثة هنا هي وراثة علوم النبي (صلّى الله عليه وآله) -كما ذهب إلى ذلك البعض- فإنّ الأمر سيقود بالتالي إلى جدارتهم بإحراز هذا المقام، لأن خليفة النبي وإمام الخلق لا بد أن يكون وارثاً لعلوم النبي (صلّى الله عليه وآله) وأنّ خليفته هو وصيه، فوراثة الأموال -كما نعلم- ليست بذات قيمة والوصية في الأُمور الشخصية والاعتيادية لا تحظى بأيّة أهمية، ولا شك أنّ أولئك الذين سعوا جاهدين لتفسير الوصية والوراثة بمثل هذه المعاني إنما يكشفون عن مدى تعصبهم واستنادهم إلى العناد والأفكار المسبقة.

فليس هنالك من مسألة مهمة تنسجم وقوله (عليه السلام) «أساسُ الدِّينِ وعِمادُ اليقين»(19) وخصائص حق الولاية سوى مسألة خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأخيراً يخاطب الأمة في زمانه وكأنهم قد تنكروا لبعض النعم ولا سيّما عودة الحق السليب، «الآنَ إذ رَجَعَ الحَقُّ إلى أهلِهِ ونُقِلَ إلى مُنتَقَلِهِ»(20) يتضح مما قيل بشأن الوصية والوراثة أنّ المراد بالحق هنا هو الولاية والخلافة التي لا تليق إلا بأهل البيت (عليه السلام)، وأنّ محلهم من الخلافة محل القطب من الرحى.

كما يشير الإمام (عليه السلام) في بعض عباراته الأُخرى إلى لزوم الوفاء بالبيعة وعدم إمكان الفسخ والنكث وتجديد النظر وعدم الحاجة إلى التكرار وهذه مسائل مقبولة بالنسبة للبيعة أيضاً.

ويستفاد من هذه التعابير ضمناًً بصورة جيدة أن البيعة إذا كانت فيها جنبة إكراه أو إجبار أو أُخذت على حين غرّة من الناس فلا عبرة بها ولا قيمة لها بل البيعة الحق التي تكون في حال الاختيار والحرية والإرادة والتفكر والتدبر(21).

أميرنا (عليه السلام) والدفاع عن المسجونين

برغم أنّ السجن لم يكن دائماً محلاً للأخيار، بل يستضيف تارةً الأبرياء وتارةً المجرمين، لكن القواعد الإنسانية تستوجب التعامل الحسن مع السجناء حتى ولو كانوا مجرمين.

وقد يتصور البعض أن الدفاع عن المسجونين من مبتكرات العصر الحديث، لكن المتتبع للتاريخ الإسلامي يرى أنه منذ الأيام الأُولى لقيام دولة الإسلام كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يؤكد ويوصي على التعامل الحسن مع الأسرى والمسجونين كما قرأنا جميعاً وصية علي (عليه السلام) في حق المجرم الذي قام باغتياله وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي حيث أمر أن يرفق به وحتى أنه (عليه السلام) بعث إليه من اللبن الذي كان يشربه وعندما أرادوا قتله قال: ضربة بضربة.

أميرنا (عليه السلام) والتوحيد الخالص الذي طبع حياته

كان علي (عليه السلام) مجسّمَ التوحيد ومظهره التام قبل أن يدعو الآخرين لهذه الحقيقة الخالصة، لم يسجد لصنم طرفة عين طيلة حياته قط ليلوث صفو روحه غبار الشرك، كان لا يفعل شيئاً إلا ويرى الله فيه وقبله ومعه لا يروم سوى رضاه.

كما وقف كالطود الشامخ يذود عن الدين بغية استتباب التوحيد والعبودية، ولا يخفى على أحد موقفه في الخندق ومبارزته لعمر بن ود العمري، فقد صرعه الإمام (عليه السلام) وأوشك أن يقتله، وقد أصيب جيش الإسلام بالذهول حين رأى الإمام (عليه السلام) قد انصرف عن قتله (ولعله نهض من عنده وتركه لمدة بعد أن تجوّل في الميدان) ثم عاد إليه وقتله: فلما سُئل عن علّة ذلك قال (عليه السلام): «قد كان شتم أمي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لأجل نفسي فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله»(22).

وقد وقف بكل قوة تجاه بعض أصحابه الذين اعترضوا عليه بالتسوية في العطاء من بيت المال قال: «أتأمروني أن أطلُبَ النَّصرَ بِالجَورِ فِيمَن وُلِّيتُ عليه، واللهِ لا أطور بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، ومَا أمَّ نَجمٌ في السَّماءِ نَجماً، لَو كانَ المَالُ لي لَسَوَّيتُ بَينهُم، فَكيفَ وإنَّما المَالُ مالُ اللهِ»(23).

ولمّا كان يقف للصلاة كان يستغرق في صفات الله وجلاله وجماله بحيث لم يكن يرى سوى الله ولا يفكر في سواه، حتى ورد في الأخبار أن سهما أصاب رجله في وقعة أحد وكان يصعب سلّه من رجله فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بسلّه حين يقف للصلاة، فلما فرغ (عليه السلام) من صلاته قال لم أشعر بالسهم حين الصلاة(24). وما أكثر هذه النماذج التوحيدية في حياة الإمام (عليه السلام).

إلى هنا أختم مقالتي المتواضعة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، اللهم ولا تقرنّا مع الشيطان أبداً، اللهم نسألك حسن العاقبة وأن تختم لنا بالخير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(25).

 

 * الهوامش:

(1) سورة النساء، الآية59.

(2) نهج البلاغة، الخطبة34.

(3) مفتاح السعادة ج6 ص84.

(4) «إمرة» على وزن عبرة مصدر أوإسم مصدر من مادة«أمر» و«الإمرة» هنا بمعنى الحكومة.

وواضح أن الضمير في إمرته يعود إلى مطلق الأمير سواء البر أوالفاجر وكذلك ضمير فيها، وليس صحيح ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة من أن الأول يعود إلى البر والثاني إلى الفاجر، أوكلاهما للفاجر.

(5) نهج البلاغة، الخطبة136.

(6) صحيح البخاري 6/2505 طبعة دارالنشر بيروت وصحيح ابن جبان 2/148، طبع مؤسسة الرسالة.

(7) بحارالأنوار، ج10 ص248 نقلاً عن مناقب ابن شهر آشوب.

(8) نهج البلاغة، من كتاب له (عليه السلام) رقم1.

(9) من كتاب له رقم 6، وينبغي الالتفات إلى أنّ التحويل على بيعة الخلفاء السابقة هو لأن معاوية كان منصوباً من قبلهم، وكان يدافع عنهم فلا منافاة بين هذا وما جاء في الخطبة المعروفة بالشقشقية.

(10) لايثنّي، أي: لاينظر فيها ثانياً بعد النظر الأول.

(11) المُرَوِّي: هو المتفكر هل يقبل الشيء أو ينبذه.

(12) المُداهن: المنافق، والقول من نهج البلاغة، من كتاب لأميرالمؤمنين (عليه السلام) برقم7.

(13) نهج البلاغة، الخطبة78.

(14) ميزان الحكمة ج1 رقم الحديث917، وقد ورد هذا الحديث من طرق الشيعة، ومن طرق السنة.

(15) نفسَ المصدر، رقم الحديث980.

(16) أمْلِكوا عنِّي: أي خذوه بالشدة وأمسكوا به. ويهُدَّني: أي يهدمني.

(17) نَفِس به -كفرح- أي ضنّ به.

(18) نهج البلاغة، الخطبة رقم2.

(19) هذه الفقرة سبقت الفقرة مورد البحث في الخطبة.

(20) هنالك محذوف في الجملة –كما قال في نفحات الولاية- تقديره: «الآن إذ أرجع الحق إلى أهله لم لا تؤدون حقه». وقد ورد تقدير ذلك في مصادر نهج البلاغة: «الآن إذ أرجع الحق إلى أهله من أهل بيت النبوة يجري ما يجري من الحوادث ويقع ما يقع من الاختلاف» مصادر نهج البلاغة 1/302 وكلا النتيجتين واحدة.

(21) تفسير الأمثل، ج16، ص338، بتصرف وزيادة.

(22) مناقب ابن شهر آشوب 2/115.

(23) نهج البلاغة، الخطبة126.

(24) كتاب المناقب المرتضوية تأليف المولى محمد صالح الكشفي الحنفيي/364، طبعة بومباي، مطابق إحقاق الحق 8/602.

(25) استقيت كثيراً في بحثي المتواضع هذا من التفاسير القرآنية لا سيما من تفسير الأمثل بتصرف.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا